صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ

صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ

((صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَاتِّبَاعُهُ))

فَإِنَّ الْعَاقِلَ كُلَّ الْعَاقِلِ مَنِ انْشَغَلَ بِنَفْسِهِ، وَاتَّعَظَ بِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، وَالْإِنْسَانُ يَتَحَمَّلُ مَسْؤُولِيَّتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَضُرُّ أَحَدٌ إِلَّا ذَاتَهُ.

 كَمَا فِي الْمَثَلِ الْعَرَبِيِّ الْقَدِيمِ: ))يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ!)).

وَقِصَّةُ هَذَا الْمَثَلِ: أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَعْبُرَ نَهْرًا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ السِّبَاحَةَ أَصْلًا، فَجَاءَ بِقِرْبَةٍ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ((أَتِمَّ النَّفْخَ، وَأَحْكِمِ الرِّبَاطَ)).

وَالْوِكَاءُ هُوَ: الرِّبَاطُ، فَأَوْكَتَا، أَيْ: رَبَطَتَا.

فَمَا أَتَمَّ النَّفْخَ، وَلَا أَحْكَمَ الرَّبْطَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْقِرْبَةَ وَمَضَى فِي النَّهْرِ تَسَرَّبَ الْهَوَاءُ، فَأَخَذَ يُعَانِي الْغَرَقَ، وَرَاحَ يَسْتَغِيثُ.

 فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ((يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ!)).

فَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمَرْءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَهَذَا لَا يَكْفِي؛ لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ حَيْثُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ عَلَى أَصْنَافٍ:

 * فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَيُرْزَقُ اتِّبَاعَهُ.

* وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَلَا يُرْزَقُ اتِّبَاعَهُ.

* وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْبَاطِلَ، وَيُرْزَقُ اجْتِنَابَهُ.

* وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْبَاطِلَ، وَلَا يُرْزَقُ اجْتِنَابَهُ.

* وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا.

 فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ؛ وَإِلَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ إِبْلِيسَ -وَهُوَ إِمَامُ الْكَافِرِينَ، وَزَعِيمُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُقَدَّمُ الْمُتَمَرِّدِينَ- كَانَ يَعْرِفُ الْحَقَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَاطَبَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ لَا يَمْتَرِي وَلَا يَشُكُّ فِي الْأَمْرِ، اسْجُدْ لِآدَمَ، فَكَانَ يَعْرِفُ الْحَقَّ؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرْزَقِ اتِّبَاعَهُ، فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.

 وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ؛ كَانُوا يَعْرِفُونَ الرَّسُولَ ﷺ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

 وَالرَّجُلُ إِذَا كَانَ وَلَدُهُ.. إِذَا كَانَ ابْنُهُ فِي وَسَطِ أَلْفِ ابْنٍ مِنْ أَبْنَاءِ سِوَاهُ؛ فَإِنَّهُ يُمَيِّزُ وَلَدَهُ وَابْنَهُ مِنْ أُولَئِكَ أَجْمَعِينَ.

 فَكَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ؛ بَلْ كَانُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ يُخَوِّفُونَ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ فِي يَثْرِبَ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُمْ: ((هَذَا زَمَانُ نَبِيٍّ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتَّبِعُهُ، وَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَم)).

فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ أَمْرُهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].

 وَقَالَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ لَمَّا بُعِثَ الرَّسُولُ ﷺ: ((هَذَا هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي كَانَتْ تُخَوِّفُكُمْ إِيَّاهُ يَهُودُ؛ فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ، فَأَسْرِعُوا إِلَى الرَّسُولِ ﷺ )).

أَبُو جَهْلٍ كَانَ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَيَعْرِفُ أَنَّ النَّبِيَّ مَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمَّا عَايَنَ الْحَقَّ مُعَايَنَةً لَا مِرْيَةَ فِيهَا وَلَا ارْتِيَابَ، وَطُعِنَ، وَكَانَ فِي سِيَاقِ احْتِضَارِهِ، فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَرَكِبَ صَدْرَهُ، فَسَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ: ((مَاذَا فَعَلَ النَّاسُ؟)).

فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ((أَخْزَاكُمُ اللَّهُ، وَهَا أَنْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، إِلَى النَّارِ تُسَاقُ)).

فَقَالَ بِأَنَفَةٍ: ((وَهَلْ أَنَا إِلَّا رَجُلٌ قَتَلْتُمُوهُ، وَهَلْ أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ قَتَلَهُ أَهْلُهُ!)).

فَأَيُّ ضَلَالٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ؟!!

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَهَذَا لَا يَكْفِي، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ إِذَا هَدَاهُ إِلَى الْحَقِّ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ.

 اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.

النَّاسُ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا الْحَقِّ عَلَى تِلْكَ الطَّوَائِفِ وَالْأَصْنَافِ الَّتِي مَرَّ -ذِكْرُهَا-، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْهَوَى صَارِفًا عَنِ الْحَقِّ؛ حَتَّى إِنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- وَعَظَ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ الصَّالِحِينَ الْمُقَرَّبِينَ الْمُقَدَّمِينَ؛ وَهُوَ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

 فَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا اتَّبَعُوا الْهَوَى ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ -وَحَاشَاهُمْ مِنْ الضَّلَالِ-؛ فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟!

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يُغَلِّبَ هَوَاهُ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ مُنْقَضِيَةٌ، وَسَوْفَ يَأْتِيكَ الْمَوْتُ كِفَاحًا، وَسَوْفَ تُسْأَلُ عَمَّا قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ، وَأَظْهَرْتَ وَأَعْلَنْتَ.

 وَسَيُحَاسِبُكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.

 فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ التَّشْويشِ وَالتَّهْرِيجِ، وَأَنْ يَكُونَ رَجُلًا يَحْمِلُ مَسْؤُولِيَّتَهُ؛ فَإِنَّ الْفَالِحِينَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْخَاسِرِينَ لَهُمْ صِفَاتٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَقْسَمَ بِالْعَصْرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ، وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمَّا خَلْقُهُ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلَّا أَنْ يُقْسِمُوا بِهِ وَحْدَهُ ((مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ))، وَأَمَّا رَبُّنَا فَإِنَّهُ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ؛ لِيُبَيِّنَ قَدْرَهُ، وَعَظِيمَ مَكَانَتِهِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}: وَأَتَى بِالْمُؤَكِّدَاتِ؛ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، ثُمَّ أَتَى بِهَذَا الْمُؤَكِّدِ الدَّاخِلِ عَلَى هَذَا الِاسْمِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ}، ثُمَّ أَتَى بِتِلْكَ اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ.

فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُقْسِمُ، وَلَا مُجْبِرَ لَهُ عَلَى الْقَسَمِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيُقْسِمُ أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرَانٍ، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ.

{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: وَعَمِلُوا بِهِ.

 {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: وَدَعَوْا إِلَيْهِ.

 {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3]: وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى فِيهِ.

فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَاتِّبَاعِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِيهِ.

 فَكُلُّ مَنْ دَعَا إِلَى الْحَقِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَابَ بِالْأَذَى، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَصَّاهُ، وَبِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَمَرَهُ، قَالَ: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].

فَكُلُّ آمِرٍ نَاهٍ لَا بُدَّ أَنْ يُعَاكِسَ رَغَائِبَ النَّاسِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي مُوَاجَهَةِ نَزَوَاتِهِمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ أَهْوَائِهِمْ.

 وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ أَذَاهُمْ.

أَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: ((رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إلى النَّبيِّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} [غافر: 28])).

الرَّسُولُ ﷺ لِمَّا هُمَّ بِقَتْلِهِ -وَقَدْ عَصَمَهُ اللَّهُ-، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَدْفَعُ عَنْهُ وَيَقُولُ: ((أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ!)).

 مَا ذَنْبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟!!

((أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ!))

 إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالْإِحْسَانِ، بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، بِالْخُرُوجِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، بِاحْتِرَامِ عُقُولِكُمْ، وَبِالْعَوْدَةِ إِلَى سَوَاءِ وَصِحَّةِ فِطَرِكُمْ، بِأَنْ تَخْرُجُوا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ خُزَعْبَلَاتِكُمْ، وَتُرَّهَاتِكُمْ، وَأَوْهَامِكُمْ، وَعَادَاتِكُمْ، وَتَقَالِيدِكُمْ؛ لِتَكُونُوا أَنَاسِيَّ بِحَقٍّ كَمَا خَلَقَكُمُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

 فَلَمَّا خَنَقَهُ مَنْ خَنَقَهُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَدْفَعُ عَنْهُ وَيَقُولُ: ((أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ!))؛ تَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَدَوْا عَلَيْهِ فَحَرَفُوا النِّعَالَ إِلَى وَجْهِهِ، فَمَا زَالَ يُضْرَبُ بِالنِّعَالِ فِي وَجْهِهِ حَتَّى تَوَرَّمَ فَذَهَبَتْ مَلَامِحُهُ، وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَحُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ.

 فَلَمَّا أَفَاقَ مَعَ الْعَشِيِّ كَانَ أَوَّلَ مَا قَالَ أَنْ قَالَ: ((مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟)).

قَالُوا: ((سَالِمٌ وَصَحِيحٌ))، فَالْتَفِتْ لِشَأْنِكَ.

قَالَ: ((لَا وَاللَّهِ! حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ، وَأَطْمَئِنَّ عَلَيْهِ)).

فَقَامَ يُهَادَى بِهِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى رَأَى النَّبِيَّ ﷺ، وَاطْمَأَنَّ عَلَيْهِ.

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي سُؤَالِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُوَفِّقَهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ الَّذِي عَرَفَهُ وَهُدِيَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي بَيَانِ الْحَقِّ لِلنَّاسِ، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُمْ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْأَذَى مِنْ خَصَائِصِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ، وَيَصْبِرُونَ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْأَذَى، وَيَبْذُلُونَ لَهُمُ النَّدَى، وَلَا يُعَامِلُونَهُمْ بِمَا يُعَامِلُونَهُمْ بِهِ.

وَعَلَى كُلِّ امْرِئٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُهُ عَلَى مَا أَضْمَرَ ضَمِيرُهُ، وَمَا أَكَنَّ قَلْبُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَامِلُ النَّاسَ بِنِيَّاتِهِمْ، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وَأَخْذُ رَبِّكَ أَخْذٌ عَظِيمٌ شَدِيدٌ -فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ-.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ؛ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟)).

قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)).

هَذَا الْمِسْكِينُ مَا فَعَلَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، فَجُمِعَ مَعَ قَاتِلِهِ فِي النَّارِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.

 إِنَّكَ لَتَبْلُغُ بِحُسْنِ نِيَّتِكَ مَا لَا يَبْلُغُهُ الْعَامِلُ الْمُجِدُّ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ.

 فَإِنَّ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ:

عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عِلْمًا وَلَا مَالًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ)).

 رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَقْضِي فِي مَالِهِ بِعِلْمِهِ، فَهَذَا بِأَعْلَى الْمَنَازِلِ.

 وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ وَسَلَامَةِ طَوِيَّتِهِ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ آتَانِي مَالًا لَكُنْتُ مِثْلَهُ، وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا، وَلَمْ يُؤْتَ مَالًا، قَالَ: ((فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ)).

 وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، لَا مَالًا وَلَا عِلْمًا، يَنْظُرُ إِلَى مَنْ أُوتِيَ مَالًا، وَحُرِمَ الْعِلْمَ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ عَلَى مُقْتَضَى جَهْلِهِ؛ فِي لَيَالِيهِ، وَنَزَوَاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ، وَخَبْطِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَهَذَا يَتَلَذَّذُ بِمَا يَتَلَذَّذُ بِهِ مِمَّا يَأْتِيهِ وَيَدَعُهُ.

 وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ لِهَذَا الْخَابِطِ فِي مَالِهِ بِجَهْلِهِ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ آتَانِي مَالًا لَكُنْتُ مِثْلَهُ، لَمْ يَتَمَتَّعْ بِشَيْءٍ، فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ.

((تَصْحِيحُ الْإِسْلَامِ لِمَفَاهِيمِ الْبَشَرِيَّةِ الْخَاطِئَةِ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ يُؤَكِّدُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَسَاسِ الْعِلْمِيِّ وَالْفِكْرِيِّ لِلْأُمَّةِ، النَّابِعِ وَالْمُسْتَقَى مِنَ الْوَحْيَيْنِ الْمَعْصُومَيْنِ: الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؛ ابْتِدَاءً بِالْعَقِيدَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَانْتِهَاءً بِالْمَفَاهِيمِ الْعَامَّةِ لِلْحَيَاةِ، وَلَا يَتْرُكُ الْمِنْهَاجُ الْإِسْلَامِيُّ أَيَّ انْحِرَافٍ فِي الْأَفْكَارِ وَالْمَفَاهِيمِ دُونَ تَصْحِيحٍ.

وَقَدْ أُرْسِلَ النَّبِيُّ ﷺ دَاعِيًا إِلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، مُصَحِّحًا كُلَّ الْمَفَاهِيمِ الْبَاطِلَةِ، وَالْأَفْكَارِ الْخَاطِئَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي سَادَتِ الْحَيَاةَ حَالَ بِعْثَتِهِ ﷺ.

وَمِنْ هُنَا كَانَتْ خُطْوَةُ الْإِسْلَامِ الْأُولَى فِي تَغْيِيرِ الْوَاقِعِ الْجَاهِلِيِّ هِيَ نَفْيُ الْأَفْكَارِ الْجَاهِلِيَّةِ الْبَالِيَةِ، ثُمَّ غَرْسُ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الصَّافِيَةِ وَالْمَنْهَجِ الْإِسْلَامِيِّ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَبْنِي أُمَّةً قَوِيَّةً تَقُودُ الْعَالَمَ إِلَى الْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ؛ ((فَقَدْ بَعَثَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- النَّبِيَّ الْخَاتَمَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ((وَقَدْ تَغَلَّبَتِ الصَّحْرَاوِيَّةُ عَلَى شِبْهِ الْجَزِيرَةِ، وَظَهَرَ الْجَفَافُ عَلَى شِبْهِ الْجَزِيرَةِ لِعَوَامِلَ طَبِيعِيَّةٍ وَحَوَادِثَ جِيُولُوجِيَّةٍ، وَبِسَبَبِ الْمَوْقِعِ الْجُغْرَافِيِّ، فَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَبَبًا فِي قِلَّةِ نُفُوسِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْحَاضِرِ، وَفِي سَبَبِ عَدَمِ نُشُوءِ مُجْتَمَعَاتٍ حَضَرِيَّةٍ وَحُكُومَاتٍ مَرْكَزِيَّةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا، وَفِي سَبَبِ تَفَشِّي الْبَدَاوَةِ، وَغَلَبَةِ الطَّبِيعَةِ الْأَعْرَابِيَّةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَبُرُوزِ رُوحِ الْفَرْدِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَتَقَاتُلِ الْقَبَائِلِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ)).

((لَقَدْ سَاءَتْ أَخْلَاقُ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَوْغَلُوا بِالْخَمْرِ وَالْقِمَارِ، وَبَلَغَتْ بِهِمُ الْقَسَاوَةُ وَالْحَمِيَّةُ الْمَزْعُومَةُ إِلَى وَأْدِ الْبَنَاتِ، وَشَاعَتْ فِيهِمُ الْغَارَاتُ، وَقَطْعُ الطُّرُقِ عَلَى الْقَوَافِلِ، وَسَقَطَتْ مَنْزِلَةُ الْمَرْأَةِ فَكَانَتْ تُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَتَاعُ أَوِ الدَّابَّةُ، وَمِنَ الْمَأْكُولَاتِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِالذُّكُورِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْإِنَاثِ، وَكَانَ الْمُجْتَمَعُ يُسَوِّغُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا يَشَاءُ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ.

وَكَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ الْقَبَلِيَّةُ وَالدَّمَوِيَّةُ شَدِيدَةً جَامِحَةً، وَأُغْرِمُوا بِالْحَرْبِ حَتَّى صَارَتْ مَسْلَاةً لَهُمْ وَمَلْهًى وَهِوَايَةً، يَنْتَهِزُونَ لِلتَّسْلِيَةِ وَقَضَاءِ هَوَى النَّفْسِ نُشُوبَ حَرْبٍ لَهَا مُسَوِّغٌ أَوْ لَا مُسَوِّغَ لَهَا، وَهَانَتْ عَلَيْهِمْ إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، فَتُثِيرُهَا حَادِثَةٌ تَافِهَةٌ، وَتَدُومُ الْحَرْبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُقْتَلُ فِيهَا أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ.

أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَخْلَاقِ فَكَانَتْ فِيهِمْ أَدْوَاءٌ وَأَمْرَاضٌ مُتَأَصِّلَةٌ، وَأَسْبَابُهَا فَاشِيَةٌ: شُرْبُ الْخَمْرِ؛ كَانَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَاسِعَ الشُّيُوعِ، شَدِيدَ الرُّسُوخِ فِيهِمْ!

وَكَانَ الْقِمَارُ مِنْ مَفَاخِرِ الْحَيَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي مَجَالِسِ الْقِمَارِ عَارًا.

قَالَ قَتَادَةُ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَامِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَيَقْعُدُ حَرِيبًا سَلِيبًا يَنْظُرُ إِلَى مَالِهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَكَانَتْ تُورِثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)).

وَكَذَلِكَ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ الرِّبَى.. وَكَانَ أَهْلُ الْحِجَازِ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ يَتَعَاطَوْنَ الرِّبَى، وَكَانَ الرِّبَى فَاشِيًا فِيهِمْ، وَكَانُوا يُجْحِفُونَ فِيهِ، وَيَبْلُغُونَ إِلَى حَدِّ الْغُلُوِّ وَالْقَسْوَةِ، وَقَدْ رَسَخَ الرِّبَى فِيهِمْ، وَجَرَى مِنْهُمْ مَجْرَى الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي صَارُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التِّجَارَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَقَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَى}.

قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَى مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا حَلَّ مَالُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ يَقُولُ الْغَرِيمُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي مَالِكَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ: هَذَا رِبًى لَا يَحِلُّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ قَالُوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحِلِّ الْمَالِ)).

وَأَمَّا الزِّنَى؛ فَلَمْ يَكُنْ نَادِرًا، وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَنْكَرٍ، فَكَانَ مِنَ الْعَادَاتِ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ خَلِيلَاتٍ، وَتَتَّخِذَ النِّسَاءُ أَخِلَّاءَ بِدُونِ عَقْدٍ، وَقَدْ كَانُوا يُكْرِهُونَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى الزِّنَى، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25].

رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((إِنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ..، ثُمَّ قَالَتْ: ((وَالنِّكَاحُ الرَّابِعُ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا -أَيْ: عَلَامَةً- فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ)).

قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33].

وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْمُجْتَمَعِ الْجَاهِلِيِّ عُرْضَةَ غَبْنٍ وَحَيْفٍ، تُؤْكَلُ حُقُوقُهَا، وَتُبْتَزُّ أَمْوَالُهَا، وَتُحْرَمُ إِرْثَهَا، وَتُعْضَلُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَوْ وَفَاةِ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا تَرْضَاهُ، وَتُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَتَاعُ أَوِ الدَّابَّةُ.

وَأَمَّا وَأْدُ الْبَنَاتِ؛ فَقَدْ بَلَغَتْ كَرَاهَةُ الْبَنَاتِ إِلَى حَدِّ الْوَأْدِ.

كَذَلِكَ كَانَ هُنَالِكَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ خَشْيَةَ الْفَقْرِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْتُلُ أَوْلَادَهُ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَخَوْفَ الْفَقْرِ، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ مِنْ بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَكَانَ يَشْتَرِيهِمْ بَعْضُ سَرَاةِ الْعَرَبِ وَأَشْرَافِهِمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْذِرُ إِذَا بَلَغَ بَنُوهُ عَشْرَةً نَحَرَ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ جَدُّ النَّبِيِّ ﷺ، فَحَذَّرَهُمْ -تَعَالَى- مِنْ هَذَا الْفِعْلِ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151].

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟)).

قَالَ ﷺ: ((أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)).

قَالَ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟)).

قَالَ ﷺ: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)).

قُلْتُ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟)).

قَالَ ﷺ: ((أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ)).

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ -تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-، فَأَلْحَقُوا الْبَنَاتِ بِهِ (سبح)، قَالَ -سُبْحَانَهُ- عَنْهُمْ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57].

((قُصَارَى الْقَوْلِ أَنَّ الْقَرْنَ السَّادِسَ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْبِعْثَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ فَتْرَةٍ زَمَنِيَّةٍ كَانَ مِنْ أَحَطِّ أَدْوَارِ التَّارِيخِ، وَمِنْ أَشَدِّهَا ظَلَامًا وَيَأْسًا مِنْ مُسْتَقْبَلِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَصَلَاحِيَتِهَا لِلْبَقَاءِ وَالِازْدِهَارِ)))).

((لَقَدْ قَصَدَ خَلِيلُ اللهِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَكَّةَ، وَهِيَ فِي وَادٍ مَحْصُورٍ بَيْنَ جِبَالٍ جَرْدَاءَ، لَيْسَ فِيهِ مَا يَعِيشُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ مَاءٍ وَزَرْعٍ وَمِيَرٍ، وَمَعَهُ زَوْجُهُ هَاجَرُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ؛ فِرَارًا مِنَ الْوَثَنِيَّةِ الْمُنْتَشِرَةِ فِي الْعَالَمِ، وَرَغْبَةً فِي تَأْسِيسِ مَرْكَزٍ يُعْبَدُ فِيهِ اللهُ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، وَيَكُونُ مَنَارًا لِلْهُدَى، وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ، وَنُقْطَةَ انْطِلَاقٍ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَالدِّينِ الْخَالِصِ.

تَقَبَّلَ اللهُ هَذَا الْعَمَلَ الْخَالِصَ، وَبَارَكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَأَجْرَى اللهُ الْمَاءَ لِهَذِهِ الْأُسْرَةِ الْمُبَارَكَةِ الصَّغِيرَةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ أُمٍّ وَابْنٍ وَقَدْ تَرَكَهُمَا إِبْرَاهِيمُ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقَاحِلِ الْمُنْعَزِلِ عَنِ الْعَالَمِ، ثُمَّ كَانَ بِئْرُ زَمْزَمَ وَبَارَكَ اللهُ فِي هَذَا الْمَاءِ.

وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ لَا يَزَالُ فِي جِهَادٍ وَدَعْوَةٍ، وَانْتِقَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، يَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللهِ، وَيَعُودُ إِلَى مَكَّةَ فَيَقْضِي فِيهَا أَيَّامًا ثُمَّ يُغَادِرُهَا، وَنَشَأَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ غُلَامٌ يَسْعَى؛ إِيثَارًا لِحُبِّ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى حُبِّهِ، وَتَحْقِيقًا لِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ، وَاسْتَسْلَمَ إِسْمَاعِيلُ لِهَذَا الْأَمْرِ وَرَضِيَ بِهِ، وَفَدَاهُ اللهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَسَلَّمَهُ لِيَكُونَ عَوْنَ أَبِيهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَلِيَكُونَ جَدَّ آخِرِ نَبِيٍّ وَأَفْضَلِ الرُّسُلِ، وَجَدَّ أُمَّةٍ تَضْطَلِعُ بِأَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ.

وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَظَلَّ هَذَا الْبَيْتُ آمِنًا دَائِمًا، وَأَنْ يُسَلِّمَ اللهُ أَوْلَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ هُوَ أَشَدَّ كَرَاهَةً لِشَيْءٍ وَلَا أَكْثَرَ تَقَزُّزًا، وَلَا أَخْوَفَ لِشَيْءٍ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْهَا، فَقَدْ رَأَى مَصِيرَ الْأُمَمِ وَمَصِيرَ الْأُسَرِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا فِيهَا، وَبَعْدَ الْجُهُودِ الْجَبَّارَةِ وَالدَّعَوَاتِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي قَامُوا بِهَا، وَكَيْفَ أَصْبَحَتْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ لِلدُّنْيَا فَرِيسَةً لِلشَّيَاطِينِ الْمُفْسِدِينَ وَالدَّجَّالِينَ الْمُضَلِّلِينَ مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ وَدُعَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ)).

لَقَدْ بَارَكَ اللهُ فِي ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، فَتَنَامَوْا وَصَارُوا قَبَائِلَ، وَانْتَشَرُوا فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ بَقُوا عَلَى دِينِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ بَدَأَ النَّقْصُ عِنْدَهُمْ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِمُ الْبِدَعُ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الشِّرْكَ إِلَى الْعَرَبِ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: ((الْبَحِيرَةُ أَنْ يُمْنَعَ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ، وَلَا يَحْلِبَهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ)).

قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ -أَيْ: أَمْعَاءَهُ- فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ)).

فِي ((الْمُسْنَدِ)) -أَيْضًا- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ أَبُو خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ)).

تَرَكَ الْعَرَبُ دِينَ أَبِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ، وَابْتَعَدُوا عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَانْتَشَرَتْ بَيْنَهُمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَعَدَّدُوا فِيهَا إِلَى حَدٍّ يُثِيرُ السُّخْرِيَةَ، حَيْثُ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي سَفَرِهِ يَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ ثَلَاثَةً لِقِدْرِهِ وَوَاحِدًا يَعْبُدُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَلَبَ الشَّاةَ عَلَى كَوْمٍ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ عَبَدَهُ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: ((كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَا عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةَ، فَلَا نَدَعَ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ)).

وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ: ((كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ غُلَامًا أَرْعَى الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ)).

لَقَدْ عَبَدَ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَالْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْكَوَاكِبَ، وَبَعْضُهُمْ عَبَدَ أَضْرِحَةَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِمُ الصَّلَاحُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ} [النجم: 19]، قَالَ: ((كَانَ رَجُلًا صَالِحًا يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ، فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ)).

((لَقَدْ بَقِيَتْ قُرَيْشٌ مُتَمَسِّكَةً بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَبِدِينِ جَدِّهَا إِسْمَاعِيلَ، مُتَمَسِّكَةً بِالتَّوْحِيدِ وَبِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ حَتَّى كَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيُّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ، وَأَحْدَثَ فِي الْحَيَوَانَاتِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّسْيِيبِ وَالتَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَرَأَى أَهْلَهَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَفُتِنَ بِهَا، وَجَلَبَ بَعْضَهَا إِلَى مَكَّةَ فَنَصَبَهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا)) .

لَقَدْ بَقِيَتْ فِي الْعَرَبِ بَقَايَا مِنْ سُنَنِ إِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَتِهِ، مِنْ ذَلِكَ خِصَالُ الْفِطْرَةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ كَالِاسْتِنْجَاءِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانِ، وَكَانُوا يَغْتَسِلُونَ لِلْجَنَابَةِ، وَيُغَسِّلُونَ مَوْتَاهُمْ وَيُكَفِّنُونَهُمْ، وَكَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيَمْسَحُونَ الْحَجَرَ، وَيُلَبُّونَ إِلَّا أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ يَقُولُونَ: ((لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ))، وَيَقِفُونَ الْمَوَاقِفَ كُلَّهَا، وَيُعَظِّمُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ، وَعَمِلُوا بِالْقَسَامَةِ، وَاجْتَنَبَ بَعْضُهُمُ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يُغَلِّظُونَ عَلَى النِّسَاءِ أَشَدَّ التَّغْلِيظِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، وَهُمْ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِاللهِ وَبِعَظَمَتِهِ وَبِتَدْبِيرِهِ لِلْأُمُورِ، وَأَنَّهُ الرَّزَّاقُ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَسَائِطَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى، قَالَ -تَعَالَى-: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

كَانَتِ الْحَيَاةُ الْجَاهِلِيَّةُ بِكُلِّ صُوَرِهَا وَفِي جَمِيعِ أَمَاكِنِهَا وَبِقَاعِهَا قَدْ صَوَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَيْثُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: ((أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعْلِمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِيَ حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

فَالْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى انْحِرَافِ أَهْلِ الْأَرْضِ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَيُشِيرُ إِلَى نَبْذِهَا وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيًّا، وَاخْتِرَاعِ أَنْظِمَةٍ وَقَوَانِينَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، فَحَرَّمُوا الْحَلَالَ وَأَحَلُّوا الْحَرَامَ.

كَمَا يُوَضِّحُ الْحَدِيثُ الِانْحِرَافَ عَنِ التَّوْحِيدِ، وَالرِّدَّةَ الْكَامِلَةَ عَنِ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.

كَمَا يُشِيرُ الْحَدِيثُ إِلَى الْفَسَادِ الْعَظِيمِ الَّذِي غَطَّى وَجْهَ الْأَرْضِ مِمَّا اسْتَحَقَّ النَّاسُ مَقْتَ اللهِ لَهُمْ جَمِيعًا، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَصْبَحَتِ الْبَشَرِيَّةُ فِي حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إِلَى مُنْقِذٍ لَهَا مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمِنَ الْغَيِّ إِلَى الرُّشْدِ، وَمِنَ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَأَرْسَلَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ وَصَفْوَةَ أَنْبِيَائِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا-.

 

 

 

 

مَفَاهِيمُ وَأُصُولٌ فِي الْعَقِيدَةِ

 

 

 

 

 

 


((الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ وَتَصْحِيحُ الْمَفَاهِيمِ))

إِنَّ أَعْظَمَ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُصَحَّحَ فِيهَا الْمَفَاهِيمُ بَابُ الْعَقِيدَةِ؛ فَالْعَقِيدَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ كُبْرَى تَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ:

* أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أُرْسِلُوا بِالدَّعْوَةِ لِلْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

* وَتَحْقِيقُ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَإِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ هُوَ الْغَايَةُ الْأُولَى مِنْ خَلْقِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

* وَقَبُولُ الْأَعْمَالِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْعَبْدِ، وَكَمَالُ أَعْمَالِهِ عَلَى كَمَالِ التَّوْحِيدِ؛ فَأَيُّ نَقْصٍ فِي التَّوْحِيدِ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، أَوْ يُنْقِصُهُ عَنْ كَمَالِهِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمُسْتَحَبِّ.

* وَالنَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ ابْتِدَاءً أَوْ مَآلًا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ، مِمَّا يُبْرِزُ أَهَمِّيَّةَ تَعَلُّمِهَا وَاعْتِقَادِهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الصَّحِيحِ.

قَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

* فَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ تُحَدِّدُ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَخَالِقِهِ؛ مَعْرِفَةً، وَتَوْحِيدًا، وَعِبَادَةً شَامِلَةً للهِ -تَعَالَى-؛ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالْمُرَاقَبَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالتَّقْوَى وَالْإِنَابَةِ، وَرِعَايَةً تَامَّةً مِنَ اللهِ لِلْعَبْدِ؛ نُطْفَةً، وَصَغِيرًا، وَكَبِيرًا، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، رِزْقًا وَإِنْعَامًا، وَحِفْظًا وَعِنَايَةً وَإِحْسَانًا.

* وَالسَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَسَاسُهَا الْعِلْمُ بِاللهِ -تَعَالَى-؛ فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فَوْقَ كُلِّ حَاجَةٍ، فَلَا رَاحَةَ وَلَا طُمَأْنِينَةَ إِلَّا بِأَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

* وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ تُجِيبُ عَنْ جَمِيعِ التَّسَاؤُلَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى ذِهْنِ الْعَبْدِ، وَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ الْخَالِقِ، وَمَبْدَأُ الْخَلْقِ وَنِهَايَتُهُ، وَغَايَتُهُ، وَالْعَوَالِمُ الْكَائِنَةُ فِي هَذَا الْوُجُودِ، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهَا، وَمَوْضُوعُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.

* وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: تَرْكِيزُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى مَوْضُوعِ الْعَقِيدَةِ بَيَانًا وَتَقْرِيرًا، وَتَصْحِيحًا وَإِيضَاحًا وَدَعْوَةً.

* وَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ سَبَبُ الظُّهُورِ وَالنَّصْرِ، وَسَبَبُ الْفَلَاحِ فِي الدَّارَيْنِ؛ فَالطَّائِفَةُ الْمُتَمَسِّكَةُ بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ هِيَ الطَّائِفَةُ الظَّاهِرَةُ وَالنَّاجِيَةُ وَالْمَنْصُورَةُ الَّتِي لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَذَلَهَا وَلَا مَنْ خَالَفَهَا، قال ﷺ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)).

وَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ مَا يَعْصِمُ الْمُسْلِمَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِمَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ عَقَائِدَ وَأَفْكَارٍ فَاسِدَةٍ.

وَفِي الْجُمْلَةِ؛ فَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ الْأَسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدِّينُ، وَتَصِحُّ مَعَهُ الْأَعْمَالُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ وَمَا جَاءَ بِمَعْنَاهَا -وَهُوَ كَثِيرٌ- عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تُقْبَلُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ خَالِصَةً مِنَ الشِّرْكِ.

وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اهْتِمَامُ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- بِإِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ أَوَّلًا؛ فَأَوَّلُ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَقْوَامَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وَقَدْ بَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ بِنَاءُ الدِّينِ.

وَقَدِ احْتَذَى الدُّعَاةُ وَالْمُصْلِحُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ حَذْوَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَكَانُوا يَبْدَؤُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ، ثُمَّ يَتَّجِهُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ بِبَقِيَّةِ أَوَامِرِ الدِّينِ.

أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِن الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ؛ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ؛ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: يُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ جُمْلَةً مِنَ الْأُمُورِ الْأَصِيلَةِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-:

* وَأَوَّلُ مَا يُطَالِعُنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: هُوَ الْقَاعِدَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ، وَيَقِلُّ عَلَى حَسَبِ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ.

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): يُرِيدُ بِالْقُوَّةِ هَاهُنَا: عَزِيمَةَ النَّفْسِ، وَقُدْرَتَهَا عَلَى أَنْ تُصَرِّفَ الْجَسَدَ مَعَهَا إِلَى طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَيْسَ الْمُرَادُ -بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى- مَا يَتَعَلَّقُ بِقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، وَسَلَامَةِ الْجَسَدِ وَالصِّحَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ ابْتِلَاءً مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يُخْفِقُ وَيَفْشَلُ فِيهِ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْقُوَّةَ وَالصِّحَّةَ، فَيُصَرِّفُهَا فِي ظُلْمِ النَّاسِ، وَفِعْلِ السَّيِّئَاتِ.

وَلَكِنْ ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)) يُرِيدُ عَزِيمَةَ النَّفْسِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَتَحُثُّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَجْعَلُ الْإِنْسَانَ عَابِدًا لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا يُرِيدُهُ سَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ.

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ))، وَحَتَّى لَا يَتَصَوَّرَ إِنْسَانٌ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ -الَّذِي عِنْدَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَعِثُ إِلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَلَا يُوَاظِبُ عَلَى طَلَبِ الْخَيْرَاتِ، وَيَقَعُ مِنْهُ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْمُلِمَّاتِ- حَتَّى لَا يَتَصَوَّرَ أَحَدٌ أَنَّ هَذَا لَا خَيْرَ فِيهِ؛ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ))؛ أَيْ: فِي الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ خَيْرٌ، وَفِي الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ -أَيْضًا- خَيْرٌ.

وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمَا؛ إِنَّمَا تَعُودُ إِلَى أَصْلِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْإِتْيَانِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ؛ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالِانْبِعَاثِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَتَمَامِ الْمُلَازَمَةِ لِلطَّاعَاتِ.

((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)).

((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)): اجْتَهِدْ فِي مَعْرِفَةِ بِدَايَةِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّنَا نُولَدُ، فَنَتَشَكَّلُ عَلَى حَسَبِ مَعَارِفِ الْمُجْتَمَعِ الَّذِي نُولَدُ فِيهِ، وَهَذِهِ الْمَعَارِفُ لَيْسَتْ مُصَفَّاةً مِمَّا يَشُوبُ الْأَصْلَ مِنَ الْكُدُورَاتِ وَالشَّوَائِبِ.

فَمَا أَكْثَرَ مَا يَعْتَقِدُهُ النَّاسُ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الدِّينُ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِهِ مِنْ رَبِّنَا سُلْطَانٌ مُبِينٌ!!

فَكَثِيرٌ مِنَ الْعَقَائِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْبِيَّاتِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ؛ يَعْتَقِدُ النَّاسُ فِيهَا مَا لَا يُحِبُّهُ اللهُ وَلَا يَرْضَاهُ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ مَا يُضَادُّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَهَذِهِ أَخَذُوهَا مِمَّنْ حَوْلَهُمْ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ، وَتَكُونُ مِنَ الْبِدَعِ الْغَلِيظَةِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُفْظِعٌ جِدًّا؛ فَأَنْتَ تَسْمَعُ كَثِيرًا كَلَامًا يُقَالُ، وَهُوَ: إِنَّ الصَّلَاةَ -مَثَلًا- لَيْسَتْ لَهَا قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فِي مُقَابِلِ نَقَاءِ الْقَلْبِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ!

فَتَسْمَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُ: مَا دَامَ الْقَلْبُ صَحِيحًا سَلِيمًا؛ فَهَذَا كُلُّهُ لَا يُهِمُّ!! بَلْ رُبَّمَا تَهَكَّمَ عَلَى الْمُصَلِّينَ، فَيَقُولُ: تُصَلُّونَ الْفَرْضَ، وَتَنْقُبُونَ الْأَرْضَ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَدْعَاةٍ إِلَى الطَّعْنِ فِي الصَّلَاةِ نَفْسِهَا؛ فَكَمْ مِمَّنْ هُوَ آتٍ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرِيفَةِ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا لَا يَطْعَنُ فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يَطْعَنُ فِي الْعَامِلِ!

فَهَؤُلَاءِ يَفْزَعُونَ إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ: أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِجِوَارِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْقَلْبُ، أَوْ مَا يَسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ؛ مِنَ النَّقَاءِ، وَالطُّهْرِ، وَالصَّفَاءِ، وَالْوَفَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ!

وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ مَحْضٌ.

لَا يُهَوِّنَنَّ أَحَدٌ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِسَلَامَةِ الصَّدْرِ، مَنْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ؛ فَهَذَا مِنَ النَّاجِينَ.

وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ إِنَّمَا تَكُونُ بِطَهَارَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَطَهَارَتِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَطَهَارَتِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ؛ كَالْحَسَدِ، وَالْحِقْدِ، وَالْغِلِّ، وَالْغِشِّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ.

فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ الَّتِي إِذَا مَا اسْتَقَرَّتْ فِي الْقَلْبِ؛ صَارَ قَلْبًا غَيْرَ سَلِيمٍ؛ فَلَا يُهَوِّنَنَّ أَحَدٌ مِنْ شَأْنِ طَهَارَةِ الْقَلْبِ، وَسَلَامَتِهِ.

وَلَكِنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ، فَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ.

فَالصَّلَاةُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالزَّكَاةُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ صَرَاحَةً فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ -أَوْ: وَسَبْعُونَ- شُعْبَةً، أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).

فَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ الْإِيمَانَ: اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَان.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ -أَوْ: وَسَبْعُونَ- شُعْبَةً، أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ))، وَهَذَا عَمَلٌ، إِذَا مَرَّ الْإِنْسَانُ بِغُصْنِ شَوْكٍ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ بِحَجَرٍ، أَوْ بِشَيْءٍ يُؤْذِي الْمَارَّةَ؛ فَإِنَّهُ يُنَحِّيهِ جَانِبًا.

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فَضْلَ هَذَا الْعَمَلِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).

فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ.

قَوْلُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): هَذَا لَفْظٌ بِاللِّسَانِ، مَعَ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ بِلَا مَثْنَوِيَّةٍ.

فَهَذَا نُطْقُ اللِّسَانِ، وَهَذَا عَمَلُ الْجَوَارِحِ.

((وَالْحَيَاءُ -وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ- شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ)).

فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ لَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ: اعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ.

فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، هَذِهِ بِدْعَةٌ اعْتِقَادِيَّةٌ، سَمَّاهَا عُلَمَاؤُنَا بِـ ((الْإِرْجَاءِ))، فَيَكُونُ الرَّجُلُ مُرْجِئًا غَالِيًا فِي الْإِرْجَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي: مَا الْإِرْجَاءُ؟!

وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ تَوَرَّطَ فِي بِدْعَةٍ اعْتِقَادِيَّةٍ مِنْ كُبْرَيَاتِ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ!

وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يَعْتَقِدُهُ بِقَلْبِهِ؛ مِنْ أَثَرِ مَا تَلَقَّاهُ مِنْ مُجْتَمَعِهِ، وَكَذَلِكَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ فِي مُجْتَمَعِهِ، وَلَا يُحَذِّرُهُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الشُّرُورِ، وَلَا يُبَيِّنُ لَهُ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَيَتَوَرَّطُ فِي الْإِرْجَاءِ.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تَجِدُهُ جَبْرِيًّا -أَيْضًا- فِي بَابِ الْإِيمَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ؛ حَتَّى إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ لَهُ: إِنَّكَ جَبْرِيٌّ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَفْهَمُ مَا تَقُولُ!

* كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى هَذَا الَّذِي أَتَوْا بِهِ، فَيَفْعَلُ الْمُنْكَرَاتِ، فَإِذَا عُوتِبَ؛ يَقُولُ: كَتَبَ اللهُ عَلَيَّ ذَلِكَ!! فَيَجْعَلُ الْقَدَرَ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ.

وَالْقَدَرُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ، يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمِنَ الْإِنْسَانُ بِالْقَدَرِ؛ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ لَهُ إِيمَانٌ، وَهُوَ الرُّكْنُ السَّادِسُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لَكِنْ لَا يُحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعَاصِي، يَعْنِي: إِذَا ارْتَكَبَ الْإِنْسَانُ مَعْصِيَةً؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا ارْتَكَبَهَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، هُوَ الَّذِي اخْتَارَ.

فِي الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ: مَا يَقَعُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمِنَ الطَّاعَاتِ؛ إِنَّمَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ، وَيُوَفِّقُهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17].

فَإِذَا اهْتَدَى الْإِنْسَانُ الْهِدَايَةَ الْعَامَّةَ؛ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ، وَبِالتَّسْدِيدِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالتَّبْصِيرِ لِأُمُورِ الدِّينِ؛ حَتَّى تَقْوَى عَزِيمَتُهُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ.

فَالْقَدَرُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ؛ لَكِنْ لَا يُذْكَرُ عِنْدَ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، يَعْنِي: إِذَا وَقَعَ عَلَى الْإِنْسَانِ مُصِيبَةٌ، وَأَصَابَهُ قَدَرٌ لَا يُلَائِمُهُ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقُولُ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا-: ((قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ)).

فَحِينَئِذٍ يُنْزِلُ اللهُ السَّكِينَةَ عَلَى قَلْبِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ لِيُدْفَعَ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَدَرٌ قَدَّرَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ.

فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَاصِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ يَحْفَظُهُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَأَنَّ الْمَكْتُوبَ عَلَى الْجَبِينِ لَا بُدَّ أَنْ تَرَاهُ الْعَيْنُ!

إِنْ كَانَ يَقْصِدُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ مُجَرَّدًا؛ فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً لَهُ عَلَى رَبِّهِ فِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ؛ فَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)): تَعَلَّمْ أُمُورَ الدِّينِ، اضْبِطْ أَحْكَامَ الِاعْتِقَادِ؛ فَهَذَا الْإِيمَانُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ رَاسِخًا عَلَى أَصْلٍ عَرَفْتَهُ وَعَلِمْتَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ.

يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ؛ وَلَوْ كَانُوا حَاصِلِينَ عَلَى أَكْبَرِ الشَّهَادَاتِ، وَأَعْلَى الْمَرَاكِزِ الْعِلْمِيَّةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ؛ شَرْعِيَّةً أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ.

* يَعْنِي: لَوْ سَأَلْتَ إِنْسَانًا؛ فَقُلْتَ: مَا هُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟

وَمَا آخِرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ فِي آخِرِهَا؟

أَوَّلُ شَيْءٍ، وَآخِرُ شَيْءٍ: هُوَ ((أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَأَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ: أَنْ يَشْهَدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ.

هَذَا أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ: أَنْ يَشْهَدَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.

وَآخِرُ شَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الدُّنْيَا؛ ((مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).

فَـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَوَّلُ شَيْءٍ، وَآخِرُهُ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.

فَإِذَا سَأَلْتَ الْمُسْلِمَ، فَقُلْتَ لَهُ: مَا مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؟

تَتَفَاوَتُ الْأَجْوِبَةُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) يَعْنِي: لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ!

هَذَا لَوْ كَانَ؛ مَا ذُكِرَ فِي الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): ((لَا رَبَّ إِلَّا اللهُ!)).

هُنَا أُلُوهِيَّةٌ، لَا رُبُوبِيَّة: ((لَا إِلَهَ)) أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ ((إِلَّا اللهُ))، لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

فَإِذَا سَأَلْتَ الْمُسْلِمَ عَنِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي إِذَا كَانَتْ مَعَهُ، وَدَخَلَ النَّارَ، وَبَقِيَ فِي النَّارِ مَا بَقِيَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَاسَبَ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، وَأَنْ يَتَطَهَّرَ؛ لِكَيْ يَلْحَقَ بِالطَّيِّبِينَ فِي دَارِ الطِّيبِ الْمَحْضِ، وَهِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ.. هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَوْ كَانَتْ مَعَ الْإِنْسَانِ، وَأُدْخِلَ النَّارَ، وَبَقِيَ فِيهَا مَا بَقِيَ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ.

لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْعَظِيمَةُ؛ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا، إِذَا سَأَلْتَهُ؛ يَقُولُ: لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ!! لَا رَبَّ إِلَّا اللهُ!

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا حَاكِمَ إِلَّا اللهُ!

وَهَذَا كُلُّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ قَائِلُهُ عَلَى الْجَادَّةِ وَالصَّوَابِ.

مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.

لِمَاذَا نَقُولُ: ((لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ))؟

لِأَنَّنَا إِذَا لَمْ نَقُلْ: ((بِحَقٍّ))، وَقُلْنَا: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَيْ: لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللهُ؛ جَعَلْنَا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَمِيعَ الْآلِهَةِ الْمَعْبُودَةِ، فَهُنَاكَ آلِهَةٌ كَثِيرَةٌ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ.

الْبَشَرُ يُعْبَدُونَ فِي بَعْضِ الدِّيَانَاتِ؛ بَلْ الْبَقَرُ يُعْبَدُونَ فِي الْهِنْدِ عِنْدَ الْهُنْدُوسِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْأَصْنَامُ مَا زَالَتْ فِي أَوَاسِطِ أَفْرِيقِيَّةَ، مَا زَالَتْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-!

الْهَوَى يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يُطَاعَ فِي مُخَالَفَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُؤْخَذُ بِهِ فِي مُصَادَمَةِ الشَّرْعِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، فَصَارَ هَوَاهُ إِلَهًا مَعَ اللهِ.

هَذِهِ كُلُّهَا تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ فَهُنَالِكَ مَعْبُودَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الدُّنْيَا؛ وَلَكِنْ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ مَعْبُودًا بِحَقٍّ، اللهُ وَحْدَهُ، ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.

يَلْحَقُ بِهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ: أَنَّكَ عِنْدَمَا تَقُولُ: ((لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ))؛ ذَكَرْتَ الْعِبَادَةَ، مَا هِيَ الْعِبَادَةُ؟

تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الطَّيِّبِينَ يُحِبُّونَ الْخَيْرَ، وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ فَاتَهُمْ أَنْ يَبْحَثُوا عَنِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، لَمْ يُرْشَدُوا إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعْتَقَدِ، وَأُمُورِ الْإِيمَانِ.

* فَإِذَا قُلْتَ لِإِنْسَانٍ طَيِّبٍ، فِي ظَاهِرِهِ الصَّلَاحُ، وَمُقْبِلٌ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ: مَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ؟

لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَدِّدَهَا تَحْدِيدًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا يَجْعَلُهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى بَعْضِ الْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ، وَيَتْرُكُ أُمُورًا كَثِيرَةً لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ.

يَعْنِي: سَيَقُولُ لَكَ: الْعِبَادَةُ: الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَجُّ.. فَيَأْتِي بِهَذِهِ الْأُصُولِ -وَهِيَ أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ- عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْعِبَادَةُ، وَلَا شَيْءَ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ!!

وَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ يُفَوِّتُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَثِيرًا مِنَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ: كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

لَوْ نَظَرْتَ إِلَى هَذَا التَّعْرِيفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ -رَحِمَهُمُ اللهُ-؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ حَيَاتَكَ كُلَّهَا؛ حَتَّى نَوْمَكَ، حَتَّى أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ.

طَعَامُكَ وَشَرَابُكَ، سُكُوتُكَ وَكَلَامُكَ، حَرَكَتُكَ وَانْبِعَاثُكَ، وَتَثْبِيطُكَ إِلَى الْأَرْضِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً للهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِشَرْطِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ إِذَا كَانَ مَحْبُوبًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

يَقُولُ الْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-: ((الْعِبَادَةُ: كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ)).

((وَالْبَاطِنَةِ))، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: اعْتِقَادُ الْقَلْبِ؛ عَمَلُهُ وَقَوْلُهُ، أَنَّ الْقَلْبَ يُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَيَرْجُو، وَيُشْفِقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ.

هَذِهِ كُلُّهَا عِبَادَاتٌ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّرَهَا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَبَّ مَعَ اللهِ؛ أَشْرَكَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، أَمَّا إِذَا أَحَبَّ للهِ، أَوْ أَحَبَّ فِي اللهِ؛ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ عِنْدَ اللهِ.

فَتَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهِيَ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا تَنْبَعِثُ نِيَّاتُهُمْ، وَلَا يَتَحَفَّزُونَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ ذَكَرٌ، لَا يُحِبُّهُ إِلَّا الذُّكْرَانُ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَمَّا الْمُخَنَّثُونَ مِنَ الرِّجَالِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ الْعِلْمَ، وَلَا يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ نَجَاتُهُمْ، وَسَعَادَتُهُمْ، وَفَلَاحُهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً.

فَهَذِهِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تَلْحَقُ بِهَذَا النَّصِّ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ نَبِيِّنَا الْعَظِيمِ ﷺ.

((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)): تَعَلَّمِ الْعِلْمَ النَّافِعَ، وَاعْمَلِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ.

 

 

الْغِشُّ فِي الِامْتِحَانَاتِ

 

 

 

 


                                                

 

((التَّرْهِيبُ مِنَ الْغِشِّ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَفِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَمِنْ ذَلِكَ تَصْحِيحُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ فِي حَيَاتِنَا، وَمِنْ ذَلِكَ: تَهْوِينُ الْبَعْضِ مِنَ الْغِشِّ فِي الِامْتِحَانَاتِ؛ فَالْغِشُّ فِي الِامْتِحَانَاتِ يُمَثِّلُ وَاحِدًا مِنْ أَكْثَرِ السُّلُوكِيَّاتِ السَّلْبِيَّةِ انْتِشَارًا فِي الْبِيئَاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاحِلِهَا، وَتَكْمُنُ خُطُورَةُ هَذَا السُّلُوكُ فِي كَوْنِهِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ تَجَاوُزِ اخْتِبَارَاتٍ دِرَاسِيَّةٍ، بَلْ يُؤَسِّسُ لِمَنْظُومَةٍ فِكْرِيَّةٍ مُشَوَّهَةٍ تَقُومُ عَلَى الْخِدَاعِ، وَانْتِهَاكِ الْأَمَانَةِ، وَتَفْرِيغِ التَّعْلِيمِ مِنْ جَوْهَرِهِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى إِضْعَافِ الْبِنْيَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالْمَعْرِفِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ.

إِنَّهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ وَالْأَزْمَاتِ تَظْهَرُ الْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ وَالْخِصَالُ الرَّدِيئَةُ مِنْ أَصْحَابِ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ: الْغِشُّ.

((وَالْغِشُّ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَشَّهُ يَغُشُّهُ غِشًّا -بِالْكَسْرِ-، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (غ ش ش).

يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ: ((الْغَيْنُ وَالشِّينُ أُصُولٌ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفٍ فِي الشَّيْءِ وَاسْتِعْجَالٍ فِيهِ، مِنْ ذَلِكَ: الْغِشُّ: وَيَقُولُونَ: الْغِشُّ: أَلَّا تَمْحَضَ النَّصِيحَةَ، وَاسْتَغَشَّهُ خِلَافُ اسْتَنْصَحَهُ)).

وَيَقُولُ الْفَيُّومِيُّ: ((غَشَّهُ غِشًّا مِنْ بَابِ قَتَلَ، وَالِاسْمُ: غِشٌّ -بِالْكَسْرِ-، أَيْ: لَمْ يَنْصَحْهُ، وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَبَنٌ مَغْشُوشٌ، أَيْ: مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ)).

وَغَشَّهُ يَغُشُّهُ غِشًّا: لَمْ يَمْحَضْهُ النُّصْحَ، وَأَظْهَرَ لَهُ خِلَافَ مَا أَضْمَرَهُ.

((وَالْغِشُّ: الْغِلُّ وَالْحِقْدُ، وَقَدْ غَشَّ صَدْرُهُ يَغُشُّ إِذَا غَلَّ)).

قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: ((الْغِشُّ نَقِيضُ النُّصْحِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَشَشِ، وَهُوَ الْمَشْرَبُ الْكَدِرُ، وَمِنْ هَذَا: الْغِشُّ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا)))).

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْغِشُّ: مَا يُخْلَطُ مِنَ الرَّدِيءِ بِالْجَيِّدِ)).

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((الْغِشُّ الْمُحَرَّمُ: أَنْ يَعْلَمَ ذُو السِّلْعَةِ مِنْ نَحْوِ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ.. أَنْ يَعْلَمَ فِيهَا شَيْئًا لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مُرِيدُ أَخْذِهَا مَا أَخَذَهَا بِذَلِكَ الْمُقَابِلِ)).

قَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الْغِشُّ: سَوَادُ الْقَلْبِ، وَعُبُوسُ الْوَجْهِ)).

((أَنْوَاعُ الْغِشِّ))

الْغِشُّ أَنْوَاعٌ عَدِيدَةٌ، أَهَمُّهَا:

* النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْغِشُّ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُنَاوِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ فِي تَعْرِيفِهِمَا لِلْغِشِّ.

* وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْغِشُّ فِي النُّصْحِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكَفَوِيُّ، وَيُرَادُ بِهِ: عَدَمُ الْإِخْلَاصِ فِي النُّصْحِ، وَمِنْهُ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: «غَشَّهُ غِشًّا»: لَمْ يَمْحَضْهُ النَّصِيحَةَ.

* النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْغِشُّ لِلرَّعِيَّةِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الذَّهَبِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْكَبِيرَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «أَيُّمَا رَاعٍ غَشَّ رَعِيَّتَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ».

((حُكْمُ الْغِشِّ))

لَقَدْ عَدَّ الْإِمَامُ ابْنُ حَجَرٍ النَّوْعَ الْأَوَّلَ -وَهُوَ غِشُّ الْبُيُوعِ وَنَحْوِهَا-؛ عَدَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: ((عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ نَفْيِ الْإِسْلَامِ عَنِ الْغَاشِّ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللهِ، أَوْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ تَلْعَنُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ -أَيِ: الْغِشُّ- فِيهِ نَظَرٌ؛ لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ)).

أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ الْغِشُّ فِي النَّصِيحَةِ؛ ((فَهُوَ -أَيْضًا- مِنَ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَهَا سَوَادُ الْقَلْبِ، وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مَا يَنْطَبِقُ عَلَى سَائِرِ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي يُذَمُّ الْعَبْدُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُذَمُّ عَلَى الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ)).

أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: وَهُوَ غِشُّ الْإِمَامِ لِلرَّعِيَّةِ؛ فَقَدْ عَدَّهُ الذَّهَبِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ -أَيْضًا- فَقَالَ: ((الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: هِيَ غِشُّ الْإِمَامِ لِلرَّعِيَّةِ، وَظُلْمُهُ لَهُمْ -وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ عَدِيدَةٍ وَأَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةٍ-، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «... وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)))) )).

((التَّرْهِيبُ مِنَ الْغِشِّ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152].

(({وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}: بِأَكْلٍ، أَوْ مُعَاوَضَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمُحَابَاةِ لِأَنْفُسِكُمْ، أَوْ أَخْذٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ {إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: إِلَّا بِالْحَالِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أَمْوَالُهُمْ وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قُرْبَانُهَا وَالتَّصَرُّفُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ الْيَتَامَى، أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ {حَتَّى يَبْلُغَ} الْيَتِيمُ {أَشُدَّهُ} أَيْ: حَتَّى يَبْلُغَ وَيَرْشُدَ وَيَعْرِفَ التَّصَرُّفَ، فَإِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ أُعْطِيَ -حِينَئِذٍ- مَالَهُ، وَتَصَرَّفَ فِيهِ عَلَى نَظَرِهِ.

وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَتِيمَ قَبْلَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ وَلِيَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ بِالْأَحَظِّ، وَأَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَنْتَهِي بِبُلُوغِ الْأَشُدِّ.

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أَيْ: بِالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ التَّامِّ، فَإِذَا اجْتَهَدْتُمْ فِي ذَلِكَ فَ {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أَيْ: بِقَدْرِ مَا تَسَعُهُ، وَلَا تَضِيقُ عَنْهُ، فَمَنْ حَرَصَ عَلَى الْإِيفَاءِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، ثُمَّ حَصَلَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ وَلَمْ يَعْلَمْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وَبِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا اسْتَدَلَّ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ أَحَدًا مَا لَا يُطِيقُ، وَعَلَى أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِيمَا أَمَرَ، وَفَعَلَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.

{وَإِذَا قُلْتُمْ} قَوْلًا تَحْكُمُونَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَفْصِلُونَ بَيْنَهُمُ الْخِطَابَ، وَتَتَكَلَّمُونَ بِهِ عَلَى الْمَقَالَاتِ وَالْأَحْوَالِ {فَاعْدِلُوا} فِي قَوْلِكُمْ؛ بِمُرَاعَاةِ الصِّدْقِ فِي مَنْ تُحِبُّونَ وَمَنْ تَكْرَهُونَ، وَالْإِنْصَافِ، وَعَدَمِ كِتْمَانِ مَا يَلْزَمُ بَيَانُهُ؛ فَإِنَّ الْمَيْلَ عَلَى مَنْ تَكْرَهُ بِالْكَلَامِ فِيهِ أَوْ فِي مَقَالَتِهِ مِنَ الظُّلْمِ الْمُحَرَّمِ.

بَلْ إِذَا تَكَلَّمَ الْعَالِمُ عَلَى مَقَالَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَعْتَبِرَ قُرْبَهَا مِنَ الْحَقِّ وَبُعْدَهَا مِنْهُ.

وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ وَلَفْظِهِ، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}: وَهَذَا يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدَهُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَمِنَ الْعَهْدِ الَّذِي يَقَعُ التَّعَاقُدُ بِهِ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَالْجَمِيعُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَحْرُمُ نَقْضُهُ وَالْإِخْلَالُ بِهِ.

{ذَلِكُمْ}: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: مَا بَيَّنَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَتَقُومُونَ بِوَصِيَّةِ اللَّهِ لَكُمْ حَقَّ الْقِيَامِ، وَتَعْرِفُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 84-85].

((وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ -الْقَبِيلَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَدْيَنَ فِي أَدْنَى فِلَسْطِينَ- أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ شُعَيْبًا؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ، وَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْأَخْذِ عَنْهُ.

فَقَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أَيْ: أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ، وَكَانُوا -مَعَ شِرْكِهِمْ- يَبْخَسُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ؛ وَلِهَذَا نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، بَلْ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ.

{إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أَيْ: بِنِعْمَةٍ كَثِيرَةٍ، وَصِحَّةٍ، وَكَثْرَةِ أَمْوَالٍ وَبَنِينَ؛ فَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ، وَلَا تَكْفُرُوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ فَيُزِيلَهَا عَنْكُمْ.

{وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أَيْ: عَذَابًا يُحِيطُ بِكُمْ، وَلَا يُبْقِي مِنْكُمْ بَاقِيَةً.

{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أَيْ: بِالْعَدْلِ الَّذِي تَرْضَوْنَ أَنْ تُعْطَوْهُ، {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أَيْ: لَا تَنْقُصُوا مِنْ أَشْيَاءِ النَّاسِ فَتَسْرِقُوهَا بِأَخْذِهَا بِنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ.

{وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}؛ فَإِنَّ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْمَعَاصِي يُفْسِدُ الْأَدْيَانَ وَالْعَقَائِدَ وَالدِّينَ وَالدُّنْيَا، وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35].

((وَهَذَا أَمْرٌ بِالْعَدْلِ وَإِيفَاءِ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ بِالْقِسْطِ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلَا نَقْصٍ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنْ كُلِّ غِشٍّ فِي ثَمَنٍ، أَوْ مُثَمَّنٍ، أَوْ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ ، وَالْأَمْرُ بِالنُّصْحِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ.

{ذَلِكَ خَيْرٌ}: مِنْ عَدَمِهِ {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أَيْ: أَحْسَنُ عَاقِبَةً، بِهِ يَسْلَمُ الْعَبْدُ مِنَ التَّبِعَاتِ، وَبِهِ تَنْزِلُ الْبَرَكَةُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [الشعراء: 181].

((وَكَانُوا -مَعَ شِرْكِهِمْ- يَبْخَسُونَ الْمَكَايِيلَ وَالْمَوَازِينَ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: {أَوْفُوا الْكَيْلَ} أَيْ: أَتِمُّوهُ وَأَكْمِلُوهُ، {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ}: الَّذِينَ يَنْقُصُونَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ، وَيَسْلُبُونَهَا بِبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9].

(({وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أَيِ: اجْعَلُوهُ قَائِمًا بِالْعَدْلِ الَّذِي تَصِلُ إِلَيْهِ مَقْدِرَتُكُمْ وَإِمْكَانُكُمْ، {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أَيْ: لَا تَنْقُصُوهُ وَتَعْمَلُوا بِضِدِّهِ، وَهُوَ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ وَالطُّغْيَانُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3].

(({وَيْلٌ}: كَلِمَةُ عَذَابٍ وَعِقَابٍ {لِلْمُطَفِّفِينَ}، وَفَسَّرَ اللَّهُ الْمُطَفِّفِينَ بِأَنَّهُمْ {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أَيْ: أَخَذُوا مِنْهُمْ وَفَاءً عَمَّا ثَبَتَ لَهُمْ قِبَلَهُمْ، يَسْتَوْفُونَهُ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} أَيْ: إِذَا أَعْطَوُا النَّاسَ حَقَّهُمُ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِمْ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ {يُخْسِرُونَ} أَيْ: يَنْقُصُونَهُمْ ذَلِكَ؛ إِمَّا بِمِكْيَالٍ وَمِيزَانٍ نَاقِصَيْنِ، أَوْ بِعَدَمِ مَلْءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا سَرِقَةٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَعَدَمُ إِنْصَافٍ لَهُمْ مِنْهُمْ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا وَعِيدًا عَلَى الَّذِينَ يَبْخَسُونَ النَّاسَ بِالْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ؛ فَالَّذِي يَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ قَهْرًا أَوْ سَرِقَةً أَوْلَى بِهَذَا الْوَعِيدِ مِنَ الْمُطَفِّفِينَ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَأْخُذُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ كُلَّ مَا لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ؛ بَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذَا الْحُجَجُ وَالْمَقَالَاتُ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْرِصُ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْحُجَجِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ -أَيْضًا- أَنْ يُبَيِّنَ مَا لِخَصْمِهِ مِنَ الْحُجَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَدِلَّةِ خَصْمِهِ كَمَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّتِهِ هُوَ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُعْرَفُ إِنْصَافُ الْإِنْسَانِ مِنْ تَعَصُّبِهِ وَاعْتِسَافِهِ، وَتَوَاضُعُهُ مِنْ كِبْرِهِ، وَعَقْلُهُ مِنْ سَفَهِهِ -نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِكُلِّ خَيْرٍ-)).

وَرَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْغِشِّ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). الْحَدِيثَ وَفِيهِ-: ((فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟)).

فَقَالَ: ((مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ)).

قَالَ: فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: ((مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ؛ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ)).

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: ((فَهَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبَغَوِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صَبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟)).

قَالَ: ((أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟)) -ثَلَاثًا-: ((الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَوْ: قَوْلُ الزُّورِ».

وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: ((أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا؛ كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ؛ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ؛ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَأُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ! إِذَنْ؛ يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً.

قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَما اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ.

قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ.

قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ -أَيْ: لَا عَقْلَ لَهُ-، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا، لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالشِّنْظِيرَ الْفَحَّاشَ)).

وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو غَسَّانَ فِي حَدِيثِهِ: «وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقْ عَلَيْكَ». الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى تَبْلُغَ الْأَسْوَاقَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 

 

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ: ((إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ)) أَيْ: لَا تَخْدَعُونِي.

وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ((مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُسِرُّ إِلَيْكَ؟)).

قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: ((مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ؛ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ أَرْبَع)).

قَالَ: فَقَالَ: ((مَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟)).

قَالَ: قَالَ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ)).

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: ((أَتَدْرِي مَا هَذَا؟)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((وَمَا هُوَ؟)).

قَالَ: ((كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ؛ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ)).

((فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:

لَقَدْ أَبَاحَكَ غِشًّا فِي مُعَامَلَةٍ     =      مَنْ كُنْتَ مِنْهُ بِغَيْرِ الصِّدْقِ تَنْتَفِعُ

((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صَبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟)).

قَالَ: ((أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَي يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((الصَّبْرَةُ)): الْكَوْمَةُ الْمَجْمُوعَةُ مِنَ الطَّعَامِ.

رِعَايَةً لِشُؤُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَاهْتِمَامًا بِأُمُورِهِمْ، وَحِرْصًا عَلَى اكْتِشَافِ الْأَخْطَاءِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى السُّوقِ، وَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَرَأَى بَائِعَ حَبٍّ يَجْمَعُ كَوْمَةً مِنَ الطَّعَامِ مِنَ الْقَمْحِ أَوِ الشَّعِيرِ لِيَبِيعَهَا، وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ وَضَعَ الرَّدِيءَ أَسْفَلَ مِنَ الْجَيِّدِ يُخْفِي عُيُوبَهَا؛ أَدْخَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ فِي جَوْفِهَا -وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ بِوَحْيٍ-، فَأَصَابَتْ يَدُهُ بَلَلًا، وَأَحَسَّ أَنَّ الْحَبَّ الْأَسْفَلَ مُبْتَلٌّ بِخِلَافِ الْأَعْلَى، فَغَضِبَ مُعْتَبِرًا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ غِشِّ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!)).

قَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَقَدْ أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ فَأَصَابَهُ الْمَطَرُ، وَلَا قِبَلَ لِي بِتَحَاشِي الْبَلَلِ، وَلَا بِوِقَايَةِ الطَّعَامِ مِنَ الْمَاءِ.

فَقَبِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عُذْرَهُ، وَنَبَّهَهُ إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ الْحَبَّ الْمُبْتَلَّ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، فَإِذَا جَفَّ الْأَعْلَى فَلْيُخْرِجْ مَرَّةً ثَانِيَةً مِنَ الْأَسْفَلِ إِلَى الْأَعْلَى؛ حَتَّى يَرَاهُ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ إِصَابَتِهِ بِالْمَاءِ.

فَمَنْ أَخْفَى عُيُوبَ سِلْعَتِهِ فَقَدْ غَشَّ، وَمَنْ غَشَّ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِ وَسُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.

((مَنْ غَشَّ)) أَيِ: النَّاسَ، وَدَسَّ لَهُمُ الشَّرَّ، وَأَرَادَ بِهِمُ الضَّرَرَ، وَلَمْ يَنْصَحْ لَهُمْ؛ ((فَلَيْسَ مِنِّي)) أَيْ: فَلَيْسَ ذَلِكَ الْغَاشُّ ((مِنِّي)) أَيْ: مِنْ أَهْلِ مِلَّتِي وَدِينِي إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ، أَوْ لَيْسَ عَلَى سِيرَتِي وَهَدْيِي إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ.

مِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ: بَيَانُ تَحْرِيمِ الْغِشِّ، وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي تُنَافِي مُقْتَضَى الْإِيمَانِ؛ إِذِ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ مُنَاصَحَةُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا غَشَّهُ فَقَدْ نَاقَضَ ذَلِكَ.

وَمِنْ فَوَائِدِهِ: حِرْصُ الشَّرِيعَةِ عَلَى إِبْعَادِ كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِلْمُسْلِمِ.

وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ التَّدْلِيسِ فِي الْبَيْعِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْغِشِّ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.

وَمِنْهَا: حِرْصُ الشَّرِيعَةِ عَلَى صِيَانَةِ الْمُجْتَمَعِ وَحِفْظِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَمَرْذُولِهَا.

((أَكْبَرُ الْغِشِّ: غِشُّ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ))

كِتْمَانُ النَّصِيحَةِ غِشٌّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلدِّينِ:

إِنَّ أَكْبَرَ أَنْوَاعِ الْغِشِّ وَأَشْنَعِ صُوَرِهِ: غِشُّ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَعَقِيدَتِهِمْ؛ فَالنَّصِيحَةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ هِيَ الدِّينُ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ الْبَرْبَهَارِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ)): ((وَلَا يَحِلُّ أَنْ تَكْتُمَ النَّصِيحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ غَشَّ الدِّينَ، وَمَنْ غَشَّ الدِّينَ فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ)).

هَذَا كَلَامُهُ، وَقَدْ أَسَّسَهُ عَلَى نُصُوصٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

مِنَ النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي التَّوَسُّطَ بَيْنَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِ السُّنَّة؛ فَتَرَاهُ يُجَالِسُ الْجَمِيعَ، فَإِذَا سُئِلَ هُوَ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِ قَالُوا: نَحْنُ نُجَمِّعُ وَلَا نُفَرِّقُ!

وَقَوْلُهُمْ هَذَا هُوَ أَصْلُ التَّفْرِيقِ وَعَيْنُ الْبُعْدِ عَنْ هَدْيِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَجَادَّتِهِمْ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- -بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمُغَالِينَ فِي التَّكْفِيرِ- قَالَ: ((وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ بِالْبَاطِلِ أَقْوَامٌ لَا يَعْرِفُونَ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَجِبُ، أَوْ يَعْرِفُونَ بَعْضَهُ وَيَجْهَلُونَ بَعْضَهُ، وَمَا عَرَفُوهُ مِنْهُ قَد لَا يُبَيِّنُونَهُ لِلنَّاسِ، بَلْ يَكْتُمُونَهُ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَذُمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَيُعَاقِبُونَهُمْ، بَلْ لَعَلَّهُمْ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ فِي السُّنَّةِ وَأُصُولِ الدِّينِ ذَمًّا مُطْلَقًا -وَشِعَارُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ: (إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ تُفَرِّقُ الْأُمَّةَ وَلَا تُجَمِّعُهَا)-، قَالَ الشَّيْخُ: لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُرْقَةِ، أَوْ يُقِرُّونَ الْجَمِيعَ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ)).

هَؤُلَاءِ الضُّلَّالُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- مَاذَا يَصْنَعُونَ؟!

يُقِرُّونَ الْجَمِيعَ؛ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ عَلَى مَذَاهِبِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، ((كَمَا يُقِرُّ الْعُلَمَاء فِي مَوَاطِنِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا النِّزَاعُ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ تَغْلِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ، كَمَا تَغْلِبُ الْأُولَى -يَعْنِي: طَرِيقَةَ الْغُلُوِّ فِي التَّكْفِيرِ- عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْكَلَامِ، وَكِلَا هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مُنْحَرِفَةٌ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)).

النَّصِيحَةُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- هِيَ الدِّينُ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، وَهَذِهِ النَّصِيحَةُ تَكُونُ عَلَى مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ، وَعَلَى أَثَرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَا عَلَى حَسَبِ الْهَوَى، وَلَا بِاجْتِهَادٍ زَائِفٍ، وَلَا بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ لَا تَدْرِي أَيْنَ السَّبِيلُ.

وَقَالَ الشَّيْخُ -أَيْضًا-: ((إِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةِ؛ وَذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَقَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ: ((لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ! مَا عَلِمْتُهُ إِلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ)) (ص -وَهَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، وَقَالَ ﷺ فِي ذِي الْخُوَيْصِرَةِ: ((إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ -يَعْنِي: مِنَ الْمَرْمِيَّةِ-)). وَهَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ-، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَعَاصِي ذُنُوبُهُمْ بَعْضُ مَا نُهُوا عَنْهُ -ذُنُوبُ أَهْلِ الْمَعَاصِي بَعْضُ مَا نُهُوا عَنْهُ-؛ مِنْ سَرِقَةٍ، أَوْ زِنًا، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ أَكْلِ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَأَهْلَ الْبِدَعِ ذُنُوبُهُمْ تَرْكُ مَا أُمِرُوا بِهِ كَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ)).

خَطَرُ أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ:

عَوْدٌ إِلَى الْإِمَامِ الْبَرْبَهَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِهِ ((شَرْحِ السُّنَّةِ)) قَالَ: ((فَانْظُرْ -رَحِمَكَ اللهُ- كُلَّ مَنْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ خَاصَّةً فَلَا تَعْجَلَنَّ، وَلَا تَدْخُلَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَسْأَلَ وَتَنْظُرَ: هَلْ تَكَلَّمَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَوْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ؟ فَإِنْ وَجَدْتَ فِيهِ أَثَرًا عَنْهُمْ فَتَمَسَّكْ بِهِ، وَلَا تُجَاوِزْهُ لِشَيْءٍ، وَلَا تَخْتَرْ عَلَيْهِ شَيْئًا فَتَسْقُطَ فِي النَّارِ)).

وَهَذَا نَصٌّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ، وَأَنْ يَصِيرَ قَانُونًا وَمِنْهَاجًا وَدَيْدَنًا!

كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ- دَاخِلٌ تَحْتَ أَصْلٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا مَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ السَّائِرِينَ عَلَى طَرِيقِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَالَّذِي لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ عِلْمٍ سَلَفِيٍّ أَنْ يَجْهَلَهُ، أَلَا وَهُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ الدَّاخِلِيَّ فِي الْأُمَّةِ أَخْطَرُ عَلَيْهَا مِنَ الْعَدُوِّ الْخَارِجِيِّ.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ -أَيْ: جَمَعَ لِي الْأَرْضَ-، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)).

 وَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ فِي أَنَّهُ تَحَقَّقَ بَدْءًا، وَأَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ شَرْقًا وَغَرْبًا، لَا شَمَالًا وَجَنُوبًا، وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ ﷺ: ((فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَض -يَعْنِي: الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، أَوْ مُلْكَ كِسْرَى وَقَيْصَر-، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَلَّا يُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ -أَيْ: جَمَاعَتَهُمْ أَوْ عِزَّهُمْ-، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ -أَيْ: بِقَحْطٍ شَامِلٍ يَأْخُذُهُمْ مِنْ أَقْطَارِهِمْ وَيُطْبِقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يُبْقَِ مِنْهُمْ أَحَدًا، لَا يَكُونُ-، وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا)).

فَهَذِهِ آتَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا ﷺ وَأُمَّتَهُ؛ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ خَارِجِهِمْ، الْعَدُوُّ الْخَارِجِيُّ مَهْمَا بَلَغَتْ قُوَّتُهُ مَدْحُورٌ مُنْكَسِرٌ أَمَامَ صَخْرَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِتَوْحِيدِ أَبْنَائِهَا لَدَى الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ؛ فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الْمَنْصُورَةَ لَا تَنْطَوِي عَلَى شِرْكٍ، وَلَا تَحْتَوِي عَلَى شَكٍّ، وَلَا تُلِمُّ بِرِيَاءٍ وَلَا نِفَاقٍ، وَإِنَّمَا مُحَقِّقَةٌ لِلتَّوْحِيدِ عَلَى الْوَجْهِ، فَعَلَى صَخْرَتِهَا تَنْكَسِرُ جَمِيعُ الْقُوَى، وَتَتَحَطَّمُ مَوْجَاتُهَا بَدَدًا، كَمَا وَعَدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَآتَاهُ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ: ((وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَع عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)). هَذَا نَصُّ مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ زِيَادَةٌ: ((وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)) أَيِ: الدَّاعِينَ إِلَى الْبِدَعِ وَالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ.

فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَتَخَوَّفْ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الْعَدُوِّ الْخَارِجِيِّ الظَّاهِرِ فِي كُفْرِهِ كَالْيَهُودِ وَالصَّلِيبِيِّينَ؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ قَضَى قَضَاءً لَا يُرَدُّ أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُهُمْ عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا نَحْنُ فَتَحْنَا لَهُمُ الْبَابَ وَمَهَّدْنَا لَهُمُ السَّبِيلَ، وَإِنَّمَا الشَّرُّ وَالْبَلَاءُ يَأْتِي مِنَ الْعَدُوِّ الدَّاخِلِيِّ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ، وَدُعَاةُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ، وَحِينَئِذٍ تَنْحَرِفُ الْأُمَّةُ حَتَّى تَصِيرَ فِرَقًا وَجَمَاعَاتٍ وَمِزَقًا تَتَبَدَّدُ بَدَدًا، فَيَتَقَاتَلُونَ يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضُا، وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَدْرِي فِيمَا قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ -أَيْضًا- يَدْرِي فِيمَا قُتِلَ!

* التَّحْذِيرُ مِنَ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا مِنْ أَكْبَرِ النُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ:

فَإِذَا كَانَتِ الْبِدَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَخْطَرَ مِنَ الْمَعَاصِي فَلَا بُدَّ لِأَهْلِ الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ الصَّافِيَةِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ مِنْ كَشْفِ زُيُوفِ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْحَرَكِيِّينَ وَالْفِكْرِيِّينَ وَالْعَلْمَانِيِّينَ، وَحِرَاسَةُ الصَّفِّ مِنَ الدَّاخِلِ كَحِرَاسَتِهِ مِنَ الْعَدُوِّ الْخَارِجِيِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْيَدَيْنِ تَغْسِلُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَقَدْ لَا يَنْقَلِعُ الْوَسَخُ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْخُشُونَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مِنَ النَّظَافَةِ وَالنُّعُومَةِ وَيُوجِبُ مِنْهُمَا مَا نَحْمَدُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ التَّخْشِينِ)) يَعْنِي: فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى.

فَوَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْقِيَامُ بِالذَّبِّ وَالدِّفَاعِ عَنْ حَقِّ اللهِ وَحَقِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالتَّيَقُّظُ لِتِلْكَ الْأَقْلَامِ وَالْأَبْوَاقِ، كُلٌّ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَطَاقَتِهِ، فَالْمَسْؤُولِيَّةُ عَامَّةٌ وَمُشْتَرَكَةٌ.

وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَيَانِ خُطُورَةِ الْعَدُوِّ الدَّاخِلِيِّ خُصُوصًا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ:

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي الْوَفَاءِ عَلِيِّ بْنِ عَقِيلٍ الْفَقِيهِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ الْهَمْدَانِيُّ: ((مُبْتَدِعَةُ الْإِسْلَامِ أَشَدُّ مِنَ الْمُلْحِدِينَ)).

مُبْتَدِعَةُ الْإِسْلَامِ وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ وَالِانْحِرَافِ عَنِ النَّهْجِ السَّوِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ هَؤُلَاءِ أَشَدُّ مِنَ الْمُلْحِدِينَ؛ لِأَنَّ الْمُلْحِدِينَ قَصَدُوا إِفْسَادَ الدِّينِ مِنْ خَارِجٍ، وَهَؤُلَاءِ قَصَدُوا إِفْسَادَ الدِّينِ مِنَ الدَّاخِلِ؛ فَهُمْ كَأَهْلِ بَلَدٍ سَعَوْا فِي إِفْسَادِ أَحْوَالِهِ، وَالْمُلْحِدُونَ كَالْحَاضِرِينَ مِنَ خَارِجٍ عَدُوًّا ظَاهِرًا، فَالدُّخَلَاءُ -يَعْنِي: أَهْلَ الْبِدَعِ- كَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَكُونُونَ بِدَاخِلِ الْحِصْنِ يَفْتَحُونَ الْحِصْنَ، فَهُوَ شَرٌّ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ الْمُلَابِسِ لَهُ، وَشَرُّ هَؤُلَاءِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا شَرُّ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالدَّاعِينَ -بِزَعْمِهِمْ- إِلَى صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ شَرُّهُمْ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ صَدْعَ الدِّينِ وَإِزَالَةَ شَوْكَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْعَدُوُّ الظَّاهِرُ أَقَلُّ خَطَرًا مِنَ الْعَدُوِّ الدَّاخِلِيِّ الْبَاطِنِ.

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ عَنِ الْخوَارِجِ: ((وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ، وَمَا زَالَتْ سِيرَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا، وَمَا جَعَلُوهُمْ مُرْتَدِّينَ كَالَّذِينَ قَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، هَذَا مَعَ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمَا وَرَدَ ((أَنَّهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ))، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، أَيْ: أَنَّهُمْ شَرٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ شَرًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى)).

هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ -كَمَا يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ حَارَبَ جَمِيعَ مَنْ ذُكِرَ، حَارَبَهُمْ بِسَيْفِهِ، وَحَارَبَهُمْ بِبَنَانِهِ، وَحَارَبَهُمْ بِلِسَانِهِ-، يَقُولُ: ((فَإِنَّهُمْ -يَعْنِي: الْخَوَارِجَ- لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ شَرًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ لَا الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى))؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي قَتْلِ كُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ يُوَافِقْهُمْ مُسْتَحِلِّينَ لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ، مُكَفِّرِينَ لَهُمْ، وَكَانُوا مُتَدَيِّنِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ جَهْلِهِمْ وَلِبِدْعَتِهِمُ الْمُضِلَّةِ، فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَخْطَرَ وَأَشَدَّ شَرًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدُوِّ الْخَارِجِيِّ الظَّاهِرِ.

وَقَدْ حَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ قِرَاءَةِ كُتُبِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَأَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّهَا بِمَثَابَةِ السُّمِّ فِي الدَّسَمِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى النَّبِيَّ ﷺ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ -أَيْ: أَخَذَهُ- مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: ((أمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ -يَعْنِي: أَمُتَحَيِّرُونَ أَنْتُمْ فِيمَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ؟!- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ -يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ- عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ كَانَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)) ﷺ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)).

فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ لِلِاسْتِفَادَةِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ السَّمَاوِيَّةِ الْمَنْسُوخَةِ مُحَرَّمًا؛ فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ وَالْكُفْرِ وَغَيْرِهِمْ أَشَدُّ حُرْمَةً.

قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي ((الْمِيزَانِ)) فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيِّ -وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا كَبِيرًا جَلْدًا فِي الِاعْتِزَالِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَأْذَنَ فَقِيلَ: مَنْ؟ قَالَ: جَارُ اللهِ الْمُعْتَزِلِيُّ- قَالَ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ)): ((صَالِحٌ، لَكِنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلَى الِاعْتِزَالِ -أَجَارَنَا اللهُ-، فَكُنْ حَذِرًا مِنْ كَشَّافِهِ)) يَعْنِي: مِنْ تَفْسِيرِهِ.

النَّصِيحَةُ وَاجِبَةٌ، أَوْجَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَوْجَبَهَا رَسُولُهُ ﷺ، وَمِمَّا يَصُدُّ عَنْ قَبُولِهَا ذَلِكَ التَّعَصُّبُ الْأَعْمَى.

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيمَا يُلْقَى إِلَيْهِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا أَتَاهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرْجِعَ مَا يَأْتِي بِهِ أَهْلُ زَمَانِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنْ وَجَدَ فَذَلِكَ وَإِلَّا فَلْيَضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا وَلْيَطْوِ عَنْهُ كَشْحًا، وَلْيَجْعَلْهُ دَبْرَ الْآذَانِ وَتَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ، وَلَا يُبَالِي فَلَا خَيْرَ فِيهِ.

إِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا:

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ وَتَقْبِيحِهَا، وَوُجُوبِ الْهُرُوبِ عَنْهَا وَعَمَّنِ اتَّسَمَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَوَقَّفٌ؛ فَهُوَ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ إِجْمَاعٌ ثَابِتٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ بِحَقٍّ، بَلْ هِيَ مِنَ الْبَاطِلِ.

الْمُبْتَدِعَةُ يُقُدِّمُونَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الشَّرْعِ؛ وَلِذَا سُمُّوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ.

إِنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ مَذْمُومٌ آثِمٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يُخَالِفُ مُقْتَضَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولِ اللهِ؛ فَإِنَّ مُقْتَضَاهَا أَنْ يُصَدَّقَ ﷺ فِيمَا أَخْبَرَ، وَيُطَاعَ فِيمَا أَمَرَ، وَيُكَفَّ عَمَّا نَهَى وَزَجَرَ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِلَّا بِمَا شَرَعَ.

 

 

تَخْرِيبُ الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ

 

 

 

 


                                                

 

((حُرْمَةُ الْمَالِ الْعَامِّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))

إِنَّ الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةَ تُعَدُّ أَحَدَ أَبْرَزِ مَظَاهِرِ الْحَضَارَةِ وَالِانْتِمَاءِ؛ فَهِيَ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ لِكُلِّ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَتُعَبِّرُ عَنِ اسْتِثْمَارَاتِ الدَّوْلَةِ لِخِدْمَةِ الْمُوَاطِنِينَ؛ مِنْ طُرُقٍ، وَمَرَافِقَ، وَخَدَمَاتٍ، وَمَدَارِسَ، وَمُؤَسَّسَاتٍ، وَغَيْرِهَا.

وَمَعَ ذَلِكَ تَشْهَدُ الْعَدِيدُ مِنَ الْمُجْتَمَعَاتِ مَظَاهِرَ مُتَكَرِّرَةً لِتَخْرِيبِ هَذِهِ الْمُمْتَلَكَاتِ؛ سَوَاءٌ عَنْ طَرِيقِ الْإِهْمَالِ، أَوِ الْعَبَثِ الْمُتَعَمَّدِ، أَوْ الِاسْتِخْدَامِ غَيْرِ الْمَسْؤُولِ، وَهِيَ سُلُوكِيَّاتٌ تُمَثِّلُ اعْتِدَاءً مُبَاشِرًا عَلَى مُقَدَّرَاتِ الدَّوْلَةِ.

لَقَدْ تَوَعَّدَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْمُعْتَدِيَ عَلَى الْمَالِ عُمُومًا وَالْمَالِ الْعَامِّ خُصُوصًا بِأَشَدِّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَتَتَّضِحُ خُطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَى الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا -وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا- مِنْ قِصَّةِ الْغُلَامِ الَّذِي أَخَذَ شَمْلَةً مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهَا -أَيِ: الشَّمْلَةَ- تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فِي قَبْرِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْنَا، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا وَرِقًا، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ (جُذَامٍ) يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فَقُلْنَا: ((هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَلَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ)).

قَالَ: ((فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ -وَالشِّرَاكُ: هُوَ السَّيْرُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَكُونُ فِي النَّعْلِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ- فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! ((أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ: شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ ﷺ: ((فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ؛ فَإِنَّهُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مُعَلِّقًا عَلَى الْحَدِيثِ: ((وَفِيهِ: تَحْرِيمُ الْغُلُولِ.

وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْغُلُولِ وَكَثِيرِهِ؛ حَتَّى الشِّرَاكِ.

وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْغُلُولَ يَمْنَعُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ غَلَّ إِذَا قُتِلَ))، فَلَا يُقَالُ لَهُ: شَهِيدٌ.

((مَفْهُومُ الْمَالِ الْعَامِّ فِي الْإِسْلَامِ))

وَالْمَالُ الْعَامُّ: كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، وَبَيْتُ الْمَالِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْجِهَةِ، لَا عَنِ الْمَكَانِ.

فَالْمَالُ الْعَامُّ: هُوَ كُلُّ مَالٍ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ، بَلْ هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا، يَنْتَفِعُ مِنْهُ جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ: كُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي مِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ، وَتَدْخُلُ الْأَبْنِيَةُ التَّابِعَةُ لَهَا، وَكُلُّ مَالٍ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ سِوَى بَيْتِ الْمَالِ؛ كَالْأَدَوَاتِ التَّابِعَةِ لِأَجْهِزَةِ الدَّوْلَةِ، وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَشَبَكَاتِ الْمِيَاهِ وَالصَّرْفِ الصِّحِّيِّ، وَأَمْوَالِ الْوَقْفِ وَغَيْرِهَا، وَكَالْأَمْوَالِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِيَّةِ الْأَفْرَادِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهَا، وَأَبَاحَ الشَّارِعُ انْتِفَاعَ الْأُمَّةِ بِهِ، فَكُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ النَّاسِ عَامَّةً، أَوْ فِي مِلْكِ جَمْعٍ مِنْهُمْ دُونَ تَخْصِيصٍ، وَمَا دَخَلَ فِي مِلْكِ الدَّوْلَةِ بِصِفَتِهَا رَاعِيَةً لِمَصَالِحِ النَّاسِ؛ فَهَذَا يَدْخُلُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ.

وَمَفْهُومُ الْمَالِ الْعَامِّ فِي الْإِسْلَامِ: أَنْ تَكُونَ مِلْكِيَّتُهُ لِلنَّاسِ جَمِيعًا، أَوْ لِمَجْمُوعَةٍ مِنْهُمْ، وَيَكُونُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ مِنْهُ لَهُمْ دُونَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أَوْ يَسْتَعْمِلَهُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ، أَيْ: يَكُونُ الِانْتِفَاعُ لِمَوْضُوعِ الْمَالِ الْعَامِّ بِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، أَوْ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْفَرْدِ اخْتِصَاصٌ، وَلَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَّا إِذَا تَعَارَضَ انْتِفَاعُهُ مَعَ انْتِفَاعِ غَيْرِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُرَدُّ إِلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي الِانْتِفَاعِ عَلَى أَسَاسِ الْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ؛ حَيْثُ لَا يَمْنَعُ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا مِنَ انْتِفَاعِ الْآخَرِ.

وَالْمَالُ الْعَامُّ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَامٌّ؛ فَلَا يَكُونُ لِفِئَةٍ دُونَ أُخْرَى، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

((أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الِاعْتِدَاءِ

عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِدَاءِ حَرَامٌ، دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ.

الْأَدِلَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ:

مِنْهَا: أَمْرُ اللهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَمَانَاتِ، وَتَحْرِيمِ خِيَانَتِهَا بِجَمِيعِ صُوَرِهَا، قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

فَالْمَالُ الْعَامُّ أَمَانَةٌ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ خِيَانَةٌ.

وَمَدَحَ اللهُ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ مُحَافِظُونَ وَرَاعُونَ، وَبَيَّنَ مَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 8-11].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج: 32-35].

وَحَرَّمَ رَبُّنَا -تَعَالَى- الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، وَجَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْمُعْتَدِي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161].

((أَيْ: يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَفْضَحُهُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَتَتَضَمَّنُ التَّنْفِيرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ذَنْبٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ بِعُقُوبَةٍ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ مَجِيئُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا غَلَّهُ حَامِلًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبَ.

قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} [البقرة: 281] أَيْ: تُعْطَى جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ وَافِيًا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ مَنْ كَسَبَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَيَدْخُلُ تَحْتَهَا الْغَالُّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا؛ لِكَوْنِ السِّيَاقِ فِيهِ)).

فَكُلُّ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ خَانَ شَيْئًا مِنْ مَالِ اللهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -إِنْ شَاءَ اللهُ-.

وَالْغُلُولُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْقِصَاصِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ صَاحِبُهُ فِي الْمَشِيئَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَحَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالتَّعَدِّيَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

فَمَنْ تَعَدَّى عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، مُتَوَعَّدٌ بِالْعُقُوبَةِ، دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14].

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].

وَمِنْ خِلَالِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَدِلَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- يَتَبَيَّنُ لَنَا حُرْمَةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاعْتِدَاءِ، وَمَنْ تَعَدَّى فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْعُقُوبَةِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهَا.

وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْمُشَرَّفَةُ خُطُورَةَ وَعِظَمَ إِثْمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ فَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ لِتُبَيِّنَ أَنَّ الْمُعْتَدِيَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ مَا غَلَّهُ؛ لِيُفْضَحَ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ؛ لِيَرْتَدِعَ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ بِاقْتِرَافِ تِلْكَ الْجَرِيمَةِ الشَّنْعَاءِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ -يَعْنِي: لَا أَجِدَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ- لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ -وَالرُّغَاءُ: هُوَ صَوْتُ الْبَعِيرِ-، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهْ حَمْحَمَةٌ -وَالْحَمْحَمَةُ: صَوْتُ الْفَرَسِ دُونَ الصَّهِيلِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ -وَالثُّغَاءُ: صَوْتُ الشِّيَاهِ-، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ -وَالْمُرَادُ بِالرِّقَاعِ: الثِّيَابُ، وَتَخْفِقُ، أَيْ: تَضْطَرِبُ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يَعْنِي: الْمَالَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَكُلُّ شَيْءٍ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ يَغُلُّهُ الْغَالُّ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلًا لَهُ؛ لِيُفْتَضَحَ بِهِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْمَوْقِفِ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْمَغْلُولُ حَيَوَانًا، أَوْ إِنْسَانًا، أَوْ ثِيَابًا، أَوْ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً.

((وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْمُوَظَّفِينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ))

وَحَذَّرَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْ تَعَدِّي الْعُمَّالِ عَلَى الْأَمَانَةِ -وَالْعُمَّالُ: هُمُ الْمُوَظَّفُونَ-، حَذَّرَتْ مِنْ تَعَدِّي الْعُمَّالِ عَلَى الْأَمَانَةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ، وَالَّتِي مِنْهَا الْمَالُ الْعَامُّ، وَحَذَّرَتْهُمْ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ.

عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا -أَيْ: إِبْرَةً- فَمَا فَوْقَهُ؛ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

قَالَ: ((فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ)).

قَالَ: ((وَمَا لَكَ؟)).

قَالَ: ((سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا)).

قَالَ: ((وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَفِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ مَنِ اسْتُعْمِلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمَ مِنْهُ أَوْ يُخْفِيَ مِنْهُ شَيْئًا؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا بِمِقْدَارِ الْإِبْرَةِ فَمَا فَوْقَهَا، وَيُعَدُّ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ خِيَانَةً لِلْأَمَانَةِ، وَهَذَا مَسُوقٌ لِحَثِّ الْعُمَّالِ -أَيِ: الْمُوَظَّفِينَ- عَلَى الْأَمَانَةِ، وَلِتَحْذِيرِهِمْ مِنَ الْخِيَانَةِ وَلَوْ فِي أَمْرٍ تَافِهٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ جَسِيمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَأْكُلُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ كَمَالِ الْأَوْقَافِ، وَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الِاسْتِحْلَالِ، أَوْ رَدَّ حُقُوقِ الْعَامَّةِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ.

وَفِيهِ: غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي التَّحْرِيمِ؛ حَتَّى الشِّرَاكِ -وَالشِّرَاكُ: هُوَ سَيْرُ النَّعْلِ-.

وَأَصْلُ الْغُلُولِ: الْخِيَانَةُ مُطْلَقًا.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا تَصْرِيحٌ بِغِلَظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَصْلُ الْغُلُولِ الْخِيَانَةُ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ اخْتِصَاصُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِالْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ.

قَالَ نَفْطَوَيْهِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ مَغْلُولَةٌ عَنْهُ، أَيْ: مَحْبُوسَةٌ، يُقَالُ: غَلَّ غُلُولًا، وَأَغَلَّ إِغْلَالًا.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا غَلَّهُ، وَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ)).

((عُقُوبَةُ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ))

وَتَوَعَّدَتِ الشَّرِيعَةُ الْمُعْتَدِيَ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْعَذَابَ، وَأَشَدُّ الْعَذَابِ دُخُولُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَالْبُعْدُ عَنْ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَقَدْ قَالَ ﷺ: ((إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُرَادُ: التَّخْلِيطُ فِي الْمَالِ، وَتَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (( ((يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ)) أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْقِسْمَةِ وَبِغَيْرِهَا.

وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنَ الْمَغَانِمِ -أَيِ: الْمَالِ الْعَامِّ- شَيْئًا بِغَيْرِ قَسْمِ الْإِمَامِ كَانَ عَاصِيًا.

وَفِيهِ: رَدْعُ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، أَوْ يَمْنَعُوهُ مِنْ أَهْلِهِ.

وَقَوْلُهُ: ((مِنْ مَالِ اللهِ)): مُظْهَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ؛ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّخَوُّضُ فِي مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي.

وَقَوْلُهُ: ((لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ)): حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ الْخَوْضُ فِي مَالِ اللهِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالْغَلَبَةِ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ رِعَايَةُ الرَّعِيَّةِ فَلَمْ يُؤَدِّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمْ، وَضَيَّعَهَا؛ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، قَالَ ﷺ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ وَشُرَّاحِ الْحَدِيثِ لِأَقْوَالِهِ ﷺ يَتَبَيَّنُ حُرْمَةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، وَصُوَرٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، وَعُقُوبَةُ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ، وَمَا يَجِبُ فِعْلُهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الْخِلَافَاتُ الْأُسَرِيَّةُ

وَالْعِلَاجُ الشَّرْعِيُّ لَهَا، وَمَخَاطِرُ الطَّلَاقِ

 

 

 

 

 


                                                

 

 

((مَكَانَةُ الزَّوَاجِ فِي الْإِسْلَامِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ حَرِصَ الْإِسْلَامُ عَلَى بِنَاءِ الْأُسْرَةِ عَلَى أُسُسٍ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالسَّكِينَةِ؛ لِأَنَّهَا اللَّبِنَةُ الْأُولَى فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ، فَإِذَا اضْطَرَبَتِ الْأُسْرَةُ اضْطَرَبَ الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ، وَإِذَا صَلُحَتْ صَلَحَ الْمُجْتَمَعُ وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمَّةُ؛ فَالْأُسْرَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَقْدٍ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، بَلْ هِيَ سَكَنٌ وَمَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ.

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمَّى الزَّوَاجَ مِيثَاقًا غَلِيظًا؛ لِيَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ احْتِرَامِهِ، وَلِيُحَذِّرَ مِنْ خُطُورَةِ هَدْمِهِ وَنَقْضِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20-21].

وَإِنْ أَرَدْتُمْ -يَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ- طَلَاقَ زَوْجَةٍ وَاسْتِبْدَالَ زَوْجَةٍ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَكَانَ صَدَاقُ مَنْ تُرِيدُونَ طَلَاقَهَا مَالًا كَثِيرًا؛ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قِبَلِهَا نُشُوزٌ وَسُوءُ عِشْرَةٍ.

أَفَتَأْخُذُونَهُ مُفْتَرِينَ فَاعِلِينَ فِعْلًا تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِي سَبَبِهِ، آثِمِينَ بِفِعْلِهِ إِثْمًا وَاضِحًا مُعْلَنَ الْوُضُوحِ، مُسْتَنْكَرَ الْوُقُوعِ؟!

فَلَا تَفْعَلُوا هَذَا الْفِعْلَ مَعَ ظُهُورِ قُبْحِهِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.

وَلِأَيِّ وَجْهٍ تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا بَذَلَهُ لِزَوْجَتِهِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَدْ وَصَلَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالْجِمَاعِ وَالْخَلْوَةِ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ عَهْدًا شَدِيدًا مُؤَكَّدًا، وَهِيَ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُ النِّسَاءِ؟!

لَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ مَنْزِلَةً خَاصَّةً، وَمَكَانَةً سَامِيَةً، وَسَنَّ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْآدَابِ مَا يَضْمَنُ اسْتِقْرَارَهَا، وَتَرَابُطَهَا، وَتَمَاسُكَهَا، وَاسْتِدَامَتَهَا فِي إِطَارِ السَّكَنِ، وَالْمَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ، وَقَدْ دَعَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَنْ يَنْظُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى شَرِيكِ حَيَاتِهِ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ، وَيَتَأَمَّلَ جَوَانِبَ الْخَيْرِ فِيهِ، وَيَتَبَصَّرَ مَزَايَا الْإِبْقَاءِ عَلَى الْحَيَاةِ الْأُسَرِيَّةِ مِنَ السَّكَنِ وَالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ وَالسُّلُوكِيِّ، وَسَعَادَةِ الذُّرِّيَّةِ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُعَامَلَةً تَلِيقُ بِأَمْثَالِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْكُمْ مَا يُسْتَنْكَرُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، وَذَلِكَ بِإِعْطَائِهِنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ، وَالتَّلَطُّفِ بِهِنَّ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرِ عَلَى عِوَجِهِنَّ، وَعَدَمِ إِيذَائِهِنَّ، فَإِنْ كَرِهْتُمْ عِشْرَتَهُنَّ وَصُحْبَتَهُنَّ، وَآثَرْتُمْ فِرَاقَهُنَّ؛ فَاصْبِرُوا عَلَيْهِنَّ مَعَ الْفِرَاقِ.

فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ خَيْرًا كَثِيرًا؛ فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ لَمْ تَأْتِ عَلَى مِزَاجِ الزَّوْجِ، وَلَا عَلَى ذَوْقِهِ، وَلَيْسَ فِيهَا سُوءُ خُلُقٍ، أَوْ ضَعْفُ دِينٍ، أَوْ قِلَّةُ أَمَانَةٍ، فَصَبَرَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا، وَعَاشَرَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَغَاضَى عَنِ الْجَوَانِبِ الَّتِي لَا تَمِيلُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ فِيهَا، فَجَعَلَ اللهُ مِنْهَا خَيْرًا كَثِيرًا، فَكَانَتْ مُعِينَةً لَهُ، وَحَافِظَةً لَهُ وَلِمَالِهِ وَلِوَلَدِهِ، وَأَنْجَبَتْ لَهُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً يَسْعَدُ بِهَا.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ سَخِطَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ)).

وَيَقُولُ ﷺ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)).

وَالْقَانُونُ: أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ حُسْنَ مُعَامَلَتِهَا لَا يَكُونُ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهَا، وَإِنَّمَا بِتَحَمُّلِ الْأَذَى مِنْهَا، فَإِنَّهُ مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ إِلَّا كَرِيمٌ، وَمَا أَسَاءَ إِلَيْهِنَّ إِلَّا لَئِيمٌ.

فَالْكَمَالُ للهِ وَحْدَهُ، وَالْعِصْمَةُ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَللهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا = كَفَى الْمَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ

((الْعِلَاجُ الشَّرْعِيُّ لِلْمَشَاكِلِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنُّشُوزِ))

لَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ تَعْتَرِيهَا بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَنَالُ مِنَ الصَّفَاءِ الْأُسَرِيِّ؛ لِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ وَضَعَ الْعِلَاجَ النَّاجِعَ لَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الصُّلْحِ، وَالتَّوَافُقِ، وَالتَّرَاضِي، وَالْإِحْسَانِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

((النُّشُوزُ: مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُهُ بِأَلَّا تُجِيبَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ تُجِيبُهُ مُتَبَرِّمَةً أَوْ مُتَكَرِّهَةً؛ وَعَظَهَا.

وَالنُّشُوزُ يَكُونُ مِنَ الزَّوْجِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34].

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128].

وَالنُّشُوزُ شَرْعًا: «مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ» أَيْ: مَعْصِيَتُهَا الزَّوْجَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ حُقُوقِهِ، أَمَّا مَا لَا يَجِبُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنُشُوزٍ وَلَوْ صَرَّحَتْ بِمَعْصِيَتِهِ، فَلَوْ قَالَ لَهَا: أُرِيدُ مِنْكِ أَنْ تُصْبِحِي دَلَّالَةً فِي السُّوقِ تَبِيعِينَ، فَقَالَتْ: لَا؛ مَا يَلْزَمُهَا، وَلَوْ قَالَ: أُرِيدُ مِنْكِ أَنْ تَكُونِي خَادِمَةً عِنْدَ النَّاسِ؛ فَلَا يَلْزَمُهَا.

((فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُهُ بِأَلَّا تُجِيبَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ» يَعْنِي: دَعَاهَا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ فَأَبَتْ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا بِتَقْبِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَبَتْ؛ فَهَذِهِ نَاشِزٌ.

«أَوْ مُتَكَرِّهَةً» أَيْ: تُجِيبُهُ لَكِنَّهَا مُتَكَرِّهَةٌ، يَظْهَرُ فِي وَجْهِهَا الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ لِهَذَا الشَّيْءِ، وَرُبَّمَا تُسْمِعُهُ مَا لَا يَلِيقُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَجَابَتْهُ؛ لَكِنْ مَا أَجَابَتْهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ، حَتَّى الزَّوْجُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ أَنَفَةٌ إِذَا رَأَى مِنْهَا أَنَّهَا تُعَامِلُهُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ، فَهَذَا نُشُوزٌ؛ لَكِنْ مَاذَا يَصْنَعُ مَعَهَا؟

((يَعِظُهَا)): وَالْمَوْعِظَةُ: هِيَ التَّذْكِيرُ بِمَا يُرَغِّبُ أَوْ يُخَوِّفُ، فَيَعِظُهَا بِذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَبِذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْمُحَذِّرَةِ مِنْ عِصْيَانِ الزَّوْجِ؛ مِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

فَيَعِظُهَا أَوَّلًا، وَإِذَا اسْتَجَابَتْ لِلْوَعْظِ خَيْرٌ مِنْ كَوْنِهَا تَسْتَجِيبُ لِلْوَعِيدِ، أَيْ: خَيْرٌ مِنْ كَوْنِهِ يَقُولُ: اسْتَقِيمِي وَإِلَّا طَلَّقْتُكِ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، تَجِدُهُ يَتَوَعَّدُهَا بِالطَّلَاقِ، وَمَا عَلِمَ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ نُفُورًا مِنَ الزَّوْجِ، كَأَنَّهَا شَاةٌ، إِنْ شَاءَ بَاعَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا!!

لَكِنِ الطَّرِيقُ السَّلِيمُ أَنْ يَعِظَهَا، وَيُذَكِّرَهَا بِآيَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حَتَّى تَنْقَادَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِنِ امْتَثَلَتْ وَعَادَتْ إِلَى الطَّاعَةِ فَهَذَا الْمَطْلُوبُ.

((فَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ)) أَيْ: يَتْرُكُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وَلَمْ يُقَيِّدْ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَتَرْكُهَا فِي الْمَضْجَعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَلَّا يَنَامَ فِي حُجْرَتِهَا، وَهَذَا أَشَدُّ شَيْءٍ.

الثَّانِي: أَلَّا يَنَامَ عَلَى الْفِرَاشِ مَعَهَا، وَهَذَا أَهْوَنُ مِنَ الْأَوَّلِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَنَامَ مَعَهَا فِي الْفِرَاشِ؛ وَلَكِنْ يُلْقِيهَا ظَهْرَهُ وَلَا يُحَدِّثُهَا، وَهَذَا أَهْوَنُهَا.

فَيَبْدَأُ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ.

«مَا شَاءَ»: مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا بَقِيَتْ عَلَى نُشُوزِهَا، فَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ، وَالتَّأْدِيبُ يَرْتَفِعُ إِذَا اسْتَقَامَ الْمُؤَدَّبُ، فَإِذَا اسْتَقَامَتْ حِينَ هَجَرَهَا أُسْبُوعًا فَالْحَمْدُ للهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِثْلُ الدَّوَاءِ، يَتَقَيَّدُ بِالدَّاءِ، فَمَتَى شُفِيَ الْإِنْسَانُ لَا يَسْتَعْمِلُ الدَّوَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَرَرًا، وَعَلَيْهِ فَمَتَى اسْتَقَامَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْهَجْرِ.

«وَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» أَيْ: يَهْجُرُهَا فِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».

فَلَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَزُولُ الْهَجْرُ بِالسَّلَامِ.

«فَإِنْ أَصَرَّتْ ضَرَبَهَا غَيْرَ مُبَرِّحٍ» هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ.

فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}.

لَكِنْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، فَذَكَرَهَا بِالْوَاوِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِ التَّرْتِيبِ؟

فَالْجَوَابُ: تَقْدِيمُ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْأَصْلِ.

فَعَلَيْهِ نَقُولُ: الْمَسْأَلَةُ عِلَاجٌ وَدَوَاءٌ، فَنَبْدَأُ بِالْأَخَفِّ: الْمَوْعِظَةُ، ثُمَّ الْهَجْرُ فِي الْمَضَاجِعِ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا الْهَجْرُ فِي الْمَقَالِ، ثُمَّ الضَّرْبُ.

لَيْسَ الضَّرْبُ كَمَا يُرِيدُ، فَلَا يَأْتِي بِخَشَبَةٍ مِثْلَ الذِّرَاعِ وَيَضْرِبُهَا، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَهَا بِسَوْطٍ مِثْلِ الْأُصْبَعِ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ أَخْطَأَ لَا شَكَّ، فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِي الْوَجْهِ، وَلَا فِي الْمَقَاتِلِ، وَلَا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ أَلَمًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّأْدِيبُ.

فَإِنْ لَمْ يُفِدْ؛ أَيْ: أَنَّهُ وَعَظَهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهَا وَلَا فَائِدَةَ؛ فَمَاذَا نَصْنَعُ؟

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].

وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ شِقَاقًا وَمُخَالَفَةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ؛ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِمَا حَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ، وَحَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ؛ لِيَنْظُرَا فِي أَمْرِهِمَا، وَيَحْكُمَا بِمَا يَرَيَانِهِ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ.

إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُ كُلَّ قَلْبٍ يَلْتَقِي مَعَ الْآخَرِ، إِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيمًا عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا، خَبِيرًا بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرِ.

فَصَارَتِ الْمَرَاتِبُ أَرْبَعًا:

وَعْظٌ، هَجْرٌ، ضَرْبٌ، إِقَامَةُ الْحَكَمَيْنِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].

وَالزَّوْجَاتُ اللَّاتِي تَعْلَمُونَ دَلَالَاتِ تَرَفُّعِهِنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهُنَّ بَوَادِرُ الْعِصْيَانِ فَانْصَحُوهُنَّ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ فِي دَوَامِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ نَتَائِجِ التَّرَفُّعِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْعِصْيَانِ.

فَإِنْ لَمْ يَنْزَعْنَ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ الْمُؤَثِّرِ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْفِرَاشِ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَعْنَ بِالْهِجْرَانِ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا شَائِهٍ، فَإِنْ رَجَعْنَ عَنْ تَمَرُّدِهِنَّ وَاسْتِعْصَائِهِنَّ إِلَى طَاعَتِكُمْ عِنْدَ هَذَا التَّأْدِيبِ فَلَا تَطْلُبُوا بَعْدَ طَاعَتِهِنَّ لَكُمْ طَرِيقًا مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِنَّ يَكُونُ لَكُمْ بِهِ عَلَيْهِنَّ تَسَلُّطٌ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ هَذَا ظُلْمٌ، وَاسْتِعْمَالٌ لِسُلْطَةِ الْقِوَامَةِ فِي غَيْرِ مَا أَذِنَ اللهُ بِهِ.

إِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيًّا كَبِيرًا، لَهُ كَمَالُ الْعُلُوِّ وَكُلِّ غَايَاتِهِ، وَهُوَ الْكَبِيرُ الَّذِي لَيْسَ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ مِثْلُ وَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَى مِنْكُمْ سُلْطَانًا، وَأَكْبَرُ قُدْرَةً، فَإِذَا تَجَاوَزْتُمْ حُدُودَكُمْ فِيمَنْ جَعَلَ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَإِنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَى عُقُوبَتِكُمْ، وَسُلْطَانُهُ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِكُمْ.

* عِلَاجُ نُشُوزِ الزَّوْجِ:

مَا الْحُكْمُ إِذَا خَافَتِ الزَّوْجَةُ نُشُوزَ زَوْجِهَا؟ لِأَنَّهُ أَحْيَانًا يَكُونُ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجِ، يُعْرِضُ عَنْهَا، وَلَا يُلَبِّي طَلَبَهَا الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، أَوْ يُلَبِّيهِ لَكِنْ بِتَكَرُّهٍ وَتَثَاقُلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].

وَإِنْ تَوَقَّعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا تَرَفُّعًا عَلَيْهَا، أَوْ تَجَافِيًا عَنْهَا؛ كَأَنْ يَمْنَعَهَا نَفْسَهُ وَنَفَقَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ، وَيُؤْذِيَهَا بِسَبٍّ أَوْ ضَرْبٍ، أَوِ انْصَرَفَ عَنْهَا وَقَلَّلَ مُحَادَثَتَهَا وَمُؤَانَسَتَهَا؛ فَلَا حَرَجَ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا بِتَسَامُحِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ؛ لِيَنَالَا خَيْرًا مِمَّا تَسَامَحَا فِيهِ.

وَيَكُونُ هَذَا الصُّلْحُ صُلْحًا نَفْسِيًّا تَتَلَاقَى فِيهِ الْقُلُوبُ، وَتَصْفُو النُّفُوسُ، وَالصُّلْحُ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ يَعُمُّ الطَّرَفَيْنِ.

وَإِقَامَةُ الزَّوْجَةِ بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ لَهَا، وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنَ الْفُرْقَةِ.

وَطُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَى أَشَدِّ الْبُخْلِ، وَأُحْضِرَ فِي دَاخِلِ الْأَنْفُسِ بِالتَّكْوِينِ الْفِطْرِيِّ لَهَا، فَكَأَنَّ الْبُخْلَ حَاضِرُهَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَحْرِصُ عَلَى مَنْعِ الْخَيْرِ عَنِ الْآخَرِ، وَيَلْتَزِمُ مَوْقِفَهُ مُتَمَسِّكًا بِحُقُوقِهِ الشَّكْلِيَّةِ.

وَإِنْ تُحْسِنُوا -أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ- الصُّحْبَةَ وَالْعِشْرَةَ، وَتَتَّقُوا اللهَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلَا تَظْلِمُوهَا، وَلَا تَجُورُوا عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمًا عِلْمًا تَامًّا شَامِلًا، شَامِلًا لِكُلِّ ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا، عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرٍ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ.

((الطَّلَاقُ بِإِحْسَانٍ هُوَ السَّبِيلُ الْأَخيِرُ))

عِبَادَ اللهِ! إِذَا كَانَ يَتِمُّ النِّكَاحُ بِالْعَقْدِ لِمَصَالِحِهِ وَأَغْرَاضِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِالطَّلَاقِ لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ.

وَالْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّهُ حَلٌّ لِعُرَى النِّكَاحِ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ الشَّارِعُ، وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِكَثِيرٍ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

لِذَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَإِفْسَادِهَا، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.

فَمِنْ هُنَا كَرِهَهُ الشَّارِعُ؛ لَكِنَّهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ وَفَضْلٌ عَظِيمٌ؛ إِذْ يَحْصُلُ بِهِ الْخَلَاصُ مِنَ الْعِشْرَةِ الْمُرَّةِ، وَفِرَاقِ مَنْ لَا خَيْرَ فِي الْبَقَاءِ مَعَهُ، إِمَّا لِضَعْفٍ فِي الدِّينِ، أَوْ سُوءٍ فِي الْأَخْلَاقِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسَبِّبُ قَلَقَ الْحَيَاةِ وَنَكَدَ الِاجْتِمَاعِ، وَاللهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ.

وَبِهَذَا تَعْرِفُ جَلَالَ هَذَا الدِّينِ، وَسُمُوَّ تَشْرِيعَاتِهِ، وَأَنَّهَا الْمُوَافِقَةُ لِلْعَقْلِ الصَّحِيحِ، وَالْمُتَمَشِّيَةُ مَعَ مَصَالِحِ النَّاسِ، وَبِشَرْعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْآتِيَةِ فِي وَسَطِ الْأَحْكَامِ وَقِوَامٍ لِلْأُمُورِ؛ خِلَافًا لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُطَلِّقُونَ وَيُرَاجِعُونَ بِلَا عَدٍّ وَلَا حَدٍّ.

وَخِلَافًا لِلنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ، فَتَكُونُ الزَّوْجَةُ غُلًّا فِي عُنُقِ زَوْجِهَا وَإِنْ لَمْ تُوَافِقْهُ، أَوْ لَمْ تُحَقِّقْ مَصَالِحَ النِّكَاحِ؛ وَلِذَا أَخَذَتْ بِهِ أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا لَمَّا رَأَوْا مَصَالِحَهُ وَمَنَافِعَهُ، وَاللهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.

وَلَوْ قُدِّمَ هَذَا الدِّينُ وَتَشْرِيعَاتُهُ السَّمْحَةُ إِلَى النَّاسِ كَمَا هِيَ، بَعِيدَةً عَنْ أَكَاذِيبِ الْمُفْتَرِينَ وَخُرَافَاتِ الْمُتْنَطِّعِينَ؛ لَأَخَذَ بِهِ كُلُّ مُنْصِفٍ، وَلَأَصْبَحَ الدِّينُ هُوَ النِّظَامَ الْعَامَّ، وَتَحَقَّقَتْ رِسَالَتُهُ الْعَامَّةُ.

وَإِذَا تَأَمَّلْتَ وَجَدْتَ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْأَمْرُ، وَأَنَّ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُ كَالنَّاقَةِ الْمَعْقُولَةِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ فِي النِّسَاءِ، وَقَالَ: «إِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ»، وَالْعَانِي: هُوَ الْأَسِيرُ.

وَبِهِ يَظْهَرُ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ الرَّجُلَ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَنَعْرِفُ أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِتَسْوِيَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ قَدْ ضَادُّوا اللهَ -تَعَالَى- فِي حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ وَالشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُسَاوِي الرَّجُلَ؛ لَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْخُلُقِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ، فَلَا تُسَاوِيهِ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

لَكِنْ أُولَئِكَ قَوْمٌ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- تَشَبَّعُوا بِمَا عِنْدَ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَقْدِيسِ الْمَرْأَةِ وَتَسْيِيدِهَا؛ حَتَّى إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الرِّجَالِ حِينَمَا تُذْكَرُ مَعَ الرَّجُلِ، فَصَارَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ وَالسُّفَهَاءُ التَّابِعُونَ لِكُلِّ نَاعِقٍ يُقَلِّدُونَهُمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَنَعُوا الطَّائِرَاتِ وَالْمَرَاكِبَ وَالدَّبَّابَاتِ وَالْأَسْلِحَةَ الْفَتَّاكَةَ؛ لِأَنَّهُمْ سَاوَوُا الْمَرْأَةَ بِالرَّجُلِ، فَظَنُّوا أَنَّ انْحِطَاطَهُمْ فِي الْأَخْلَاقِ هُوَ الَّذِي أَرْقَاهُمْ إِلَى هَذَا، وَأَنَّ تَأَخُّرَنَا نَحْنُ بِسَبَبِ أَنَّنَا تَمَسَّكْنَا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي يَزْعُمُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّهُ أَفْيُونُ الشُّعُوبِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، يَعْنِي: مُخَدِّرُ الشُّعُوبِ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ الَّذِي أَخَّرَنَا لَيْسَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَلَكِنْ تَخَلُّفُنَا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَتَعْطِيلُنَا لِتَوْجِيهَاتِ الْإِسْلَامِ؛ وَإِلَّا فَالرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].

وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ قَبْلُ مُتَمَسِّكَةً بِالْإِسْلَامِ صَارَ لَهَا مِنَ الظُّهُورِ وَالْعَظَمَةِ مَا جَعَلَ أُولَئِكَ يُقَلِّدُونَهَا؛ حَتَّى إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ لَمَّا أَهْدَى إِلَى شَارْلمَان مَلِكِ فَرَنْسَا سَاعَةً، وَشُغِّلَتْ عِنْدَهُ نَفَرَ وَهَرَبَ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا سِحْرٌ مِنَ الْعَرَبِ!

وَالْآنَ انْقَلَبَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَصَارَتْ آلَاتُهُمُ الَّتِي يَجْلِبُونَهَا لَنَا نَقُولُ: هَذِهِ سِحْرٌ!

هَذَا كُلُّهُ بِسَبَبِ تَخَلُّفِنَا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ أَنَّنَا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِنَا مَنْزِلَةَ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ الْمَرْغُوبِ، وَفِي أَعْمَالِنَا مَنْزِلَةَ الْمِنْهَاجِ الَّذِي نَسِيرُ عَلَيْهِ؛ مَا غَلَبَتْنَا قُوَّةٌ فِي الْأَرْضِ؛ لَكِنْ بِالتَّخَلُّفِ حَصَلَ مَا حَصَلَ.

فَالْمُهِمُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا -نَحْنُ طَلَبَةَ الْعِلْمِ- أَنْ نُكَرِّسَ جُهُودَنَا ضِدَّ هَذَا السَّيْلِ الْجَارِفِ الَّذِي يُنَادِي بِتَسْوِيَةِ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، وَالَّذِي حَقِيقَتُهُ هَدْمُ أَخْلَاقِ الْمَرْأَةِ، وَفَسَادُ الْأُسْرَةِ، وَانْطِلَاقُ الْمَرْأَةِ فِي الشَّوَارِعِ مُتَبَرِّجَةً مُتَبَهِّيَةً بِأَحْسَنِ جَمَالٍ وَثِيَابٍ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- حَتَّى تَتَفَكَّكَ الْأُسْرَةُ.

لَقَدْ أَبَاحَ الْإِسْلَامُ الطَّلَاقَ عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الشِّقَاقُ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتُصْبِحُ الْحَيَاةُ بَيْنَهُمَا مُسْتَحِيلَةً، وَحَدَّدَ الدِّينُ الْحَنِيفُ طُرُقًا شَرْعِيَّةً وَسُبُلًا أَخْلَاقِيَّةً لِلطَّلَاقِ؛ حَتَّى يَكُونَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [البقرة: 130].

وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا التَّلَاؤُمُ، وَأَرَادَا الْفُرْقَةَ؛ يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ فَضْلِهِ وَغِنَاهُ وَرِزْقِهِ، وَكَانَ اللهُ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ وَاسِعَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، حَكِيمًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ.

وَتَشْرِيعُ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عِنْدَمَا يَتَعَذَّرُ إِزَالَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَشْرِيعٌ حَكِيمٌ، فِيهِ دَرْءٌ لِمَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ وَخَطِيرَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَى إِجْبَارِ الزَّوْجَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَنْ يَعِيشَا مَعَ بَعْضِهِمَا وَهُمْ فِي تَنَافُرٍ وَخِصَامٍ مُسْتَمِرَّيْنِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَيَمْتَدُّ فَسَادُهُ إِلَى الْمُجْتَمَعِ الْمُحِيطِ بِالْأُسْرَةِ.

أَمَرَ -تَعَالَى- الْأَزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا أَمْسَكَهَا بِعِشْرَةٍ حَسَنَةٍ، وَإِنْ فَارَقَهَا فَلْيَكُنْ عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ بِطُمَأْنِينَةٍ مِنْ غَيْرِ مُغَاضَبَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا عَدَاوَاتٍ تَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهَا.

وَمِنَ التَّسْرِيحِ بِالْمَعْرُوفِ: أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ تَتَمَتَّعُ بِهِ، وَيَنْجَبِرُ بِهِ خَاطِرُهَا، وَتَذْهَبُ عَنْ زَوْجِهَا شَاكِرَةً، وَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْفِرَاقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا الْعَوَاقِبُ الطَّيِّبَةُ لِلطَّرَفَيْنِ.

وَلَمَّا بَيَّنَ الْبَارِي هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْجَلِيلَةَ غَايَةَ التَّبْيِينِ، وَكَانَ الْقَصْدُ بِهَا أَنْ يَعْلَمَهَا الْعِبَادُ وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَيَقِفُوا عِنْدَهَا وَلَا يَتَجَاوَزُوهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْزِلْهَا عَبَثًا، بَلْ أَنْزَلَهَا بِالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالْحَقِّ النَّافِعِ وَالْجِدِّ، نَهَى عَنِ اتِّخَاذِهَا هُزُوًا، أَيْ: لَعِبًا بِهَا، وَهُوَ التَّجَرِّي عَلَيْهَا، وَعَدَمُ الِامْتِثَالِ لِوَاجِبِهَا؛ مِثْلَ الْمُضَارَّةِ فِي الْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، أَوْ كَثْرَةِ الطَّلَاقِ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231].

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَقَارَبْنَ انْقِضَاءَ عِدَّتِهِنَّ، وَشَارَفَتِ الْعَلَاقَةُ الزَّوْجِيَّةُ عَلَى الِانْقِطَاعِ التَّامِّ؛ فَرَاجِعُوهُنَّ بِنِيَّةِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا وَعُرْفًا؛ وَذَلِكَ بِأَنْ تُشْهِدُوا عَلَى رَجْعَتِهِنَّ، وَتُرَاجِعُوهُنَّ بِالْقَوْلِ لَا بِالْوَطْأِ، أَوِ اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَيَمْلِكْنَ أَنْفُسَهُنَّ مِنْ غَيْرِ مُشَاحَنَةٍ، وَلَا مُعَانَدَةٍ، وَلَا إِيذَاءٍ.

وَالتَّسْرِيحُ بِالْمَعْرُوفِ يَقْتَضِي أَنْ يُؤَدِّيَ لَهَا كُلَّ حُقُوقِهَا، وَأَنْ يُعَاوِنَهَا إِنْ كَانَتْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مُعَاوَنَتِهِ، وَأَلَّا يَذْكُرَهَا بَعْدُ إِلَّا بِخَيْرٍ.

وَلَا تَقْصِدُوا بِاسْتِئْنَافِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الضَّرَرَ وَالْأَذَى بِأَنْ تَكُونَ أَسْبَابُ النُّفْرَةِ قَائِمَةً مُسْتَحْكِمَةً، أَوْ أَنْ يَكُونَ إِمْسَاكُ الزَّوْجَةِ مُكَايَدَةً وَمُبَالَغَةً فِي الظُّلْمِ؛ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ الرَّجْعَةِ الِاعْتِدَاءَ وَالظُّلْمَ بِمُجَاوَزَتِكُمْ فِي أُمُورِهِنَّ حُدُودَ اللهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكُمْ.

وَمَنْ يُرْجِعْ مُطَلَّقَتَهُ إِضْرَارًا فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ظُلْمًا مُؤَكَّدًا بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ، وَتَعْرِيضِهَا لِعَذَابِهِ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْتَ الَّذِي هُوَ بِمَثَابَةِ الرَّاحَةِ وَالْقَرَارِ مَكَانَ نَكَدٍ وَاضْطِرَابٍ، تُسْتَبْدَلُ فِيهِ الْمَوَدَّةُ بِالْبَغْضَاءِ.

وَلَا تَتَّخِذُوا مَا بَيَّنَ اللهُ لَكُمْ مِنْ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ فِي وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ سُخْرِيَةً، بِالتَّهَاوُنِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا.

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ، وَاذْكُرُوا مَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ، يَنْصَحُكُمُ اللهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ فِي النَّفْسِ؛ لِلِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ، وَاتِّبَاعِ مَا هَدَى اللهُ إِلَيْهِ.

وَاجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ غَضَبِ اللهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ وِقَايَةً، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا أَخْفَيْتُمْ مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ فِي سِرٍّ وَعَلَنٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَسَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ.

وَقَالَ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

إِنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَكُمْ فِيهِ رَجْعَةٌ عَلَى أَزْوَاجِكُمْ إِذَا كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ؛ عَدَدُهُ: تَطْلِيقَتَانِ، وَإِذَا رَاجَعَهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا بِالْمَعْرُوفِ، بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ، وَأَدَاءِ حُقُوقِ النِّكَاحِ، أَوْ يَتْرُكَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَلَا يُرَاجِعُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِ مُضَارَّةٍ.

وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا مِنْ مَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ الزَّوْجَانِ مِنْ أَنْفُسِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا بَيْنَهُمَا مَا تَقْتَضِيهِ الزَّوْجِيَّةُ مِنْ حُقُوقٍ وَالْتِزَامَاتٍ مَادِّيَّةٍ وَأَدَبِيَّةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ.

فَإِنْ خَشِيتُمْ أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا أَعْطَتْ لِلزَّوْجِ مِنَ الْمَالِ، وَلَا عَلَى الزَّوْجِ فِيمَا أَخَذَ مِنَ الْمَالِ إِذَا أَعْطَتْهُ الْمَرْأَةُ طَائِعَةً رَاضِيَةً مُقَابِلَ طَلَاقِهَا.

هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَكَذَلِكَ بِالْخُلْعِ.. أَوَامِرُ اللهِ وَنَوَاهِيهِ؛ فَلَا تُجَاوِزُوهَا، فَمَنْ يُجَاوِزْهَا وَيَمَسَّ مِنْطَقَةَ الْحَرَامِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِعَذَابِ اللهِ تَعَالَى.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233].

وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ أَكُنَّ أَزْوَاجًا لِآبَاءِ الْأَوْلَادِ، أَوْ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ مِنْهُنَّ... يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَ.

فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْوَالِدَاتِ ذَوَاتِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى أَطْفَالِهِنَّ وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِرَبِّهِنَّ أَنْ يَتْرُكْنَ إِرْضَاعَ أَوْلَادِهِنَّ دُونَ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ.

وَعَلى الْآبَاءِ الَّذِينَ يُنْسَبُ الْوَلَدُ إِلَيْهِمْ أَنْ يَكْفُلُوا لِلْمُرْضِعَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ طَعَامَهُنَّ وَلِبَاسَهُنَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا وَعُرْفًا مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، لَا يُكَلَّفُ أَبُو الْوَلَدِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ إِلَّا قَدْرَ مَا تَتَّسِعُ بِه مَقْدِرَتُهُ، مَعَ بَقَاءِ فَضْلٍ مِنْ جُهْدِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَغْرِقُ أَقْصَى قُدُرَاتِهِ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6].

أَسْكِنُوا الْمُطَلَّقَاتِ مِنْ نِسَائِكُمْ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهِنَّ مَكَانًا مِنْ مَسْكَنِكُمْ عَلَى قَدْرِ سَعَتِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ، وَلَا تُؤْذُوهُنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ فَيَخْرُجْنَ، وَإِنْ كَانَتْ نِسَاؤُكُمُ الْمُطَلَّقَاتُ ذَوَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَيَخْرُجْنَ مِنْ عِدَّتِهِنَّ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أَوْلَادَكُمْ بَعْدَ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى إِرْضَاعِهِنَّ.

وَلْيَأْتَمِرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَا تُعُورِفَ عَلَيْهِ مِنْ سَمَاحَةٍ وَطِيبِ نَفْسٍ، فَلَا يُقَصِّرُ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَنَفَقَتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَرَضَاعِهِ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1].

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ الَّذِي شَرَّفْنَاكَ بِالنُّبُوَّةِ! قُلْ لِأُمَّتِكَ إِذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَ نِسَائِكُمْ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ مِنَ الْمُعْتَدَّاتِ بِالْحَيْضِ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي وَقْتٍ يَسْتَقْبِلْنَ فِيهِ عِدَّتَهُنَّ، وَهُوَ الطُّهْرُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ جِمَاعٌ.

وَاضْبِطُوا الْعِدَّةَ لِلْعِلْمِ بِبَقَاءِ زَمَنِ الرَّجْعَةِ، وَمُرَاعَاةِ أَمْرِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَاخْشَوُا اللهَ خَالِقَكُمْ وَرَازِقَكُمْ وَمُربِّيَكُمْ بِنِعَمِهِ، وَلَا تَعْصُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ.

فَلَا تُطَلِّقُوا إِلَّا طَلَاقًا سُنِّيًّا وَاحِدًا فِي طُهْرٍ لَمْ تُوَاقِعُوا فِيهِ نِسَاءَكُمْ، وَعَلى الزَّوْجَةِ أَنْ تَقْضِيَ الْعِدَّةَ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ فِي الطَّلْقَةِ الرَّجْعِيَّةِ؛ لَعَلَّ قُرْبَهُمَا مِنْ بَعْضِهِمَا يُحَرِّكُ الشَّوْقَ، وَيُحْدِثُ النَّدَامَةَ، وَيَسْتُرُ الْخِصَامَ، وَيُعِيدُ الْوِئَامَ.

لَا تُخْرِجُوا الْمُطَلَّقَاتِ مِنَ الْبُيُوتِ اللَّاتِي يَسْكُنَّ فِيهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهُنَّ، وَهِيَ ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ أَوْ أَطْهَارٍ لِغَيْرِ الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَالْحَامِلِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِأَنْفُسِهِنَّ إِلَّا إِذَا فَعَلْنَ فِعْلَةً مُنْكَرَةً واضِحَةً مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى إِيذَاءِ الْعِرْضِ أَوْ جَرْحِ الْكَرَامَةِ، أَوْ يَأْبَاهُ الْعُرْفُ السَّلِيمُ، فَيُحِلُّ إِخْرَاجَهَا مِنْ مَنْزِلِ الزَّوْجِيَّةِ لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَسَاءَتْ إِلَى الزَّوْجِ إِيذَاءً شَدِيدًا، وَخَرَجَتْ عَنْ حُدُودِهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْإِسَاءَةُ الزَّوْجِيَّةُ وَاضِحَةً بَلِيغَةً.

فَلَا تَتَوَسَّعُوا أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ بِعَدِّ الْهَفَوَاتِ وَالْأَخْطَاءِ الْيَسِيرَةِ عَلَى زَوْجَاتِكُمْ، وَلَا تَتَشَدَّدُوا فِي احْتِسَابِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِنَّ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً عَلَى كَثِيرٍ مِنَ التَّسَامُحِ.

وَتِلْكَ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ لِعِبَادِهِ، وَمَنْ يَتَجَاوَزْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فَقَدْ ضَرَّ نَفْسَهُ وَظَلَمَهَا، وَأَوْرَدَهَا مَوْرِدَ الْهَلَاكِ، وَالنَّهْيُ عَنْ تَجَاوُزِ حُدُودِ اللهِ نَهْيٌ تَحْرِيمِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إِلَّا بِأَنْ يَمَسَّ مَنْطِقَةَ الْحَرَامِ.

لَا تَدْرِي أَيُّهَا الْمُطَلِّقُ لَعَلَّ اللهَ يُوقِعُ فِي قَلْبِكَ مُرَاجَعَةَ زَوْجَتِكَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَفْرِيقِ الطَّلْقاتِ، وَأَلَّا تُوقَعَ الثَّلَاثُ دَفْعَةً وَاحِدَةً؛ حَتَّى إِذَا نَدِمَ الْمُطَلِّقُ أَمْكَنَهُ الرَّجْعَةَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الطلاق: 2].

فَإِذَا قَرُبْنَ مِنَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ، وَشَارَفَتِ الْعَلَاقَةُ الزَّوْجِيَّةُ عَلَى الِانْقِطَاعِ التَّامِّ؛ فَرَاجِعُوهُنَّ بِنِيَّةِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا وَعُرْفًا، أَوِ اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَتَبِينَ مِنْكُمْ.

وَالْمُفَارَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ تَقْتَضِي أَنْ يُؤدِّيَ لَهَا كُلَّ حُقُوقِهَا، وَأَنْ يُعَاوِنَهَا إِنْ كَانَتْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مُعَاوَنَةٍ، وَأَلَّا يَذْكُرَهَا بَعْدَ تَطْلِيقِهَا إِلَّا بِخَيْرٍ.

وَأَشْهِدُوا عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ عَلَى الطَّلَاقِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي سُلُوكِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَدُّوا الشَّهَادَةَ أَيُّهَا الشُّهُودُ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَقِيَامًا بِوَصِيَّتِهِ.

ذَلِكَ الَّذِي أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَحُقُوقِ الْمُطَلَّقَاتِ يُنْصَحُ بِهِ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ فِي النَّفْسِ؛ لِلِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ، وَاتِّبَاعِ مَا هَدَى اللهُ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا.

((مَخَاطِرُ الطَّلَاقِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَا شَكَّ أَنَّ الطَّلَاقَ تَدْمِيرٌ لِبَيْتٍ أَمَرَ الشَّرْعُ أَنْ يُبْنَى عَلَى أَسَاسٍ مِنَ السَّكَنِ وَالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّهُ يَحْمِلُ الْعَدِيدَ مِنَ الْمَخَاطِرِ وَالْآثَارِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى الْأُسْرَةِ، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ؛ وَلَاسِيَّمَا الْأَبْنَاءُ بِمَا يُسَبِّبُ لَهُمُ انْفِصَالُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ مُشْكِلَاتٍ نَفْسِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَاقْتِصَادِيَّةٍ يَفْتَقِدُونَ مَعَهَا مُقَوِّمَاتِ التَّرْبِيَةِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّنْشِئَةِ السَّلِيمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّفَكُّكِ الْأُسَرِيِّ، مِمَّا يَجْعَلُهُمْ عُرْضَةً لِلِاضْطِرَابِ النَّفْسِيِّ، وَالتَّأَخُّرِ الدِّرَاسِيِّ.

يَنْبَغِي لِلزَّوْجَيْنِ أَلَّا يَجْعَلَا أَوْلَادَهُمَا ضَحِيَّةً لِلْعِنَادِ وَالتَّعَنُّتِ وَالْمُهَاتَرَاتِ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَادُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْمُشْكِلَاتِ، وَأَنْ يُؤْثِرَ الْوَالِدَانِ مَصْلَحَةَ الْأَوْلَادِ.

إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ عَلَى إِغْوَاءِ أَيٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِتَدْمِيرِ بُنْيَانِ الْأُسْرَةِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((بَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَآدَمَ مُنْذُ بِدَايَةِ خَلْقِ آدَمَ، وَكَانَتْ نَتِيجَةُ الْجَوْلَةِ الْأُولَى أَنْ يَهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ، لِيَحْتَنِكَ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا، مُتَوَعِّدًا إِبْلِيسُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17].

وَبَدَأَتِ الْجَوْلَةُ الثَّانِيَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَبِعَدَدِ بَنِي آدَمَ يَكُونُ عَدَدُ الشَّيَاطِينِ ذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ وَجُنُودُهُ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ قَرِينُهُ وَمُلَازِمُهُ يَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ، يُزَيِّنُ لَهُ مَا يُغْضِبُ اللهَ؛ لِيُوقِعَ الْآدَمِيَّ فِي الْمَعْصِيَةِ، لِيُشَارِكَ إِبْلِيسَ الْمَصِيرَ وَالنَّارَ، وَبِقَدْرِ نَجَاحِ الشَّيْطَانِ فِي الْوَسْوَسَةِ وَالْغِوَايَةِ يَكُونُ حُبُّ إِبْلِيسَ لَهُ وَتَقْدِيرُهُ لِجُهُودِهِ وَتَقْرِيبُهُ مِنْهُ وَاحْتِضَانُهُ، أَمَّا مَنْ غُلِبَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَمَامَ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مَنْ عَجَزَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَصِلَ إِلَى إِضْلَالِ وَإِغْوَاءِ مُؤْمِنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَذَاكَ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ مِنْ إِبْلِيسَ وَالْمُعَاقَبُ مِنْهُ بِشَتَّى الْعُقُوبَاتِ.

وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الشَّيْطَانِ فَقَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6])).

(( ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ)) أَيْ: سَرِيرَهُ ((عَلَى الْمَاءِ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((عَلَى الْبَحْرِ))، وَالصَّحِيحُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ تَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ وَضْعُ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ؛ يَعْنِي: جَعْلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- قَادِرًا عَلَيْهِ اسْتِدْرَاجًا؛ لِيَغْتَرَّ بِأَنَّ لَهُ عَرْشًا.

((ثُمَّ يَبْعَثُ)) أَيْ: يُرْسِلُ ((سَرَايَاهُ)): جَمْعُ سَرِيَّةٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تُوَجَّهُ نَحْوَ الْعَدُوِّ لِتَنَالَ مِنْهُ، وَفِي النِّهَايَةِ هِيَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ خُلَاصَةَ الْعَسْكَرِ وَخِيَارَهُمْ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ، يَفْتِنُونَ النَّاسَ؛ أَيْ: يُضِلُّونَهُمْ، أَوْ يَمْتَحِنُونَهُمْ بِتَزْيِينِ الْمَعَاصِي إِلَيْهِمْ حَتَّى يَقَعُوا فِيهَا.

((فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً)) أَيْ: أَقْرَبُهُمْ مِنْ إِبْلِيسَ مَرْتَبَةً ((أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً)) أَيْ: أَكْبَرُهُمْ إِضْلَالًا، أَوْ أَشَدُّهُمُ ابْتِلَاءً.

((يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا)): أَيْ: أَمَرْتُ بِالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ -مَثَلًا-، ((فَيَقُولُ)) أَيْ: إِبْلِيسُ ((مَا صَنَعْتَ شَيْئًا)) أَيْ: أَمْرًا كَبِيرًا أَوْ شَيْئًا مُعْتَدًّا بِهِ.

((قَالَ)) أَيِ: النَّبِيُّ ﷺ: ((ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ)) أَيْ: فُلَانًا ((حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ)): هَذَا وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَمْرًا مُبَاحًا، وَظَاهِرُهُ خَيْرٌ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إِلَى الْمَفَاسِدِ يَصِيرُ مَذْمُومًا، وَيَحُثُّ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، وَيَفْرَحُ بِهِ كَبِيرُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102].

((قَالَ)): عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((فَيُدْنِيهِ مِنْهُ)) أَيْ: فَيُقَرِّبُ إِبْلِيسُ ذَلِكَ الْمُغْوِيَ مِنْ نَفْسِهِ ((وَيَقُولُ)) أَيْ: إِبْلِيسُ لِلْمُغْوِي: ((نِعْمَ أَنْتَ)) أَيْ: نِعْمَ الْوَلَدُ أَوِ الْعَوْنُ أَنْتَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مَدْحٍ، أَوْ: أَنْتَ صَنَعْتَ شَيْئًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ مِنْ غَايَةِ حُبِّ إِبْلِيسَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُحِبُّ كَثْرَةِ الزِّنَا)).

((فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْفِرَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَكَثِيرُ ضَرَرِهِ وَفِتْنَتِهِ، وَعَظِيمُ الْإِثْمِ فِى السَّعْي فِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَشَتَاتِ مَا جَعَلَ اللهُ فِيهِ رَحْمَةً وَمَوَدَّةً، وَهَدْمِ بَيْتٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ)).

((نَصِيحَةٌ نَافِعَةٌ لِكُلِّ مَنْ يُفَكِّرُ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ))

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَهَاوَنُ بِشَأْنِ الطَّلَاقِ، فَتَرَاهُ يُرْسِلُ لِسَانَهُ بِكَلِمَةِ الطَّلَاقِ دُونَمَا نَظَرٍ فِي عَوَاقِبِهِ.

وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَسْبَابٍ تَافِهَةٍ، فَيُقَوِّضُ سَعَادَةً قَائِمَةً، وَيُبَدِّدُ شَمْلَ أُسْرَةٍ مُتَمَاسِكَةٍ.

مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ: نَزْوَةُ غَضَبٍ رَعْنَاءُ تَسْتَبِدُّ بِالْمَرْءِ، فَتُعْمِي بَصَرَهُ، وَتَشَلُّ تَفْكِيرَهُ، وَتَطِيشُ بِعَقْلِهِ، وَتَقُودُهُ إِلَى الطَّلَاقِ.

وَمِنْهَا: تَوْجِيهُ أَصْدِقَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ يُشِيرُونَ بِالرَّأْيِ الْفَطِيرِ الْمُعْوَجِّ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحِقْدُ، وَالْمَكْرُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغَيْرَةُ.

وَقَدْ يَخْرُجُ الرَّجُلُ إِلَى السُّوقِ، أَوْ يَجْلِسُ فِي الْمَقْهَى، فَيَخْتَلِفُ مَعَ آخَرَ فِي شَأْنٍ جَلِيلٍ أَوْ حَقِيرٍ، فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بِالطَّلَاقِ حَانِثًا، فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ خَرَابَ بَيْتٍ، وَتَمْزِيقَ أُسْرَةٍ، وَتَشْرِيدَ أَوْلَادٍ.

وَقَدْ يَتَنَاقَشُ آخَرُ مَعَ صِهْره فِي زِيَارَةٍ أَوِ اسْتِزَارَةٍ، فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بِالطَّلَاقِ، فَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ تَقْطِيعَ أَرْحَامٍ، وَإِذْكَاءَ فِتْنَةٍ، وَانْفِصَامَ عُرًى.

وَيَتَنَازَعُ اثْنَانِ فِي السِّيَاسَةِ، أَوْ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ، أَوْ فِي حَالِ الْجَوِّ مِنْ غَيْمٍ أَوْ صَحْوٍ، فَتَجْرِي أَلْفَاظُ الطَّلَاقِ مُتَنَاثِرَةً مُتَعَدِّدَةً كَأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْحَدِيثِ.

وَيَسْتَضِيفُ أَحَدُهُمْ صَاحِبَهُ، فَإِذَا تَمَنَّعَ صَاحِبُهُ حَلَفَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ إِلَّا حَضَرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَكَأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَزَوَّجْ إِلَّا لِيَجْعَلَ الزَّوْجَةَ أَدَاةَ يَمِينٍ لِيُصَدِّقَهُ النَّاسُ حِينَ يَحْلِفُ.

وَكَثِيرًا مَا تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ الْعَابِثَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا!!

وَكَثِيرًا مَا تَكُونُ آمِنَةً فِي سِرْبِهَا، سَعِيدَةً بِزَوْجِيَّتِهَا، فَتُفَاجَئُ بِالطَّلَاقِ مِنْ زَوْجٍ أَحْمَقَ بِسَبَبِ خِلَافٍ شَجَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارٍ، أَوْ زَمِيلٍ، أَوْ بَائِعٍ، أَوْ مُشْتَرٍ عَلَى أَتْفَهِ الْأَسْبَابِ؛ فَتَكُونُ الْغَضْبَةُ الْمُضَرِيَّةُ مِنْ نَصِيبِ تِلْكَ الزَّوْجَةِ الْمِسْكِينَةِ.

وَقَدْ يَسْتَعْجِلُ الزَّوْجُ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا مُبَاشَرَةً؛ إِمَّا لِطُولِهَا الْمُفْرِطِ، أَوْ لِقِصَرِهَا، أَوْ لِنُحُولِهَا، أَوْ لِامْتِلَائِهَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَذْوَاقُ، فَيُبَادِرُ إِلَى تَطْلِيقِهَا دُونَمَا تَأَنٍّ أَوْ تَرَيُّثٍ.

وَقَدْ يُطَلِّقُهَا بِسَبَبِ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فِي مِلْحِ الطَّعَامِ، أَوْ بِسَبَبِ بَعْضِ التَّقْصِيرِ الْيَسِيرِ.

وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ التَّافِهَةِ يَحْدُثُ كَثِيرٌ مِنْ حَالَاتِ الطَّلَاقِ.

وَكَثِيرًا مَا يَنْدَمُ الزَّوْجُ إِذَا طَلَّقَ، فَبَعْدَ أَنْ كَانَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، تُرَفْرِفُ عَلَيْهِ السَّعَادَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ؛ إِذَا بِهِ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ، وَيَقْرَعُ سِنَّهُ، وَيَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ وَحُمْقِهِ، وَعَجَلَتِهِ وَرُعُونَتِهِ.

وَقَدْ يَبْحَثُ فِيمَا بَعْدُ عَمَّنْ يُفْتِيهِ فِي إِمْكَانِيَّةِ الرَّجْعَةِ، أَوْ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ لِمُلَابَسَاتٍ مَا.

وَمِنْ هُنَا تَتَنَغَّصُ حَيَاتُهُ، وَيَتَكَدَّرُ عَيْشُهُ؛ فَالطَّلَاقُ حَلُّ عُقْدَةٍ، وَبَتُّ حِبَالٍ، وَتَمْزِيقُ شَمْلٍ، وَزِيَالُ خَلِيطٍ، وَانْفِضَاضُ سَامِرٍ؛ فَفِيهِ كُلُّ مَا فِي هَذِهِ الْمُرَكَّبَاتِ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا الْعَرَبُ، وَجَرَتْ فِي آدَابِهِمْ مَجْرَى الْأَمْثَالِ؛ مِنَ الْتِيَاعٍ، وَحَرَارَةٍ، وَحَسْرَةٍ، وَمَرَارَةٍ، مَعَ مَا يَصْحَبُهُ مِنَ الْحِقْدِ، وَالْبُغْضِ، وَالتَّأَلُّمِ، وَالتَّظَلُّمِ.

فَلِهَذِهِ الْمُلَابَسَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَالطِّبَاعِ الرَّقِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ شَرَعَ الْإِسْلَامُ الطَّلَاقَ مُقَيَّدًا بِقُيُودٍ فِطْرِيَّةٍ، وَقُيُودٍ شَرْعِيَّةٍ، فَاعْتَمَدَ فِي تَنْفِيذِ الطَّلَاقِ بَعْدَ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ عَلَى إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ، وَشَرَعَ لَهُ مِنَ الْمُخَفِّضَاتِ مَا يُهَوِّنُ وَقْعَهُ؛ كَالتَّمْتِيعِ، وَمَدِّ الْأَمَلِ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَتَوْسِيعِ الْعِصْمَةِ إِلَى الثَّلَاثِ؛ حَتَّى تُمْكِنَ الْفَيْئَةُ إِلَى الْعِشْرَةِ.

وَمَا وَصْفُ الطَّلَاقِ فِي الْقُرْآنِ بِالسَّرَاحِ الْجَمِيلِ وَالتَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ إِلَّا تَلْطِيفٌ إِلَهِيٌّ مِنْ غِلَظِ الْإِحْسَاسِ؛ حَتَّى يَصِيرَ الطَّلَاقُ خَفِيفَ الْوَقْعِ عَلَى النُّفُوسِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ، فَلَقَدْ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّارِعِ بِأَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ بِيَدِ الزَّوْجِ؛ لَكِنَّهُ كَرِهَ الطَّلَاقَ، وَوَضَعَ أَمَامَهُ أَحْكَامًا وَمَوَاعِظَ شَأْنُهَا أَنْ تَكُفَّ الْأَزْوَاجَ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ بِهِ، وَتَجْعَلَ حَوَادِثَهُ قَلِيلَةً جِدًّا.

لِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ الزَّوْجَ بِأَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَدَعَاهُ إِلَى التَّأَنِّي إِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ كَرَاهَةً لَهَا، فَلَا يُبَادِرُ إِلَى كَلِمَةِ الطَّلَاقِ؛ فَقَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ عَارِضَةً ثُمَّ تَزُولُ.

وَمِنْ شِدَّةِ تَحْذِيرِ الشَّارِعِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّلَاقِ: أَنْ جَعَلَ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّوْجَةِ خَيْرٌ كَثِيرٌ كَافِيًا فِي الِاحْتِفَاظِ بِعِصْمَتِهَا، وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى حُسْنِ مُعَاشَرَتِهَا.

ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي الزَّوْجَةِ بَعْضُ مَا يَكْرَهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلْيَتَحَرَّ الْخِيَرَةَ، فَعَامَّةُ مَصَالِحِ النُّفُوسِ فِي مَكْرُوهَاتِهَا، وَعَامَّةُ مَضَارِّهَا وَأَسْبَابُ هَلَكَتِهَا فِي مَحْبُوبَاتِهَا، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْمَكْرُوهُ بِالْمَحْبُوبِ، وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْمَحْبُوبُ بِالْمَكْرُوهِ، كَيْفَ وَقَدْ قَال اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ نَدَبَتِ الْآيَةُ إِلَى إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لَهَا، وَنَبَّهَتْ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ وُجُوهَ الصَّلَاحِ، فَرُبَّ مَكْرُوهٍ عَادَ مَحْبُوبًا، وَمَحْمُودٍ عَادَ مَذْمُومًا.

وَالثَّانِي مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَجِدُ مَحْبُوبًا لَيْسَ فِيهِ مَا يُكْرَهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَى مَا يَكْرَهُ لِمَا يُحِبُّ)).

لِهَذَا فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ امْرَأَةً، فَأَمْسَكَ عَلَيْهَا، فَأَنْجَبَتْ لَهُ أَوْلَادًا أَبْرَارًا قَامُوا بِنَفْعِهِ، وَنَشْرِ فَخْرِهِ وَذِكْرِهِ!

وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ فُتِنَ بِامْرَأَةٍ غَدَتْ بِلُبِّهِ، وَأَفْسَدَتْ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ وَأَهْلَهُ!

إِضَافَةً إِلَى ذَلِكَ فَالْمُؤْمِنَةُ لَا تُكْرَهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا الزَّوْجُ خُلُقًا يُكْرَهُ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا مُرْضِيًّا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَفْرَكُ -أَيْ: لَا يُبْغِضُ وَلَا يَكْرَهُ- مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ)).

ثُمَّ إِنَّ الْحَيَاةَ تَقُومُ عَلَى أُسُسٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ الْحُبُّ -فِي نَظَرِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ- أَهَمَّهَا، أَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ الْحُبَّ لَهُ أَثَرُهُ وَدَوْرُهُ؛ وَلَكِنَّ الْحَيَاةَ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ؛ فَهُنَاكَ التَّذَمُّمُ، وَالرِّعَايَةُ، وَالتَّوَدُّدُ، وَالتَّحَمُّلُ، وَالْخُلُقُ، وَالِاحْتِسَابُ، وَالْوَفَاءُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَعَانِي النَّبِيلَةِ الْجَمِيلَةِ.

لِهَذَا كَانَ الْكِرَامُ يَقْضُونَ هَذِهِ الْحُقُوقَ، وَيَرْعُونَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قِيلَ لِأَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ: مَا أَرْجَى عَمَلِكَ عِنْدَكَ؟

قَالَ: كُنْتُ فِي صَبْوَتِي يَجْتَهِدُ أَهْلِي فِي تَزْوِيجِي، فَآبَى -أَيْ: أَمْتَنِعُ وَأَرْفُضُ-، فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عُثْمَانَ! إِنِّي قَدْ هَوِيتُكَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ بِاللهِ أَنْ تَتَزَوَّجَنِي.

فَأَحْضَرْتُ أَبَاهَا وَكَانَ فَقِيرًا، فَزَوَّجَنِي مِنْهَا، وَفَرِحَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ إِلَيَّ رَأَيْتُهَا عَوْرَاءَ عَرْجَاءَ مُشَوَّهَةً.

وَكَانَتْ لِمَحَبَّتِهَا لِي تَمْنَعُنِي مِنَ الْخُرُوجِ، فَأَقْعُدُ حِفْظًا لِقَلْبِهَا، وَلَا أُظْهِرُ لَهَا مِنَ الْبُغْضِ شَيْئًا، وَكَأَنِّي عَلَى جَمْرِ الْغَضَا مِنْ بُغْضِهَا، فَبَقِيتُ -هَكَذَا- خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى مَاتَتْ، فَمَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ هُوَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ حِفْظِي قَلْبَهَا)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقِيلَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ رَأَى بِهَا الْجُدَرِيَّ، فَقَالَ: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي، ثُمَّ قَالَ: عَمِيتُ، فَبَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَاتَتْ، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ بَصِيرٌ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يُحْزِنَهَا رُؤْيَتِي لِمَا بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: سَبَقْتَ الْفِتْيَانَ)).

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: حَدَّثَنِي صَدِيقٌ أَنَّ شَيْخَهُ أَسَرَّ لَهُ بِحَقِيقَةٍ تَقُومُ فِي حَيَاتِهِ: قَالَ: ((إِنَّ زَوْجَتِي هَذِهِ مَضَى عَلَى زَوَاجِي مِنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا سَارَّا، وَإِنَّنِي مِنَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ دُخُولِي بِهَا عَرَفْتُ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِي بِحَالٍ؛ وَلَكِنَّهَا كَانَتِ ابْنَةَ عَمِّي، وَأَيْقَنْتُ أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَمِلَهَا، فَصَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ، وَأَكْرَمَنِي اللهُ مِنْهَا بِأَوْلَادٍ بَرَرَةٍ صَالِحِينَ، وَسَاعَدَنِي نُفُورِي مِنْهَا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مُؤَلَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنَ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَأَتَاحَتْ لِي عَلَاقَتِي السَّيِّئَةُ بِهَا أَنْ أُقِيمَ مَعَ النَّاسِ حَيَاةً اجْتِمَاعِيَّةً نَامِيَةً، وَرُبَّمَا لَوْ تَزَوَّجْتُ غَيْرَهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ)).

قَالَ: وَحَدَّثَنِي صَدِيقٌ آخَرُ قَالَ: ((إِنَّنِي مِنَ الْأَيَّامِ الْأُولَى لِزَوَاجِنَا لَمْ أَجِدْ فِي قَلْبِي مَيْلًا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَلَا حُبًّا لَهَا؛ وَلَكِنَّنِي عَاهَدْتُ اللهَ عَلَى أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهَا، وَلَا أَظْلِمَهَا، وَرَضِيتُ قِسْمَةَ اللهِ لِي، وَوَجَدْتُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ، وَالْوَلَدِ، وَالْأَمْنِ، وَالتَّوْفِيقِ)).

وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِرِضًا دَاخِلِيٍّ، وَإِيثَارًا، كَانَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَأَيَاهَا، وَلَمْ يَسْلُكَا هَذَا الْمَسْلَكَ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِمَا لَازِمٌ، فَحَقَّقَ اللهُ لَهُمَا الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، وَمِنْ هَذَا الْخَيْرِ: الثَّوَابُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلصَّابِرِينَ، وَكَذَلِكَ الْحُورُ الْعِينُ الَّتِي سَتَكُونُ لَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ الْعَافِيَةَ مِنَ الصَّبْرِ، وَأَرَادَ الْبَحْثَ عَنِ الْمُتْعَةِ وَالْهَنَاءَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالصَّفَاءِ، وَوَجَدَ امْرَأَةً صَالِحَةً تُحَقِّقُ لَهُ فِي تَوَقُّعِهِ ذَلِكِ كُلَّهُ؛ فَلَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهَا، وَيَعْدِلُ بَيْنَ الزَّوْجَتَيْنِ بِمَا يَسْتَطِيعُ مِنْ وَسَائِلَ.

إِنَّ مَا مَضَى إِنَّمَا هُوَ حَثٌّ عَلَى التَّرَيُّثِ فِي شَأْنِ الطَّلَاقِ إِنْ كَرِهَ الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا.

وَالْأَمْرُ لَا يَقِفُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ، بَلْ إِذَا نَشَزَتِ الزَّوْجَةُ، فَارْتَفَعَتْ عَلَى زَوْجِهَا، وَخَالَفَتْ أَمْرَهُ، وَخَرَجَتْ عَنْ طَاعَتِهِ، وَلَمْ تَرْضَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَضَعَهَا اللهُ لَهَا؛ فَلَا يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى تَطْلِيقِهَا؛ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَتْرُكِ الْحَبْلَ عَلَى الْغَارِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا شَرَعَ مَا يُقَوِّمُ اعْوِجَاجَ الْمَرْأَةِ، وَمَا يُصْلِحُ عَيْبَهَا.

قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34].

((الطَّلَاقُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ))

عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحْسِنُوا اخْتِيَارَ الزَّوْجَاتِ، ثُمَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى التَّرْوِيضِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَأَنْ يُعَامِلُوا زَوْجَاتِهِمْ بِالْحُسْنَى، وَأَنْ يُصْلِحُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ؛ حَتَّى يُصْلِحَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَأَزْوَاجَهُمْ، وَجَمِيعَ مَنْ يُعَاشِرُونَ.

وَإِذَا ثَبَتَ لَدَى الْأَزْوَاجِ اسْتِحَالَةُ اسْتِمْرَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ فَعَلَيْهِمْ أَلَّا يُؤْذُوا الزَّوْجَاتِ، وَأَلَّا يُهْلِكُوا أَنْفُسَهُمْ {إِنَّ اللهَ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا}.

إِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُطْوَةَ الْأُولَى فِي حَسْمِ الْخِلَافِ، بَلْ هُنَاكَ خُطُوَاتٌ أُخْرَى يُلْجَأُ إِلَيْهَا.

فَإِذَا اسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِحَالَةِ الْحَيَاةِ كَانَ الطَّلَاقُ الْخِيَارَ الْأَخِيرَ، وَلَعَلَّ الْخَيْرَ يَكُونُ لِلزَّوْجَيْنِ مَعًا بَعْدَ الطَّلَاقِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُمَا إِذَا تَفَرَّقَا فَإِنَّ اللهَ يُغْنِيهِ عَنْهَا، وَيُغْنِيهَا عَنْهُ؛ بِأَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا، وَيُعَوِّضَهَا عَنْهُ بِمَنْ هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ: {وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} أَيْ: وَاسِعَ الْفَضْلِ، عَظِيمَ الْمَنِّ، حَكِيمًا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَأَقْدَارِهِ، وَشَرْعِهِ)).

وبِالْجُمْلَةِ؛ فَمَوْضُوعُ الطَّلَاقِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ الَّتِي تَقُومُ فِي حَيَاتِنَا بَيْنَ إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَمْنُوعًا مَهْمَا كَانَ الْوَضْعُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُلْعُوبَةً يُصَارُ إِلَيْهَا عِنْدَ أَدْنَى سَبَبٍ وَأَيْسَرِ نَزْوَةٍ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا، وَأَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُصْلِحَ بُيُوتَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  سمات وسلوك الشخصية الوطنية في ضوء الشرع الحنيف
  الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ
  صِلُوا أَرْحَامَكُمْ
  عَوَامِلُ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ وَعَوَامِلُ سُقُوطِهَا
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ
  شَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ
  الصائمون المفلسون
  أهداف المجوس في المملكة السعودية
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان