تفريغ مقطع : هل الإنسان مسيَّر أم مخير؟

الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ:

النَّاسُ يَتَصَوَّرُونَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الإِيمَانَ بِالقَدَرِ؛ أَنْ تُؤْمِنَ بِمَا وَقَعَ, وَبِمَا أَتَى مِنْكَ مِمَّا أَنْتَ مُخْتَارٌ فِيهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة وَلَنْ يَتَغَيَّرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْء؛ فَكِتَابَتُهُ تَعْنِي الجَبْرَ عَلَى فِعْلِهِ!! وَهَذَا خَطَأ.

مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ: العِلْمُ، وَعِلْمُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيْسَ كَعِلْمِ البَّشَرِ؛ عِلْمُهُ كَامِلٌ شَامِلٌ مُحِيطٌ تَامٌّ، يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُون، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ، الكَونُ كُلُّهُ مَكْشُوفٌ لَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي عِلْمِهِ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالأَفْعَالِ الاخْتِيَارِيَّةِ وَالأَفْعَالِ الاضْطِرَارِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَبْدِ المُخْتَارِ المُكَلَّفِ؛ يَعْلَمْهُ اللَّهُ قَبْلَ خَلْقِهِ؛ بَلْ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة، عَلِمَ مَا سَيَقَعُ مِنْكَ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [المُلك: 14].

فَهُوَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْكَ -صَنْعتُهُ وَخَلْقُهُ-، فَكَتَبَ مَا سَيَقَعُ مِنْكَ مِنَ الأُمُورِ الاخْتِيَارِيَّةِ وَالأُمُورِ الاضْطِرَارِيَّة، ثُمَّ أَعْطَاكَ المَشِيئَةَ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، كَتَبَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَا كَتَبَ مِنْ مَقَادِيرِ الأَشْيَاءِ؛ عَلَى مُقْتَضَى العِلْمِ الكَامِلِ -العِلْم الَّذِي لَا يَتَخَلَّف- فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مِنْكَ مَا هُوَ مَكْتُوب، لَا عَلَى سَبِيلِ الجَبْرِ فِي الاخْتِيَارَاتِ؛ وَلَكِن عَلَى سَبِيلِ سَبْقِ العِلْمِ فِيهَا، فَلَيْسَ مَعْنَى أَنَّهُ كَتَبَ مَا سَيَقَعُ مِنْكَ اخْتِيَارًا؛ أَنَّهُ قَدْ أَجْبَرَكَ عَلَيْهِ!!

صَحِيحٌ أَنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ تَفْعَلَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مُقْتَضَى العِلْم، وَالعِلْم لَا يَتَخَلَّف، عِلْمُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَسْبُوقٍ بِجَهْلٍ وَلَا مَلْحُوقٍ بِنِسْيَانٍ، عِلْمٌ كَامِلٌ؛ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ؛ فَكَتَبَهُ وَأَعْطَاكَ الاخْتِيَار وَالمَشِيئَةَ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، فَأَنْتَ تَخْتَارُ وَتُفَرِّقُ بَيْنَ مَا أَنْتَ مُخْتَارٌ فِيهِ وَمَا أَنْتَ مُضْطَرٌّ عَلَيْهِ.

كُلُّ إِنْسَانٍ عَاقِلٍ آتَاهُ اللَّهُ ذَرْوًا مِنَ العَقْلِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُوَ مُجْبَرٌ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا هُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ، هَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ بَيَانٍ، هَذِهِ فِطْرَةٌ فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، يُفَرِّقُ الإِنْسَانُ بَيْنَ مَا هُوَ مُخَتَارٌ فِيهِ؛ يَفْعَلهُ بِمَحْضِ اخْتِيَارِهِ -بِرَغْبَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ- وَبَيْنَ مَا هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى فِعْلِهِ.

فَالإِنْسَانُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَقَدْ أَعْطَى الإِنْسَانَ المَشِيئَةَ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَالإِرَادَةَ لِلاخْتِيَارِ, وَأَعْطَاهُ القُدْرَةَ عَلَى تَنْفِيذِ الفِعْلِ المُخْتَارِ, وَعَلِمَ مَا سَيَكُونُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ؛ فَكَتَبَهُ، وَيَأْتِي فِعْلُهُ مُطَابِقًا لِمَا كَتَبَهُ اللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، فَأَيْنَ هُوَ الجَبْرُ إِذَنْ؟!!

الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ الجَبْرَ قَوْمٌ مُغَفَّلُونَ لَيْسَت لَهُم عُقُولٌ، وَيَكْفِي أَنْ تَصْفَعَ الوَاحِدَ مِنْهُم عَلَى قَفَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ الإِنْسَانَ مُسَيَّرٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ؛ مُجْبَرٌ عَلَى كُلِّ فِعْل، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَّا مَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ!!

فَإِذَا صَفَعْتَهُ عَلَى قَفَاهُ؛ فَاعْتَرَضَ عَلَيْكَ؛ فَقَدْ هَدَمَ مَذْهَبَهُ، تَقُولُ: إِنَّ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِكَ أَنْ تُقِرَّ بِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنِّي أَنَا مُجْبَرٌ عَلَيْهِ، فَصَفْعِي إِيَّاكَ عَلَى قَفَاكَ إِنَّمَا كَانَ رَغْمًا عَنِّي، أَنَا مُجْبَرٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ تُحَاسِبُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ أُجْبِرْتُ عَلَيْهِ؟

الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الإِنْسَانَ مُجْبَرٌ عَلَى ذُلِّهِ وَهَوَانِهِ وَخُسْرَانِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَذَنْبِهِ؛ يَتَّهِمُونَ اللَّهَ بِالظُّلْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا كَانَ قَدْ أَجْبَرَ الإِنْسَانَ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ الشَّرَّ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ وَيُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ ظَلَمَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ إِلَّا مَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْم.

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالجَبْرِ يَتَّهِمُونَ اللَّهَ بِالعَبَثِ؛ لِأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ الخَيْرَ؛ فَهُوَ عِنْدَهُم فِي اعْتِقَادِهِم قَدْ أُجْبِرَ عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ، فَاللَّهُ يَجْبُرُهُ عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ ثُمَّ يُثِيبُهُ عَلَيْهِ؛ هَذَا عَبْث، لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَار فِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَفْعَلْ.

وَأَمَّا خَلْقُ الإِنْسَان فَالحِكْمَةُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، خَلَقَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ لِكَيْ تَخْتَارَ، لِكَيْ تَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ بِمَلْكِكَ، لِتَعُودَ إِلَى اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ بِإِرَادَتِكَ، وَبَيَّنَ لَكَ السَّبِيلَ, وَأَرْسَلَ إِلَيْكَ الرَّسُولَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ, وَوَضَّحَ لَكَ النَّهْجَ, وَبَيَّنَ لَكَ مَا يَكُونُ لَكَ مِنَ الوَعْدِ وَالجَزَاءِ الحَسَن، إِنْ سِرْتَ فِي السَّبِيلِ السَّوِيَّةِ وَنَهْجَتَ الطَّرِيقَةَ المَرْضِيَّة، وَبَيَّنَ لَكَ مَا يَكُونُ لَكَ مِنَ العَذَابِ وَالعِقَابِ إِذَا مَا خَالَفْتَ الصَّوَابَ.

إِذَنْ؛ فَأَنْتَ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيق، أَنْتَ الَّذِي تَخْتَارُ، فِي الأُمُورِ الاخْتِيَارِيَّةِ؛ الاخْتِيَارُ مِنْكَ أَنْتَ, وَأَنْتَ مُحَاسَبٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَضِيَتَ الأُمَّةُ بِذُلِّهَا وَهَوَانِهَا؛ فَقَدْ هَانَت عَلَى نَفْسِهَا فَهَانَت عَلَى أَعْدَائِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ طَبْعِيٌ فِطْرِيٌ غَرِيزِيٌ فِي الإِنْسَانِ، إِذَا هُنْتَ عَلَى نَفْسِكَ هُنْتَ عَلَى غَيْرِكَ، أَوْ كَانَ هَوَانُكَ عَلَى غَيْرِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  يتزوج امرأته مرتين مرة عند المأذون ومرة في المسجد... يعقد في المعقود!!
  حَوْلَ زِلْزَالِ تُرْكِيَا وَسُورِيَّا
  لا تتكلم فيما لا يعنيك، وَفِّر طاقةَ عقلِك وطاقةَ قلبِك, واحفظ على نفسِك وقتَك
  القول على الله بلا علم سيضيعُ الأمة...اصمتوا رحمكم الله!!
  يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِيرُ!
  هل أنت من الذين يخوضون في الأعراض ويكشفون الأسرار ويفضحون المسلمين استمع لعقوبتك
  هَلْ تَستَطِيعُ أَنْ تَعْقِدَ الْخِنْصَرَ عَلَى أَخٍ لَكَ فِي اللَّهِ؟ أَيْنَ هُوَ؟!!
  تكبيرة الاحرام وصفتها __ كيفية وضع اليدين على الصدر __ النظر إلى موضع السجود
  تَعَرَّف عَلَى أَنْوَاعِ الإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى
  هو الله
  لم يحدث قط أن عم العري والتبرج ديار المسلمين كما هو في هذا العصر
  الناس في حيرة يتلددون
  إذا سُرِقَ من بيتهِ مالًا؛ اتهمَ الشيطانََ
  لن يستطيعَ أنْ يَرُدَّ على أفكارِ التكفيرِ والتفجيرِ إلَّا أَهْل السُّنَّة
  تَحذِيرٌ هَامٌّ لطُلَّابِ العِلْمِ: احْذَرُوا هَذَا الخُلُق العَفِن!!
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان