الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ

الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ

((الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الصَّلَاةُ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ))

فَأَرْكَانُ الْإِسْلَامِ وَدَعَائِمُهُ كَمَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ((بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ)).

الصَّلَاةُ هِيَ آكَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ الرُّسُلِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّرَائِعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظَمَتِهَا، وَتَأَكَّدَ وُجُوبُهَا وَمَكَانَتُهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.

لَقَدْ لَبِثَ النَّبِيُّ ﷺ عُمُرَهُ مُنْذُ بُعِثَ ﷺ يَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِ، أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَاعِيَةً إِلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، وَبَلَّغَ النَّبِيُّ ﷺ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَكَانَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ إِخْوَانُهُ السَّابِقُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ﷺ.

وَقَدْ مَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَكَّةَ عَشْرَةَ أَعْوَامٍ يَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَمْ تَكُنِ الصَّلَاةُ قَدْ فُرِضَتْ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا فَرْضِيَّتُهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ، وَلَا أَذَانَ وَلَا مَسْجِدَ، وَإِنَّمَا يَتَوَارَى مَنْ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ خَشْيَةَ الْكَافِرِينَ.

بَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُسَفِّهُ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنَ اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ، وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَمَا تَوَاضَعُوا عَلَيْهِ مِنْ صَرْفِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ظَلَّ يُزَيِّفُ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ الْحَقَّ فِيهِ.


((الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ))

لَمْ يَفْرِضْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِهِ حَتَّى السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَفَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ خَمْسًا فِي الْعَدَدِ وَخَمْسِينَ فِي الْأَجْرِ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُصَلِّي بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ يَنْزِلُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي فَيُصَلِّي فِي آخِرِهِ، وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ، فَعَلَّمَهُ الْمَوَاقِيتَ.

وَصَلَّى النَّبِيُّ ﷺ، وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ كَمَا فَرَضَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا أَذَانَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ جُمُعَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَوْفٍ يَحْيَوْنَ، وَعَلَى فَزَعٍ يَعِيشُونَ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَاتَّخَذَ الْمَسْجِدَ، وَعُلِّمَ الْأَذَانُ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَأَقَرَّهُ ﷺ بِرُؤْيَا يَرَاهَا بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيُقِرُّ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ.

فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فَرَضَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ وَالْأُمَّةِ الصَّلَاةَ، فَرَضَهَا اللهُ -تَعَالَى- مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَكَانَ التَّكْلِيفُ بِهَا مِنَ اللهِ -تَعَالَى- إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ مُبَاشَرَةً مِنْهُ إِلَيْهِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ.

فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ، فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَنَّا؛ فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا، فَضَعُفُوا، فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ.

كُلُّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ؛ فَخَفِّفْ عَنَّا، فَقَالَ الْجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ.

فَرَجَعَ ﷺ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟

فَقَالَ: خَفَّفَ عَنَّا، أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا.

قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكُوهُ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا مُوسَى! قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ.

قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ.

قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ)). هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.

فَالصَّلَاةُ فُرِضَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حُبِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ خَفَّفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ عِبَادِهِ؛ فَهِيَ خَمْسٌ فِي الْعَمَلِ، وَخَمْسُونَ فِي الْأَجْرِ، وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهَا.

وَفَرَضَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَأُمَّتِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَلَمْ يُرْسِلْ بِفَرْضِيَّتِهَا جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَإِنَّمَا فَرَضَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِفَاحًا مِنْهُ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ، فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِي دِينِ اللهِ وَعِنْدَ اللهِ.

كَانَ الْعُرُوجُ وَهُوَ ﷺ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَاجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ أَوْ غَالِبَهُمْ كَانُوا فِي جِهَةِ الشَّامِ أَوْ مِصْرَ، فَجُمِعُوا لَهُ هُنَاكَ، وَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ ﷺ هُوَ إِمَامُهُمْ، وَرَضُوا كُلُّهُمْ بِإمَامَتِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ جِبْرِيلُ سَمَاءً فَسَمَاءً حَتَّى وَصَلَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَهُوَ يَمُرُّ بِمَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَرَّ عَلَى عِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَكُلُّهُمْ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ يَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَيُرَحِّبُ بِهِ؛ فَآدَمُ قَالَ: ((مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَبَقِيَّةُ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ)). والْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

فَشَهِدَ لَهُ الْأَنْبِيَاءُ بِالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَبِالصَّلَاحِ مَرَّتَيْنِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ إِعْلَاءِ ذِكْرِهِ ﷺ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].

وَفِي هَذَا الْمِعْرَاجِ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ، وَلَا الصِّيَامَ، وَلَا الْحَجَّ؛ وَلِهَذَا لَا نَعْلَمُ عِبَادَةً فُرِضَتْ مِنَ اللهِ إِلَى الرَّسُولِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ إِلَّا الصَّلَاةَ، وَفَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا، وَفَضْلِهَا، وَعِنَايَةِ اللهِ بِهَا، وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِأَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانُ جَمِيعَ وَقْتِهِ أَوْ جُلَّهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ خَمْسِينَ صَلَاةً تَسْتَوْعِبُ وَقْتًا طَوِيلًا؛ لَاسِيَّمَا أَنَّنَا لَا نَدْرِي كَمْ كَانَ عَدَدُ الرَّكْعَاتِ فِيهَا، وَنَزَلَ نَبِيُّنَا وَإِمَامُنَا وَقَائِدُنَا وَقُدْوَتُنَا ﷺ مُقْتَنِعًا بِذَلِكَ، رَاضِيًا بِهِ مُسَلِّمًا.

فَفُرِضَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً يُصَلِّيهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ هُوَ وَأُمَّتُهُ، حَتَّى قَيَّضَ اللهُ لَهُ مُوسَى ﷺ، وَأَلْهَمَ اللهُ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَهُ: ((مَاذَا فَرَضَ عَلَيْكَ رَبُّكَ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ؛ إِنِّي جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَالَجْتُهُمْ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ)).

مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَمِنْ نِعْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ هَذِهِ الْأُمَّةَ حَقِيقَةً، فَقَالَ: ((ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ ﷺ، فَوَضَعَ اللهُ عَنْهُ خَمْسًا خَمْسًا، أَوْ عَشْرًا عَشْرًا، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى خَمْسٍ، فَنَادَى مُنَادٍ: إِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي؛ هُنَّ خَمْسٌ فِي الْفِعْلِ، وَخَمْسُونَ فِي الْمِيزَانِ)).

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّلَاةِ وَعِظَمِهَا، فَفَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، وَنَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى وَصَلَ مَكَّةَ بِغَلَسٍ، وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَصَلَّى بِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْفَجْرَ، وَالظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ.

وَهَذَا الْمِعْرَاجُ مِنْ خَصَائِصِ الرَّسُولِ ﷺ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَاهُ، فَهُوَ مِنَ آيَاتِ اللهِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلَى الْآيَاتِ الْكُبْرَى الَّتِي شَاهَدَهَا الرَّسُولُ ﷺ.

((تَعْرِيفُ الصَّلَاةِ وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهَا))

الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]؛ أَيِ: ادْعُ لَهُمْ.

وَمَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الشَّرْعِ: أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّكْبِيرِ مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّسْلِيمِ.

سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ؛ فَالْمُصَلِّي لَا يَنْفَكُّ عَنْ دُعَاءِ عِبَادَةٍ أَوْ ثَنَاءٍ أَوْ طَلَبٍ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ((صَلَاةً)).

{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

وَادْعُ لَهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنَّ دُعَاءَكَ وَاسْتِغْفَارَكَ طُمَأْنِينَةٌ لِقُلُوبِهِمْ وَرَحْمَةٌ بِهِمْ، تَسْكُنُ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ مِنَ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ الَّذِي نَزَلَ بِهَا؛ بِسَبَبِ مَا أَصَابُوا مِنَ الذُّنُوبِ، وَاللهُ سَمِيعٌ لِدُعَائِكَ، عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ.

((حُكْمُ الصَّلَاةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِدُخُولِ أَوْقَاتِهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أَيْ: مَفْرُوضًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ وَبِفِعْلِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31].

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ....)) وَذَكَرَ بَاقِيَ الْأَرْكَانِ.

* كَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا: حَدِيثُ الْمِعْرَاجِ -وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- وَفِيهِ: ((هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ))؛ أَيْ: هِيَ خَمْسٌ فِي الْعَدَدِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَهِيَ خَمْسُونَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.

* وَيَلْزَمُ وَلِيَّ الصَّغِيرِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ؛ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنْ لِيَهْتَمَّ بِهَا وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهَا, وَلِيُكْتَبَ لَهُ وَلِوَلِيِّهِ الْأَجْرَ إِذَا صَلَّى؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وَلِقَوْلِهِ ﷺ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمَّا رَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا, فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟

قَالَ: ((نَعَمْ, وَلَكِ أَجْرٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَيُعَلِّمُهُ وَلِيُّهُ الصَّلَاةَ، وَالطَّهَارَةَ لَهَا.

* وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ الْوَقْتَ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى؛ أَجْزَأَتْهُ.

إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ -يَعْنِي فِي الْوَقْتِ-؛ فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي بَلَغَ فِيهِ إِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى قَبْلَ بُلُوغِهِ؛ فَقَدْ أَجْزَأَتْهُ؛ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ إِنْ بَلَغَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ.

* وَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى كَافِرٍ وَلَا مَجْنُونٍ؛ لَكِنْ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ عَقِلَ الْمَجْنُونُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا.

* وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أَيْ: هِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ, لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْهَا إِلَّا لِمَنْ يُرِيدُ جَمْعَهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا جَمْعَ تَأْخِيرٍ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يُجْمَعُ؛ وَكَانَ مِمَّنْ يُبَاحُ لَهُمُ الْجَمْعُ، فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا.


((مَنْزِلَةُ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ))

عِبَادَ اللهِ! جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّلَاةَ خَمْسًا فِي الْعَدَدِ، وَجَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَمْسِينَ فِي الْأَجْرِ، وَخَفَّفَ عَلَى أُمَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَهِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَحَفِظَ عَلَيْهَا أَجْرَهَا.

فَخَفَّفَ اللهُ عَنْهَا فِي الْأَدَاءِ، وَأَجْزَلَ لَهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَطَاءَ، وَلَمْ يَنْقُصْهَا مِنَ الْأَجْرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَعْطَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ تِلْكَ الْمِنْحَةَ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ؛ لِكَيْ يَصُفَّ الْمُسْلِمُ قَدَمَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَتَطَهَّرُ، ((تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الصُّبْحَ؛ أَذْهَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْكُمْ وَضَرَ الذُّنُوبِ، وَرَفَعَ عَنْكُمْ حَرِيقَ الْآثَامِ)).

النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَبْدَ يَحْتَرِقَ بِذُنُوبِهِ وَيَكْتَوِي بِآثَامِهِ مَا بَيْنَ صَلَاةٍ وَصَلَاةٍ، فَإِذَا صَلَّى؛ غَفَرَ اللهُ لَهُ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعَظِيمِ جَزِيلِ ثَوَابِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمَتِينَةِ الْمَكِينَةِ، الَّتِي لَا يُعَدُّ تَرْكُ عِبَادَةٍ كُفْرًا سِوَاهَا، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ ((الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)).

وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجْرَهَا مُبَارَكًا: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ؛ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ))؛ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ تَحْتَاجُ تَوْبَةً مُسْتَقِلَّةً، أَمَّا الصَّغَائِرُ؛ فَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا تُغْفَرُ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ فِي فَهْمِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُبَارَكِ وَهُوَ ((مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ))، الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ لَا يَكُونُ وَلَا يَقَعُ إِلَّا مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.

وَالَّذِى يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ -وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَقْوَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا-: أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَغْفِرُ بِالصَّلَاةِ مَا بَيْنَ فَرْضٍ وَفَرْضٍ مَا تَوَرَّطَ فِيهِ الْعَبْدُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى وَدْعِ الْكَبَائِرِ، فَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ.

وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَكَانَةِ الصَّلَاةِ وَعِظَمِ قَدْرِهَا إِيجَابُ اللهِ إِيَّاهَا عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَإِخْبَارُهُ عَنْ تَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهَا، وَقَدْ وَرَدَ مَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمَجِيدِ, عَلَى مَا ذَكَرَ الْمَرْوَزِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ))، فَمِنْ ذَلِكَ:

* مَا قَالَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي قِصَّةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حِينَ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((مِنَ الْمُصَلِّينَ))، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍوَقَتَادَةَ مِثْلُهُ.

* وَذَكَرَ -تَعَالَى- عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ بِإِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، فَأَسْكَنَهُ بِوَادٍ لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ؛ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 37].

وَلَمْ يَذْكُرْ عَمَلًا غَيْرَ الصَّلَاةِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا عَمَلَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَا يُوَازِيهَا.

* وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

وَذَكَرَ مِنْ دُعَائِهِ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].

* وَقَالَ -تَعَالَى- فِي شَأْنِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا* وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 54-55].

* وَقَالَ -تَعَالَى- فِي شَأْنِ إِسْحَاقَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَذُرِّيَّتِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ (73)} [سورة الأنبياء: 72-73]

* وَقَالَ -تَعَالَى- فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمَّا نَهَى قَوْمَهُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [هود: 87].

وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهُ يُعَظِّمُ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَعْظِيمَ الصَّلَاةِ.

* وَمُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَرَّبَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَجِيًّا, وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا افْتَرضَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ افْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ عِبَادَتَهِ: إِقَامُ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى فَرِيضَةٍ سِوَاهَا، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُخَاطِبًا مُوسَى بِكَلِمَاتِهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [هود: 13-14].

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ، وَفَضْلِهَا عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ إِذْ لَمْ يَبْدَأْ مُنَاجِيَهُ وَكَلِيمَهُ بِفَرِيضَةٍ أَوَّلَ مِنْهَا.

ثُمَّ كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [يونس: 87].

* وَدَاوُدُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نَبِيُّ اللهِ وَصَفِيُّهُ.. لَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ، وَأَرَادَ التَّوْبَةَ؛ لَمْ يَجِدْ لِتَوْبَتِهِ مَفْزَعًا إِلَّا إِلَى الصَّلَاةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].

* وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَرَضَ الْخَيْلَ بِالْعَشِيِّ، فَأَشْغَلَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَأَخَّرَ وَقْتُهَا, فَأَسِفَ وَنَدِمَ، فَعَاقَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ حَرَمَهَا الْخَيْلَ الَّتِي أَشْغَلَتْهُ حَتَّى جَاوَزَ وَقْتَ الصَّلَاةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} [ص: 30-33].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِعَرْضِهَا حَتَّى فَاتَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ, وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا عَمْدًا, بَلْ نِسْيَانًا، كَمَا شُغِلَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى صَلَّاهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ)).

* وَقَالَ -تَعَالَى- فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُو قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39].

* وَذَكَرَ -تَعَالَى- عَنْ عِيسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَيْثُ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أَنَّهُ قَالَ: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].

* وَقَالَ اللهُ -جَلَّ ذِكْرُهُ- فِي شَأْنِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي} [المائدة: 12].

* وَذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، فَوَصَفَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].

فَأَخْبَرَ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ مَفْزَعَهُمْ كَانَ إِلَى الصَّلَاةِ، يَعْبُدُونَ اللهَ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]؛ يَعْنِي: وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ.

* وَجَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- لَمْ يَزَالُوا يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ ﷺ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ, صَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ مَالَتِ الشَّمْسُ قَدْرَ الشِّرَاكِ, وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ, وَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ, وَصَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ, وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى بِيَ الْغَدَاةَ الْأُخْرَى حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ, وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ, وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ, وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ, وَصَلَّى بِيَ الْغَدَاةَ بَعْدَمَا أَسْفَرَ, ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ, هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا.


((دَلَائِلُ تَعْظِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لِلصَّلَاةِ أَهَمِّيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَكَانَةٌ عَالِيَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ؛ بَلْ هِيَ أَهَمُّ الْأَرْكَانِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ: ((شَهَادَةِ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ))، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ, وَهِيَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهَا شَهَادَةُ ((أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

فَهِيَ إِذَنْ رُكْنُهُ الْأَعْظَمُ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ شَهَادَةِ ((أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).

وَهِيَ عَمُودُ الدِّينِ، حَيْثُ قَالَ ﷺ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).

وَقَدْ كَثُرَتِ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمْرًا وَنَهْيًا, وَتَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا, وَخَبَرًا وَطَلَبًا، وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ فِي أَعْلَى مَكَانٍ يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَخْلُوقُونَ.

وَفَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِ فِي أَفْضَلِ لَيْلَةٍ فِي حَقِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَهِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ الَّتِي عُرِجَ فِيهَا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى السَّمَاءِ, حَتَّى عَلَا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ, حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ -أَقْلَامِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ- الَّتِي أَشَارَ اللهُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُو فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]؛ يُغْنِي فَقِيرًا, وَيُفْقِرُ غَنِيًّا، وَيُمْرِضُ صَحِيحًا, وَيُصِحُّ مَرِيضًا، وَيُمِيتُ حَيًّا, وَيُحْيِي مَيِّتًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُؤُونِهِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ بِدُونِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا، وَفَرَضَهَا عَلَى الْعِبَادِ أَوَّلَ مَا فَرَضَهَا خَمْسِينَ صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَكَوْنُهَا خَمْسِينَ صَلَاةً يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ لَهَا, وَعِنَايَتِهِ بِهَا، وَأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْإِنْسَانُ مُعْظَمَ وَقْتِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا الصِّلَةُ بَيْنَ اللهِ وَعِبَادِهِ، يَجِدُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ رَاحَةَ نَفْسِهِ، وَطُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ قُرَّةَ عَيْنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَالصَّلَاةُ لَهَا شَأْنٌ انْفَرَدَتْ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَسَمَّى اللهُ الصَّلَاةَ إِيمَانًا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]؛ يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُصَدِّقُ عَمَلَهُ وَقَوْلَهُ.

وَخَصَّهَا اللهُ بِالذِّكْرِ؛ تَمْيِيزًا لَهَا مِنْ بَيْنِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45]، وَتِلَاوَتُهُ: اتِّبَاعُهُ, وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ مِنْ جَمِيعِ شَرَائِعِ الدِّينِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]، فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ تَمْيِيزًا لَهَا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73] خَصَّهَا بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.

* وَقُرِنَتِ الصَّلَاةُ فِي الْقُرْآنِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.

وَأَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَصْطَبِرَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]، مَعَ أَنَّهُ ﷺ مَأْمُورٌ بِالِاصْطِبَارِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65].

وَأَوْجَبَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمْ يَعْذُرْ بِهَا مَرِيضًا، وَلَا خَائِفًا, وَلَا مُسَافِرًا، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ.

بَلْ وَقَعَ التَّخْفِيفُ تَارَةً فِي شُرُوطِهَا, وَتَارَةً فِي عَدَدِهَا, وَتَارَةً فِي أَفْعَالِهَا, وَلَمْ تَسْقُطْ مَعَ ثَبَاتِ الْعَقْلِ، وَاشْتَرَطَ اللهُ لَهَا أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ؛ مِنَ الطَّهَارَةِ, وَالزِّينَةِ بِاللِّبَاسِ, وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مِمَّا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي غَيْرِهَا، وَاسْتَعْمَلَ فِيهَا جَمِيعَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ؛ مِنَ الْقَلْبِ, وَالْجَوَارِحِ، وَاللِّسَانِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا، وَنَهَى أَنْ يُشْتَغَلَ فِيهَا بِغَيْرِهَا؛ حَتَّى بِالْخَطْرَةِ وَاللَّفْظَةِ؛ بَلْ حَتَّى بِالْفِكْرَةِ، وَهِيَ دِينُ اللهِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهِيَ مِفْتَاحُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا بِالصَّلَاةِ.


((مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّلَاةَ مَبْنِيَّةً عَلَى طَهَارَةِ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ، عَلَى طَهَارَةِ الْقَلْبِ مِنْ شِرْكِهِ وَمِنْ آفَاتِهِ، وَعَلَى طَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْبُقْعَةِ، عَلَى طَهَارَةِ الْمَكَانِ الَّذِي يَسْجُدُ فِيهِ الْعَبْدُ لِلرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، وَيَقُومُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَعَلَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا اتِّخَاذَ الزِّينَةِ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].

فَجَعَلَ لِلصَّلَاةِ اتِّخَاذًا لِلزِّينَةِ، وَجَعَلَ لِلصَّلَاةِ اتِّخَاذًا لِسِوَاكٍ وَعِطْرٍ، وَجَعَلَ مَنْفِيًّا عَنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَانَ ذَا رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ: ((مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا؛ فَلْيَعْتَزِلْنَا، وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا))؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُ، وَهِيَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ.

فَجَعَلَ لِلصَّلَاةِ فِي مُقَدِّمَاتِهَا هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ؛ مِنَ اتِّخَاذِ الزِّينَةِ، وَمِنْ لُبْسِ أَحْسَنِ الثِّيَابِ، وَمِنَ اتِّخَاذِ الْعِطْرِ وَالسِّوَاكِ، وَمِنْ تَطْهِيرِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِيهَا جُمْلَةً عَظِيمَةً مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْقَطِعُ فِيهَا زَمَنًا بِالتَّحْرِيمَةِ دُخُولًا إِلَى التَّسْلِيمَةِ انْتِهَاءً، جَعَلَ فِيهَا زَمَنًا مَصْرُوفًا لِعِبَادَةِ اللهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَالَ فَرْعُ الْوَقْتِ، فَإِذَا تَصَدَّقَ بِالْأَصْلِ؛ فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِالْفَرْعِ وَزِيَادَةٍ، فَكَأَنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ وَزَكَاةٌ، ثُمَّ فِيهَا تَوَجُّهٌ إِلَى بَيْتِ اللهِ، ثُمَّ لَا يَصْلُحُ فِيهَا كَلَامٌ وَلَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، فَهِيَ إِمْسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ؛ فَفِيهَا مَعْنَى الصِّيَامِ.

وَفِي الصَّلَاةِ هَذَا السُّجُودُ الْعَظِيمُ لِلرَّحِيمِ الْكَرِيمِ، وَيَرْفَعُ اللهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، وَيَحُطُّ اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيُكَفِّرُ بِهِ السَّيِّئَاتِ، وَيُعْظِمُ بِهِ الْحَسَنَاتِ؛ حَتَّى جَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ دُعَائِهِ ﷺ، جَعَلَهُ سَبَبًا فِي مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِى عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ: ((يَا رَبِيعَةُ! سَلْنِي)).

فَقَالَ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.

قَالَ ((أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟)).

قَالَ: لَيْسَ سِوَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: ((إِنِّي فَاعِلٌ؛ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، إِنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ للهِ سَجْدَةً إِلَّا حَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَكَ بِهَا حَسَنَةً، وَرَفَعَكَ بِهَا دَرَجَةً)).

تَسْجُدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَجْعَلُ أَشْرَفَ مَا فِيكَ عَلَى مَوَاطِئِ قَدَمَيْكَ؛ مَذَلَّةً للهِ، وَاسْتِكَانَةً لِأَمْرِ اللهِ، وَمَعْرِفَةً بِقَدْرِ اللهِ، وَإِنَابَةً إِلَى اللهِ، وَقَدْ آتَاكَ رَبُّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كِفَاءَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، إِذْ جَعَلَ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ بِمَا جَعَلَ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ نُورِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ، وَالسُّجُودِ للهِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.

جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عِنْدَمَا يَكُونُ سَاجِدًا: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ إِذَا سَجَدَ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ))، وَأَمَّا أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ؛ فَفِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، إِذْ يَدْعُو الْعَبْدُ رَبَّهُ، وَالرَّبُّ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الرَّحِيمُ قَدْ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا نُزُولًا حَقِيقِيًّا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ((أَلَا هَلْ مِنْ طَالِبِ حَاجَةٍ فَأُعْطِيَهُ؟ أَلَا هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الصُّبْحُ)).


 

((جُمْلَةٌ مِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ وَثَمَرَاتِهَا))

 لَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؛ تَرْغِيبًا فِيهَا, وَحَثًّا عَلَى أَدَائِهَا.

قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.. إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1-11].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أموالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِل والْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى َزْوَاجِهِمْ أَومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)} [المعارج: 19-35].

وَوَجْهُ فَضِيلَتِهَا: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَدَأَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْحَمِيدَةَ فِي السُّورَتَيْنِ بِالصَّلَاةِ, وَخَتَمَهَا بِالصَّلَاةِ, وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِفَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]، فَخَصَّ الصَّلَاةَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا أَيْضًا.

وَقَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 283].

فَالْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا شَأْنًا عَظِيمًا.

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ -أَو تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيْكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* وَلِلصَّلَاةِ كَثِيرٌ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالثَّمَرَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الصَّلَاةِ: أَنَّهَا سَبَبٌ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ في الشِّتَاءِ وَالْوَرَقُ يَتَهَافَتُ، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ شَجَرَةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ ذَلِكَ الْوَرَقُ يَتَهَافَتُ, فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ!)).

قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَتَهَافَتُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَهَافَتُ هَذَا الْوَرَقُ عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

وعَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبي طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَو قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلى اللهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ للهِ؛ فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ بِهَا عَنْكَ خَطِيئَةً)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً؛ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً؛ فَاسْتَكْثِرُوا مِنَ السُّجُودِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَهُو سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرْ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بِقَبْرٍ، فَقَالَ: ((مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟)).

فَقَالُوا: فُلَانٌ.

فَقَالَ: ((رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ))؛ يَعْنِي: إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ.

رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.   

وَعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: ((قَعَدْتُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَجَعَلَ يُصَلِّي ويَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، لَا يَقْعُدُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ مَا أَرَى هَذَا يَدْرِي.. يَنْصَرِفُ عَلَى شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ!!

فَقَالُوا: أَلَا تَقُومُ إِلَيْهِ فَتَقُولُ لَهُ؟

قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ! مَا أَرَاكَ تَدْرِي.. تَنْصَرِفُ عَلَى شَفْعٍ أَو عَلَى وَتْرٍ!!

قَالَ: وَلَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ سَجْدَةً؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً)).

فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟

فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي.

فَقُلْتُ: جَزَاكُمُ اللهُ مِنْ جُلَسَاءَ شَرًّا، أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُعَلِّمَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ)).

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ المُخَارِقِ -وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ-: فَرَأَيْتُهُ يُطِيلُ الْقِيَامَ، وَيُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا أَلَوْتُ -أَيْ: مَا قَصَّرْتُ- أَنْ أُحْسِنَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ رَكَعَ رَكْعَةً، أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً؛ رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ، وَهُوَ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَّامٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، فَقَالَ: ((يَا ابْنَ أَخِي! مَا أَعْمَلَكَ إِلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ, أَوْ جَاءَ بِكَ؟

قَالَ: قُلْتُ: لَا؛ إِلَّا صِلَةُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ وَالِدِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ.

فَقَالَ: بِئْسَ سَاعَةُ الْكَذِبِ هَذِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا -يَشُكُّ سَهْلٌ- يُحْسِنُ فِيهِنَّ الذِّكْرَ وَالْخُشُوعَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللهَ؛ غُفِرَ لَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ, ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ, وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا؛ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ خُدَّامَ أَنْفُسِنَا، نَتَنَاوَبُ الرِّعَايَةَ -رِعَايَةَ إِبِلِنَا-، فَكَانَتْ عَلَيَّ رِعَايَةُ الْإِبِلِ، فَرَوَّحْتُهَا بِالْعَشِيِّ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ, ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ؛ إِلَّا قَدْ أَوْجَبَ -أَيْ: أَتَى بِمَا يُوجِبُ لَهُ الْجَنَّةَ-)).

فَقُلْتُ: بَخٍ بَخٍ, مَا أَجْوَدَ هَذِهِ!!

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ, وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ, وَابْنُ مَاجَه، وَغَيْرُهُمْ.

وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ, ثُمَّ يَقُومُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ؛ إِلَّا انْفَتَلَ وَهُوَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). الْحَدِيثَ. وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)).

وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، أَنَّهُمْ غَزَوْا غَزْوَةَ السَّلَاسِلِ, فَفَاتَهُمُ الْغَزْوُ, فَرَابَطُوا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ أَبُو أَيُّوبَ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ, فَقَالَ: ((عَاصِمُ! يَا أَبَا أَيُّوبَ! فَاتَنَا الْغَزْوُ الْعَامَ وَقَدْ أُخْبِرْنَا أَنَّهُ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسَاجِدِ الْأَرْبَعَةِ؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرَ, وَصَلَّى كَمَا أُمِرَ؛ غُفِرَ لَهُ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ)).

كَذَلِكَ يَا عُقْبَةُ؟

فَقَالَ: نَعَمْ)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه, وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَبْسٍ: ((فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ, وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ, وَفَرَّغَ قَلْبَهُ للهِ تَعَالَى؛ إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ, فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا؛ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ, وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)).

وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عَلَى اللهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ)).

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّ بِهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَرَاحَةَ النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَنَصُّهُ عِنْدَهُ: ((يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا، يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا صَلَّاهَا الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].

وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ بِالصَّلَاةِ؛ مِنْ إِنَابَةٍ إِلَى اللهِ، وَحُضُورٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُوَّةٍ فِي الْإِيمَانِ، وَاسْتِنَارَةٍ فِي الْقَلْبِ، وَصَلَاحٍ فِي الْأَحْوَالِ، فَلَا يَزَالُ طَعْمُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، وَكُلَّمَا هَمَّ بِمُنْكَرٍ أَوْ فَحْشَاءَ؛ تَذَكَّرَ تِلْكَ الصِّلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَابْتَعَدَ عَنْ ذَلِكَ.

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا عَوْنٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ؛ صَلَّى))؛ أَيْ: أَهَمَّهُ أَمْرٌ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: مَا رَتَّبَ اللهُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ؛ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ))، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَالنَّسَائِيُّ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّلَاةُ نُورٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

يَعْنِي: نُورٌ فِي الْقَلْبِ، وَالْوَجْهِ، وَالْقَبْرِ، وَالْحَشْرِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَقَالَ: ((مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا؛ كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ, وَلا بُرْهَانٌ, وَلا نَجَاةٌ, وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ, وَفِرْعَوْنَ, وَهَامَانَ, وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ في ((مُسْنَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو))، لَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، وَقَدْ حَسَّنَ هَذَا الْحَدِيثَ مُحَقِّقِي الْمُسْنَدِ، وَكَذَلِكَ جَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَلَكِنْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ.

فَمَنْ حَافَظَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَأَدَّاهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ؛ كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: أَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَتَطْهِيرٌ مِنَ الْخَطَايَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟))

قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ.

قَالَ: ((فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ؛ مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَهَذِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ تَغْسِلُ الذُّنُوبَ لِمَنْ صَلَّى غَسْلًا، فَيَكُونُ نَقِيًّا بِهَا مِنَ الذُّنُوبِ.

* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: مَا يَحْصُلُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَحُصُولِ التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَهُمْ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ، وَتَنْبِيهِ الْغَافِلِ، وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ.

* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّهَا صِلَةٌ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَرَبِّهِ؛ فَالْمُصَلِّي إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ؛ اسْتَقْبَلَهُ اللهُ بِوَجْهِهِ، ((فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي-.

فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}؛ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

فَهَلْ تَجِدُ صِلَةً أَقْوَى مِنْ تِلْكَ الصِّلَةِ؟!!

يُجِيبُكَ رَبُّكَ عَلَى قِرَاءَتِكَ آيَةً آيَةً وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَأَنْتَ فِي أَرْضِهِ؛ عِنَايَةً بِصَلَاتِكَ، وَتَحْقِيقًا لِصَلَاتِكَ!!

وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيعَابِ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ.


 

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ فَضْلَ الصَّلَاةِ عَظِيمٌ، وَفَضْلُهَا كَبِيرٌ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:

لَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: ((الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِقَوْلِهِ ﷺ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ؛ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ وَالدَّرَنُ: الْوَسَخُ- شَيْءٌ؟))

قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ.

قَالَ: ((فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِقَوْلِهِ ﷺ: ((مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا؛ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَذَا قَوْلُهُ ﷺ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ ﷺ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ, وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ)). وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.


 

((فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَثَمَرَاتُهَا))

((مِنْ سُمُوِّ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ: أَنَّهَا تُشَرِّعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادَاتِهَا الِاجْتِمَاعَاتِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مُؤْتَمَرَاتٍ إِسْلَامِيَّةٍ، يَجْتَمِعُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ؛ لِيَتَوَاصَلُوا وَيَتَعَارَفُوا وَيَتَشَاوَرُوا فِي أُمُورِهِمْ، وَلِـيَتَعَاوَنُوا عَلَى حَلِّ مَشَاكِلِهَا، وَتَدَاوُلِ الرَّأْيِ فِيهَا.

وَهَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ وَالْفَوَائِدِ الْجَسِيمَةِ مَا يَفُوتُ الْحَصْرَ؛ مِنْ تَعْلِيمِ الْجَاهِلِ، وَمُسَاعَدَةِ الْعَاجِزِ، وَتَلْيِينِ الْقُلُوبِ، وَإِظْهَارِ عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ بِشَعَائِرِهِ.

وَأَوَّلُ هَذِهِ الْمُؤْتَمَرَاتِ: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ هُوَ مُؤْتَمَرٌ صَغِيرٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الْوَاحِدَةِ، يَجْتَمِعُونَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي مَسْجِدِهِمْ، يَتَوَاصَلُونَ وَيَتَعَارَفُونَ، وَيُحَقِّقُونَ نَوَاةَ الْوَحْدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْكُبْرَى)) .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ وَرَدَتْ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ فِي بَيَانِ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فَمِنْهَا:

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَضْعُفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ؛ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى؛ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ)).

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا؛ فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ ﷺ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ؛ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ؛ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةَ، وَقالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ)).

((يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ))؛ أَيْ: يُرْفَدُ مِنْ جَانِبَيْهِ، وَيُؤْخَذُ بِعَضُدِهِ يُمْشَى بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ صَلَّى للهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولى؛ كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا رَغَّبَ فِيهَا الْمَعْصُومُ ﷺ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِي إِيقَاعِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ الْجَمَاعَةِ.

* ثَمَرَاتُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَمَقَاصِدُهَا:

* شُرِعَتْ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاصُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْسَانِ, وَالْعَطْفِ وَالرِّعَايَةِ, وَالتَّوَادُدِ وَالتَّحَابُبِ بَيْنَهُمْ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ.

* وَلِأَجْلِ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضُهُمْ أَحْوَالَ بَعْضٍ؛ فَيَقُومُوا بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى, وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ, وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ.

* وَلِأَجْلِ إِظْهَارِ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَارُفِهِمْ وَتَلَاحُمِهِمْ, فَيَغِيظُونَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.

* وَلِأَجْلِ إِزَالَةِ مَا نَسَجَهُ بَيْنَهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ وَالْأَحْقَادِ؛ فَيَحْصُلُ الِائْتِلَافُ وَاجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّﷺ: ((لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَمِنْ فَوَائِدِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا: تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ, وَمُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ, وَالنَّشَاطُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عِنْدَمَا يُشَاهِدُ الْمُسْلِمُ إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ يُزَاوِلُونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَيَقْتَدِي بِهِمْ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّﷺ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً», وَفِي رِوَايَةٍ: ((بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ)).


((حُكْمُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ))

* إِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فَرْضٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ, وَفِي حَالِ الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ, وَاجِبَةٌ وُجُوبًا عَيْنِيًّا؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ, وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ.

قَالَ تَعَالَى فِي حَالِ الْخَوْفِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}, لَمْ يُرَخَّصْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي تَرْكِهَا حَالَ الْخَوْفِ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا؛ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ», فَوَصَفَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا بِالنِّفَاقِ, وَالْمُتَخَلِّفُ عَنِ السُّنَّةِ لَا يُعَدُّ مُنَافِقًا, فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا عَنْ وَاجِبٍ.

وَلِأَنَّهُ ﷺ هَمَّ بِعُقُوبَاتِهِمْ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْهَا, وَالْعُقُوبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ, وَإِنَّمَا مَنَعَهُ ﷺ مِنْ تَنْفِيذِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ, وَأَيْضًا لِأَجْلِ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ الَّذِينَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجَمَاعَةُ.

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ, فَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ, فَرَخَّصَ لَهُ, فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: ((هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟)) قَالَ: نَعَمْ, ((قَالَ: فَأَجِبْ)).

فَأَمَرَهُ النَّبِيُّﷺ بِالْحُضُورِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ, وَإِجَابَةِ النِّدَاءِ, مَعَ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُتَخَلِّفُ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ؛ لَهُ حَالَتَانِ:

الْحَالُ الْأُولَي: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِمَرَضٍ، أَوْ خَوْفٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ, وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ التَّخَلُّفُ لَوْ لَا الْعُذْرُ؛ فَهَذَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ مَنْ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَرَ؛ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ تَخَلُّفُهُ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ, فَهَذَا إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ؛ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لَكِنَّهُ يَخْسَرُ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَزِيلًا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً, وَكَذَلِكَ يَفْقِدُ أَجْرَ الْخُطُوَاتِ الَّتِي يَخْطُوهَا إِلَى الْمَسْجِدِ, وَمَعَ خُسْرَانِهِ لِهَذَا الثَّوَابِ الْجَزِيلِ.. يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.

* وَمَكَانُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ هُوَ الْمَسْجِدُ, فَيَجِبُ فِعْلُهَا فِي الْمَسَاجِدِ؛ قَالَ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36-37].

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ؛ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ, وَابْنُ حَجَرٍ, وَغَيْرُهُمْ؛ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: ((صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَ أَزْكَى -أَيْ: أَكْثَرُ أَجْرًا, وَأَبْلَغُ فِي تَطْهِيرِ الْمُصَلِّي وَتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ؛ لِمَا فِي الِاجْتِمَاعِ مِنْ نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالسَّكِينَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ- مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ رَجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلٍ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى)) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

((احْذَرُوا تَضْيِيعَ الصَّلَاةِ!))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَمْرَ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْخَلْقَ مُكَلَّفِينَ، وَمَا دَامَ عَقْلُكَ مَعَكَ؛ فَأَنْتَ مُؤَاخَذٌ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ، أَمَّا إِذَا ذَهَبَ الْعَقْلُ فَجُنَّ الْمَرْءُ، أَوْ كَانَ دُونَ مُسْتَوى التَّكْلِيفِ؛ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَالْمُؤَاخَذَةُ، وَأَمَّا مَا دَامَ عَقْلُكَ مَعَكَ؛ فَلَنْ يَسْقُطَ عَنْكَ التَّكْلِيفُ بِحَالٍ.

الصَّلَاةُ لَا تَسْقُطُ عَنِ الْمَرْءِ مَا دَامَ عَقْلُهُ مَعَهُ، إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَن يُصَلِّيَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا؛ يُجْرِي أَعْمَالَ الصَّلَاةِ عَلَى قَلْبِهِ، مَا دَامَ عَقْلُهُ مَعَهُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ.

قَدْ يَحْدُثُ فِي آخِرِ الْحَيَاةِ أَوْ عِنْدَ الْمَرَضِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ عَدَمُ تَحَكُّمٍ فِي بَوْلِهِ أَوْ غَائِطِهِ، فَيَظُنُّ وَيَظُنُّ مَنْ حَوْلَهُ أَنَّ تِلْكَ النَّجَاسَةَ تَكُونُ قَاطِعَةً لَهُ عَنِ الصَّلَاةِ!!

وَهَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ؛ حَتَّى إِنَّ مَنْ حَوْلَهُ يَقُولُونَ لَهُ: كَيْفَ تُصَلِّي وَالْبَوْلُ يَتَقَاطَرُ، أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْغَائِطِ يَخْرُجُ؟! فَيُلَوِّثُ هَذَا الثِّيَابَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُبْدِلَهَا فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الصُّعُوبَاتِ الَّتِي تَلْحَقُ الْإِنْسَانَ فِي مَرَضِهِ؛ خَاصَّةً فِي الْعَصْرِ عِنْدَمَا يُهْمِلُهُ أَهْلَهُ، فَلَا يَقُومُونَ عَلَى شَأْنِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

لَنْ يَنْفَعَكَ أَحَدٌ، لَا زَوْجَةٌ وَلَا وَلَدٌ، وَرُبَّمَا تَرَكُوكَ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْكَ، وَرُبَّمَا أَهْمَلُوكَ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا أَقْوَامًا أُصِيبُوا بِقُرْحَةِ الْفِرَاشِ؛ حَتَّى كَانَ الدُّودُ يَخْرُجُ مِنْ جِرَاحِهِمْ، وَحَوْلَهُمْ أَقْوَامٌ إِنَّمَا يَظْهَرُونَ يَوْمَ الْعَزَاءِ، يَظْهَرُونَ فِي الْمُنَاسَبَاتِ!! وَأَمَّا الرِّعَايَةُ؛ فَشَيْءٌ دُونَهُ خَرْطُ الْقَتَادِ!! فَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ.

فَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا مَا مَرِضَ وَصَارَ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ خَارِجًا مِنْهُ: لَا تُصَلِّ!! فَيَلْقَى رَبَّهُ غَيْرَ مُصَلٍّ!!

وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى: ((أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً؛ كَفَرَ وَخَرَجَ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ))، صَلَاةً وَاحِدَةً، يَقُولُونَ: ((لَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِهَا تَكَاسُلًا وَتَهَاوُنًا، وَتَرْكِهَا جُحُودًا وَتَعَمُّدًا)).

هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَحْرِصُ عَلَى الصَّلَاةِ!!

يَقُولُونَ: ((كَفَرَ كُفْرًا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ))؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَسْقُطُ وَلَايَتُهُ عَلَى ابْنَتِهِ، وَلَا كَلَامَ لَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، يُفْسَخُ الْعَقْدُ مِنْهَا بِبَيْنُونَةٍ كُبْرَى، وَإِذَا مَاتَ لَا يَرِثُهُ أَهْلُهُ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَلٍّ؛ هُوَ لَا يَرِثُ مِنْهُ، وَإِذَا مَاتَ لَا يَلْزَمُنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نُغَسِّلَهُ، وَلَا أَنْ نُكَفِّنَهُ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.

تَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا؟!!

هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.

لِمَاذَا يُفَرِّطُ الْمَرْءُ فِي الصَّلَاةِ؟!! لِمَاذَا لَا يُصَلِّي؟!!

الَّذِي يَتْرُكُ الصَّلَاةَ؛ يَكْفُرُ كُفْرًا أَكْبَرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: ((كَفَرَ كُفْرًا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ)).

فَتَنَازَعَ فِيكَ الْعُلَمَاءُ إِنْ تَرَكْتَ الصَّلَاةَ، أَكَافِرٌ كُفْرًا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، أَمْ كَافِرٌ كُفْرًا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ؟!

هَذَا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ.

* مُرْ مَنْ تَحْتَ يَدِكَ بِالصَّلَاةِ:

مَنْ كَانَ تَحْتَ يَدِكَ لَا يُصَلِّي؛ فَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي؛ فَهِيَ مَلْعُونَةٌ، تُؤْوِي فِي بَيْتِكَ مَلْعُونَةً؟!! وَالْمَلْعُونَةُ: هِيَ الْخَارِجَةُ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَطْرُودَةٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي؛ كَيْفَ تُعَاشَرُ؟!! كَيْفَ يَكُونُ فِي بَيْتِكَ امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي؟!!

مُرْهَا بِالصَّلَاةِ، أَنْتَ تَضْرِبُهَا عَلَى عَدَمِ إِجَادَةِ الطَّعَامِ، فَازْجُرْهَا وَأْمُرْهَا، فَإِنْ لَمْ تُطِعْ؛ فَالطَّلَاقُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

امْرَأَةٌ لَا تُصَلِّي، وَتَأْبَى أَنْ تُصَلِّيَ، يَأْمُرُهَا زَوْجُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فَلَا تُصَلِّي؛ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهَا عِنْدَهُ، لَا بُدَّ مِنْ فِرَاقِهَا، هَذَا دِينُ اللهِ، تَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا، وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ.

الْوَاحِدُ مِنَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ التَّافِهَةِ؛ يَسْهَرُ، وَيُسَافِرُ، وَيَتْعَبُ، تُرِيدُ أَنْ تَبْنِيَ بَيْتًا؟! يُسَافِرُ الْوَاحِدُ مُغْتَرِبًا؛ لِيَجْمَعَ الْمَالَ، ثُمَّ إِذَا مَا جَاءَ بَنَى بَيْتًا، أَتُرِيدُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ بِغَيْرِ مَجْهُودٍ؟!! وَأَنْتَ تَغْتَرِبُ عَنْ وَطَنِكَ عُقُودًا مِنْ عُمُرِكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَبْنِيَ شَيْئًا كَهَذَا، تَتَرْكُهُ وَتَذْهَبُ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تُحَصِّلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ مَجْهُودٍ؟!! هَذَا لَا يَكُونُ.

أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.



((خَطَرُ تَضْيِيعِ الصَّلَاةِ))

لَمَّا كَانَ لِلصَّلَاةِ هَذَا الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، وَهَذِهِ الْفَوَائِدُ العَظِيمَةُ -عِبَادَ اللهِ-؛ كَانَ فَقْدُهَا حِرْمَانًا كَبِيرًا، وَنَقْصًا فَادِحًا فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ثَمَّ حَذَّرَ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ مِنْ إِضَاعَتِهَا، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَاتٍ مُتَنَوِّعَةً:

قَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4-5].

فَهَلَاكٌ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمُ الَّتِي وَرِثُوا بَعْضَ مَظَاهِرِهَا عَنْ دِينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ غَافِلُونَ تَارِكُونَ، لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا عَلَى فِعْلِهَا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى تَرْكِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59-60].

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّينَ الْمَذْكُورِينَ قَوْمُ سُوءٍ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، تَرَكُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَعَصَوُا اللهَ فِي أَوَامِرِهِ وَنَواهِيهِ، وَآثَرُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، فَسَوْفَ يَسْتَقْبِلُونَ وَيُوَاجِهُونَ فِي يَوْمِ الدِّينِ جَزَاءَ ضَلَالِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، وَهُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)}، لَكِنْ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ:

الصِّفَةُ الْأُولَى: تَابَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَارْتِكَابِ الْمَعْصِيَاتِ.

وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: آمَنَ بِرَبِّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَبِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ الصَّادِقِينَ.

وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا يُعَبِّرُ فِيهِ عَنْ صِدْقِ إِيمَانِهِ.

فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ مُرْتَفِعُوا الْمَنْزِلَةِ، يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُمْ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُنْقَصُونَ شَيْئًا مِنْ أُجُورِهِمْ بِسَبَبِ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرٍ وَسَيِّئَاتٍ وَكَبَائِرَ قَبْلَ تَوْبَتِهِمْ وَإِيمَانِهِمُ الصَّادِقِ الصَّحِيحِ، وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ الْمَقْبُولَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَتَّصِفُونَ بِخَمْسِ صِفَاتٍ سُلُوكِيَّةٍ، بَيَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ؛ مِنْهَا:

* الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ مَا يُوهِمُ الْإِيمَانَ وَالصِّدْقَ وَالسَّلَامَةَ، وَيُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَيُبَالِغُونَ جِدًّا فِي الِاسْتِخْفَاءِ وَالتَّوَارِي، وَيُمْعِنُونَ فِي إِيقَاعِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَكْرَهُونَ غَايَةَ جُهْدِهِمْ، وَهُمْ حِينَ يُخَادِعُونَ الَّذِينَ آمَنُوا -مَعَ أَنَّ اللهَ مَعَهُمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ- إِنَّمَا يُخَادِعُونَ مَعَهُمُ اللهَ رَبَّهُمُ الَّذِي يَتَوَلَّاهُمْ بِتَأْيِيدِهِ، وَيَحْمِيهِمْ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَمَكَايدِهِمْ.

وَالْمُنَافِقُونَ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ لَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَاللهُ مُجَازِيهِمْ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ، إِذْ يَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ؛ حَتَّى يُوقِعَهُمْ بِشَرِّ عَمَلِهِمُ الَّذِي يَمْكُرُونَ بِهِ.

* وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا قَامَ الْمُنَافِقُونَ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا مُتَثَاقِلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بَاطِنًا، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَدْوَى الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَذَوَّقُونَ حَلَاوَتَهَا، وَلَا يَشْعُرُونَ بِلَذَّةِ مُنَاجَاةِ اللهِ فِيهَا.

* وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِصَلَاتِهِمْ وَسَائِرِ أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، وَيُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ أَهْلُ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ، فَإِذَا خَلَوْا إِلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لَمْ يُؤَدُّوا هَذِهِ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَتَظَاهَرُونَ بِهَا أَمَامَ النَّاسِ.

وَقَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ وَقَدْ سُئِلُوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42-47].

{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}: أَيُّ شَيْءٍ أَدْخَلَكُمْ فِيهَا؟ وَبِأَيِّ ذَنْبٍ اسْتَحَقَّيْتُمُوهَا؟

فَقَالُوا: {لم نك لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}، فَلَا إِخْلَاصَ لِلْمَعْبُودِ، وَلَا إِحْسَانَ وَلَا نَفْعَ لِلْخَلْقِ الْمُحْتَاجِينَ، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}: أَيْ نَخُوضُ بِالْبَاطِلِ، وَنُجَادِلُ بِهِ الْحَقَّ.

{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}: هَذِهِ آثَارُ الْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالْحَقِّ، وَمِنْ أَحَقِّ الْحَقِّ: يَوْمُ الدِّينِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَظُهُورُ مُلْكِ اللهِ وَحُكْمِهِ الْعَدْلِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، فَاسْتَمَرَّ عَمَلُنَا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ {حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ}: أَيْ الْمَوْتُ، فَلَمَّا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ؛ تَعَذَّرَتْ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمُ الْحِيَلُ، وَانْسَدَّ فِي وُجُوهِهِمْ بَابُ الْأَمَلِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] أَيْ: إِذَا أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ لَا يُصَلُّونَ.

فِي ((مُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ)): ((إِذَا أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ، وَقِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا؛ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ)).

وَقَالَ ﷺ: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ: ((مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَاهُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى)).

فَسَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ، فَقِيلَ: ((إِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ)). وَهُوَ حَدِيثُ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَهَذَا الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ إِذَا شَاءَ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ، فَهَذَا عَذَابٌ بَرْزَخِيٌّ.

وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَالْأَمْرُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ.

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ؛ فَلَيْسَ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْشَرُ مَعَ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ، مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ)).

((الصَّلَاةُ هَدِيَّةٌ لِلْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ))

هَذِهِ الصَّلَاةُ الْعَظِيمَةُ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَدِيَّةً جَلِيلَةً عَظِيمَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ مِنْهَا وَلَا عَنْهَا عَبْدٌ إِلَّا بِمَوْتِهِ، أَوْ بِذَهَابِ عَقْلِهِ، وَأَمَّا مَا دَامَ وَاعِيًا؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَلْزَمُهُ؛ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ، وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى عَظِيمِ أَثَرِهَا، وَعَلَى فَضْلِهَا وَكَبِيرِ قَدْرِهَا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ ذَلِكَ الْحُبَّ؛ مَا فَرَضَهَا خَمْسِينَ بَدْءَ الْأَمْرِ.

وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ لَوْ بَقِيَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا بِهَذَا الْعَدَدِ؛ كَمْ كَانَ يَبْقَى لَكَ مِنَ الْوَقْتِ بَعْدَهُ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي صَلَاةٍ يَوْمًا كَامِلًا بِصُبْحِهِ وَمَسَائِهِ مُتَبَتِّلًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

لَوْ لَمْ تَكُنْ مَحْبُوبَةً لَهُ -جَلَّ وَعَلَا- ذَلِكَ الْحُبَّ؛ مَا كَانَ لِيَفْرِضَهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَمَا كَانَ -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحِيمُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الرَّحْمَنُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِضَعْفِ خَلْقِهِ- مَا كَانَ لِيَجْعَلَهَا مَاضِيَةً مَفْرُوضَةً عَلَى الْعَبْدِ فِي حَالَاتِهِ كُلِّهَا؛ مِنْ حَضَرٍ وَسَفَرٍ، مِنْ إِقَامَةٍ وَتِرْحَالٍ، مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ، مِنْ قِيَامٍ وَعَجْزٍ عَنْهُ؛ وَلَوْ كَانَ عَلَى جَنْبٍ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ أَبَدًا بِحَالٍ.

فَجَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُلَازِمَةً لِلْعَقْلِ مَا بَقِيَ، فَإِنْ زَالَ الْعَقْلُ؛ سَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعْطِيهِ حِينَئِذٍ مَا أَمَّلَ فِي وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ؛ فَقَدْ أَسْقَطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمَا الصَّلَاةَ.


((اتَّقُوا اللهَ فِي الصَّلَاةِ!))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَأَدِّبُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَكُمْ أَنْ ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

فَمَنْ مِنْكُمْ رَاعَى هَذِهِ الْأَمَانَةَ الَّتِي حَمَّلَهَا إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!

أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ هَذَا غَافِلُونَ؛ لَكِنَّهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ وَحُطَامِ الدُّنْيَا مُنْتَبِهُونَ، يَسْهَرُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَنْمِيَةِ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَدَعُونَهُ لِمَنْ يَرِثُهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ أَوْلَادِهِمُ الَّذِينَ يَكُونُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِذَا صَلَحُوا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ؛ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَفَلَا تَخَافُونَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْئُولِيَّةِ؟!

أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُكُمْ عَلَى تَرْكِ تَرْبِيَةِ أَوْلَادِكُمْ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْعَاقِّينَ لَكُمْ جَزَاءً وِفَاقًا؟!

إِنَّ مَنْ لَمْ يُرَاعِ حَقَّ اللهِ فِي تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِ؛ يُوشِكُ أَلَّا يُرَاعُوا حَقَّ اللهِ فِيهِ إِذَا كَبُرَ وَمَاتَ.

فَعَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ تُرَبُّوا أَوْلَادَكُمْ مَا دَامُوا نَشْئًا يَتَقَبَّلُونَ.. عَلَى مَحَبَّةِ الصَّلَاةِ، وَمَحَبَّةِ الْحُضُورِ إِلَى الْمَسَاجِدِ.

مِنْ عَجَبٍ -عِبَادَ اللهِ-: أَنْ يَجْهَلَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْرَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ، أَوْ يَتَجَاهَلُوهُ وَيَتَغَافَلُوا عَنْهُ؛ حَتَّى كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنْ أَزْهَدِ الْأَعْمَالِ، وَأَقَلِّهَا قَدْرًا، وَصَارُوا لَا يُقِيمُونَ لَهَا وَزْنًا فِي حِسَابِ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَبْذُلُونَ لَهَا وَقْتًا مِنْ سَاعَاتِ أَعْمَارِهِمْ؛ بَلْ رُبَّمَا يَسْخَرُ بَعْضُهُمْ بِهَا، وَيَتَّخِذُهَا سُخْرِيَةً وَهُزُوًا وَلَعِبًا، وَيَسْخَرُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- السَّلَامَةَ.

 

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي فَرَضَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى عِبَادِهِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَأَعْظَمُ رُكْنٍ عَمَلِيٍّ فِيهِ؛ هَذِهِ الصَّلَاةُ ضَيَّعَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، إِمَّا إِضَاعَةً كَامِلَةً بِحَيْثُ لَا يُصَلُّونَ، وَإِمَّا إِضَاعَةً جُزْئِيَّةً بِحَيْثُ إِنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيَتْرُكُونَ، أَوْ عَنِ الصَّلَاةِ يَتَهَاوَنُونَ.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يُصَحِّحَ هَذِهِ الْفَرِيضَةَ الْعَظِيمَةَ؛ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَأَدَاءً وَدَعْوَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا صَلَّى عُمُرَهُ كُلَّهُ، وَلَا يُعَدُّ مُصَلِّيًا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عَيْبٌ كَبِيرٌ عَلَى مَنْ آتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- عَقْلًا أَنْ يَرْضَى بِالْجَهْلِ صِفَةً، وَبِالْجَاهِلِينَ أَوْلِيَاءَ وَرُفَقَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ:

قَالَ اللهُ.. قَالَ رَسُولُهُ.. قَالَ الصَّحَابَةُ.. لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ

مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ

فَيُقْبِلُ عَلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَفْهَمُهُمَا بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ فَفِي ذَلِكَ النَّجَاةُ، وَفِي ذَلِكَ السَّعَادَةُ، وَفِي ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ اللَّعْنَةِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّعْنَةَ نَازِلَةٌ بِسَاحَتِهِ، شَامِلَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».

لَقَدْ عَزَفَ النَّاسُ عَنْ سَمَاعِ الْعِلْمِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْبَحْثِ عَنْهُ، يَسْهَرُونَ اللَّيَالِيَ الطِّوَالَ مَشْدُودِينَ أَمَامَ مَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ؛ بَلْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ جَالِسًا وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَمَّا أَحَدُهُمْ؛ فَوَجَدَ فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَجَلَسَ وَرَاءَ الْحَلْقَةِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَانْصَرَفَ مُدْبِرًا، فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلَاثَةِ النَّفَرِ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَآوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ)).

احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، هَذِهِ كَلِمَةُ نَبِيِّكَ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ؛ فَلَا تَقُلْ: لَوْ كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَوْ فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).

عِبَادَ اللهِ! قَالَ رَسُولُكُمْ ﷺ: ((يَا بِلَالُ؛ قُمْ أَرْحِنَا بِهَا))، ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ، وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ، فَلَوْ كَانَ هُنَالِكَ شَيْءٌ هُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؛ لَجَعَلَ قُرَّةَ عَيْنِ رَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ فِيهِ، وَلَكِنْ قَالَ: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))، ((أَرِحْنَا بِهَا))، لَا أَرِحْنَا مِنْهَا!! ((أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ)).

اللهم افْتَحْ لَنَا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَتْحًا مُبَارَكًا، وَاجْعَلْ قُرَّةَ أَعْيُنِنَا فِي نَصْبِ أَقْدَامِنَا فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَالسُّجُودِ لَوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالرُّكُوعِ تَعْظِيمًا لَكَ، إِنَّكَ أَنْتَ مَنْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْإِدْمَانُ وَأَثَرُهُ الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ وَسُبُلُ مُوَاجَهَتِهِ
  إني أحذر ...
  الرد على الملحدين:تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين
  دروس من الهجرة
  بِدع شهر رجب
  خوارج العصر والتكفير
  الْقِيَمُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ
  حُقُوقُ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ
  مَعَانِي الرِّزْقِ وَمَفَاتِيحُهُ
  يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان