((الْبِيئَةُ هِيَ الرَّحِمُ الثَّانِي وَالْأُمُّ الْكُبْرَى))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مُهِمَّةُ إِعْمَارِ الْأَرْضِ))
فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَكَرَّمَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا خَلَقَهُ، وَأَنَاطَ بِهِ مُهِمَّةَ عِمَارَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ آدَمُ وَبَنُو آدَمَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
وَهَذَا التَّسْخِيرُ يَحْمِلُ فِي طِيَّاتِهِ كُلَّ مَظَاهِرِ التَّكْرِيمِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ لِعِمَارَتِهَا، وَعِمَارَتُهَا بِعِبَادَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَبِالْقِيَامِ عَلَى مَا يُصْلِحُهَا.
وَقَدْ زَوَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانَ بِكُلِّ وَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَسَلَّحَهُ بِكُلِّ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى قِيَادَةِ دِفَّةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِدَارَةِ دَوَالِيبِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَلِكَيْ لَا يَضِلَّ وَلَا يَشْقَى بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ فِيهَا الشَّرَائِعُ وَالْحَقُّ الْمُبِينُ، وَعَلَّمَهُمْ أُصُولَ التَّعَايُشِ وَمَبَادِئَ التَّعَامُلِ، وَلَفَتَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى ضَرُورَةِ الِالْتِزَامِ بِآدَابِ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَم يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَأَشْعَرَهُمْ عِظَمَ الْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْإِخْلَالِ وَالتَّقْصِيرِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
((أَخْبَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ امْتَنَّ عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا مَكَّنَ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا، وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَنَازِلَ وَبُيُوتًا، وَأَبَاحَ مَنَافِعَهَا، وَسَخَّرَ لَهُمُ السَّحَابَ لِإِخْرَاجِ أَرْزَاقِهِمْ مِنْهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، أَيْ: مَكَاسِبَ وَأَسْبَابًا يَتَّجِرُونَ فِيهَا، وَيَتَسَبَّبُونَ أَنْوَاعَ الْأَسْبَابِ، وَأَكْثَرُهُمْ مَعَ هَذَا قَلِيلُ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 34])).
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10].
((يَقُولُ -تَعَالَى- مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ الْمَسْكَنِ وَالْمَعِيشَةِ: {وَلَقَدْ مَكَّنَاكُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: هَيَّأْنَاهَا لَكُمْ؛ بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، وَحَرْثِهَا، وَوُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، وَمَعَادِنِ الْأَرْضِ، وَأَنْوَاعِ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي هَيَّأَهَا، وَسَخَّرَ أَسْبَابَهَا.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ، وَصَرَفَ عَنْكُمُ النِّقَمَ)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 19-21].
(({وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أَيْ: وَسَّعْنَاهَا سَعَةً يَتَمَكَّنُ الْآدَمِيُّونَ وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا مِنَ الِامْتِدَادِ بِأَرْجَائِهَا، وَالتَّنَاوُلِ مِنْ أَرْزَاقِهَا، وَالسُّكُونِ فِي نَوَاحِيهَا.
{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أَيْ: جِبَالًا عِظَامًا تَحْفَظُ الْأَرْضَ -بِإِذْنِ اللهِ- أَنْ تَمِيدَ، وَتُثَبِّتُهَا أَنْ تَزُولَ.
{وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} أَيْ: نَافِعٍ مُتَقَوِّمٍ، يَضْطَرُّ إِلَيْهِ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ مَا بَيْنَ نَخِيلٍ، وَأَعْنَابٍ، وَأَصْنَافِ الْأَشْجَارِ، وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} مِنَ الْحَرْثِ، وَمِنَ الْمَاشِيَةِ، وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالْحِرَفِ.
{وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أَيْ: أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِعَبِيدٍ وَإِمَاءٍ، وَأَنْعَامٍ لِنَفْعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ رِزْقُهَا، بَلْ خَوَّلَكُمُ اللهُ إِيَّاهَا، وَتَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِهَا.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أَيْ: جَمِيعُ الْأَرْزَاقِ وَأَصْنَافِ الْأَقْدَارِ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، فَخَزَائِنُهَا بِيَدِهِ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ.
{وَمَا نُنَزِّلُهُ} أَيْ: الْمُقَدَّرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ {إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ)).
((إِعْمَارُ الْأَرْضِ بِالتَّوْحِيدِ وَخَرَابُهَا بِالشِّرْكِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الْبَشَرِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَاجَاتِ الْمَادِّيَّةِ وَحْدَهَا؛ فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ وَهَبَ عِبَادَهُ مَنَاهِجَ يَتَحَقَّقُ بِهَا لَهُمْ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ، وَوَعَدَهُمْ -إِنْ هُمُ اتَّبَعُوا مَنْهَجَهُ- بِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123].
((يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَمَرَ آدَمَ وَإِبْلِيسَ أَنْ يَهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأَنْ يَتَّخِذُوا الشَّيْطَانَ عَدُوًّا لَهُمْ، فَيَأْخُذُوا الْحَذَرَ مِنْهُ، وَيَعُدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَيُحَارِبُوهُ، وَأَنَّهُ سَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ كُتُبًا، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا يُبَيِّنُونَ لَهُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ، وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْ هَذَا الْعَدُوِّ الْمُبِينِ، وَأَنَّهُمْ أَيَّ وَقْتٍ جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْكُتُبُ وَالرُّسُلُ؛ فَإِنَّ مَنِ اتَّبَعَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نُهِيَ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَشْقَى فِيهِمَا، بَلْ قَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ السَّعَادَةُ وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ نَفَى عَنْهُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وَاتِّبَاعُ الْهُدَى بِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ، وَعَدَمِ مُعَارَضَتِهِ بِالشُّبَهِ، وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ بِأَلَّا يُعَارِضَهُ بِشَهْوَةٍ)).
الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعُهُمْ بُعِثُوا بِالْإِصْلَاحِ وَالصَّلَاحِ، وَنَهَوْا عَنِ الشُّرُورِ وَالْفَسَادِ؛ فَكُلُّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ فَهُوَ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَخُصُوصًا إِمَامَهُمْ وَخَاتَمَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ؛ فَإِنَّهُ أَبْدَى وَأَعَادَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَوَضَعَ لِلْخَلْقِ الْأُصُولَ النَّافِعَةَ الَّتِي يَجْرُونَ عَلَيْهَا فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا وَضَعَ لَهُمُ الْأُصُولَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ.
إِنَّ أَعْظَمَ سُبُلِ إِعْمَارِ الْأَرْضِ وَإِصْلَاحِهَا تَوْحِيدُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَكْبَرَ سُبُلِ خَرَابِ الْأَرْضِ وَالْعَالَمِ الشِّرْكُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا؛ لِنَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ، وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَلِأَجْلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ؛ فَلِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِأَجْلِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَانَ هَذَا كُلُّهُ.
التَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوَّلُ أَوَامِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَوَجَّهَ بِهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَوَّلِ أَمْرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَأَرْسَلَ لِأَجْلِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ لِأَجْلِهِ الْكُتُبَ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَحَدٍ أَخَلَّ بِهِ عَمَلًا.
إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ تَارِيخًا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ خَلْقِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَذُرِّيَّتِهِ هِيَ: عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وَآدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبُو الْبَشَرِ وَحَوَّاءُ أُمُّهُمْ، وَقَدْ كَانَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَحِينَ أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ عَلِمَا أَنَّ لَهُمَا رَبًّا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ؛ فَتَضَرَّعَا إِلَيْهِ قَائِلَيْنِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وَقَدْ أَخَذَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى آدَمَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَكَذَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَهُمْ فِي صُلْبِ أَبِيهِمْ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172-173].
وَذُرِّيَّةُ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَدِينُونَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ طِيلَةَ عَشَرَةِ قُرُونٍ، حَتَّى حَدَثَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَبَعَثَ اللهُ تَعَاَلى إِلَيْهِمْ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
وَكُلَّمَا انْحَرَفَتِ الْبَشَرِيَّةُ عَنِ التَّوْحِيدِ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ، تَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتَدْعُو إِلَى نَبْذِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ ﷺ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ تَارِيخًا، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ فِطْرَةً؛ يَعْنِي أَصْلَ الْخِلْقَةِ، وَهِيَ مَا أَوْجَدَ اللهُ عَلَيْهِ النَّاسَ ابْتِدَاءً مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَوْحِيدِهِ.
فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مُنْذُ أَوْجَدَ الْبَشَرَ فَطَرَهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِهِ خَالِقًا وَمَعْبُودًا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ مُنْذُ كَانُوا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ.
وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَمَرَ رَسُولَهُ ﷺ -وَأُمَّتُهُ دَاخِلَةٌ في الْخِطَابِ- أَمَرَهُمْ: أَنْ يُقِيمُوا وُجُوهَهُمْ وَيُخْلِصُوا دِينَهُمْ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
وَقَدْ أَخْبَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: أَنَّهُ خَلَقَ عِبَادَهُ حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، مُوَحِّدِينَ مُسْلِمِينَ مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْحَقِّ قَابِلِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ فِي الذَّرِّ.
يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ»: ((وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزلْ بِهِ سُلْطَانًا)).
فَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ لِلشَّيَاطِينِ دَوْرٌ فِي مَسْخِ الْفِطْرَةِ وَتَشْوِيهِهَا.
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مُهَيَّأً لِلْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ)) .
إِنَّ الْفِطْرَةَ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْفِطْرَةُ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّ اللهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ؛ فَلَابُدَّ أَنْ يَصْرِفَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
فَالْإِنْسَانُ إِذَا آمَنَ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- هُوَ الْخَالِقُ، وَهُوَ الرَّزَّاقُ، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيْمَنَعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَأَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ.
فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَخْضَعَ لَهُ قَلْبُهُ؛ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَذُلًّا، وَخَوْفًا وَخَشْيَةً وَتَوَكُّلًا؛ إِذْ كَيْفَ يَعْبُدُ أَوْ يَخَافُ أَوْ يُحِبُّ مَحَبَّةَ عِبَادَةٍ، أَوْ يَتَوَكَّلُ عَلَى مَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
{وَمَا خَلَقْتُ} أَيْ: أَوْجَدْتُ إِيجَادًا مَسْبُوقًا بِالتَّقْدِيرِ.
{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ: مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَيِّ شَيْءٍ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَعْبُدُونِ}: لِتَعْلِيلِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْخَلْقِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا}: أَيْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: فِي كُلِّ طَائِفَةٍ، وَقَرْنٍ، وَجِيلٍ مِنَ النَّاسِ {رَسُولًا}: الرَّسُولُ: مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، {أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ}: أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، {وَاجْتَنِبُوا}: وَاتْرُكُوا وَفَارِقُوا {الطَّاغُوتَ}: مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ.
الطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ -كَالْأَصْنَامِ-، أَوْ مَتْبُوعٍ -كَالْكُهَّانِ، وَالسَّحَرَةِ-، أَوْ مُطَاعٍ -كَمَنْ تَوَلَّى أَمْرًا وَأَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ--؛ فَلَا يُنَفَّذُ أَمْرُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَتَنْبَغِي طَاعَتُهُ فِيمَا سِوَاهُ.
قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [الإنسان:36].
بَيَّنَ لنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ.
وَالْعِبَادَةُ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَأَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ، وَوَصَّى، وَأَوْجَبَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ.
الشِّرْكُ سَبَبٌ فِي خَرَابِ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا مَا انْفَرَطَ عِقْدُ التَّوْحِيدِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَبَقِيَ فِي الْأَرْضِ شِرَارُ الْخَلْقِ؛ جَاءَتِ السَّاعَةُ، وَجَاءَ خَرَابُ الْعَالَمِ، وَانْحَلَّ عِقْدُهُ مُنْفَرِطًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، يَتَهَارَجُونَ كَمَا تَتَهَارَجُ الْحُمُرُ، حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ، وَيَصِيرُ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ، لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا، وَلَا يُوَحِّدُونَ، فَحِينَئِذٍ يَحِقُّ الْخَرَابُ عَلَى الْعَالَمِ، وَكُلَّمَا بَعُدَ النَّاسُ عَنِ الْعِبَادَةِ الْحَقَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَاءَهُمْ مِمَّا يَسُؤُوهُمْ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ، فَإِذَا عَادُوا إِلَى رَبِّهِمْ رَفَعَ اللهُ عَنْهُمْ كُرُوبَهُمْ.
وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرِ الشِّرْكُ.
فَالْخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ.
إِنَّ التَّوْحِيدَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِذَا مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ، وَحَفِظَهَا عِلْمًا وَعَمَلًا؛ فَعَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ زَوَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، بِمَعْرِفَةِ مَا يُضَادُّهَا -وَهُوَ الشِّرْكُ-، وَالْخَوْفِ مِنْهُ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
وَقَالَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ}: اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ، وَاجْعَلْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ آخَرَ.
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَالصَّنَمُ: مَا كَانَ مَنْحُوتًا عَلَى شَكْلٍ صُورَةٍ.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ: فَهُوَ صِدْقُ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ وَالِاعْتِصَامِ بِهِ، وَأَنْ يُفَتِّشَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِهِ وذَرَائِعِهِ -أَيْ: وَسَاَئلِهِ-، وَمَهَالِكِهِ؛ فَيَحْذَرَ مِنْهُ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
الشِّرْكُ: هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، وَأَقْبَحُ الْقَبَائِحِ؛ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
الْغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ سَبَبُ أَوَّلِ شِرْكٍ فِي الْأَرْضِ:
لَقَدْ كَانَتِ الْبَشَرِيَّةُ الْأُولَى عَلَى الْإِسْلَامِ طِيلَةَ عَشَرَةِ قُرُونٍ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213]. قَالَ: ((كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ)) .
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَصْلُ الْبَشَرِيَّةِ، مُنْذُ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَتَّى وَقَعَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
فَأَوَّلُ شِرْكٍ وَقَعَ فِي الْخَلِيقَةِ هُوَ: شِرْكُ قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَسَبَبُ كُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمْ دِينَهُمْ هُوَ غُلُوُّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ، فَمَعْبُودَاتُهُمْ الَّتِي عَكَفُوا عَلَيْهَا وَتَعَصَّبُوا لَهَا وَقَالُوا عَنْهَا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسرًا} [نوح: 23].
هِيَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ؛ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ.
إِذَنْ، الشِّرْكُ طَارِئٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِهِ؛ لِأَنَّنَا بِذَلِكَ نَعُودُ إِلَى مَا فَطَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، مُوَحِّدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حُنَفَاءَ، مُقِرِّينَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَكَمَالِ الْأَسْمَاءِ ِوَالصِّفَاتِ.
مِنَ الشِّرْكِ: أَنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِ اللهِ، أَوْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ:
الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغَاثَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُصْرَفُ للهِ وَحْدَهُ، وَمَنْ صَرَفَ لِغَيْرِ اللهِ شَيْئًا مِنْ خَصَائِصِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ.
الِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْإِنْقَاذُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْهَلَاكِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
* الْأَوَّلُ: الِاسْتِغَاثَةُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَمِنْ أَكْمَلِهَا، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] أَيْ: مُتَتَابِعِينَ.
فَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الِاسْتِغَاثَةُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
* الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِغَاثَةِ: الِاسْتِغَاثَةُ بِالْأَمْوَاتِ، أَوْ بِالْأَحْيَاءِ غَيْرِ الْحَاضِرِينَ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الْإِغَاثَةِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ تَصَرُّفًا خَفِيًّا فِي الْكَوْنِ؛ فَيَجْعَلُ لَهُمْ حَظًّا فِي الرُّبُوبِيَّةِ -وَا أَسَفَاهُ-.
* أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الِاسْتِغَاثَةِ: فَالِاسْتِغَاثَةُ بِالْأَحْيَاءِ الْعَالِمِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْإِغَاثَةِ، فَهَذَا جَائِزٌ؛ كَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فِي قِصَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} [القصص: 15].
* الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِغَاثَةِ: الِاسْتِغَاثَةُ بِحَيٍّ غَيْرِ قَادِرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ لَهُ قُوَّةً خَفِيَّةً؛ كَمَنْ يَسْتَغِيثُ بِمَشْلُولٍ لِيُنْقِذَهُ مِنَ الْغَرَقِ، فَهَذَا لَغْوٌ وَسُخْرِيَةٌ.
وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ:
قَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14].
الدُّعَاءُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أَيْ: أُجِبْ دُعَاءَكُمْ وَأَعْفُ عَنْكُمْ، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أَيْ: يَتَعَظَّمُونَ عَنْ إِفْرَادِي بِالْعِبَادَةِ وَحْدِي، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] أَيْ: أَذِلَّةً صَاغِرِينَ.
وَقَالَ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ بَلَاغَةً مِنْ ذَلِكَ الضَّعِيفِ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ مَا يُرْوَى عَنْهُ ﷺ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَضَعَّفَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ضَعِيفِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ.
((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) الْجُمْلَةُ مُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ، وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَكَذَلِكَ أُتِيَ بِهَذَا الضَّمِيرِ -ضَمِيرِ الْفَصْلِ-؛ هُوَ أَيْضًا مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ، فَهَذَا أَبْلَغُ بَلَاغَةً مِنْ ذَلِكَ الضَّعِيفِ؛ هَذَا الصَّحِيحُ يُغْنِي، ضَمِيرُ الْفَصْلِ هَاهُنَا بَارِزٌ ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَذَوُّقٍ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ.
((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)): فَمَنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِشَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْعُوُّ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَمَنْ دَعَا حَيًّا بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُولَ: يَا فُلَانُ أَطْعِمْنِي، يَا فُلَانُ اسْقِنِي؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
الدُّعَاءُ أَعَمُّ مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ مَكْرُوبٍ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَالِاسْتِغَاثَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَكْرُوبِ.
وَيَنْقَسِمُ الدُّعَاءُ إِلَى قِسْمَيْنِ: دُعَاءِ عِبَادَةٍ، وَدُعَاءِ مَسْأَلَةٍ.
- دُعَاءُ الْعِبَادَةِ هُوَ: كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ -وَهَذَا مُهِمٌّ أَنْ نَعْلَمَهُ-، وَهُوَ أَنَّنَا إِذَا كُنَّا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَنَحْنُ فِي دُعَاءٍ لِرَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُوَ دُعَاءُ الْعِبَادَةِ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَيَجِبُ أَنْ يُصْرَفَ للهِ – تَعَالَى- وَحْدَهُ، وَصَرْفُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- شِرْكٌ أَكْبَرُ.
- وَأَمَّا دُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ: طَلَبُ مَا يَنْفَعُ الدَّاعِيَ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ؛ كَأَنْ يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ صِحَّةً فِي بَدَنِهِ، أَوْ كَشْفَ بَلَاءٍ حَلَّ بِهِ.
مَنْ دَعَا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ أَوِ الْغَائِبَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ بِمِثْلِ هَذَا، فَدُعَاؤُهُ إِيَّاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ تَصَرُّفًا فِي الْكَوْنِ؛ فَيَكُونُ بِذَلِكَ مُشْرِكًا، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14].
فَكَيْفَ يُصْرَفُ الدُّعَاءُ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْأَحْجَارِ، وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَالْغَائِبِينَ؟!!
كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَكُلُّ ذَلِكَ شِرْكٌ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَأَيْنَ هُوَ الْمُسْلِمُ الَّذِي يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ مِنْ مَيِّتٍ أَوْ غَيْرِ حَاضِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُجِيبَ فِيمَا دُعِيَ إِلَيْهِ وَبِهِ؟!
إِنَّكَ لَتَسْمَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمْ جَالِسًا، وَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ يَقُولُ: يَا سَيِّد! فَيَدْعُو الْبَدَوِيَّ؛ فَهَذَا دُعَاءٌ، وَتَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ مِنْ مَيِّتٍ صَارَ رِمَّةً فِي قَبْرِهِ!! فَهَذَا هُوَ الدُّعَاءُ.
الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغَاثَةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تُصْرَفُ إِلَّا للهِ -جَلَّ وَعَلَا- -وَهِيَ أَنْوَاعٌ كَمَا مَرَّ-، وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ شَحِيحٍ بِدِينِهِ، حَرِيصٍ عَلَى تَوْحِيدِهِ أَنْ يَعْرِفَ الْأَقْسَامَ، وَأَنْ يَفْهَمَهَا، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَلَّا يَتَوَرَّطَ فِي أَمْرٍ يُؤَدِّي بِهِ وَيُفْضِي بِهِ إِلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ - عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106].
{مَا لَا يَنفَعُكَ} إِنْ عَبَدْتَهُ، {وَلَا يَضُرُّكَ} إِنْ لَمْ تَعْبُدْهُ.
{فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] أَيْ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}: الضُّرُّ :كُلُّ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ؛ مِنْ فَقْرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شِرْكٌ أَكْبَرُ يُنَافِي التَّوْحِيدَ، وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدًا مِنْ دُونِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ الْعَاجِزِينَ عَنْ إِيصَالِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَالنَّهْيُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ؛ وَلَكِنْ خَاطَبَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لِيَتَأَسَّى بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ مُبَرَّأٌ مِنْهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ -سُبْحَانَهُ- لِنَبِيِّهِ ﷺ: أَنَّهُ لَوْ دَعَا غَيْرَهُ لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}.
فَدُعَاءُ الْأَمْوَاتِ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِمْ شِرْكٌ أَكْبَرُ يُنَافِي التَّوْحِيدَ؛ فَالْمَيِّتُ قَدِ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، فَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَدْعُو لَهُ؛ فَكَيْفَ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟!
هُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْفَعَ غَيْرَهُ، فَاللّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ هُوَ كَاشِفُ الضُّرِّ، وَمَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضُّرِّ لَا يَكْشِفُهُ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ فَلَا أَحَدَ يَرُدُّ فَضْلَهُ.
قَالَ ﷺ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللّهَ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَاللهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْمُلْكِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَدْعُوَّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْزِلَ حَوَائِجَهُ بِرَبِّهِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِينَ، وَيُفَرِّجُ كُرُوبَ الْمَكْرُوبِينَ، قَالَ اللّهُ تَعَالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
قَالَ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
{فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أَيْ: فَاطْلُبُوهُ.
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5].
{وَمَنْ أَضَلُّ} أَيْ: لَا أَحَدَ أَشَدُّ ضَلَالًا {مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ}: لَا يَقْدِرُ عَلَى إِجَابَتِهِ بِإِعْطَائِهِ مَا طَلَبَ مِنْهُ، وَيَتَبَرَّؤُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُمْ زِيَادَةً عَلَى عَجْزِهِمْ.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ} أَيْ: الْمَدْعُوُّونَ {عَن دُعَائِهِم} أَيْ: عَنْ دُعَاءِ مَنْ دَعَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {غَافِلُونَ}: لَا يَشْعُرُونَ بِدُعَاءِ مَنْ دَعَاهُمْ.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} أَيْ: جُمِعُوا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}: يَتَبَرَّؤُونَ مِمَّنْ دَعَاهُمْ، وَيُعَادُونَهُمْ.
فَالرِّزْقُ لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ -سُبحَانَهُ- فِي الْآيَةِ الْأُولَى صِفَةَ الرِّزْقِ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ، هِيَ:
- طَلَبُ الرِّزْقِ مِنْهُ وَحْدَهُ؛ كَأَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي عِلْمًا نَافِعًا، أَوْ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي مَالًا حَلَالًا، فَهُوَ -سُبحَانَهُ- الْمُتَفَرِّدُ بِالرِّزْقِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]
- وَالْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي أَمَرَ اللهُ -تَعَاَلى- بِهِ عِبَادَهُ: عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَلَا يَدْعُو غَيْرَهُ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَاعْبُدُوهُ}.
- وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ فَهُوَ شُكْرُ اللَّهِ عَلَى نِعَمِهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَاشْكُرُوا لَهُ} وَالشُّكْرُ يَكُونُ مُتَحَقِّقًا إِذَا اسْتَكْمَلَ أَرْكَانَهُ فَجِيءَ بِه بِالْقَلْبِ، وَبِاللِّسَانِ، وَبِالْجَوَارِحِ.
وَالشُّكْرُ لَابُدَّ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَرْكَانِ:
* أَنْ يَشْكُرَ بِقَلْبِهِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِقَلْبِهِ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ.
* وَأَنْ يَشْكُرَ بِلِسَانِهِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَحَدَّثَ بِالنِّعْمَةِ عَلَى وَجْهِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ.
* وَأَنْ يُصَرِّفَ النِّعْمَةَ فِيمَا جَعَلَهَا اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَعْمِلَ النِّعَمَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ؛ كَنِعْمَةِ الْجَوَارِحِ -مَثَلًا- مِنْ سَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ، يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ؛ كَسَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَيَحْفَظُهَا عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ؛ كَسَمَاعِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ وَالْغِيبَةِ.
وَأَمَّا مَنْ يَدْعُو غَيْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَضَلُّ الضَّالِّينَ؛ فَإِنَّ اللّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَمَنْ دَعَا غَيْرَهُ فَهُوَ أَضَلُّ الضَّالِّينَ؛ وَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ، مِنْهَا:
* أَنَّ الْمَدْعُوَّ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ وَلَوْ دَعَاهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
* وَأَنَّهُمْ –يَعْنِي: الْمَدْعُوِّينَ- غَافِلُونَ عَنْ دُعَائِهِمْ.
* وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ لَهُمْ أَعْدَاءً.
* وَأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ.
فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَافٍ فِي ضَلَالِ مَنْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ؛ فَكَيْفَ وَهِيَ مُجْتَمِعَةٌ!
وَقَالَ تَعَالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} أَيْ: مَنْ هُوَ الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ، وَهُوَ الْمَكْرُوبُ الَّذِي مَسَّهُ الضُّرُّ، {وَيَكْشِفُ السُّوءَ}.
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} خُلَفَاءَ الْأَرْضِ: الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى: مِنْ، أَيْ: يَخْلُفُ كُلُّ قَرْنٍ الْقَرْنَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْأَرْضِ.
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ} أَيْ: أَسِوَاهُ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِكُمْ، وَيُنْعِمُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ؟!
{قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} أَيْ: تَذَكَّرُونَ تَذَكُّرًا قَلِيلًا فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ؛ فَلِذَلِكَ أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ.
فَلَا يُسْتَغَاثُ إِلَّا بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي بُطْلَانِ اتِّخَاذِهِمُ الشُّفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ وَأَقَرُّوا بِهِ؛ مِنْ إِجَابَةِ اللَّهِ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُ فِي حَالِ الشِّدَّةِ، وَكَشْفِ السُّوءِ النَّازِلِ بِهِمْ، وَجَعْلِهِمْ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، فَإِذَا كَانَتْ آلِهَتُهُمْ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهَا مَعَ اللَّهِ؟!
قَالَ تَعَالى: {أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ}؟!! فَمَا أَقَلَّ تَنَكُّرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191].
{أَيُشْرِكُونَ}: اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى مَنْ يُشْرِكُ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ اللهِ.
{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا} أَيْ: مَخْلُوقَاتٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ.
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ}: وَهَؤُلَاءِ الْمَعْبُودُونَ مَخْلُوقُونَ مُحْدَثُونَ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ شَرِيكًا لِلْخَالِقِ بِحَالٍ.
فَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هُوَ الْخَالِقُ، وَهُوَ الْمَالِكُ، هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الدُّعَاءَ، هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْإِجَابَةِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ؛ لِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} أَيْ: وَهَؤُلَاءِ الْمَعْبُودُونَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَصْرِ عَابِدِيهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا {وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} أَيْ: وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الضُّرِّ؛ فَكَيْفَ يَدْفَعُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ؟! وَكَيْفَ يَنْصُرُونَهُمْ؟!
وَقَدْ وَبَّخَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْمُشْرِكِينَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَبَيَّنَ عَجْزَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ مِنْ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَعْبُودَةً؛ وَذَلِكَ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا، وَمَنْ لَا يَخْلُقُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، قَالَ تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا}، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ، قَالَ تَعَالى: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وَهِيَ لَا تَسْتَطِيعُ نَصْرَ مَنْ يَدْعُوهَا، {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} .
وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وعَلَى أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ الْمُدَبِّرُ، الَّذِي يَنْصُرُ عِبَادَهُ الْمُوَحِّدِينَ دُونَ سِوَاهُ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَضَلَالِ أَهْلِهِ.
وتَعْجَبُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشَاعِرَةِ، وَفِيهِمْ أَذْكِيَاءُ وَأَصْحَابُ عُقُولٍ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِمَّا يُنَافِي الْعَقْلَ جُمْلَةً!
وَلَكِنْ هُنَاكَ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: إِلْفُ مَا وَجَدُوهُ فَاعْتَقَدُوهُ؛ فَهُمْ لَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ، وَلَا يُرَاجِعُونَهُ، فَتَعْجَبُ مِنَ الْمُشْرِكِ الَّذِي يَأْتِي بِقِطْعَةِ الْخَشَبِ يُنَجِّرُهَا، ثُمَّ يُقِيمُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَدْعُوهَا، وَيَتَشَفَّعُ بِهَا عِنْدَ اللهِ، وَهُوَ صَنَعَهَا بِيَدِهِ!! بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَتَّخِذُ الصَّنَمَ، فَيَأْتِي الثَّعْلَبُ فِي اللَّيْلِ فَيَبُولُ عَلَى رَأْسِ الصَّنَمِ، فَيَنْتَبِهُ بَعْضَ الِانْتِبَاهِ فَيَقُولُ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ = وَلَا خَيْرَ فِي رَبٍّ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
بَلْ بَعْضُهُمْ كَانَ يَتَّخِذُ الصَّنَمَ مِنَ الْعَجْوَةِ، فَإِذَا جَاعَ أَكَلَهُ، فَيَأْكُلُ إِلَهَهُ!! فَيَتَّخِذُونَ هَذِهِ مَعْبُودَاتٍ وَآلِهَةً؛ فَأَيْنَ الْعُقُولُ؟!!
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14].
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أَيْ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَصْنَامِ، وَغَيْرِهِمْ {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}: وَالْقِطْمِيرُ هُوَ: الْقِشْرَةُ الَّتِي عَلَى نَوَاةِ التَّمْرَةِ؛ اللُّفَافَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوَاةِ التَّمْرِ.
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}؛ لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، أَوْ مَلَائِكَةٌ مَشْغُولُونَ لِمَا خُلِقُوا لَهُ.
{وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}:لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}: يُنْكِرُونَهُ، وَيَتَبَرَّؤُونَ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِمْ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
{وَلَا يُنَبِّئُكَ} أَيْ: وَلَا يُخْبِرُكَ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا {مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14-13] عَالِمٍ بِهَا، وَهُوَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
الشِّرْكُ: تَعَلُّقٌ بِمَخْلُوقٍ عَاجِزٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الضُّرَّ، وَلَا أَنْ يَجْلِبَ إِلَى نَفْسِهِ النَّفْعَ، وَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا حَيَاةً وَلَا مَوْتًا وَلَا نُشُورًا.
لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَلَالَ هَؤُلَاءِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ حُجَّةً بَعْدَ حُجَّةٍ -كَمَا مَرَّ فِي الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْ-، وَسَاقَ -أَيْضًا- الْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَخْبَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ وَحْدَهُ، وَجَمِيعُ الْخَلْقِ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ؛ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ لِتَفَرُّدِهِ بِصِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ كَالْمُلْكِ، وَسَمَاعِ الدُّعَاءِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِجَابَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ عَجْزِ تِلْكَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
* عَدَمُ الْمُلْكِ: إِذْ لَا تَمْلِكُ أَدْنَى شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا، قَالَ تَعَالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، وَهُوَ -كَمَا مَرَّ-: اللُّفَافَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى نَوَاةِ التَّمْرِ؛ فَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا.
* وَأَيْضًا هُمْ لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُمْ: {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}.
* وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ؛ فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لَا تَسْتَجِيبُ لِمَنْ دَعَاهَا، قَالَ تَعَالى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}.
* وَهَذِهِ الْمَعْبُودَاتُ تَتَبَرَّأُ مِنْ عَابِدِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}.
فَهَذِهِ الْمَعْبُودَاتُ تَأْتِي بِهَذِهِ الْأُمُورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَدَاوَةُ ظَاهِرَةٌ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا أَدِلَّةٌ نَاصِعَةٌ عَلَى بُطْلَانِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ الْعِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، وَلَا يُخْبِرُنَا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا مِثْلُ خَبِيرٍ بِهَا؛ وَهُوَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٍ}.
فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظِمْ بِهَا نِعْمَةً.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((شُجَّ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ -وَشُجَّ: الْجُرْحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً-، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ -وَالرَّبَاعِيَةُ هِيَ: كُلُّ سِنٍّ بَعْدَ ثَنِيَّةٍ، وَلِلْإِنْسَانِ أَرْبَعُ رَبَاعِيَاتِ-، فَقَالَ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!))، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْفَجْرِ: ((اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا -أَيِ: اطْرُدْ وَأَبْعِدْ مِنْ رَحْمَتِكَ فُلَانًا وَفُلَانًا- بَعْدَمَا يَقُولُ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ -أَيْ: أَجَابَ مَنْ حَمِدَهُ وَتَقَبَّلَهُ- رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ))، فَأَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الْآيَةَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ})).
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الْمُرَادُ هَاهُنَا: لَيْسَ لَكَ إِلَّا دَعْوَتُهُمْ وَجِهَادُهُمْ.
فَالرَّسُولُ ﷺ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، شَرَّفَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِالرِّسَالَةِ وَتَلَقِّي الْوَحْيِ، وَتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ، وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
وَقَدِ ابْتُلِيَ الرَّسُولُ ﷺ، وَطَالَهُ الضُّرُّ فِي جَسَدِهِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ بَشَرٌ تَعْتَرِيهِ الْعَوَارِضُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ مَرَضٍ وَمَصَائِبَ وَجِرَاحٍ، كَمَا حَصَلَ لَهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ أُصِيبَ ﷺ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ جَسَدِهِ؛ شُجَّ رَأْسُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَقَالَ ﷺ: ((كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ؟!))، اسْتَبْعَدَ حُصُولَ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ لَهُمْ مَعَ فِعْلِهِمْ هَذَا بِنَبِيِّهِمْ، وَدَعَا عَلَيْهِمْ؛ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لَهُ ﷺ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا دَعْوَتُهُمْ وَجِهَادُهُمْ.
وَالرَّسُولُ ﷺ هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَالْآيَةُ تُبَيِّنُ عَظِيمَ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؛ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ الضُّرَّ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ؛ فَلَا يَجُوزُ الْغُلُوُّ فِيهِ بِرَفْعِهِ فَوْقَ مَكَانَتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ، فَيُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَغَيْرُهُ مِنَ الْخَلْقِ مِنْ بَابِ أَوْلَى!
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أَوْ: كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ! لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).
فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ ((قَامَ)) أَيْ: صَعِدَ عَلَى الصَّفَا، ((حِينَ أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ})): عَشِيرَةُ الرَّجُلِ: هُمْ بَنُو أَبِيهِ الْأَدْنَوْنَ، أَوْ قَبِيلَتُهُ، {الْأَقْرَبِينَ} أَيْ: الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْهُمْ.
فَقَالَ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ!))، وَالْمَعْشَرُ: الْجَمَاعَةُ ((اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ)) أَيْ: خَلِّصُوهَا مِنَ الْعَذَابِ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى شَرَفِ النَّسَبِ.
((لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ)) أَيْ: لَا أَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَ اللَّهِ؛ رَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهُ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا بِشَفَاعَتِهِ ﷺ.
((سَلِينِي مِنْ مَالِي)): لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اللهِ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ.
فَيُخْبِرُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَمَّا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَمَا أَمَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ أَنْ يُنْذِرَ قَرَابَتَهُ؛ أَنَّهُ قَامَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ رَبِّهِ، فَنَادَى قُرَيْشًا بِبُطُونِهَا، وَنَادَى عَمَّهُ، وَعَمَّتَهُ، وَبِنْتَهُ، فَأَنْذَرَهُمْ نِذَارَةً خَاصَّةً، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخَلِّصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ بِتَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَبَلَّغَهُمْ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ شَيْئًا إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا، فَمُجَرَّدُ قُرْبِهِمْ مِنْهُ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُمْ بِدُونِ إِيمَانٍ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
* أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ مِنَ الرَّسُولِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إِلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ؛ فَفِيهِ: الرَّدُّ عَلَى عُبَّادِ الْقُبُورِ الَّذِينَ يَسْتَغِيثُونَ بِالْأَمْوَاتِ لِتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ.
* وَفِيهِ: الرَّدُّ عَلَى عُبَّادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَتَعَلَّقُونَ بِالْمَخْلُوقِينَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ.
* فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
* وَفِيهِ: دَلَالَةٌ عَلَى مُسَارَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ.
* وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا يُنَجِّي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، لَا الِاعْتِمَادُ عَلَى مُجَرَّدِ الِانْتِسَابِ لِلْأَشْخَاصِ، وَأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ أَهْلُ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ مِنْ قَرَابَتِهِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَرَابَةِ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ لَا تَنْفَعُ بِدُونِ إِيمَانٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَعَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ.
فَالنَّجَاةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالتَّوْحِيدِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصًا عَلَى دَعْوَةِ النَّاسِ جَمِيعًا؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} [يونس: 2]، فَقَامَ بِوَاجِبِ الدَّعْوَةِ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.
وَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِإِنْذَارِ قَرَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}؛ جَمَعَ ﷺ قُرَيْشًا قَائِلًا: ((اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)): خَلِّصُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ النَّجَاةِ، لَا الِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَحْسَابِ وَالْأَنْسَابِ؛ فَإِنَّهَا لَا تُغْنِي مِنَ اللهِ شَيْئًا.
فَالرَّسُولُ نَفْسُهُ ﷺ لَا يُغْنِي عَنْ قَرَابَتِهِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، فَنَادَى عَمَّهُ، وَعَمَّتَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخَلِّصُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمُجَرَّدُ قَرَابَتِهِمْ مِنْهُ لَا تَنْفَعُهُمْ، وَلَا تُنَجِّيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
ثُمَّ خَصَّ بِالنِّذَارَةِ مَنْ هِيَ بَضْعَةٌ مِنْهُ؛ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ، وَقَالَ لَهَا: ((سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ))؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ عَنْهَا مَا يَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ، أَمَّا الْهِدَايَةُ، وَأَمَّا الْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ النَّارِ؛ فَلَا تُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ.
فَإِذَا كَانَ ﷺ لَا يَنْفَعُ عَمَّهُ، وَلَا عَمَّتَهُ، وَلَا ابْنَتَهُ؛ فَغَيْرُهُمْ مِنْ بَابِ أَوْلَى!
وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَدَعَاهُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ لِيَشْفَعَ لَهُ، أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ الْكُرُوبَ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ بِالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَمَنْ عَرَفَ اللهَ وَعَرَفَ الْخَلْقَ نَزَّهَ الْخَالِقَ عَنِ الشُّرَكَاءِ، وَأَخْلَصَ الدِّينَ لَهُ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَفِي «صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضَعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا} لِلَّذِي قَالَ {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ -وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ، فَحَرَفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ- وَسُفْيَانُ هُوَ: ابْنُ عُيَيْنَةَ -رَحِمَهُ اللهُ--، فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ -يَعْنِي: مُسْتَرِقَ السَّمْعِ-، فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ)).
يُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ تَعْظِيمِ الْمَلَائِكَةِ لِكَلَامِ اللَّهِ، وَمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ الْخَوْفِ، وَتَسَاؤُلِهِمْ عَمَّا قَالَ رَبُّهُمْ، وَإِجَابَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمَا تَعْمَلُهُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ يَخْتَطِفُونَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِتُلْقِيَهُ إِلَى السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ مِنَ النَّاسِ، وَمَا تُلَاقِيهِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الرَّمْيِ بِالشُّهُبِ -حِينَئِذٍ-، وَأَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ الشَّيْطَانُ مِنْ إِيصَالِ الْكَلِمَةِ الْمَسْمُوعَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ لِحِكْمَةٍ يعْلَمُهَا اللَّهُ؛ وَإِلَّا فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، فَيُزَادُ مَعَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ أَوِ الْآدَمِيِّ مِنْ سَاحِرٍ أَوْ كَاهِنٍ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ كَذْبَةً، وَتُذَاعُ كُلُّهَا فِي النَّاسِ، فَيُصَدِّقُونَهَا كُلَّهَا بِسَبَبِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الْمَسْمُوعَةِ مِنَ الصِّدْقِ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ اللهِ مَعَ مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الْقُوَّةِ؛ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ لَهُمْ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟!
فَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْأَنْبِيَاءَ، وَالصَّالِحِينَ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ اللهِ -سُبْحَانَه-، أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: إِثْبَاتُ الْعُلُوِّ للهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَإِثْبَاتُ تَكَلُّمِهِ بِكَلَامٍ يُسْمَعُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: إِبْطَالُ السِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ وَإِنْ صَدَقَ الْكَاهِنُ وَالسَّاحِرُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْغَالِبِ الْكَثِيرِ، لَا بِالنَّادِرِ الْقَلِيلِ.
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا كَمَا فِي ((التِّرْمِذِيِّ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ؛ أَلَّا نُقَدِّمَ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَحَبَّةً، وَلَا عَلَى الْخَوْفِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَوْفًا، وَلَا نَجْعَلَ الرَّجَاءَ مَوْصُولًا إِلَّا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَأَنْ نُنَزِّهَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الشِّرْكِ؛ فَلَا نَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا نُقْسِمُ إِلَّا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنَ النَّذْرِ إِلَّا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ.
لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَخَافُ إِلَّا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا نَصْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِغَيْرِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَذَا الْأَصْلِ كَانَ مُشْرِكًا، وَإِذَا أَشْرَكَ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ لَهُ مَا أَشْرَكَ بِهِ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقَصَّرَ بِهِ –يَعْنِي: بِالشِّرْكِ- فِي حَقِّ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ بِالنَّارِ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَيْهِ.
((الْإِنْسَانُ وَالْبِيئَةُ.. وَتَسْبِيحُ الْكَائِنَاتِ اللهَ))
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الْقُرْآنُ مَعَانِيَ جَلِيلَةً وَرُؤَى فَرِيدَةً فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَجَمَادٍ؛ فَيُوَضِّحُ أَنَّ الْكَوْنَ مِنْ حَوْلِهِ يُشَارِكُ الْعَابِدِينَ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْبَشَرِ فِي تَسْبِيحِهِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- تُنَزِّهُهُ وَتُقَدِّسُهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ؛ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْإِنْسِ، وَالْجِنِّ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ فِي هَذَا الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا يُنَزِّهُ اللهَ -تَعَالَى- تَنْزِيهًا مَقْرُونًا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-؛ وَلَكِنْ لَا تَفْهَمُونَ تَسْبِيحَهُمْ، مَا عَدَا مَنْ يُسَبِّحُ بِلُغَتِكُمْ وَلِسَانِكُمْ.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
أَلَمْ تَعْلَمْ -أَيُّهَا الْعَاقِلُ الْبَصِيرُ- عِلْمًا وَاضِحًا جَلِيًّا مُشَابِهًا لِلرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- يَسْجُدُ لَهُ خَاضِعًا مُنْقَادًا مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ سُجُودًا إِرَادِيًّا مُلَبِّينَ فِيهِ دَوَاعِيَ فِطْرَتِهِمْ، وَسُجُودًا غَيْرَ إِرَادِيِّ بِخُضُوعِ ذَوَاتِهِمْ لِمَا يُجْرِيهِ اللهُ فِيهَا بِسُلْطَانِ الْجَبْرِ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ، وَالْجِبَالُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ كُلُّهَا سَاجِدَةٌ للهِ، وَخَاضِعَةٌ خُضُوعًا تَامًّا بِسُلْطَانِ الْجَبْرِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سَاجِدُونَ سُجُودًا اخْتِيَارِيًّا، حَقَّ لَهُمُ الثَّوَابُ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُنْقَادُونَ للهِ -تَعَالَى- ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ سَاجِدِينَ للهِ سُجُودًا اخْتِيَارِيًّا، حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ السُّجُودَ.
وَمَا أَعَزَّ أَحَدٌ نَفْسَهُ بِمِثْلِ سُجُودِهِ للهِ -تَعَالَى-، وَطَاعَتِهِ لَهُ، وَمَا أَذَلَّ أَحَدٌ نَفْسَهُ بِمِثْلِ إِعْرَاضِهِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ.
وَمَنْ يَحْكُمِ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالذِّلَّةِ وَالْهَوَانِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللهِ نَتِيجَةَ اخْتِيَارِهِمْ فِي ظُرُوفِ امْتِحَانِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ مَنْ حَكَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالْكَرَامَةِ، إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ وَفْقَ حِكْمَتِهِ.
وَمُكَوِّنَاتُ الْكَوْنِ كَالنُّجُومِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِهَا تُرَافِقُ الْمُوَحِّدَ فِي خُضُوعِهِ وَسُجُودِهِ للهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].
((أَيْ: نُجُومُ السَّمَاءِ وَأَشْجَارُ الْأَرْضِ تَعْرِفُ رَبَّهَا، وَتَسْجُدُ لَهُ، وَتُطِيعُ وَتَخْشَعُ وَتَنْقَادُ لِمَا سَخَّرَهَا لَهُ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ وَمَنَافِعِهِمْ)).
وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا عَلَى حَسَبِ مَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانِيهَا أَلْفَاظُهَا، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ فَمُفَوَّضَةٌ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَنُؤْمِنُ بِأَنَّ النَّجْمَ وَالشَّجَرَ يَسْجُدَانِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فِي هَذَا الْوُجُودِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّجِهَ نَحْوَ خَالِقِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالنَّجْمِ وَالشَّجَرِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْبَعْضِ هُنَا لِيُدَلَّ بِهِ عَلَى الْكُلِّ.
وَيَتَّضِحُ تَفَاعُلُ وَمُشَارَكَةُ الْكَوْنِ الْإِنْسَانَ الْمُوَحِّدَ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ -سُبْحَانَهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
(({ثُمَّ}: بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ {اسْتَوَى} أَيْ: قَصَدَ {إِلَى}: خَلْقِ {السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}: قَدْ ثَارَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، {فَقَالَ لَهَا}: وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَيِ: انْقَادَا لِأَمْرِي طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نُفُوذِهِ، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}: لَيْسَ لَنَا إِرَادَةٌ تُخَالِفُ إِرَادَتَكَ)).
إِنَّ الْمُسْلِمَ يَتَعَامَلُ مَعَ مُكَوِّنَاتِ الْبِيئَةِ لَا بِاعْتِبَارِهَا وَسَطًا يَعِيشُ فِيهِ فَقَطْ، بَلْ بِاعْتِبَارِهَا كَائِنَاتٍ تَسِيرُ مَعَهُ وَتُرَافِقُهُ؛ لِتَتَكَوَّنَ مِنْهُمَا مَنْظُومَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فِي الْخُضُوعِ وَالْعِبَادَةِ للهِ -تَعَالَى-، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29].
(({فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} أَيْ: لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تَصْعَدُ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتَبْكِي عَلَى فَقْدِهِمْ، وَلَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِقَاعٌ عَبَدُوا اللهَ فِيهَا فَقَدَتْهُمْ؛ فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا أَلَّا يُنْظَرُوا وَلَا يُؤَخَّرُوا؛ لِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ)).
(({فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}: لَمَّا أَتْلَفَهُمُ اللهُ وَأَهْلَكَهُمْ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَيْ: لَمْ يُحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُؤْسَ عَلَى فِرَاقِهِمْ، بَلْ كُلٌّ اسْتَبْشَرَ بِهَلَاكِهِمْ وَتَلَفِهِمْ حَتَّى السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ؛ لِأَنَّهُمْ مَا خَلَّفُوا مِنْ آثَارِهِمْ إِلَّا مَا يُسَوِّدُ وُجُوهَهُمْ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةَ وَالْمَقْتَ مِنَ الْعَالَمِينَ.
{وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} أَيْ: مُمْهَلِينَ عَنِ الْعُقُوبَةِ، بَلِ اصْطَلَمَتْهُمْ فِي الْحَالِ)).
((تَسْخِيرُ اللهِ الْبِيئَةَ وَمُكَوِّنَاتِهَا لِلْإِنْسَانِ))
لَقَدْ سَخَّرَ اللهُ مُكَوِّنَاتِ الْبِيئَةِ وَعَنَاصِرَ الْكَوْنِ الَّتِي صَنَعَهَا فَأَتْقَنَ صُنْعَهَا لِمَخْلُوقِهِ الَّذِي كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ، وَجَعَلَهَا مُهَيَّأَةً لَهُ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 32-33].
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقِ نِظَامِ الْطَفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ، وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.
وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تَجْرِيَانِ دَائِمًا فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ حَرَكَتِهِمَا مِنَ انْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَلَّلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، تَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَسْتَرِيحُوا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ وَتُدَبِّرُوا مَعَايَشَكُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 80-81].
اللهُ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ رَاحَةً وَاسْتِقْرَارًا وَمَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي الْحَضَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ -وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ- خِيَامًا يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي يَوْمِ سَيْرِكُمْ وَرَحِيلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، وَتَخِفُّ عَلَيْكُمْ -أَيْضًا- فِي إِقَامَتِكُمْ وَحَضَرِكُمْ، وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.
وَتَتَّخِذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الضَّأْنِ وَأَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْمَعْزِ أَثَاثًا لِبُيُوتِكُمْ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَلَاغًا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ.
اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَلَّ أَكْلُهَا، وَطَهَارَةِ أَصْوَافِهَا وَأَوَبْارِهَا وَأَشْعَارِهَا إِذَا جُزَّ فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذَا دُبِغَ.
وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ ظِلَالِ الْأَبْنِيَةِ وَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ مَا تَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِدَارِ مَا تَسْتَكِنُّونَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَالْأَسْرَابِ وَالْمَغَارَاتِ وَالْكُهُوفِ وَنَحْوِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ قُمُصًا وَثِيَابًا مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَنَحْوِ ذَلِكِ، تَمْنَعُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَدُرُوعًا تَقِيكُمْ فِي الْحَرْبِ بَأْسَ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا تَصِلُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ إِلَى جَسَدِ مِنْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.
كَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيمَا مَضَى، سَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ؛ فَيُمَكِّنُكُمْ مِنْ صُنْعِ أَشْيَاءَ لَا حَصَرَ لَهَا فِي الْعُصُورِ الْقَادِمَةِ بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، مِمَّا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتٍ مُذْهِلَةٍ بِإِلْهَامِ اللهِ لَهُمْ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، وَفِي أَنْ تُسْلِمُوا مُنْقَادِينَ لَهُ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ.
وَحَثَّنَا -سُبْحَانَهُ- مُقَابِلَ هَذَا التَّسْخِيرِ بِشُكْرِ نِعْمَةِ رَبِّنَا عَلَيْهَا، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36]؛ رَغْبَةً أَنْ تَشْكُرُوا اللهَ -تَعَالَى- عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ.
((تَعَالِيمُ الشَّرِيعَةِ وَقَضَايَا الْبِيئَةِ))
لَقَدْ أَرْشَدَتْنَا شَرِيعَتُنَا الْغَرَّاءُ إِلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَمَسَّكَ بِهَا حِيَالَ بِيئَتِنَا وَمَا يُحِيطُ بِنَا مِنْ كَائِنَاتٍ، مِنْهَا:
* الْحِرْصُ عَلَى عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلنَّفْعِ الْعَامِّ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: ((جَاءَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِمَائِدَةٍ عَلَيْهَا رُطَبٌ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا سَلْمَانُ! مَا هَذَا؟!)).
فَقَالَ: ((صَدَقَةٌ عَلَيْكَ، وَعَلَى أَصْحَابِكَ)).
فَقَالَ: ((ارْفَعْهَا؛ فَإِنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ)).
قَالَ: ((فَرَفَعَهَا، فَجَاءَ الْغَدَ بِمِثْلِهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ؟!)).
فَقَالَ: ((هَدِيَّةٌ لَكَ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لأَصْحَابِهِ: ((ابْسُطُوا)).
ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَآمَنَ بِهِ، وَكَانَ لِلْيَهُودِ فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُمْ نَخْلًا، فَيَعْمَلَ سَلْمَانُ فِيهِ، حَتَّى تُطْعِمَ، فَغَرَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّخلَ إِلا نَخْلَةً وَاحِدَةً، غَرَسَهَا عُمَرُ، فَحَمَلَتِ النَّخْلُ مِنْ عَامِهَا، وَلَمْ تَحْمِلْ نَخْلَةٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا شَأْنُ هَذِهِ النَّخْلَةِ؟!)).
فَقَالَ عُمَرُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا غَرَسْتُهَا)).
فَنَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَغَرَسَهَا، فَحَمَلَتْ مِنْ عَامِهَا)) . هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي ((مَعَانِي الْآثَارِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ))، وَفِي ((الدَّلَائِلِ))، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: ((رِجَالُهُ ثِقَاتٌ))، وَالْحَدِيثُ حَسَّنَهُ الشَّيْخُ نَاصِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((ابْسُطُوا))؛ دَفْعًا لِوَهْمِهِمْ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ ﷺ.. ابْسُطُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَائِدَةِ، وَكُلُوا مِنْهَا.
أَوِ: ((ابْسُطُوا)) بِمَعْنَى: النَّشْرِ، أَيِ: انْشُرُوا الطَّعَامَ فِي الْمَجْلِسِ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَى كُلِّ يَدٍ.
أَوِ: انْبَسِطُوا مَعَ سَلْمَانَ وَاسْتَبْشِرُوا.
وَقَدْ تَكُونُ هَدِيَّةُ سَلْمَانَ إِنَّمَا كَانَتْ فِي لُفَافَةٍ، فَأَمَرَ بِبَسْطِهَا ﷺ.
((عَلَى أَنْ يَغْرِسَ لَهُمْ نَخْلًا، فَيَعْمَلَ سَلْمَانُ فِيهِ، حَتَّى تُطْعِمَ)) يَعْنِي: حَتَّى يَأْتِيَ النَّخْلُ بِالثِّمَارِ.
وَالشَّاهِدُ فِي الْحَدِيثِ -وَكُلُّهُ شَاهِدٌ-: ((فَغَرَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّخلَ إِلا نَخْلَةً وَاحِدَةً)).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَ «فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا -حِينَئِذٍ-، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
* وَمِنْ تَعَالِيمِ الشَّرِيعَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْبِيئَةِ وَمُكَوِّنَاتِهَا: الْحَثُّ عَلَى النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ، وَالْبَحْثِ تَحْتَ الثَّرَى، وَالتَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ؛ لِتَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ وَتَيْسِيرِهَا؛ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.
فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مِنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.
دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ، بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.
وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].
فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَحَقِيقَةِ مَا جَاؤُوا بِهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ أَيْضًا الْمِيزَانَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مِنْ أُصُولِ الْعَدْلِ وَفُرُوعِهِ، وَذَلِكَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ إِذَا عَمِلُوا بِهَا فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ.
فَمَتَى عَمِلُوا بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ صَلَحَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُمْ.
وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فَخَصَّ مَنَافِعَهُ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَمَّمَهَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَالْحَدِيدُ أَنْزَلَهُ اللهُ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْكَمَالِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ إِلَّا النَّادِرَ مِنْهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْحَدِيدِ، وَقَدْ سَاقَهَا اللهُ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ؛ الْأَمْرُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعَلُّمَ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الْأَسْلِحَةِ وَتَوَابِعِهَا، وَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60])).
((هَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِّيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ)).
* وَمِنْ تَعَالِيمِ الشَّرِيعَةِ -أَيْضًا- فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْبِيئَةِ: الِاجْتِهَادُ فِي إِحْيَاءِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَطَرًا، فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ وَالزُّرُوعِ بَعْدَ يَبَسِهَا وَجَدْبِهَا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
((الْمَاءُ قِوَامُ الْحَيَاةِ وَسُبُلُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا))
اعْلَمْ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَسْبَغَ عَلَيْنَا نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، مِنَ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.
فَالْأَكْلُ وَالشَّرَابُ عَلَيْنَا فِيهِمَا نِعَمٌ سَابِقَةٌ وَلَاحِقَةٌ.
أَمَّا السَّابِقَةُ: فَإِنَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي نَشْرَبُهُ مَا جَاءَ بِحَوْلِنَا وَلَا بِقُوَّتِنَا، قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة: 68- 69].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22].
فَبَيَّنَ -تَعَالَى- نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضَ عَلَى السَّوَاءِ.
وَالطَّعَامُ الَّذِي نَأْكُلُهُ، فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 63- 65].
فَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ، فَهُوَ الَّذِي زَرَعَهُ، وَنَمَّاهُ حَتَّى تَكَامَلَ، وَيَسَّرَ لَنَا الْأَسْبَابَ الَّتِي تُيَسِّرُ جَنْيَهُ، وَحَصَادَهُ، ثُمَّ طَحْنَهُ وَطَبْخَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ لَا يُقَدَّمُ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْكَ وَإِلَّا وَفِيهِ ثَلَاثُمِئَةٍ وَسِتُّونَ نِعْمَةً، هَذَا الَّذِي يُدْرَكُ، فَكَيْفَ بِالَّذِي لَا يُدْرَكُ؟!!
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نِعَمٌ عِنْدَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعِنْدَمَا تَأْكُلُهُ عَلَى جُوعٍ مَاذَا تَكُونُ لَذَّتُهُ؟
وَعِنْدَمَا تَطْعَمُهُ فِي فَمِكَ تَجِدُ لَذَّةً، وَعِنْدَمَا يَمْشِي فِي الْأَمْعَاءِ لَا تَجِدُ تَعَبًا فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَ غُدَدًا تُفْرِزُ أَشْيَاءَ تُلَيِّنُ هَذَا الطَّعَامَ وَتُخَفِّفُهُ حَتَّى يَنْزِلَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ لَهُ قَنَوَاتٍ يَذْهَبُ مَعَهَا الْمَاءُ، وَهُنَاكَ عُرُوقٌ شَارِعَةٌ فِي هَذِهِ الْأَمْعَاءِ تُفَرِّقُ الدَّمَ عَلَى الْجِسْمِ، فَأَيْنَ تُوَصِّلُهُ؟
تُوَصِّلُهُ إِلَى الْقَلْبِ.
كُلُّ هَذَا وَنَحْنُ لَا نُحِسُّ بِهَذَا الشَّيْءِ؛ وَإِلَّا فَالْقَلْبُ يُصْدِرُ نَبْضَاتٍ، كُلُّ نَبْضَةٍ تَأْخُذُ شَيْئًا، وَالنَّبْضَةُ الْأُخْرَى تُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الدَّمِ- يَعْنِي مَا يَرِدُ إِلَى الْقَلْبِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ-، وَمَعَ ذَلِكَ يَذْهَبُ هَذَا الدَّمُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ بِشُعَيْرَاتٍ دَقِيقَةٍ مُنَظَّمَةٍ مُرَتَّبَةٍ عَلَى حَسَبِ حِكْمَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ.
الْمُهِمُّ مِنْ كُلِّ هَذَا أَنْ نُبَيِّنَ بِهِ أَنَّ للهِ عَلَيْنَا نِعَمًا مَادِيَّةً بَدَنِيَّةً فِي هَذَا الطَّعَامِ، سَابِقَةً عَلَى وُصُولِهِ إِلَيْنَا وَلَاحِقَةً.
ثُمَّ إِنَّ هُنَاكَ نِعَمًا دِينِيَّةً تَتَقَدَّمُ هَذَا الطَّعَامَ وَتَلْحَقُهُ:
فَتُسَمِّي عِنْدَ الْأَكْلِ، وَتَحْمَدُ إِذَا فَرَغْتَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَرِضَا اللهِ غَايَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَمَنْ يُحَصِّلُ رِضَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟
هَذِهِ غَايَةٌ عَالِيَةٌ!
فَنَحْنُ نَتَمَتَّعُ بِنِعَمِهِ، فَإِذَا حَمِدْنَاهُ عَلَيْهَا رَضِيَ عَنَّا، وَهُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهَا أَوَّلًا.
وَهَذِهِ النِّعْمَةُ -وَهِيَ رِضَا اللهِ- أَكْبَرُ مِنْ نِعْمَةِ الْبَدَنِ.
فَتَأَمَّلْ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكَ، فَهِيَ سَابِغَةٌ وَشَامِلَةٌ وَاسِعَةٌ، دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ صِدْقَ هَذَه الْآيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
فَبَيَّنَ اللهُ حَالَ الْإِنْسَانِ وَشَأْنَ الرَّبِّ عِنْدَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، فَحَالُ الْعَبْدِ: الظُّلْمُ وَالْكُفْرُ {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، ظُلْمُ نَفْسِهِ وَكُفْرُ نِعْمَةِ رَبِّهِ، وَشَأْنُ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنْ يُقَابِلَ هَذَا الظُّلْمَ وَهَذَا الْكُفْرَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ -وَللهِ الْحَمْدُ رَبٌّ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَدُودٌ-.
إِنَّ نِعْمَةَ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَا عَلَيْنَا؛ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ.
* وَلِلْمَاءِ ثَمَرَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَفَوَائِدُ نَافِعَةٌ جَلِيلَةٌ:
* مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْمَاءِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَهُ شَرَابًا لِلْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ: قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} [النحل: 10].
اللهُ الَّذِي خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً حُلْوًا طَهُورًا نَافِعًا، لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ نِعْمَةِ الْمَاءِ: أَنَّهُ سَبَبٌ فِي خُرُوجِ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ: فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32].
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقَ نِظَامِ الطَّفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ.
وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10- 11].
اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً حُلْوًا طَهُورًا نَافِعًا، لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ.
وَلَكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَجَرٌ يَكُونُ الْمَاءُ سَبَبًا فِي نَبَاتِهِ وَنَمَائِهِ، فَأَنْتُمْ فِيهِ تُطْلِقُونَ أَنْعَامَكُمُ السَّائِمَةَ، تَرْعَى مِنْ أَشْجَارِ الْأَرْضِ وَنَبَاتِهَا.
يُنْبِتُ اللهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْحَبَّ الَّذِي يُقْتَاتُ بِهِ، وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ، وَمِنْ سَائِرِ الثَّمَرَاتِ، إِنَّ فِي ظَاهِرَةِ الْمَطَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ شَرَابٍ لِلنَّاسِ، وَإِنْبَاتِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ لَعَلَامَةً دَالَّةً عَلَى قُدْرَتِنَا، وَشُمُولِ عِلْمِنَا، وَعَظِيمِ حِكْمَتِنَا، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي دَلَائِلِ قُدْرَتِنَا، وَعَظِيمِ نِعَمِنَا عَلَى عِبَادِنَا.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ نِعْمَةِ الْمَاءِ: أَنَّ اللهَ أَحْيَا بِهِ كُلَّ شَيْءٍ: فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]: وَأَنْزَلْنَا الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَخْرَجْنَا النَّبَاتَ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَحْيَيْنَا بِالْمَاءِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْمَاءِ فِي الْحَيَاةِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ: قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَطَرًا، فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ وَالزُّرُوعِ بَعْدَ يَبَسِهَا وَجَدْبِهَا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةً وَاضِحَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].
وَتَرَى -أَيُّهَا النَّاظِرُ الْمُتَأَمِّلُ- بِدَوَامٍ وَتَجَدُّدٍ الْأَرْضَ يَابِسَةً مَيِّتَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَطَرَتَحَرَّكَ تُرَابُهَا؛ لِأَجْلِ خُرُوجِ النَّبَاتِ، وَانْتَفَخَتْ بِسَبَبِ نُمُوِّ النَّبَاتِ وَتَدَاخُلِ الْمَاءِ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ الْمَنْظَرُ.
قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63].
أَلَمْ تَرَ -أَيُّهَا الْعَاقِلُ الْبَصِيرُ الرَّشِيدُ- نَاظِرًا إِلَى آثَارِ صُنْعِ رَبِّكَ؛ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً عَلَى أَرْضٍ صَالِحَةٍ لِلْإِنْبَاتِ، فِيهَا بُذُورُ نَبَاتَاتٍ مُنْبَثَّاتٍ فِي تُرْبَتِهَا، فَامْتَصَّتِ الْبُذُورُ الْمُنْبَثَّةُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ وَمِنْ عَنَاصِرِ تُرَابِ الْأَرْضِ، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ إِثْرَ نُزُولِ الْمَطَرِ مُخْضَرَّةً بِالنَّبَاتِ الْمُخْتَلِفِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ.
إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِاسْتِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ؛ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَالْحَيَوَانِ، يَنْفُذُ بِصِفَاتِهِ إِلَى أَعْمَاقِ كُلِّ مَوْجُودٍ؛ خَلْقًا وَإِمْدَادًا، وَعِلْمًا وَتَصَارِيفَ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ إِذَا تَأَخَّرَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ.
* وُجُوبُ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُسْتَقْصَى {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا، وَلَا يَكُونُ الشُّكْرُ مِنَّا وَاقِعًا إِلَّا إِذَا أَتَيْنَا بِأَرْكَانِهِ، وَحِينَئِذٍ نَكُونُ للهِ عَلَى نِعَمِهِ -وَإِنْ قَصَّرْنَا- شَاكِرِينَ، وَذَلِكَ:
* بِأَنْ نَعْتَرِفَ بِنِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا بَاطِنًا.
* وَنُقِرَّ بِاللِّسَانِ بِهَا ظَاهِرًا.
* وَأَنْ نُصَرِّفَ تِلْكَ النِّعَمَ فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا وَأَسْدَاهَا إِلَيْنَا.
فإنْ فَعَلْنَا ذلك؛ كُنَّا شاكرِينَ وإنْ كُنَّا مُقَصِّرِينَ.
وَكَثِيرٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمُرُّ عَلَيْنَا مَرًّا، وَقَدْ نَجْحَدُهَا جَحْدًا، وَلَا نُقِرُّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَا لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا.
عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ نِعَمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ نِعَمَ اللهِ الَّتِي تَتَوَاتَرُ مُتَنَزِّلَةً عَلَيْهِ، لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَنْ تُحْصَى، وَإِنَّمَا هِيَ فِي كَثْرَتِهَا فَوْقَ أَنْ تُسْتَقْصَى، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ يَقِينًا، وَأَنْ يُقِرَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
أَنْ يَعْلَمَ بَاطِنًا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَمَا أَسْدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ الَّذِي أَنْعَمَ إِلَيْهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ الْكَثِيرَةِ بِلِسَانِهِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُصَرِّفَ تِلْكَ النِّعَمَ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
* وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ، وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِخْدَامِهَا:
وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ أَسَاسُ الْحَيَاةِ، وَعَطِيَّةُ اللهِ الْمُبَارَكَةُ؛ فَإِنَّ تَضْيِيعَهُ وَإِهْدَارَهُ إِزْهَاقٌ لِرُوحِ الْكَوْنِ، وَخِيَانَةٌ لِلْأَمَانَةِ، وَمُضَادَّةٌ لِفِقْهِ الشُّكْرِ.
وَقَدْ أَكَّدَتِ الشَّرِيعَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُصُوصِهَا عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْمَاءِ إِثْمٌ وَضَلَالٌ، وَأَنَّ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَاءِ عِبَادَةٌ وَصَوَابٌ.
إِنَّ الَّذِي يُسْرِفُ فِي الْمَاءِ أَوْ يُهْدِرُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ هُوَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُظْهِرُ الْجُحُودَ بِنِعْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 26-27].
التَّبْذِيرُ فِي كُلِّ مَوْرِدٍ لِلنَّفْعِ -وَمِنْهُ الْمَاءُ- اسْتِخْفَافٌ بِالنِّعْمَةِ، وَإِتْلَافٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ بِحِفْظِهِ.
وَقَدْ شَبَّهَ اللهُ -تَعَالَى- الْمُبَذِّرِينَ بِإِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ فِي الْإِفْسَادِ وَالْإِهْلَاكِ.
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَرَى الْقِمَّةَ فِي فِقْهِ التَّرْشِيدِ فَلْنَنْظُرْ إِلَى أَخْلَاقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي تَعَامُلِهِ مَعَ الْمَاءِ؛ فَقَدْ كَانَ ﷺ أَحْكَمَ النَّاسِ اسْتِعْمَالًا لِلْمَاءِ، وَأَكْثَرَهُمْ رُشْدًا فِي اسْتِعْمَالِهِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ بِمُدٍّ، وَيَغْتَسِلُ بِصَاعٍ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَأَنَّ الْإِفْرَاطَ فِي اسْتِعْمَالِهِ مَذْمُومٌ -وَلَوْ فِي الْعِبَادَةِ-.
وَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْإِسْرَافِ فِي كُلِّ شَيْءٍ -وَلَوْ كَانَ فِي الْحَلَالِ-، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وَإِذَا كَانَ الْإِسْرَافُ فِي الشُّرْبِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ بِإِسْرَافٍ فِي مَجَالَاتٍ أُخْرَى أَشَدُّ حَظْرًا وَمَنْعًا.
وَقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الْإِسْرَافِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَنَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فِي مَاءِ الْوُضُوءِ، وَأَمَرَ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْمَاءِ -وَلَوْ كَانَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ-؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ -وَالْمُدُّ: سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ وَسِتُّ مِائَةٍ مِلِّي مِنَ الْمَاءِ، يَعْنِي: لَمْ يَبْلُغِ اللِّتْرَ، يَتَوَضَّأُ بِأَقَلَّ مِنْ لِتْرٍ-، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ -وَالصَّاعُ: لِتْرَانِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ مِنَ اللِّتْرِ- يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ وَلَوْ كَانَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: ((كَمْ يَكْفِينِي مِنَ الْوُضُوءِ؟)).
قَالَ: ((مُدٌّ)).
قَالَ: ((كَمْ يَكْفِينِي لِلْغُسْلِ؟)).
قَالَ: ((صَاعٌ)).
قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: ((لَا يَكْفِينِي)).
قَالَ: ((لَا أُمَّ لَكَ! قَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ )). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُجْزِئُ مِنَ الْوُضُوءِ مُدٌّ، وَمِنَ الْغُسْلِ صَاعٌ)).
فَقَالَ رَجُلٌ: ((لَا يُجْزِئُنَا)).
فَقَالَ: ((قَدْ كَانَ يُجْزِئُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَأَكْثَرُ شَعْرًا)) يَعْنِي: النَّبِيَّ ﷺ.
مَا أَجْمَلَ أَنْ نَتَأَدَّبَ بِآدَابِ نِعْمَةِ الْمَاءِ، وَنُدْرِكَ حَقِيقَتَهَا، فَنَحْفَظَهَا، وَنَسْأَلَ اللهَ شُكْرَهَا.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ((أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى هَذَا الْمَاءِ يُحَاسِبُونَ: لِمَ شَرِبْتَ، لِمَ أَكْثَرْتَ، لِمَ نَقَصْتَ؟!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ))، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ)).
وَقَدْ أَصْبَحَ النَّاسُ يُسْرِفُونَ فِي الْمِيَاهِ إِسْرَافًا عَظِيمًا، وَنَسُوا أَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَكُونُ نِعْمَةً نُسْأَلُ عَنْهَا، أَوْ نِقْمَةً تُسْلَبُ مِنَّا.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30].
الْغَوْرُ: هُوَ النُّزُولُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُدْرَكَ.
فَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ ظَاهِرٍ سَهْلٍ بَعْدَ أَنْ يَمْنَعَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؟!
فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي تَرْشِيدِ الْمَاءِ؟!!
وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ فِقْهِ السَّلَفِ فِي التَّقْوَى عِنْدَ شُرْبِ كُلِّ قَطْرَةٍ؟!
فَلْنَكُنْ رَاشِدِينَ فِي اسْتِعْمَالِنَا، شَاكِرِينَ فِي قُلُوبِنَا، مُؤَدِّبِينَ لِأَبْنَائِنَا، حَافِظِينَ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ.
((الرِّفْقُ بِالْحَيَوَانِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ دَوْمًا عَلَى الرِّفْقِ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ؛ فَإِنَّ الرِّفْقَ خَصْلَةٌ عَظِيمَةٌ يُحِبُّهَا اللهُ -تَعَالَى- مِنْ عِبَادِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ)).
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا نَبَّهَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَحَثَّتْ عَلَى الرِّفْقِ عِنْدَ التَّعَامُلِ مَعَهُ: الْحَيَوَانُ؛ فَقَدْ تَجَاوَزَتْ رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بَنِي آدَمَ إِلَى الْبَهَائِمِ؛ فَكَانَ يُوصِي بِالْبَهَائِمِ خَيْرًا، وَيُحَذِّرُ مِنْ ظُلْمِهَا بِأَبْلَغِ أَنْوَاعِ التَّرْهِيبِ، فَيَقُولُ ﷺ: ((عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ -أَيْ: قِطَّةٍ- حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ)).
قَالَ: فَقَالَ: ((لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَخَشَاشُ الْأَرْضِ: هَوَامُّهَا وَمَا فِيهَا مِنْ حَشَرَاتٍ.
وَمَرَّ ﷺ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ مِنَ الْهُزَالِ وَالْجُوعِ، فَقَالَ: ((اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً)).
وَدَخَلَ مَرَّةً حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى الْجَمَلُ النَّبِيَّ ﷺ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: ((مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ)) أَيْ: صَاحِبُهُ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟
فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ -يَعْنِي: الْبَعِيرَ- شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
((وَتُدْئِبُهُ)) أَيْ: تُتْعِبُهُ.
وَكَانَ ﷺ يَقُولُ: ((إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ؛ فَإِنَّ اللهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ؛ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَاتِكُمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْتُ حُمَّرَةً -طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ- فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ -يَعْنِي: تَبْسُطُ جَنَاحَيْهَا-، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: ((مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟! رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا)).
وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَقْنَاهَا فَقَالَ: ((مَنْ حَرَقَ هَذِهِ؟)).
قُلْنَا: ((نَحْنُ)).
قَالَ: ((إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّهَا رَكِبَتْ بَعِيرًا، فَكَانَتْ فِيهِ صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِالرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ؛ حَتَّى بِالْحَيَوَانِ حَالَ ذَبْحِهِ، قَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيُرَغِّبُ ﷺ فِي رَحْمَةِ الطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ، وَيُخْبِرُ عَنْ غُفْرَانِ اللهِ لِرَجُلٍ بِرَحْمَتِهِ لِكَلْبٍ، فَيَقُولُ ﷺ: ((بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ- فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ)).
قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَإِنَّا لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟)).
قَالَ: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: ((أَمَا بَلَغَكُمْ أَنِّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ فِي وَجْهِهَا، أَوْ ضَرَبَهَا فِي وَجْهِهَا؟))، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
((الْحِفَاظُ عَلَى الْبِيئَةِ وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْهَا))
إِنَّ الْمُسْلِمَ سِلْمٌ سَلَامٌ مَعَ بِيئَتِهِ الَّتِي تَحُوطُهُ وَيَعِيشُ فِيهَا، يَعْنِي أَنَّهُ يُحَافِظُ عَلَيْهَا، وَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا مَسْؤُولِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَكُلُّ مَا هُوَ نَافِعٌ لِحَيَاةِ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِ الْبِلَادِ فَهُوَ مِنْ صَمِيمِ مَقَاصِدِ الْأَدْيَانِ، وَكُلُّ مَا هُوَ ضَارٌّ بِحَيَاةِ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِ الْبِلَادِ فَفِعْلُهُ مَفْسَدَةٌ، وَدَرْؤُهُ مَصْلَحَةٌ وَاجِبَةٌ مُحَتَّمَةٌ.
وَقَدْ أَرْشَدَنَا نَبِيُّنَا ﷺ إِلَى أَهَمِّيَّةِ ذَلِكَ؛ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً -أَوْ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)).
((إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّهَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ هَذَا مِنَ الْإِيمَانِ.
وَالْمُرَادُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى: إِزَالَتُهُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْأَذَى: هُوَ مَا يُؤْذِي الْمَارَّةَ؛ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ شَوْكٍ، أَوْ زُجَاجٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، فَيُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ.
((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ)).
فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ -كَمَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ-.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَلْتَفِتُ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْتَفَتُوا إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ؛ لَكَانَتْ طُرُقُهُمْ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ؛ بَلْ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا طُرُقٌ كَطُرُقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ يَشْكُونَ مِنَ الْقَذَارَةِ وَإِلْقَاءِ الْقَاذُورَاتِ فِي طُرُقِهِمْ وَشَوَارِعِهِمْ.
وَحَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ ﷺ كَفِيلٌ لِإِزَالَةِ تِلْكَ الشَّكْوَى.
وَأَيْضًا كثَيِرٌ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُ إِلَى الْغَرْبِ وَإِلَى الشَّرْقِ وَالدُّوَلِ الَّتِي يَقُولُونَ عَنْهَا ((مُتَقَدِّمَةٌ))، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ رَجَعَ فَمَدَحَ شَوَارِعَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ دَلَّنَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَوْ أَخَذْنَا بِهِ مَا فَاقَنَا أَحَدٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ -مَثَلًا-؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظْلِمُ نَفْسَهُ، وَيَظْلِمُ دِينَهُ، وَيَظْلِمُ إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ.
الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ يَعُودُونَ يَمْدَحُونَ النَّظَافَةَ؛ فَأَيْنَ نَظَافَةُ أُولَئِكَ الْخَلْقِ؟!!
هُمْ نَظَّفُوا شَوَارِعَهُمْ، نَظَّفُوا بُيُوتَهُمْ ظَاهِرًا؛ لَكِنَّهُمْ قَذَّرُوهَا بِالشِّرْكِ كَمَا قَذَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَجْسَادَهُمْ، وَأَرْوَاحَهُمْ.
فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ((مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
كَمَا حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ تَلْوِيثِ الْبِيئَةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَتَلْوِيثِ الْمَاءِ بِصِفَةِ خَاصَّةٍ، قَالَ ﷺ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).
قَالُوا: ((وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ)).
قَالَ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ -أَيِ: اتَّقُوا الْخِصَالَ الثَّلَاثَ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ اللَّعْنَ لِفَاعِلِهَا-، اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: الْبَرَازُ فِي الْمَوَارِدِ -أَيْ: فِي مَوَارِدِ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)).
وَذَلِكَ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَاءُ الْمُلَوَّثُ مَصْدَرَ أَذًى وَنَقْلٍ لِلْأَمْرَاضِ الْمُهْلِكَةِ.
((وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا))
لَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْقَائِلُ عَنْ نَفْسِهِ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]- أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ بِبَقَاءِ الصَّلَاحِ فِيهَا، وَأَنْ نَمْنَعَ الْفَسَادَ عَنْهَا، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالْجَوِّ بِالْأَوْبِئَةِ، وَإِفْسَادِ الْأَحْيَاءِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَمَفَاهِيمِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ -تَعَالَى- بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، ذَلِكُمُ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا أَضَرَّهُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ مُسَدَّدَةً، ثُمَّ وَقَعَ الْإِفْسَادُ؛ كَانَ أَضَرَّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، فَنَهَى -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ)).
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَهَى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ كُلِّ فَسَادٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ صَلَاحٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ -عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ-)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]: ((قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي، وَالدُّعَاءِ إِلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بَعْدَ إِصْلَاحِ اللهِ لَهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ، وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ؛ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَى غَيْرِه، وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ بَلْ فَسَادُ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالشِّرْكِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ -تَعَالَى-.
فَالشِّرْكُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ، وَإِقَامَةُ مَعْبُودٍ غَيْرَهُ، وَمُطَاعٍ مُتَّبَعٍ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَا صَلَاحَ لَهَا وَلَا لِأَهْلِهَا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ، وَتَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ، لَا لِغَيْرِهِ، وَالطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِهِ، لَيْسَ إِلَّا، وَغَيْرُهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إِذَا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ، وَخِلَافِ شَرِيعَتِهِ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ أَخْبَارَ الْعَالَمِ؛ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الْأَرْضِ سَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللهِ، وَعِبَادَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالَمِ، وَفِتْنَةٍ، وَبَلَاءٍ، وَقَحْطٍ، وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ رَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85].
وَلَا تَتَمَادَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بِأَعْمَالِكُمُ الْإِجْرَامِيَّةِ الظَّالِمَةِ، وَمَنْعِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204-205].
(({سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} أَيْ: يَجْتَهِدُ عَلَى أَعْمَالِ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ، وَيُهْلِكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، فَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَوَاشِي تَتْلَفُ، وَتَنْقُصُ، وَتَقِلُّ بَرَكَتُهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ فِي الْمَعَاصِي، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا كَانَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ؛ فَهُوَ يُبْغِضُ الْعَبْدَ الْمُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ غَايَةَ الْبُغْضِ؛ وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ قَوْلًا حَسَنًا)).
(({وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: هُوَ أَعْوَجُ الْمَقَالِ، سَيِّئُ الْفِعَالِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهَذَا فِعْلُهُ، كَلَامُهُ كَذِبٌ، وَاعْتِقَادُهُ فَاسِدٌ، وَأَفْعَالُهُ قَبِيحَةٌ.
فَهَذَا الْمُنَافِقُ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَإِهْلَاكَ الْحَرْثِ -وَهُوَ: مَحَلُّ نَمَاءِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ-، وَالنَّسْلِ -وَهُوَ: نِتَاجُ الْحَيَوَانَاتِ- اللَّذَيْنَ لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ إِلَّا بِهِمَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِذَا سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا؛ مَنَعَ اللَّهُ الْقَطْرَ، فَهَلَكَ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ)).
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَلَا مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ)).
أَخْبَرَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- جَعَلَ نَعِيمَ الدَّارِ الْآخِرَةِ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ تَكَبُّرًا عَنِ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ، وَتَجَبُّرًا عَنْهُ، وَلَا فَسَادًا، وَلَا ظُلْمَ النَّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَعَمَلًا بِمَعَاصِي اللهِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
تِلْكَ الْجَنَّةُ الْبَعِيدَةُ الْمَكَانِ وَالْمَكَانَةِ، الْمُرْتَفِعَةُ الْمَنْزِلَةِ نَجْعَلُ نَعِيمَهَا مُسْتَقْبَلًا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا اسْتِطَالَةً عَلَى النَّاسِ بِتَحْقِيقِ حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، وَيَنْشُرُونَ الْفَاحِشَةَ، وَيَطْرَحُونَ الشُّبُهَاتِ، وَيُفْسِدُونَ الْأَخْلَاقَ وَالْقِيَمَ وَالْآدَابَ، وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.
((صَلَاحُ الْكَوْنِ وَالْعَالَمِ بِالتَّوْحِيدِ وَمُحَارَبَةِ الشِّرْكِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ وَاجِبَنَا تِجَاهَ مَا يَحْصُلُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ أَنْ نُصْلِحَهُ بِقَدْرِ مَا نَسْتَطِيعُ، وَذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ، وَمُجَاهَدَةِ الْأَنْفُسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَبِذَلِكَ يَكْثُرُ الْخَيْرُ وَيَعْظُمُ، وَيَقِلُّ الشَّرُّ وَيَصْغُرُ -بِإِذْنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا--، قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116-117].
((يَقُولُ تَعَالَى: فَهَلَّا وُجِدَ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ يَنْهَوْنَ عَمَّا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ {إِلَّا قَلِيلًا} أَيْ: قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ هَذَا الضَّرْبِ قَلِيلٌ، لَمْ يَكُونُوا كَثِيرًا، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ عِنْدَ حُلُولِ غِيَرِهِ، وَفَجْأَةِ نِقَمِهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ -تَعَالَى- هَذِهِ الْأُمَّةَ الشَّرِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 104].
وَفِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكِرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ))؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أَيْ: اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِنْكَارِ أُولَئِكَ حَتَّى فَجَأَهُمُ الْعَذَابُ {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}.
ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَرْيَةً إِلَّا وَهِيَ ظَالِمَةٌ لِنَفْسِهَا، وَلَمْ يَأْتِ قَرْيَةً مُصْلِحَةً بَأْسُهُ وَعَذَابُهُ قَطُّ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [ هُودٍ: 101]، وَقَالَ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَتْ: 46])).
إِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].
فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.
لَا يَجْمَعُ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُوَحِّدُ صُفُوفَهُمْ، وَلَا يُعْلِي شَأْنَهُمْ إِلَّا اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.
وَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحُلُّ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا إِذَا اسْتَقَرَّ التَّوْحِيدُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ، وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الشِّرْكِ.
وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ، كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.
فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.
أَمَّا إِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ، وَتَفَشَّتِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ، وَقِيلَ: اتْرُكُوا النَّاسَ أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا تُنَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُبَدِّدُوا جَمْعَهُمْ!! إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ؛ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَحَصَلَ التَّفَرُّقُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَوَهَى قُوَّتَهُمْ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ بِهِ، وَنَظَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ؛ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، كَانُوا قَدْ قَرَءُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَيَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِشِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ، وَأَطْبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ.
فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَدَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَانْصَاعَتْ قُلُوبٌ إِلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَأٌسِّسَتِ الْمِلَّةُ عَلَيْهِ، وَانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ فِي الْأَرْضِ؛ عَمَّ فِيهَا الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهَا الشَّرُّ.
وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى للغرباء)).
كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ؛ كَثُرَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ.
إِنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ مُتَشَتِّتِينَ، عِنْدَهُمْ ثَارَاتٌ وَغَارَاتٌ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ، وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ اسْتَجَابُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ، تَوَحَّدُوا، وَصَارُوا قُوَّةً هَائِلَةً فِي الْأَرْضِ، سَادَتِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالَهُمْ قَبْلَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ أُمُورَهُمْ بَعْدَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَاسْتَجَابَتِهِمْ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].
قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَانُوا مَطْمَعًا لِشُعُوبِ الْأَرْضِ، كَانَتْ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَرَبِ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَكُلُّ دَوْلَةٍ مِنْ دُوَلِ الْكُفْرِ كَانَ لَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ نَصِيبٌ.
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ؛ انْعَكَسَ الْأَمْرُ، فَصَارَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ تُسَيْطِرُ عَلَى الْعَالَمِ، وَامْتَدَّتِ الْفُتُوحُ، وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَا يُصْلِحُ آخَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)).
هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.
لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).
فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ تَعَالَى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].
وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.
وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.
كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُنْفِ ضِدَّ الْأَطْفَالِ
|
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ وَزِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))
فَالْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، وَهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72].
وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
وَهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].
وَالذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ سَأَلَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].
وَقَالَ -تَعَالَى- عَلَى لِسَانِ زَكَرِيَّا -أَيْضًا-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5-6].
قَالَ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} يَعْنِي بِهَذَا الْوَلِيِّ: الْوَلَدَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ -تَعَالَى- فِي الْقِصَّةِ نَفْسِهَا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ الْوَلَدُ -أَيْضًا- بِقَوْلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، فَقَوْلُهُ: {لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَيْ: وَاحِدًا بِلَا وَلَدٍ)).
وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] مَا ذَكَرَهُ -سُبْحَانَهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].
((نِعْمَةُ الْأَوْلَادِ مِنْحَةٌ أَوْ مِحْنَةٌ))
((اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ فِتْنَةٌ لِلْعَبْدِ وَاخْتِبَارٌ.
- فَإِمَّا مِنْحَةٌ تَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، سُرُورٌ لِلْقَلْبِ، وَانْبِسَاطٌ لِلنَّفْسِ، وَعَوْنٌ عَلَى مَكَابِدِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَصَلَاحٌ يَحْدُوهُمْ إِلَى الْبِرِّ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، اجْتِمَاعٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَاجْتِمَاعٌ فِي الْآخِرَةِ فِي دَارِ كَرَامَةِ اللهِ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وَإِنَّ مِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الْمِنْحَةِ: أَنْ يَقُومَ الْوَالِدَانِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ وَتَرْبِيَةٍ صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَقُومَ الْأَبُ خَاصَّةً بِذَلِكَ؛ لِيُخَلِّفَ بَعْدَهُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً تَنْفَعُهُ وَتَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَتَى أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَصْلَحَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَمَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَكَثْرَةِ دُعَائِهِ وَلُجُوئِهِ إِلَى اللهِ يَحْصُلُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَالتَّرْبِيَةُ الصَّالِحَةُ.
يَقُولُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
فَوَاللَّهِ مَا سَأَلُوا ذَلِكَ وَقَعَدُوا عَنْ فِعْلِ الْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنَّكَ إِذَا سَأَلْتَ اللهَ شَيْئًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَفْعَلَ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ سَأَلَ اللهَ رِزْقًا لَسَعَى فِي أَسْبَابِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، وَلَوْ سَأَلَ اللهَ ذُرِّيَّةً لَسَعَى فِي حُصُولِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تُنْبِتُ أَوْلَادًا، وَهَكَذَا إِذَا سَأَلَ اللهَ صَلَاحَ ذُرِّيَّتِهِ، وَأَنْ تَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْعَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابٍ؛ ذَلِكَ لِكَيْ تَكُونَ نِعْمَةُ الْأَوْلَادِ مِنْحَةً.
- أَمَّا الشَّطْرُ الثَّانِي مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ؛ فَأَنْ تَكُونَ مِحْنَةً وَعَنَاءً، وَشُؤْمًا وَشَقَاءً عَلَى أَهْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ، وَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ لَهُمْ مِنْ رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ وَتَرْبِيَةٍ صَالِحَةٍ، أَهْمَلَهُمْ فَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، أَكْبَرُ هَمِّهِ نَحْوَهُمْ حِينَ كَانُوا شَهْوَةً قَذْفُهَا فِي رَحِمِ الْأُمِّ، أَضَاعَ حَقَّ اللهِ فِيهِمْ فَأَضَاعُوا حَقَّ اللهِ فِيهِ، لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْهِمْ بِالتَّرْبِيَةِ فَلَمْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ بِالْبِرِّ؛ {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، فَفَاتَهُ نَفْعُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَيَكُونَنَّ مِنَ النَّادِمِينَ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
لَقَدْ ضَلَّ أَقْوَامٌ اعْتَنَوْا بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَرِعَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا، فَأَشْغَلُوا أَفْكَارَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ وَانْشَغَلُوا بِهَا عَنْ رَاحَتِهِمْ وَمَنَامِهِمْ، ثُمَّ نَسُوا أَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَمَا هِيَ قِيمَةُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ؟!!
أَلَيْسَ مِنَ الْأَجْدَرِ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُخَصِّصُوا شَيْئًا مِنْ قُوَاهُمُ الْفِكْرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِتَرْبِيَةِ أَهْلِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ؛ حَتَّى يَكُونُوا بِذَلِكَ شَاكِرِينَ نِعْمَةَ اللهِ، مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِ اللهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمُ الْوِلَايَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَمَّلَكُمْ مَسْؤُولِيَّةَ الْأَهْلِ، أَمَرَكُمْ بِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ تِلْكَ النَّارَ الْمُزْعِجَةَ، لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ فَحَسْبُ، بَلْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ.
وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُضَيِّعِينَ لِأَمْرِ اللهِ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ لَوْ أَصَابَتْ نَارُ الدُّنْيَا طَرَفًا مِنْ وَلَدِهِ أَوْ كَادَتْ؛ لَسَعَى بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ لِدَفْعِهَا، وَهَرَعَ إِلَى كُلِّ طَبِيبٍ لِلشِّفَاءِ مِنْ حَرْقِهَا وَأَلَمِهَا، أَمَّا نَارُ الْآخِرَةِ فَلَا يُحَاوِلُ أَنْ يُخَلِّصَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ مِنْهَا)).
((مَظَاهِرُ إِهْمَالِ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَعَوَاقِبُهُ))
((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُرَاقِبَ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ، فِي أَصْحَابِهِمْ وَأَخِلَّائِهِمْ؛ حَتَّي يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَيَقِينٍ فِي اتِّجَاهَاتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ، فَيُقِرَّ مَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَالِحًا، وَيُنْكِرَ مَا يَرَاهُ فَاسِدًا، وَيُكَلِّمَهُمْ صَرَاحَةً، وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ وَيَرُدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَغْضَبُ فَيَجْفُوهُمْ وَيُعْرِضُ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفَسَادِ.
إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى مُرَاقَبَةِ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً فَمَنِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا؟!!
هَلْ يَقُومُ عَلَيْهَا أَبَاعِدُ النَّاسِ وَمَنْ لَا صِلَةَ لَهُ فِيهِمْ؟!!
أَمْ يُتْرَكُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ وَالْأَغْصَانُ الْغَضَّةُ تَعْصِفُ بِهَا رِيَاحُ الْأَفْكَارِ الْمُضِلَّةِ، وَالِاتِّجَاهَاتِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْهَدَّامَةِ، فَيَنْشَأُ مِنْ هَؤُلَاءِ جِيلٌ فَاسِدٌ لَا يَرْعَى للهِ وَلَا لِلنَّاسِ حُرْمَةً وَلَا حُقُوقًا، جِيلٌ فَوْضَوِيٌّ مُتَهَوِّرٌ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، مُتَحَرِّرٌ مِنْ كُلِّ رِقٍّ إِلَّا مِنْ رِقِّ الشَّيْطَانِ، مُنْطَلِقٌ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ إِلَّا مِنْ قَيْدِ الشَّهْوَةِ وَالطُّغْيَانِ!
نَعَمْ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ النَّتِيجَةَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ.
إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ مُعْتَذِرًا: أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِي، إِنَّهُمْ كَبِرُوا وَتَمَرَّدُوا عَلَيَّ.
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ: لَوْ سَلَّمْنَا هَذَا الْعُذْرَ جَدَلًا أَوْ حَقِيقَةً وَاقِعَةً، ثُمَّ فَكَّرْنَا؛ لَوَجَدْنَا أَنَّكَ أَنْتَ السَّبَبُ فِي سُقُوطِ هَيْبَتِكَ مِنْ نُفُوسِهِمْ؛ لِأَنَّكَ أَضَعْتَ أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ، فَتَرَكْتَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ كَمَا يَشَاؤُونَ، لَا تَسْأَلُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا تَأَنْسُ بِالِاجْتِمَاعِ إِلَيْهِمْ، لَا تَجْتَمِعُ مَعَهُمْ عَلَى غَدَاءٍ وَلَا عَلَى عَشَاءٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، فَوَقَعَتِ الْجَفْوَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَوْلَادِكَ، فَنَفَرُوا مِنْكَ وَنَفَرْتَ مِنْهُمْ؛ فَكَيْفَ تَطْمَعُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْقَادُوا لَكَ، أَوْ يَأْخُذُوا بِتَوْجِيهَاتِكَ؟!!
وَلَوْ أَنَّكَ اتَّقَيْتَ اللهَ فِي أَوَّلِ أَمْرِكَ، وَقُمْتَ بِتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرْتَ؛ لَأَصْلَحَ لَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَبُّكَ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71])).
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ؛ أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّي يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ :((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَمْ مِمَّنْ أَشْقَى وَلَدَهُ وَفِلْذَةَ كَبِدِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِهْمَالِهِ، وَتَرْكِ تَأْدِيبِهِ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى شَهَوَاتِه، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُكْرِمُهُ وَقَدْ أَهَانَهُ، وَأَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَقَدْ ظَلَمَهُ، فَفَاتَهُ انْتِفَاعُهُ بِوَلَدِهِ، وَفَوَّتَ عَلَيْهِ حَظَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ الْفَسَادَ فِي الْأَوْلَادِ رَأَيْتَ عَامَّتَهُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ)).
وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَكْثَرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَإِهْمَالِهِمْ لَهُمْ، وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ فَرَائِضَ الدِّينِ وَسُنَنَهُ، فَأَضَاعُوهُمْ صِغَارًا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ كِبَارًا، كَمَا عَاتَبَ بَعْضُهُمْ وَلَدَهُ عَلَى الْعُقُوقِ فَقَالَ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ! إِنَّكَ عَقَقْتَنِي صَغِيرًا فَعَقَقْتُكَ كَبِيرًا، وَأَضَعْتَنِي وَلِيدًا فَأَضَعْتُكَ شَيْخًا كَبِيرًا)).
((الْحَثُّ عَلَى تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَبَيَانُ أَهَمِّيَّتِهَا))
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قَالَ: ((عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ، وَعَلِّمُوا أَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ، وَأَدِّبُوهُمْ)).
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَا هَذَا! أَحْسِنْ أَدَبَ ابْنِكَ؛ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- تَفْسِيرًا لِآيَةِ التَّحْرِيمِ السَّابِقَةِ: ((أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ)).
وَإِنَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّكَ إِنْ غَرَسْتَ خَيْرًا حَصَدْتَ خَيْرًا، وَإِنْ غَرَسْتَ شَرًّا وَجَدْتَ شَرًّا وَلَا بُدَّ.
فَسُوءُ التَّرْبِيَةِ لَهُ آثَارٌ مُدَمِّرَةٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ، بَلْ وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، فَكَمَا أَنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ فَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ، فَتَعْلِيمُ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ؛ مِنَ الْعِفَّةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْبِرِّ، وَحِفْظِ اللِّسَانِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالنَّافِعِ الْمُفِيدِ يُجَنِّبُ -بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى- الْوُقُوعَ فِي الْأَخْطَارِ وَالْمَكَارِهِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا = عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
فَالتَّرْبِيَةُ الْحَسَنَةُ جَاءَتْ بِهَا النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ:
قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَيُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ)).
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الطِّفْلُ غَايَةَ الِاحْتِيَاجِ: الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ خُلُقِهِ؛ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَلَى مَا عَوَّدَهُ الْمُرَبِّي فِي صِغَرِهِ؛ مِنْ حَرَدٍ وَغَضَبٍ، وَلَجَاجٍ وَعَجَلَةٍ، وَخِفَّةٍ مَعَ هَوَاهُ، وَطَيْشٍ وَحِدَّةٍ وَجَشَعٍ، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ فِي كِبَرِهِ تَلَافِي ذَلِكَ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ صِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ رَاسِخَةً لَهُ، فَلَوْ تَحَرَّزَ مِنْهَا غَايَةَ التَّحَرُّزِ فَضَحَتْهُ -وَلَا بُدَّ- يَوْمًا مَا.
وَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُنْحَرِفَةً أَخْلَاقُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَغْلُظَ أَعْوَادُهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قِبَلِ التَّرْبِيَةِ الَّتِي نَشَأَ عَلَيْهَا.
وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُجَنَّبَ الصَّبِيُّ إِذَا عَقَلَ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ، وَالْغِنَاءَ، وَسَمَاعَ الْفُحْشِ، وَالْبِدَعَ، وَمَنْطِقَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِقَ بِسَمْعِهِ عَسُرَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ فِي الْكِبَرِ، وَعَزَّ عَلَى وَلِيِّهِ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْهُ، فَتَغْيِيرُ الْعَوَائِدِ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ، يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى اسْتِجْدَادِ طَبِيعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَالْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ الطَّبِيعَةِ عَسِرٌ جِدًّا.
وَيُجَنِّبُهُ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ أَعْظَمَ مِمَّا يُجَنِّبُهُ السُّمَّ النَّاقِعَ؛ فَإِنَّهُ مَتَى سَهَّلَ لَهُ سَبِيلَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ أَفْسَدَ عَلَيْهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَرَمَهُ كُلَّ خَيْرٍ.
وَيُجَنِّبُهُ الْكَسَلَ وَالْبَطَالَةَ وَالدَّعَةَ وَالرَّاحَةَ، بَلْ يَأْخُذُهُ بِأَضْدَادِهَا.
وَيُعَوِّدُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ وَقْتُ قَسْمِ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقِ الْجَوَائِزِ؛ فَمُسْتَقِلٌّ، وَمُسْتَكْثِرٌ، وَمَحْرُومٌ، فَمَتَى اعْتَادَ ذَلِكَ صَغِيرًا سَهُلَ عَلَيْهِ كَبِيرًا)).
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّكَ وَأَحَقُّهُمْ بِمَعْرُوفِكَ: أَوْلَادُكَ؛ فَإِنَّهُمْ أَمَانَاتٌ جَعَلَهُمُ اللهُ عِنْدَكَ، وَوَصَّاكَ بِتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً لِأَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَكُلُّ مَا فَعَلْتَهُ مَعَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا فَإِنَّهُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَسِبْهُ عِنْدَ اللهِ، فَكَمَا أَنَّكَ إِذَا أَطْعَمْتَهُمْ وَكَسَوْتَهُمْ وَقُمْتَ بِتَرْبِيَةِ أَبْدَانِهِمْ فَأَنْتَ قَائِمٌ بِالْحَقِّ مَأْجُورٌ؛ فَكَذَلِكَ -بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ- إِذَا قُمْتَ بِتَرْبِيَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْمَعَارِفِ الصَّادِقَةِ، وَالتَّوْجِيهِ لِلْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدِّهَا.
فَالْآدَابُ الْحَسَنَةُ خَيْرٌ لِلْأَوْلَادِ حَالًا وَمَآلًا مِنْ إِعْطَائِهِمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَأَنْوَاعَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ؛ لِأَنَّ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ يَرْتَفِعُونَ، وَبِهَا يَسْعَدُونَ، وَبِهَا يُؤَدُّونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَبِهَا يَجْتَنِبُونَ أَنْوَاعَ الْمَضَارِّ، وَبِهَا يَتِمُّ بِرُّهُمْ لِوَالِدِيهِمْ)).
((إِهْمَالُ الْأَوْلَادِ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))
الْأَمْرُ جِدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ.
قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)).
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْبَرَ خَسَارَةٍ يَخْسَرُهَا الْمَرْءُ هِيَ أَنْ يَخْسَرَ نَفْسَهُ، وَيَخْسَرَ أَهْلَهُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
وَسُوءُ التَّرْبِيَةِ لَهُ أَثَرٌ مُدَمِّرٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ؛ بَلْ وَعَلَى الْأَوْطَانِ.
((أَمَّا إِهْمَالُ الْأَوْلَادِ: فَضَرَرُهُ كَبِيرٌ، وَخَطَرُهُ خَطِيرٌ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ بُسْتَانٌ فَنَمَّيْتَهُ حَتَّى اسْتَتَمَّتْ أَشْجَارُهُ، وَحَتَّى أَيْنَعَتْ ثِمَارُهُ، وَتَزَخْرَفَتْ زُرُوعُهُ وَأَزْهَارُهُ، ثُمَّ أَهْمَلْتَهُ فَلَمْ تُحَافِظْ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَحْفَظْهُ، وَلَمْ تَسْقِهِ، وَلَمْ تُنَقِّهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَتُعِدَّهُ لِلنُّمُوِّ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؛ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ وَأَكْبَرِ الْجَهْلِ؟! فَكَيْفَ تُهْمِلُ أَوْلَادَكَ الَّذِينَ هُمْ فِلْذَةُ كَبِدِكَ، وَثَمَرَةُ فُؤَادِكَ، وَنُسْخَةُ رُوحِكَ، وَالْقَائِمُونَ مَقَامَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا الَّذِينَ بِسَعَادَتِهِمْ تَتِمُّ سَعَادَتُكَ، وَبِفَلَاحِهِمْ وَنَجَاحِهِمْ تُدْرِكُ خَيْرًا كَثِيرًا، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269])).
((ثَمَرَاتُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ))
لَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ آدَابٍ: أَمْرُهُمْ بِهَا -أَيْ: بِالصَّلَاةِ-، وَضَرْبُهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((وَالصَّبِيُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَوَلِيُّهُ مُكَلَّفٌ، لَا يَحِلُّ لَهُ تَمْكِينُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ؛ فَإِنَّهُ يَعْتَادُهُ، وَيَعْسُرُ فِطَامُهُ عَنْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يُحَرِّمْ لُبْسَهُ لِلْحَرِيرِ كَالدَّابَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّكْلِيفِ، وَلِهَذَا لَا يُمَكَّنُ مِنَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَلَا مِنَ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا وَنَجِسًا، وَلَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَعِبِ الْقِمَارِ، وَاللِّوَاطِ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((وَإِذَا صَارَ ابْنَ عَشْرٍ ازْدَادَ قُوَّةً وَعَقْلًا وَاحْتِمَالًا لِلْعِبَادَاتِ، فَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَهَذَا ضَرْبُ تَأْدِيبٍ وَتَمْرِينٍ، وَعِنْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ يَتَجَدَّدُ لَهُ حَالٌ أُخْرَى يَقْوَى فِيهَا تَمْيِيزُهُ وَمَعْرِفَتُهُ؛ وَلِذَلِكَ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ قَوِيٌّ جِدًّا، وَإِنْ رُفِعَ عَنْهُ قَلَمُ التَّكْلِيفِ بِالْفُرُوعِ فَإِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ آلَةَ مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ، وَالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ نَظَرِ مِثْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ كَمَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَهْمِ الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، مَعَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ يَتَعَلَّمُهَا)).
فَيَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي قَلْبِ الصَّبِيِّ الْإِيمَانُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذَا الْإِيمَانُ أَطْيَبُ وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا يَغْرِسُهُ الْأَبُ وَتَغْرِسُهُ الْأُمُّ فِي قَلْبِ الْوَلَدِ، وَهُوَ فَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَسَاسُ كُلِّ طَاعَةٍ وَبِرٍّ، هُوَ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي اسْتِقَامَةِ الْمَرْءِ، وَاسْتِقَامَةِ الِابْنِ أَوِ الْبِنْتِ.
وَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يُبَيِّنُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ يُرْدِفُهُ خَلْفَهُ قَالَ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: ((وَمَنْ حَفِظَ اللهَ فِي صِبَاهُ وَقُوَّتِهِ حَفِظَهُ اللهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَعَقْلِهِ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)).
((وُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِالْأَبْنَاءِ وَهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ))
وَتَجِبُ الْعِنَايَةُ بِالِابْنِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؛ فَلَا يَجُوزُ إِيذَاؤُهُ، أَوِ التَّسَبُّبُ فِي ذَلِكَ، أَوِ التَّعَدِّي عَلَيْهِ بِإِسْقَاطٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَيُرَاعَى، وَيُتَّقَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ، وَيَسْعَى الْعَبْدُ سَعْيًا حَثِيثًا فِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْوَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُضْعِفَ نَفْسَهَا، أَوْ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُفِيدِ لِطِفْلِهَا رَغْبَةً فِي إِضْعَافِهِ وَإِمَاتَتِهِ، وَهَذَا خُسْرَانٌ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، وَافْتِيَاتٌ وَتَعَدٍّ، وَإِضَاعَةٌ لِحَقٍّ، وَإِسَاءَةٌ.
((ظَاهِرَةُ الْعُنْفِ ضِدَّ الْأَطْفَالِ))
يُعَدُّ الْعُنْفُ ضِدَّ الْأَطْفَالِ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي تُهَدِّدُ صِحَّةَ وَنُمُوَّ الْأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ، وَتُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يُرْشِدُ أَتْبَاعَهُ إِلَى الْحِفَاظِ عَلَى أُسَرِهِمْ، وَأَلَّا يَلْمَسَ مِنْهُمْ أَفْرَادُهَا إِلَّا الرَّحْمَةَ بِمَفْهُومِهَا الْوَاسِعِ فِي التَّرْبِيَةِ.
وَيَتَّخِذُ الْعُنْفُ ضِدَّ الْأَطْفَالِ أَشْكَالًا مُتَعَدِّدَةً تَشْمَلُ الْإِيذَاءَ الْجَسَدِيَّ كَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالنَّفْسِيَّ كَالْإِهَانَةِ وَالْإِهْمَالِ، مِمَّا يَتْرُكُ أَثَرًا سَلْبِيًّا عَمِيقًا عَلَى الْأَطْفَالِ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ النَّفْسِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّةِ.
إِنَّ ظَاهِرَةَ الْعُنْفِ ضِدَّ الْأَطْفَالِ ظَاهِرَةٌ مَرْفُوضَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَالْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ؛ فَقَدْ دَلَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَهَذَا الْأَمْرُ قَدْ نُخَالِفُهُ كَثِيرًا -بَلْ نَحْنُ نُخَالِفُهُ كَثِيرًا-: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُضْرَبَ الصَّغِيرُ عَلَى الصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى عَشْرِ سَنَوَاتٍ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا -أَيْ: عَلَى تَرْكِهَا- لِعَشْرٍ».
فَمَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ أَمْرًا جَازِمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ، وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ أَمْرًا رَفِيقًا فِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ لَا يَصِلُ إِلَى حَدِّ الضَّرْبِ، وَلَكِنْ لَا يُضْرَبُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ.
يَقُولُ النَّفْسِيُّونَ: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ)) يَعْنِي: لَنْ تَجِدَ أَحَدًا أُصِيبَ بِالِاكْتِئَابِ، أَوْ بِالْفِصَامِ، أَوْ بِالْجُنُونِ، أَوْ بِالْهَلَاوِسِ السَّمْعِيَّةِ أَوِ الْبَصَرِيَّةِ أَوِ الْحِسِّيَّةِ، بِأَيِّ مَرَضٍ نَفْسِيٍّ؛ لَنْ يُصَابَ بِهِ عَلَى كِبَرٍ إِلَّا وَقَدْ بَدَأَتِ الْإِصَابَةُ بِهِ فِي الصِّغَرِ، فِي أَيِّ سِنٍّ؟ إِلَى سِتِّ سَنَوَاتٍ.
الْإِنسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَابَ بِالْمَرَضِ النَّفْسِيِّ فِي كِبَرِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ أُصُولُ هَذَا الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَيْهَا فِي صِغَرِهِ.
وَحَدَّدَهَا زَعِيمُ هَؤُلَاءِ (سِيجْمُونْد فُرُويِد) بِسِتِّ سَنَوَاتٍ؛ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السِّتَّ سَنَوَاتٍ الْأُولَى خَطِيرَةٌ جِدًّا فِي حِيَاةِ أَيِّ طِفْلٍ.
عِنْدَمَا تَأْتِي القَسْوَةُ، وَيَأْتِي الضَّرْبُ فِي هَذِهِ السِّنِّ الْبَاكِرَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ ﷺ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
لَمْ يَأْتِ الضَّرْبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ فِي دِينِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ.
وَتَرْكُ الصَّلَاةِ هُوَ أَكْبَرُ كَبِيرٍ يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ هِيَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ يُقِرُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ.
وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجَسَدِ، لَيْسَ هُنَاكَ خَطَأٌ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الطِّفْلُ - وَهُوَ دُونَ العَاشِرَةِ- أَكْبَرَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَمَعَ ذَلِكَ الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ بِالضَّرْبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ إِلَّا عِنْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ.
يَقُولُ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ)): مُجَرَّدُ أَمْرٍ، مَعَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ التَّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ.
وَلَكِنَّ الضَّرْبَ هَاهُنَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ بِنَصِّ حَدِيثِ الرَّسُولِ ﷺ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ))، ثُمْ: ((وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)).
يَأْتِي هَذَا الرَّجُلُ -وَهُوَ ضَالٌّ مُنْحَرِفٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ (سِيجْمُونْد فُرُويِد)- يَقُولُ: ((إِنَّهُ لَا عُصَابَ فِي الْكِبَرِ إِلَّا بِعُصَابٍ فِي الصِّغَرِ))، وَيُحَدِّدُ السِّتَّ سَنَواتٍ الأُولَى.
نَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ قَدِ اهْتَدَيْتَ لِهَذَا، وَكَانَ صَحِيحًا بِالْفِطْرَةِ أَوْ بِوَسَائِلِ الْعِلْمِ الحَدِيثِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ قَالَ ذَلِكَ مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِئَةِ سَنَةٍ ﷺ.
إِذَنْ؛ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدمَا يُحَدِّدُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا يَحْمِي الْإِنْسَانَ مِنْ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَى الْبَوَادِرِ الَّتِي تُؤَدِّي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَرَضِ النَّفْسِيِّ.
وَإِذَنْ؛ فَهَذِهِ الْقَسْوَةُ الْمُفْرَطُ فِيهَا، وَهَذِهِ السُّلُوكِيَّاتُ الْخَاطِئَةُ تُؤَثِّرُ عَلَى النَّفْسِيَّاتِ الْغَضَّةِ الطَّرِيَّةِ!
((مَظَاهِرُ الْعُنْفِ ضِدَّ الْأَطْفَالِ))
إِنَّ مَظَاهِرَ الْعُنْفِ ضِدَّ الْأَطْفَالِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَصُوَرُهُ مُؤْلِمَةٌ.
* مِنْهَا: الْعُنْفُ اللَّفْظِيُّ أَوِ النَّفْسِيُّ: وَهُوَ اسْتِخْدَامُ الْأَلْفَاظِ الْبَذِيئَةِ الَّتِي يَتَلَفَّظُ بِهَا الْوَالِدَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا؛ مِنْ سَبٍّ وَشَتْمٍ، وَتَوْبِيخٍ لِلْأَبْنَاءِ، وَتَهْدِيدٍ وَإِهَانَةٍ، وَيُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعُنْفِ مِنْ أَكْثَرِ الْمَظَاهِرِ تَأْثِيرًا عَلَى نَفْسِيَّةِ الطِّفْلِ؛ حَيْثُ يُفْقِدُهُ قِيمَتَهُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ.
وَالنَّاظِرُ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ يَجِدُ أَنَّهُ تَحَاشَى هَذَا النَّوْعَ؛ خَاصَّةً مَعَ الضُّعَفَاءِ وَالصِّغَارِ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟!». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَهَلْ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَلَّا يَقُولَ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَ سِنِينَ.. أَلَّا يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ؟!
فَأَنَسٌ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَهَذَا أَدْعَى لِأَنْ يُعَامِلَهُ بِمَا لَمْ يُعَامِلْ بِهِ وَلَدَهُ؛ وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
«أُفٍّ»: كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ.
لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُ قَطُّ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَسٌ كَانَ صَبِيًّا بَعْدُ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ -وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّدْلِيلِ-! أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».
قَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ)).
فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ، وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ-.
* وَمِنْ صُوَرِ الْعُنْفِ: الْعُنْفُ الْجَسَدِيُّ: وَهُوَ الْإِيذَاءُ الْبَدَنِيُّ؛ سَوَاءٌ بِالْيَدِ، أَوْ بِاسْتِخْدَامِ الْعَصَا أَوْ أَدَاةٍ حَادَّةٍ، وَغَالِبًا مَا تَتْرُكُ آثَارًا عَلَى جَسَدِ الطِّفْلِ يَصْعُبُ إِخْفَاؤُهَا، وَهَذَا الْعُنْفُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَشْكَالِ وُضُوحًا، وَالْمُسْتَقْرِئُ لِحَيَاةِ الرَّسُولِ ﷺ يَرَى انْعِدَامَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعُنْفِ فِي مُعَامَلَاتِهِ ﷺ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا بِيَدِهِ قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-» . رَوَاهُ مُسلِمٌ.
* وَمِنْ أَبْشَعِ صُوَرِ الْعُنْفِ وَمَظَاهِرِهِ ضِدَّ الْأَطْفَالِ: الْعُنْفُ الْجِنْسِيُّ: وَهُوَ اسْتِخْدَامُ الْأَطْفَالِ -سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا- لِإِشْبَاعِ الرَّغْبَةِ الْجِنْسِيَّةِ بِالْإِكْرَاهِ أَوِ الْخَدِيعَةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ إِيذَاءٍ لِلطِّفْلِ وَانْتِهَاكٍ لِخُصُوصِيَّتِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى أَنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَى انْسِلَاخِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَدَلِيلٌ عَلَى انْطِمَاسِ الْبَصِيرَةِ؛ فَيَجِبُ حِمَايَةُ الْأَطْفَالِ مِنْ مَرْضَى الشُّذُوذِ الْجِنْسِيِّ.
((فِي مُقْتَبَلِ عُمُرِ الطِّفْلِ يَجِبُ أَنْ يَحْرِصَ الْأَبُ عَلَى حِمَايَةِ وَلَدِهِ مِنَ الشَّاذِّينَ، وَيَحْذَرَ إِهْمَالَ ذَلِكَ؛ فَقَدِ اعْتَرَفَ أَحَدُ الشَّاذِّينَ الْعَرَبِ، وَبَاحَ بِسَبَبِ انْحِرَافِهِ وَشُذُوذِهِ؛ حَيْثُ كَانَ أَبَوَاهُ يُهْمِلَانِهِ بِانْشِغَالِهِمَا خَارِجَ الْبَيْتِ وَهُوَ فِي سِنِّ الطُّفُولَةِ؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى وُقُوعِهِ ضَحِيَّةً لِأَحَدِ رُفَقَاءِ السُّوءِ؛ حَيْثُ كَانَ يَجْهَلُ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ.
وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ أَنْ يَحْذَرَ -أَيْضًا- كُلَّ مَنْ لَا يَخَافُ اللهَ مِنَ الْفُسَّاقِ وَنَحْوِهِمْ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، أَوِ الْجِيرَانِ، أَوِ الْأَسَاتِذَةِ؛ فَإِنَّ الْإِحْصَاءَاتِ فِي أَمريكَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ الِاعْتِدَاءَاتِ الْجِنْسِيَّةِ عَلَى الْأَطْفَالِ تَقَعُ مِنْ أَفْرَادٍ يَعْرِفُونَهُمْ؛ كَأُسْتَاذِ الْمَدْرَسَةِ، أَوْ طَبِيبِ الْعَائِلَةِ، أَوْ مُسْتَشَارِ الْمُخَيَّمِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْتَهِدَ الْأَبُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَرِعَايَتِهِ، فَلَا يَتْرُكُ مَجَالًا لِخَلْوَةِ الْوَلَدِ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوفُ.
وَرُبَّمَا يَحْدُثُ الِاعْتِدَاءُ الْجِنْسِيُّ مِنْ قِبَلِ طِفْلٍ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَطْفَالِ يَنْضُجُونَ جِنْسِيًّا فِي مَرْحَلَةٍ مُبَكِّرَةٍ، كَمَا أَنَّهُ بِالْإِمْكَانِ قِيَامُ عَلَاقَاتٍ جِنْسِيَّةٍ بَيْنَ الْأَوْلَادِ قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ لِأَصْدِقَاءِ الْوَلَدِ مِمَّنْ هُمْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَصْغَرُ سِنًّا يُعَدُّ اخْتِيَارًا حَسَنًا مَأْمُونًا؛ فَلَا يَتْرُكُهُ يُصَاحِبُ الْكِبَارَ مِنَ الصِّبْيَانِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ وَيَتَأَكَّدَ مِنِ اسْتِقَامَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ.
وَيَتَنَبَّهُ الْأَبُ لِلتَّقْلِيلِ مِنْ خَلْوَةِ الْوَلَدِ قَبْلَ سِنِّ الْبُلُوغِ بِغَيْرِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ يَزِيدُونَ؛ لِلتَّقْلِيلِ مِنِ احْتِمَالِ غِوَايَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ؛ فَالشَّيْطَانُ أَقْرَبُ لِلِاثْنَيْنِ مِنْهُ إِلَى الثَّلَاثَةِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ انْتِشَارِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَجُرْأَةِ أَهْلِهَا: الْمُيُوعَةُ، وَالتَّخَنُّثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الصِّبْيَانِ.
فَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا التَّمَيُّعِ وَالِانْحِلَالِ: إِطَالَةُ الْوَلَدِ لِشَعْرِهِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ، وَلُبْسُ الْبَنْطَلُونِ الضَّيِّقِ الْوَاصِفِ لِلْبَدَنِ، أَوْ لُبْسُ بَعْضِ الْمَلَابِسِ الْخَاصَّةِ بِالشَّاذِّينَ، وَجَرُّ الذُّيُولِ، وَالتَّكَسُّرُ فِي الْمِشْيَةِ، وَالْخُضُوعُ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّرَدُّدُ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمَشْبُوهَةِ.
فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْوَلَدِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ الْمُنْحَرِفَةِ؛ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ الْحَذَرُ مِنِ احْتِمَالِ انْحِرَافِ وَلَدِهِ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ يَجْهَلُ قُبْحَ هَذِهِ الْقَضَايَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ يَنْتَظِرُونَ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ لِيَنْقَضُّوا عَلَى فَرِيسَتِهِمْ بِشَتَّى الْوَسَائِلِ وَالْحِيَلِ الْمَاكِرَةِ.
وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ مِنْ تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ عَلَى الرُّجُولَةِ وَالْخُشُونَةِ؛ خَاصَّةً إِنْ كَانَ الْوَلَدُ جَمِيلَ الْمَطْلَعِ، فَيُعَوِّدُهُ الْخُشُونَةَ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ، وَيُعَوِّدُهُ الرِّيَاضَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي تَبْنِي جِسْمَهُ وَتُخَشِّنُ جِلْدَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَوِّدَهُ حِلَاقَةَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ شَعْرُهُ سَبَبَ جَمَالِهِ؛ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي التَّعَامُلِ مَعَ الرَّجُلِ الْجَمِيلِ الَّذِي افْتُتِنَ بِهِ النِّسَاءُ.
وَيُعَوِّدُ وَلَدَهُ لُبْسَ الْمَلَابِسِ وَالثِّيَابِ الْفَضْفَاضَةِ، وَتَغْطِيَةَ رَأْسِهِ تَشَبُّهًا بِالْكِبَارِ الْبَالِغِينَ، وَيُحَذِّرُهُ مِنْ إِسْبَالِ الثَّوْبِ كَالنِّسَاءِ، وَلُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ؛ فَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ التَّخَنُّثِ وَالْمُيُوعَةِ، إِلَى جَانِبِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الرِّجَالِ.
وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِ وَالْغِنَى فَإِنَّ وَاجِبَهُ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ آكَدُ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْعَادَةِ مُرَفَّهُونَ، وَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ أَثَرُ النِّعْمَةِ؛ مِنْ نُعُومَةِ الْبَدَنِ، وَصَفَاءِ اللَّوْنِ، وَطِيبِ الرَّائِحَةِ، وَحُسْنِ ارْتِدَاءِ الثِّيَابِ، فَيَكُونُونَ بِذَلِكَ أَرْغَبَ وَأَدْعَى لِوُقُوعِهِمْ تَحْتَ أَيْدِي الْمُنْحَرِفِينَ؛ لِهَذَا فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُحَذِّرُ مِنْ مُجَالَسَةِ أَبْنَاءِ الْأُسَرِ الْمُتْرَفَةِ.
يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ: ((وَلَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ، وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنَ الْعَذَارَى)).
كَمَا أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ الْوَلَدِ فَرِيسَةً لِأَحَدِ الشَّاذِّينَ فِي الْأُسَرِ الْغَنِيَّةِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الْأُسَرِ الْمُتَوَسِّطَةِ الْحَالِ أَوِ الْفَقِيرَةِ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأُسَرَ الْغَنِيَّةَ فِي الْعَادَةِ يُشَارِكُهَا فِي الْمَسْكَنِ خَدَمٌ وَعُمَّالٌ وَأَفْرَادٌ مِنْ غَيْرِ الْأُسْرَةِ يُقَدِّمُونَ الْخِدْمَةَ لِلْأُسْرَةِ، وَيَقُومُونَ عَلَى رِعَايَةِ شُؤُونِهَا، وَعَادَةً يَنْتَمِي هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ إِلَى ثَقَافَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ الْجَهْلُ وَقِلَّةُ الدِّينِ، فَنَادِرًا مَا يَكُونُ مِنْ بَيْنِهِمُ الصَّالِحُ الْمُسْتَقِيمُ، إِلَى جَانِبِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مِنَ الْعُزَّابِ، أَوِ الْمُغْترِبِينَ عَنْ أَهْلِيهِمْ، وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى الْأَوْلَادِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانُوا مُؤْتَمَنِينَ حَتَّى عَلَى النِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ، فَلَا يَجِدُ الْأَبُ غَضَاضَةً عِنْدَمَا يَجِدُ وَلَدَهُ جَالِسًا يَتَحَدَّثُ فِي غُرْفَةِ الْخَادِمِ، وَلَا يَأْبَهُ إِذَا خَلَا الْبَيْتُ لِلْخَدَمِ وَالْأَوْلَادِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِهْمَالِ وَالتَّقْصِيرِ مِنَ الْأَبِ يُعَدُّ مَدْعَاةً لِوُقُوعِ الْفَاحِشَةِ بِالْوَلَدِ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْأَبِ، وَرُبَّمَا اسْتَمَرَّ وُقُوعُ الْفَاحِشَةِ بِالْوَلَدِ فَتْرَةً طَوِيلَةً تَحْتَ طَائِلَةِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْإِقْنَاعِ، أَوْ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مَاكِرَةٍ خَبِيثَةٍ؛ خَاصَّةً وَأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي لَمْ يُعْنَ وَالِدُهُ بِتَرْبِيَتِهِ يَقِلُّ فَهْمُهُ لِلْأُمُورِ، فَلَا يُدْرِكُ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ)).
كَمَا حَدَثَ مَعَ ذَلِكَ الشَّابِّ الَّذِي تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ، وَالَّذِي كَانَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ كَانَ فَرِيسَةً لِأَحَدِ الْمُنْحَرِفِينَ بِسَبَبِ إِهْمَالِ وَالِدَيْهِ، وَجَهْلِهِ بِمَبَادِئِ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ.
وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَرِعَايَتُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِالذَّاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا الشُّذُوذَ صَارَتْ مُؤَسَّسَاتٌ وَدُوَلٌ.. وَصَارَتْ جَمْعِيَّاتٌ وَمَرَاكِزُ تَدْعُو إِلَيْهِ وَتُزَيِّنُهُ، وَتَبُثُّهُ بَيْنَ النَّاسِ يَسْرِي فِي جَسَدِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ سَرَيَانَ الْمَرَضِ الْخَبِيثِ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ.
فَعَلَى كُلِّ أَبٍ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُلَاحِظَ وَلَدَهُ، وَأَنْ يَقُومَ عَلَى حِيَاطَتِهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.
((رِفْقُ النَّبِيِّ ﷺ بِالْأَطْفَالِ))
لَقَدْ كَانَ الرِّفْقُ مَعَ الْأَطْفَالِ شَاخِصًا مُجَسَّدًا فِي مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُمْ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ ﷺ مُسْتَرْضَعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ وَلَدُهُ إِبْرَاهِيمُ، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَنَسٌ: ((وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ -يَعْنِي: إِبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ ﷺ- وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَاللهِ! إِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» -بِالْفَتْحِ-: وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.
قَالَ الْقَاضِي«»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ«».
«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.
«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا» أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ، وَصِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.
وَفِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.
فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْؤُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى؛ يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ- لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ -فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ-.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: ((إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»«». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((رِسَالَةُ أَبٍ نَدِمَ عَلَى قَسْوَتِهِ مَعَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ!))
وَهَذِهِ رِسَالَةٌ كَتَبَهَا أَبٌ لِابْنِهِ عَلَى إِثْرِ قَسْوَةٍ بَدَرَتْ مِنْهُ، وَعُنْفٍ ظَهَرَ عَلَيْهِ -عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الطِّفْلِ-.
كَتَبَ: يَا بُنَيَّ! أَكْتُبُ هَذَا وَأَنْتَ رَاقِدٌ أَمَامِي عَلَى فِرَاشِكَ، سَادِرٌ فِي نَوْمِكَ، وَقَدْ تَوَسَّدْتَ كَفَّكَ الصَّغِيرَ، وَانْعَقَدَتْ خُصُلَاتُ شَعْرِكَ الذَّهَبِيِّ فَوْقَ جَبْهَتِكَ الْغَضَّةِ.
فَمُنْذُ لَحَظَاتٍ خَلَتْ، كُنْتُ جَالِسًا إِلَى مَكْتَبِي أُطَالِعُ الْكِتَابَ، وَإِذَا بِفَيْضٍ غَامِرٍ مِنَ النَّدَمِ يَطْغَى عَلَيَّ، فَمَا تَمَالَكْتُ إِلَّا أَنْ تَسَلَّلْتُ إِلَى مَخْدَعِكَ، وَوَخْزُ الضَّمِيرِ يُصْلِينِي نَارًا.
وَإِلَيْكَ الْأَسْبَابَ يَا بُنَيَّ الَّتِي أَشَاعَتِ النَّدَمَ فِي نَفْسِي:
أَتَذْكُرُ صَبَاحَ الْيَوْمِ؟
لَقَدْ عَنَّفْتُكَ وَأَنْتَ تَرْتَدِي ثِيَابَكَ؛ تَأَهُّبًا لِلذَّهَابِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ؛ لِأَنَّكَ عَزَفْتَ عَنْ غَسْلِ يَدَيْكَ، وَاسْتَعَضْتَ عَنْ ذَلِكَ بِمَسْحِهِمَا بِالْمِنْشَفَةِ.
وَلُمْتُكَ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تُنَظِّفْ حِذَاءَكَ كَمَا يَنْبَغِي، وَصِحْتُ بِكَ مُغْضَبًا؛ لِأَنَّكَ نَثَرْتَ بَعْضَ الْأَدَوَاتِ عَفْوًا عَلَى الْأَرْضِ!
وَعَلَى مَائِدَةِ الْإِفْطَارِ أَحْصَيْتُ لَكَ الْأَخْطَاءَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً؛ فَقَدْ أَرَقْتَ حِسَاءَكَ، وَالْتَهَمْتَ طَعَامَكَ، وَأَسْنَدْتَ مِرْفَقَيْكَ إِلَى حَافَةِ الْمَائِدَةِ، وَوَضَعْتَ نَصِيبًا مِنَ الزُّبْدِ عَلَى خُبْزِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الذَّوْقُ!
وَعِنْدَمَا وَلَّيْتَ وَجْهَكَ شَطْرَ مَدْرَسَتِكَ، وَاتَّخَذْتُ أَنَا الطَّرِيقَ إِلَى مَحَطَّةِ الْقِطَارِ، الْتَفَتَّ إِلَيَّ وَلَوَّحْتَ لِي بِيَدِكَ الصَّغِيرَةِ، وَهَتَفْتَ: ((مَعَ السَّلَامَةِ يَا أَبِي!!)).
وَقَطَّبْتُ لَكَ جَبِينِي، وَلَمْ أُجِبْكَ، ثُمَّ أَعَدْتُ الْكَرَّةَ فِي الْمَسَاءِ؛ فَفِيمَا كُنْتُ أَعْبُرُ الطَّرِيقَ؛ لَمَحْتُكَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْكَ تَلْعَبُ، وَقَدْ بَدَتْ عَلَى جَوْرَبَيْكَ ثُقُوبٌ، فَأَذْلَلْتُكَ أَمَامَ أَقْرَانِكَ؛ إِذْ سَيَّرْتُكَ أَمَامِي إِلَى الْمَنْزِلِ مُغْضَبًا بَاكِيًا، إِنَّ الْجَوَارِبَ -يَا بُنَيَّ- غَالِيَةُ الثَّمَنِ، وَلَوْ كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشْتَرِيهَا؛ لَتَوَفَّرْتَ عَلَى الْعِنَايَةِ بِهَا، وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا.
أَفَتَتَصَوَّرُ هَذَا يَحْدُثُ مِنْ أَبٍ؟!!
ثُمَّ أَتَذَكَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَا أُطَالِعُ فِي غُرْفَتِي: كَيْفَ جَئِتَ تَجُرُّ قَدَمَيْكَ مُتَخَاذِلًا، وَفِي عَيْنَيْكَ عِتَابٌ صَامِتٌ، فَلَمَّا نَحَّيْتُ الْكِتَابَ عَنِّي وَقَدْ ضَاقَ صَدْرِي لِقَطْعِكَ عَلَيَّ حَبْلَ خَلْوَتِي، وَقَفْتَ بِالْبَابِ مُتَرَدِّدًا، فَصِحْتُ بِكَ أَسْأَلُكَ: مَاذَا تُرِيدُ؟!!
لَمْ تَقُلْ شَيْئًا، وَلَكِنَّكَ -يَا بُنَيَّ- انْدَفَعْتَ إِلَيَّ، وَطَوَّقْتَ عُنُقِي بِذِرَاعَيْكَ وَقَبَّلْتَنِي، وَشَدَدْتَ ذِرَاعَيْكَ الصَّغِيرَتَيْنِ حَوْلِي فِي عَاطِفَةٍ أَوْدَعَهَا اللهُ قَلْبَكَ الطَّاهِرَ مُزْدَهِرَةً، لَمْ يَقْوَ حَتَّى الْإِهْمَالُ عَلَى أَنْ يَذْوِيَ بِهَا.
ثُمَّ انْطَلَقْتَ مُهَرْوِلًا، تَصْعَدُ الدَّرَجَ إِلَى غُرْفَتِكَ.
يَا بُنَيَّ! لَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبُرْهَةٍ وَجِيزَةٍ، أَنِ انْزَلَقَ الْكِتَابُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِي، وَعَصَفَ بِنَفْسِي أَلَمٌ عَاتٍ!!
يَا اللهُ! إِلَى أَيْنَ كَانَتِ الْعَادَةُ تَسِيرُ بِي؟!!
عَادَةُ التَّفْتِيشِ عَنِ الْأَخْطَاءِ! عَادَةُ اللَّوْمِ وَالتَّأْنِيبِ!!
أَكَانَ ذَلِكَ جَزَاءَكَ مِنِّي عَلَى أَنَّكَ مَا زِلْتَ طِفْلًا؟!!
كَلَّا، لَمْ يَكُنْ مَرَدُّ الْأَمْرِ أَنِّي لَا أُحِبُّكَ، بَلْ كَانَ مَرَدُّهُ أَنِّي طَالَبْتُكَ بِالْكَثِيرِ، بِرَغْمِ طُفُولَتِكَ!!
كُنْتُ أَقِيسُكَ بِمِقْيَاسِ سِنِّي، وَخِبْرَتِي، وَتَجَارِبِي!!
وَلَكِنَّكَ كُنْتَ فِي قَرَارَةِ نَفْسِكَ تَعْفُو وَتُغْضِي، وَكَانَ قَلْبُكَ الصَّغِيرُ كَبِيرًا كِبَرَ الْفَجْرِ الْوَضَّاءِ فِي الْأُفُقِ الْفَسِيحِ!!
فَقَدْ بَدَا لِي هَذَا فِي جَلَاءٍ مِنَ الْعَاطِفَةِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي حَدَتْ بِكَ إِلَى أَنْ تَنْدَفِعَ إِلَيَّ -مَعَ قَسْوَتِي عَلَيْكَ- وَتُقَبِّلَنِي قُبْلَةَ الْمَسَاءِ.
لَا شَيْءَ يُهِمُّ اللَّيْلَةَ يَا بُنَيَّ! لَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى مَخْدَعِكَ فِي الظَّلَامِ، وَجَثَوْتُ أَمَامَكَ مَوْصُومًا بِالْعَارِ، وَإِنَّهُ لِتَفْكِيرٌ ضَعِيفٌ.
أَعْرِفُ أَنَّكَ لَنْ تَفْهَمَ مِمَّا أَقُولُ شَيْئًا لَوْ قُلْتُهُ لَكَ فِي يَقَظَتِكَ، وَلَكِنِّي مِنَ الْغَدِ سَأَكُونُ أَبًا حَقًّا!!
سَأَكُونُ زَمِيلًا وَصَدِيقًا!!
سَأَتَأَلَّمُ عِنْدَمَا تَتَأَلَّمُ، سَأَضْحَكُ عِنْدَمَا تَضْحَكُ، سَأَعَضُّ لِسَانِي إِذَا انْدَفَعَتْ إِلَيْكَ كَلِمَةٌ مِنْ كَلِمَاتِ اللَّوْمِ وَالْعِتَابِ!! وَسَأُرَدِّدُ عَلَى الدَّوَامِ -كَمَا لَوْ كُنْتُ أُرَاجِعُ مَحْفُوظِي-: إِنْ هُوَ إِلَّا طِفْلٌ!!
لَشَدَّ مَا يَحُزُّ فِي نَفْسِي أَنَّنِي نَظَرْتُ إِلَيْكَ كَرَجُلٍ، إِلَّا أَنَّنِي وَأَنَا أَتَأمَّلُكَ الْآنَ مُنْكَمِشًا فِي مَهْدِكَ؛ أَرَى أَنَّكَ مَا زِلْتَ طِفْلًا، وَبِالْأَمْسِ الْقَرِيبِ كُنْتَ بَيْنَ ذِرَاعَيْ أُمِّكَ تَسْتَنِدُ وَرَأْسُكَ الصَّغِيرُ إِلَى كَتِفِهَا!!
وَقَدْ حَمَّلْتُكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ!!
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا جَمِيعًا بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ، وَأَنْ يَحْفَظَ أَوْلَادَنَا وَأَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الْبِيئَةُ هِيَ الرَّحِمُ الثَّانِي وَالْأُمُّ الْكُبْرَى