رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ  وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ

وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.  

أَمَّا بَعْدُ:

((اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا، خَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا، فَسَوَاءٌ جَهَرْتَ بِقَوْلِكَ أَوْ أَسْرَرْتَهُ؛ فَالْكُلُّ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ لِعِلْمِهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي خَلَجَاتِ قُلُوبِكُم وَخَطَرَاتِ نُفُوسِكُم، فَخَافُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ كَثِيرُ السَّتْرِ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذُنُوبِهِ، حَلِيمٌ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَنْ جَاهَرَ بِالْمَعْصِيَةِ، بَلْ يَسْتُرُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ.

يَعْلَمُ مَا يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمِيَاهِ، وَالْأَحْيَاءِ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، حَتَّى الْبِكْتِيرْيَاتِ وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا، وَيَشْمَلُ الْأَشِعَّةَ وَالْحَرَارَةَ حَتَّى أَصْغَرَ جُزْءٍ مِنْهَا، وَيَشْمَلُ الْقُوَى الْمُخْتَلِفَةَ؛ وَمِنْهَا الْجَاذِبِيَّةُ حَتَّى أَقَل مِقْدَارٍ مِنْهَا، وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ؛ مِنَ الشَّجَرِ، وَالنَّبَاتِ، وَالعُيُونِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْأَمْوَاتِ إِذَا بُعِثُوا.

وَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ، والبَرَدِ وَالشُّهُبِ، وَأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَالْأَنْوَارِ، وَأَنْوَاعِ الْبَرَكَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ.

وَيَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْرُجُ فِي السَّمَاءِ صَاعِدًا مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ مِنْ إِحْدَى السَّمَوَاتِ إِلَى مَا فَوْقَهَا، إِلَى آخِرِ بُعْدٍ مِنْ أَبْعَادِ السَّمَوَاتِ؛ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْوَاحِ وَالدُّعَاءِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَكُمْ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْنَمَا كُنْتُمْ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِكُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

يَعْلَمُ اللهُ سُبْحَانَهُ مُسَارَقَةَ الْأَعْيُنِ لِلنَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، وَيَعْلَمُ مُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ مِمَّا لَا يُظْهِرُهُ أَصْحَابُهَا؛ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي يُخْفِيهِ الْمُنَافِقُونَ، وَمِنَ الرِّيَاءِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْحُبِّ، وَمِنَ النِّيَّاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالرَّغَبَاتِ، فَيَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.

«مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ وَالْإِحْسَانِ»

عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ..

وَسَأَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- النَّبِيَّ ﷺ عَن: الإِسْلَامِ، وَالإِيمَانِ، وَالإِحْسَانِ.

قَالَ جِبْرِيلُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

الإِحْسَانُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي تَفْسِيرِهِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».

يُشِيرُ إِلَى أَنَّ العَبْدَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهُوَ اسْتِحْضَارُ قُرْبِهِ، وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الخَشْيَةَ وَالخَوْفَ، وَالهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ.

كَمَا جَاءَ في روايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ-: «أَنْ تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».

وَيُوجِبُ -أَيْضًا- النُّصْحَ فِي العِبَادَةِ، وَيُوجِبُ بَذْلَ الجُهْدِ فِي تَحْسِينِهَا، وَإِتْمَامِهَا، وَإِكْمَالِهَا.

وَقَوْلُهُ ﷺ: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»: قِيلَ إِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا أُمِرَ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ فِي العِبَادَةِ، وَاسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِن عَبْدِهِ حَتَّى كَأَنَّ العَبْدَ يَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِإِيمَانِهِ بِأَنَّ اللهَ يَرَاهُ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ.

فَإِذَا حَقَّقَ هَذَا المَقَامَ؛ سَهُلَ عَلَيْهِ الانْتِقَالُ إِلَى المَقَامِ الثَّانِي، وَهُوَ: دَوَامُ التَّحْدِيقِ بِالبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللهِ مِن عَبْدِهِ، وَمَعِيَّتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ.

وَقِيلَ: بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَلْيَعْبُدِ اللهَ عَلَى أَنَّ اللهَ يَرَاهُ وَيَطَّلِعَ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَحِ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اليَقِينِ: «اتَّقِ اللهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ».

وَهِيَ كَلِمَةٌ صَادِعَةٌ، تَصْدَعُ القَلْبَ وَتُفَتِّتُهُ.

((اتَّقِ اللهَ أَنْ يَكُونَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكَ)): يَعْنِي يَتَحَرَّزُ المَرْءُ مِنَ المَعَاصِي بِنَظَرِ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَلَا فَعَلَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَجْعَلُ اللهَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ نَظَرَ اللهِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ نَظَرِ المَخْلُوقِينَ إِلَيْهِ؛ لَتَحَرَّزَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الخَلْوَةِ كَمَا تَحَرَّزَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الجَلْوَةِ.

وَلَكِنْ يَتَحَرَّزُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الجَلْوَةِ وَيَجْتَرِئُ عَلَيْهَا فِي الخَلْوَةِ، فَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ اللهَ أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُبَالِ بِنَظَرِ اللهِ إِلَيْهِ!!

وَقَالَ بَعْضُهُم: «خَفِ اللهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحِ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ».

وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

وَيَتَفَاوتُ أَهْلُ هَذَا الْمَقَامِ فِيهِ -يَعْنِي مَقَامَ الإِحْسَانِ- بِحَسَبِ قُوَّةِ نُفُوذِ البَصَائِرِ.

 ((رَمَضَانُ شَهْرُ التَّرْبِيَةِ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِي هَذَا الصِّيَامِ سِرًّا لَطِيفًا جِدًّا؛ إِذْ هُوَ الْمُعَامَلَةُ الْحَقَّةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ وَلِذَلِكَ فَهُوَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ سِوَى ذَلِكَ، وَمَا هِيَ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا كَفٌّ بِنِيَّةٍ، وَامْتِنَاعٌ عَنْ تَلَذُّذٍ بِشَهْوَةِ وَقَاعٍ أَوْ شَهْوَةِ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، مَعَ إِمْسَاكٍ لِلْجَوَارِحِ عنِ الْوُلُوغِ فِيمَا يَسُوءُ.

ثُمَّ إِقْبَالٌ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ عَابِدٍ مُخْبِتٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

«فَالصَّوْمُ هُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ؛ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ.

فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذَاتِهَا؛ إِيثَارًا لِمَحَبَّةِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ.

وَالصِّيَامُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ وَمَوْلَاهُ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يطَّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصَّوْمِ» .

((ضَرُورَةُ مُرَاقَبَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ))

فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الَّذِي رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُرَاقِبَ السِّرَّ، وَأَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مُرَاقَبَةِ الْبَاطِن، وَأَنْ يَكُونَ حَذِرًا.

فَعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَالَ: ((كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟)).

فَقُلْتُ: ((نَافَقَ حَنْظَلَةُ))؛ أَيْ: قَارَبَ أَوْ شَارَفَ النِّفَاقَ، وَلَمْ يُنَافِقْ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

فَقَالَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ!! مَا تَقُولُ؟!!)).

فقَالَ قُلْتُ: ((إِنَّا نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ  يُحَدِّثُنَا عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ؛ فَإِذَا انْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَافَسْنَا الْأَوْلَادَ، وَالْأَزْوَاجَ، وَالضَّيْعَاتِ؛ نَسِينَا كَثِيرًا)).

فقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَاللَّهِ إِنَّا لَنَجِدُ مَا تَقُولُ))، وَلَكِنَّهُ لَمْ يذكر نِفَاقًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؛ فَقَالَ حَنْظَلَةُ: ((نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ )).

فَقَالَ ﷺ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).

فَقَالَ: ((نَكُونُ عِنْدَكَ تُحَدِّثُنَا عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا انْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِكَ، وَعَافَسْنَا الزَّوْجَاتِ، وَالْأَوْلَادَ، وَالضَّيْعَاتِ؛ نَسِينَا كَثِيرًا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي، بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الَّذِي تَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدِي؛ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الطُّرُقَاتِ وَعَلَى فُرُشِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً، سَاعَةً وَسَاعَةً)).

فَحَنْظَلَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُرَاقِبُ سِرَّهُ، وَيَنْظُرُ فِي أَطْوَاءِ ضَمِيرِهِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَوَجَدَ تَفَاوُتًا بَيْنَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي مَنَاحِي حَيَاتِهِ بَعْدُ؛ فَزِعَ مِنْ ذَلِكَ وَحَسِبَهُ نِفَاقًا.

ثَمَّ لَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ غَيْرِ إِفْصَاحٍ وَلَا بَيَانٍ، وَإِنَّمَا سَعَى فِي كَشْفِ حَقِيقَةِ الْحَالِ.

فَلَمَّا لَقِيَهُ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَخْبَرَهُ بِالَّذِي يَجِدُ مِنْ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ، مِمَّا حَسِبَهُ نِفَاقًا، أَوْ مُشْرِفًا بِهِ عَلَى النِّفَاقِ، ثُمَّ سَارَعَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وَهُنَالِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهِيَ: أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَاتِ، وَأَنَّ أَهْلَهُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ.

فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ؛ صَحَّحَ لَهُ الْحَالَ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَصْلِ النَّظَرِ فِي هَذَا الْحَالِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: لَا تُفَكِّرْ هَكَذَا مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا صَحَّحَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ اسْتِنْتَاجَهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى تَفْتِيشِهِ فِي ضَمِيرِهِ، وَبَحْثِهِ فِي سَرِيرَتِهِ، وَتَنْقِيبِهِ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُصَحِّحًا: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الَّذِي تَكُونُونَ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الطُّرُقَاتِ، وَعَلَى فُرُشِكُمْ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مُصَحِّحًا أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ لَا يَضُرُّ شَيْئًا، مَعَ بَقَاءِ الْمَرْءِ عَلَى حَقِيقَةِ إِيمَانِهِ؛ وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ هَذَا الْحَالُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إِلَى نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ.

فَلَمْ يُقِرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى اسْتِنْتَاجِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّهُ عَلَى أَصْلِ التَّفْتِيشِ فِي الْحَالِ، وَالنَّظَرِ فِي أَطْوَاءِ الْقَلْبِ، وَمُرَاعَاةِ أَحْوَالِ الْفُؤَادِ.

فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّ إِيمَانَهُ يَزِيدُ بِمَا يَسْمَعُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَبِمَا يَتَعَلَّمُ، وَأَنَّهُ إِذَا مَا انْصَرَفَ إِلَى الْحَيَاةِ فَعَالَجَهَا، وَكَانَ فِي أَحْوَالِهَا وَوَسَائِلِهَا؛ فَإِنَّ إِيمَانَهُ يَتَفَاوَتُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ.

إِذَنْ؛ رِقَابَةُ السِّرِّ، وَمُرَاعَاةُ الضَّمِيرِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي، قَدْ يُسْلَبُ الْمَرْءُ إِيمَانَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ يُسْلَبُهُ.

((مِنْ عَلَامَاتِ رِقَابَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ:

الْخَوْفُ مِنَ النِّفَاقِ))

أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ فِي ((صِفَةِ النِّفَاقِ)) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ، وَيُكْثِرُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ؛ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ النِّفَاقِ -يُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ-، قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ، قُلْتُ: وَمَا لَكَ أَنْتَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ وَالنِّفَاقُ؟!!))

يَعْنِي: مِثْلُكَ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ النِّفَاقُ، وَلَا يَخَافُ هُوَ مِنَ النِّفَاقِ؛ لِسَابِقَةِ إِسْلَامِهِ، وَسَبْقِهِ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْمُجَاهَدَةِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَبَذْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالْكَفِّ عَنِ الشُّرُورِ.

قَالَ: ((غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ, مَا أَنْتَ وَالنِّفَاقَ؟ مَا شَأْنُكَ وَمَا شَأْنُ النِّفَاقِ؟))

فَقَالَ: «اللَّهُمَّ غَفْرًا ثَلَاثًا, مَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ؟ مَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ؟, وَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْتَتَنُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ».

فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا كَانَ قَائِمًا عَلَى حَالٍ مِنْ حَالَاتِ الصِّحَّةِ؛ صِحَّةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، صِحَّةِ الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ فِيمَا هُوَ ظَاهِرٌ، ثُمَّ يَكُونُ مُنْتَهَاهُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى النِّفَاقِ، وَالسُّقُوطِ فِيهِ!!

-نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا-.

 فَاسْتَنْكَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  تِلْكَ الْمُرَاجَعَةَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ثَلَاثًا: «اللَّهُمَّ غَفْرًا ثَلَاثًا, مَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ؟ مَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ؟, وَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْتَتَنُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ».

 

فَالْحَيُّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ يَخْشَوْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ!!)).

ذَكَرَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّفَاقِ فِي الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ)).

فَهُؤَلَاءِ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مَا مِنْهُمْ وَاحِدٌ إِلَّا وَكَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ.

وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ((أَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ صَحِيحِ الْإِيمَانِ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ النِّفَاقَ وَلَا يَخْشَاهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَأْمَنُهُ إِلَّا مُنَافِقٌ)).

لَا يَأْمَنُ النِّفَاقَ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَلَا يَخَافُهُ وَيَخْشَاهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ.

فَالْإِنْسَانُ طَالَمَا كَانَ حَيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَا يُقْبَضُ عَلَيْهِ مِنْ حَالٍ، وَلَعَلَّ الْإِنْسَانَ تَأْتِيهِ فِتْنَةٌ، أَوْ تَنْزِلُ بِهِ مِحْنَةٌ؛ حَتَّى يُزَالَ عَنْ إِيمَانِهِ، وَيَتَرَدَّى فِي النِّفَاقِ -عِيَاذًا بِاللهِ، وَلِيَاذًا إِلَى جَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

رِقَابَةُ السِّرِّ، وَالْقِيَامُ عَلَى النَّظَرِ فِي الضَّمِيرِ، وَالْفَحْصُ فِي أَحْوَالِ النِّيَّةِ، وَتَتَبُّعُ الْبَوَاعِثِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ -بَلْ وَالتُّرُوكِ-، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ بَحْثًا، وَتَنْقِيبًا، وَفَتْشًا، وَفَحْصًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ -وَلَنْ يَضَعَهَا-؛ لِأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ قَدَمَ صِدْقٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَنْ هُوَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا؛ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى صَاحِبِ السِّرِّ -إِلَى حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، فَقَالَ: ((نَشَدْتُكَ اللهَ يَا حُذَيْفَةُ! أَذَكَرَنِي النَّبِيُّ ﷺ فِيمَنْ ذَكَرَ -يَعْنِي: مِنَ الْمُنَافِقِينَ-؟))

فَقَالَ: ((اللهم لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا))؛ حَتَّى لَا يَنْفَتِحَ الْبَابُ، فَيَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مُفْشِيًا لِسِرِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَزَكَّى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِنَفْيِ النِّفَاقِ عَنْهَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا أَخْبَرَهُ بِشَأْنِهِ فِي هَذَا الْمَجَالِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ؛ حَتَّى لَا يَسْأَلَهُ بَعْدَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَيَبْقَى مَعَنَا هَذَا الشَّاهِدُ، وَهُوَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَسْأَلُ خَائِفًا مُشْفِقًا صَاحِبَ السِّرِّ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ ذَكَرَهُ فِيمَنْ ذَكَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ!!

إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ!!

((عَاقِبَةُ إِهْمَالِ مُرَاقَبَةِ الْقُلُوبِ وَرِعَايَةِ الضَّمَائِرِ))

النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا بِأَمْرٍ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُؤَدِّي إِلَيْهِ أَعْمَالٌ وَأَقْوَالٌ وَأَحْوَالٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَرَةً مُرَّةً، فِجَّةً لَا تُطَاقُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ زَاعِقَةً بِمَرَارَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ)) بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ كأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا».

فَقَالَ ثَوْبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَلِّهِمْ -وَفِي رِوَايَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ-: حَلِّهِمْ لَنَا -يَعْنِي: اذْكُرْ لَنَا صِفَاتِهِمْ- حَلِّهِمْ لَنَا، وَجَلِّهِمْ لَنَا -يَعْنِي: أَظْهِرْهُمْ لَنَا بِصِفَاتِهِمْ- حَتَّى نَعْرِفَهُمْ)).

قَالَ ثَوْبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَلَّا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ)).

فقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا».

فَرِقَابَةُ السِّرِّ، وَرِعَايَةُ الْخَلْوَةِ؛ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ فَحْصًا، وَفَتْشًا، وَبَحْثًا، وَتَنْقِيبًا، وَتَمْحِيصًا؛ حَتَّى يَكُونَ مُسَدَّدًا.

وَهَذَا قَلَّ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ!!

وَهَذَا الْمَجَالُ مِنَ الْمَجَالَاتِ الَّتِي يُقَصَّرُ فِي النَّظَرِ فِيهَا، وَالْعَمَلُ بِالْمَعَانِي الَّتِي وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ مِمَّا يَتَنَزَّلُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ يُقَصِّرُ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ!!

الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُخْبِرُ عَنْ أَقْوَامٍ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَمِنْ صِيَامٍ، وَصَدَقَةٍ، كَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ ((يَأْتُونَ بِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، يَأْتُونَ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا)).

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ)) أَمْرٌ مَخُوفٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ مِنْ ذَلِكَ هَذَا الْإِكْثَارَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا.

يَقُولُ مَنْ يَقُولُ هَاهُنَا: وَلَكِنَّ الْجِبَالَ لَهَا ثِقَلُهَا، وَلَهَا وَزْنُهَا، فَهَذِهِ أَعْمَالٌ تَثْقُلُ فِي أَيِّ بَابٍ، وَالْأَعْمَالُ إِذَا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالطَّاعَاتِ؛ تَكُونُ ثَقِيلَةً فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ، فَمَا التَّخْرِيجُ؟

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا))؛ لِأَنَّهَا تَلُوحُ كَالسَّرَابِ، هِيَ فِي الْعِظَمِ.. فِي الِانْتِفَاشِ.. فِي الضَّخَامَةِ كَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مُشَبَّهًا بِهِ: ((كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا)) كَالسَّرَابِ، كَالضَّبَابِ، لَا حَقِيقَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ خَفِيفَةٌ، لَا تَثْقُلُ فِي مِيزَانٍ؛ بَلْ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)).

فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ مَآلِهَا بَعْدَ تَكَوُّنِهَا، وَبَعْدَ رُؤْيَةِ حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ قَائِمَةً فِي دُنْيَا النَّاسِ.

فَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيُكْثِرُونَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ، وَمَا يَنْطَلِقُونَ مِنْ إِخْلَاصٍ صَحِيحٍ، وَلَا مِنْ نِيَّةٍ صَادِقَةٍ، فَتَأْتِي تِلْكَ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا، لَا عَلَى ثَبَاتٍ، يَنْظُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهَا، فَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُورًا؛ لِأَنَّ ((اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)).

فَإِذَا كَانَتِ الْأَعْمَالُ صَالِحَةً؛ فَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَعْمَالُ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ؛ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ بِالتَّجَرُّدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَعَ الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَزِنُ شَيْئًا، ((يَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)).

وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الْحَدِيثِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَتَى بِهِ مَنْ أَتَى مِمَّنْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ؛ أَتَى بِهِ عَلَى قَدَمِ الْمُتَابَعَةِ، فَاقِدًا شَرْطَ الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّهُ ﷺ يَقُولُ: ((يَأْتُونَ بِالصَّلَاةِ، وَبِالصِّيَامِ، وَبِالصَّدَقَةِ، إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ)).

وَلَكِنْ غَابَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ مِنْ شَرْطَيْ قَبُولِ الْعَمَلِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَتَّى يَكُونَ للهِ خَالِصًا، وَحَتَّى يَكُونَ الْآتِي بِهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ مُتَابِعًا.

فَهَذَانِ شَرْطَانِ:

1- إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ غَيْرِ مَا شِرْكٍ فِيهِ.

2- وَإِتْيَانُ الْعَبْدِ بِالْعَمَلِ عَلَى قَدَمِ الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ بِدْعَةٍ فِيهِ.

فَيَتَجَرَّدُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ، يَتَجَرَّدُ مِنَ الشِّرْكِ فِي عَمَلِهِ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَجَرَّدُ مِنَ الْبِدْعَةِ، نَابِذًا لَهَا نَبْذَ النَّوَاةِ، وَيَجْعَلُهَا مَزْجَرَ الْكَلْبِ؛ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ.

يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ فِي ((الصَّحِيحِ))-: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي؛ وَكَلْتُهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُجَاهِدُ حَمِيَّةً، وَعَنِ الرَّجُلِ يُجَاهِدُ لِلْمَغْنَمِ، وَعَنِ الرَّجُلِ يُجَاهِدُ؛ لِيُرَى مَكَانُهُ؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟

فَقَالَ: ((مَنْ قَاتَلَ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الشَّرْطِ أَوَّلًا، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَإِلَّا كَانَ مَرْدُودًا عَلَى عَامِلِهِ، وَكَانَ حَابِطًا.

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الصَّحِيحِ))-: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ)) يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، فَـ((رَدٌّ)) بِمَعْنَى: مَرْدُودٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ فِيهِ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَدَتْ هَذَا الشَّرْطَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ شَرْطُ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارَتِ الْأَعْمَالُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بَيْضَاءُ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةِ: ((أُولَئِكَ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا)).

وَلِذَلِكَ ((جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَنْ يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)).

إِذَا اسْتَوَى حَالُهُ فِي الْخَلْوَةِ وَالْجَلْوَةِ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ؛ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ وَلِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ عَلَى الْحَالَيْنِ: خَلْوَةً، وَجَلْوَةً.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ.

رِقَابَةُ السِّرِّ، وَرِعَايَةُ الضَّمِيرُ، وَالْفَتْشُ فِي أَحْنَاءِ الضَّمِيرِ؛ مِنْ أَجْلِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَوَاعِثِ الْبَاعِثَةِ لِلْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ، أَوْ لِلْكَفِّ وَالتُّرُوكِ، لَا بُدَّ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى شَيْءٍ مُقَارَبٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ؛ وَإِلَّا كَانَ الْإِنْسَانُ سَائِرًا عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثَ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ جَلِيلٍ جِدًّا، يَقُولُ: ((أُولَئِكَ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا)).

فَأَيْنَ اسْتِوَاءُ السِّرِّ مَعَ الْعَلَانِيَةِ هَا هُنَا؟!!

لَقَدْ وَقَعَ التَّفَاوُتُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي الظَّاهِرِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِأَعْمَالٍ عَظِيمَةٍ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا))؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَدَقَةٍ، وَصِيَامٍ؛ وَلَكِنْ إِذَا خَلَا بِمَحَارِمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَكَهَا، فَهَذَا لَا يَعْمَلُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَمَلًا خَالِصًا، وَإِنَّمَا عَيْنُهُ وَرِقَابَتُهُ لِلْخَلْقِ، لَا لِلْحَقِّ!!

هَذَا لَا يُرَاقِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةً أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَاظِرٌ إِلَيْهِ!!

وَأَمَّا كَفُّ الْيَدِ فِي السِّرِّ.. فِي الْخَلْوَةِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى الْعَبْدِ -حِينَئِذٍ- إِلَّا اللهُ- فَيَدَعُهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

فَهَذَا هَذَا، وَهُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَكِّزَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ التَّفَاوُتَ إِذَا وَقَعَ هَاهُنَا بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى حَسَبِ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ؛ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ.

وَهَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْشَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَأَنْ يُرَاعِيَ نَفْسَهُ فِيهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ: إِنَّهُ يَتَوَرَّعُ عَنْ أُمُورٍ فِي مَحْضَرِ النَّاسِ، يَتَوَرَّعُ عَنْ أُمُورٍ عِنْدَ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ خَالِيًا، لَا يَكُفُّ عَنْهَا، وَلَا يَنْتَهِي عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا حَتَّى يُوَاقِعَهَا؛ لِأَنَّهُ طَالَمَا أَمِنَ النَّاظِرِينَ وَأَعْيُنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- كَأَنَّهُ لَا رَقِيبَ عَلَيْهِ، وَلَا نَاظِرَ إِلَيْهِ!!

وَهَذَا خَلَلٌ عَظِيمٌ جِدًّا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ، فَيُورِثُ نِفَاقًا.

-نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعُفَوَ عَنَّا أَجْمَعِينَ-.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعِبْرَةَ لَيْسَتْ بِالْعَمَلِ فِي ذَاتِهِ، وَإنَّمَا الْعِبْرَةُ كُلُّ الْعِبْرَةِ فِي تَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِنْ شَوَائِبِهِ، فِي تَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِمَّا يُحْبِطُهُ، فِي تَنْقِيَةِ الْعَمَلِ مِمَّا يُكَدِّرُهُ.

الْعِبْرَةُ كلُّ العِبْرَة فِي تَنْقِيَةِ الْعَمَلِ مِمَّا يُحْبِطُهُ، حَتَّى يُرَدَّ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا يُرَدُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ يُضْرَبُ بِهِ وَجْهُهُ، يُقَالُ لَهُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَنْظُرُ فِي خَلَلِ الْأَعْمَالِ، فِي خِلَالِهَا، فِي مَطَاوِيهَا!!

يَنْظُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ثَنَايَا الْأَعْمَالِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْظُرُ إِلَى الْإِخْلَاصِ هُنَالِكَ مِنْ وَرَاءِ الْأَعْمَالِ فِي دَوَافِعِهَا، فِي بَوَاعِثِهَا، فِي الْحَوَافِزِ الَّتِي حَفَزَتْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَا.

وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فِي ظَاهِرِهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَقُومُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِغَيْرِ سَاقٍ مَتِينٍ يَحْمِلُهَا مِنَ الْإِخْلَاصِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

«أَمَا إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَيَقُولُونَ بِمِثْلِ قَوْلِكُمْ، وَيَعْمَلُونَ بِمِثْلِ أَعْمَالِكُمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».

قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا!!

وَيْحَكَ، أَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ شَهِيدٍ؟!!

أَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ رَقِيبٍ؟!!

أَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ سَمِيعٍ يَسْمَعُ هَمْسَ الضَّمِيرِ فِي الضَّمِيرِ لِلضَّمِيرِ بِالْإِتْيَانِ بِمَا يُرِيدُ؟!!

وَيْحَكَ، أَلَا تَعْلَمُ بِأَنَّ اللهَ يَرَى؟!!

وَيْحَكَ، أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ!! يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورَ؟!!

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ مِنَ الْأَعْمَالِ حَقَائِقَهَا، وَحَقَائِقُهَا لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى الْإِخْلَاصِ فِيهَا.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَقَالَ ﷺ -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَيْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ هَكَذَا، وَإِنَّمَا لِمَنْ قَامَ قِيَامًا صَحِيحًا، وَصَامَ صِيَامًا صَحِيحًا، مُحْتَسِبًا عَمَلَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُحْتَسِبًا سَعْيَهُ وَقَصْدَهُ لِمَرَاضِي رَبِّهِ الْجَلِيلِ، مُحْتَسِبًا تَرْكَهُ، وَكَفَّهُ، وَامْتِنَاعَهُ؛ لِلْقُرْبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَهُ ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَنْ تَخَلَّفَتْ عِنْدَهُ الْعُدَّةُ، وَأَمَّا مَنْ تَخَلَّى عَنِ السِّلَاحِ وَهُوَ يَذْهَبُ إِلَى الْهَيْجَا وَيُبَاشِرُ الْمَعْرَكَةَ مَعَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].

فَهِيَ مَعْرَكَةٌ إِذَنْ، وَهِيَ مَعْرَكَةٌ قَائِمَةٌ بِأَسْلِحَةٍ غَيْرِ مَنْظُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَرْتَعُ فِي الدِّمَاءِ، وَيَجْرِي فِي الْعُرُوقِ مَعَ الدِّمَاءِ السَّابِحَاتِ، فَهُوَ سَابِحٌ فِي تِلْكَ الدِّمَاءِ يَصِلُ إِلَى بَعِيدٍ، وَيَرَاكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ مِثْلِ هَذَا الْعَدُوِّ؟!!

وَإِنَّ أَسْلِحَتَهُ لَمَاضِيَةٌ، وَإِنَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعُدَّة لَمِمَّا لَا يُقَاوَمُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا يَتَأَتَّى الْإِخْلَاصُ فِي الْقَلْبِ يَحْرِقُ كُلَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا فِي هَذَا الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِهِ الشَّرِيفِ: أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ أَشْبَاحًا ظَاهِرَةً، وَإِنَّما يُرِيدُ أَرْوَاحًا بَاطِنَةً.

وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ قَوَالِبَ مَنْصُوبَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قُلُوبًا نَحْوَهُ مَصْبُوبَةً.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.

((اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ أَشْرْكَ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ وَكَلَهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ وَلَا يُبَالِي)).

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ الْمُنَادِيَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الْمَوْقِفِ: «أَلَا مَنْ كَانَ عَامِلًا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ».

أَرَأَيْتَ إِنْصَافًا فَوْقَ هَذَا الْإِنْصَافِ؟!!

أَسَمِعْتَ عَنْ عَدْلٍ يُضَاهِي هَذَا الْعَدْلَ، أَوْ يُمَاثِلُهُ، أَوْ يُقَارِبُهُ؟!!

حَاشَا وَكَلَّا.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا: كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِغَيْرِ وَجْهِهِ، وَكُنْتُمْ تَعْبُدُونَ سِوَاهُ؛ مِنَ الْهَوَى الْمَتْبُوعِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَّبَعَةِ؛ مِنْ تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَوْهَامِ الْخَائِبَةِ، وَالْغَرَائِزِ الثَّخِينَةِ، وَتِلْكَ الْأُمُورِ الْغَلِيظَةِ فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَحَاسِيسِهَا الَّتِي لَمْ تَرِقَّ عَلَى الدِّينِ بَعْدُ.

كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَالْيَوْمَ -لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ- فَلْيَذْهَبْ كُلُّ عَامِلٍ إِلَى مَنْ كَانَ يَعْمَلُ لَهُ حَتَّى يُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ، وَلِيَنْتَصِبِ الْيَوْمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمًا عَلَى سَاقِ الْإِخْلَاصِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ لِيُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَطَاؤُهُ لَا حَدَّ لَهُ؛ إِذْ هُوَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ، وَقُدْرَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا حَدَّ لَهَا.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ قَامَ وَصَامَ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا -إِيمَانًا بِالَّذِي شَرَعَ، بِالَّذِي فَرَضَ- وَاحْتِسَابًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ طَلَبًا لِلْأَجْرِ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، مِنْ غَيْرِ مَا عَمَلٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْيِيبٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي ضَمِيرِ الضَّمِيرِ، وَفِي غَيَاهِبِ الْمَكْنُونِ مِنْ ثَنَايَا النَّفْسِ؛ حَتَّى إِنِ اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ أَلَّا يُطْلِعَ ذَاتَهُ عَلَى عَمَلِ ذَاتِهِ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ ﷺ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأْخَفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ».

فَيُخْفِي ذَاتَهُ عَنْ ذَاتِهِ، وَيُغَيِّبُ ذَاتَهُ فِي ذَاتِهِ، وَيَجْعَلُ عَمَلَهُ فِي حُجُبِ إِخْلَاصِهِ؛ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَحَدٌ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَأَنْعِمْ بِهِ مِنْ مُعْطٍ وَصَاحِبِ جَزَاءٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

((ثَمَرَاتُ الْمُرَاقَبَةِ وَرِعَايَةِ الضَّمَائِرِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ رِقَابَةَ السِّرِّ، وَالتَّفْتِيشَ عَمَّا فِي حَنَايَا الضَّمِيرِ، وَمُرَاجَعَةَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ حِينًا فَحِينًا؛ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهِ الْمَرْءُ طَوِيلًا.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ فِيمَنْ يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ دَنَتِ الشَّمْسُ مِنَ الرُّؤُوسِ بِمِقْدَارِ مِيلٍ -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ-، وَالنَّاسُ فِي كَرْبٍ وَهَمٍّ عَظِيمَيْنِ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَرَّكُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَلَوْ إِلَى النَّارِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- مِنْ شِدَّةِ مَا يُعَانُونَ، وَهُمْ فِي الْعَرَقِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.

مِمَّنْ يُظِلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَجْعَلُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ -كَمَا ثَبَتَتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَةُ-: ((رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ)).

فَهُنَا لَا يَخْشَى أَعْيُنَ الرُّقَبَاءِ، وَإِنَّمَا يَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ بَلْ إِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي جُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي بَشَّرَ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ أَصْحَابَ تِلْكَ الْمَقَامَاتِ.. أَصْحَابَ تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ بِالصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ؛ وَجَدْتَ أَغْلَبَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَدُورُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ.

((فَالرَّجُلُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ خَالِيًا حتى تفيض عيناه، وَالرَّجُلُ الَّذِي دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَالرَّجُلُ الَّذِي قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ))؛ هَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ ظَاهِرُهُ؛ فَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ رِيَاءً، وَقَدْ يَكُونُ سَعْيُهُ نِفَاقًا، وَأَمَّا قَلْبُهُ الَّذِي عُلِّقَ بِالْمَسْجِدِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ.

وَأَيْضًا: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأْخَفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ)).

هَذَا أَمْرٌ فِيهِ مِنَ الْإِسْرَارِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ للهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا بَيَّنَهُ كَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ: ((حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ))؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ الْإِعْلَامُ إِلَى غَيْرِ أَعْضَائِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ.

وَلَكِنْ هَاهُنَا رِعَايَةٌ لِلسِّرِّ، وَرِقَابَةٌ عَلَى الضَّمِيرِ، وَتَفْتِيشٌ عَلَى الْبَاعِثِ الْمُحَرِّكِ لِلْعَمَلِ، وَسَعْيٌ وَرَاءَ تَحْرِيرِ النِّيَّةِ؛ حَتَّى تَكُونَ خَالِصَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأْخَفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ)).

((وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)).

وَالْحُبُّ فِي اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْءٌ للهِ، أَمْرٌ لِأَجْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، حُبٌّ فِي اللهِ، وَحُبٌّ بِاللهِ.

أَمَّا الْحُبُّ مَعَ اللهِ؛ فَهُوَ الشِّرْكُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَيْسَ هَذَا مَعَنَا هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي ذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)).

فَجُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ يَدُورُ حَوْلَ هَذَا الْأَصْلِ، أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُرَاعِيًا لِسِرِّهِ، مُنَظِّفًا لِضَمِيرِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا لِبَاطِنِهِ.

كَمَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ حَتَّى يَكُونَ آتِيًا بِطَهَارَةِ الْجَوَارِحِ؛ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ الْعِبَادَةُ حَتَّى يَكُونَ مُطَهِّرًا لِبَاطِنِهِ، مُطَهِّرًا لِقَلْبِهِ، آتِيًا بِغَسِيلِ الْقَلْبِ كَمَا أَتَى بِغَسِيلِ جَوَارِحِهِ عَلَى حَسَبِ مَا حَدَّدَ اللهُ، وَمَا حَدَّدَهُ رَسُولُهُ ﷺ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؛ غَسْلًا، وَمَسْحًا.

((رِقَابَةُ السِّرِّ وَالضَّمِيرِ مِنْ سُبُلِ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ))

لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ هَذَا الْأَمْرَ الْجَلِيلَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِالْعَمَلِ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِذَا وَقَعَ فِي ضَائِقَةٍ، وَأَحَاطَتْ بِهِ كُرْبَةٌ، وَأَتَاهُ دَيْجُورُ ظُلْمَةٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، ثُمَّ فَزِعَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَاعِيًا، مُتَوَسِّلًا بِعَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُفَرِّجُ عَنْهُ مَا كَانَ.

وَعِنْدَكَ حَدِيثُ ((الصَّحِيحَيْنِ)) الَّذِي فِيهِ مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((عَنِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمُ الْمَبِيتُ، وَأَلْجَأَهُمُ اللَّيْلُ إِلَى الْغَارِ -وَهُوَ النُّقْرَةُ فِي الْجَبَلِ-، فَدَخَلُوا الْغَارَ، فَجَاءَتْ صَخْرَةٌ، فَسَدَّتِ الْبَابَ، فَتَوَسَّلُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ)).

وَإِذَا نَظَرْتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيمَا قَالَ؛ تَجِدُهُ كَانَ يَشْفَعُ مَا ذَكَرَ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ -بَعْدَ أَنْ يُقَرِّرَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ- يَشْفَعُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَمِلَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا؛ يَطْلُبُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أن يُفَرِّجَ عَنْهُمْ مَا هُمْ فِيهِ: ((اللهم إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ لِوَجْهِكَ خَالِصًا؛ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ)). فَتَأْتِي الْإِجَابَةُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

فَكُلٌّ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ مُرَاقِبًا فِيهِ لِسِرِّهِ، مَا بَيْنَ رَجُلٍ كَانَ بَرًّا بِأَبَوَيْهِ، وَلَوْ أَنَّهُ سَقَى أَطْفَالَهُ الَّذِينَ كَانُوا يَدُورُونَ حَوْلَ رِجْلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ أَبَوَيْهِ، وَقَدْ نَامَا لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهَا، وَكَانَ لَا يَسْقِي قَبْلَهُمَا أَحَدًا.

فَلَمَّا جَاءَ فَوَجَدَهُمَا نَائِمَيْنِ؛ لَمْ يُخَالِفْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَالٍ؛ مُرَاقِبًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَظَلَّ لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا حَتَّى اسْتَيْقَظَا، فَسَقَاهُمَا.

وَأَطْفَالُهُ الصِّغَارُ يَدُورُونَ حَوْلَهُ، يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِضَعْفِهِمْ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ اللَّبَنِ يُطْفِئُ سَوْرَةَ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ النَّاهِشِ فِي الْمَعِدَاتِ الصَّغِيرَةِ، وَلَكِنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ؛ رِقَابَةً لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَتَّى انْبَلَجَ الصُّبْحُ مُنْفَجِرًا مِنْ سُدْفَةِ اللَّيْلِ؛ وَحِينَئِذٍ سَقَى أَبَوَيْهِ، ثُمَّ حَنَى بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا.

هَذَا يَفْعَلُهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا، وَلَوْ أَنَّهُ دَخَلَ بِذَلِكَ اللَّبَنِ مُتَسَلِّلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْطِنَ إِلَيْهِ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْطِنَا إِلَيْهِ مَعًا؛ لَكَانَ حِينَئِذٍ قَدْ أَتَى بِأَمْرٍ قَدْ خَالَفَ فِيهِ مَأْلُوفَ الْعَادَةِ، وَخَرَجَ فِيهِ عَنِ الْمُقْتَضَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَائِرًا؛ مِنْ إِخْلَاصِ عَمَلِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَبَرُّ أَبَوَيْهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

فَلَمَّا أَتَى بِذَلِكَ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَوَسَّلَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ؛ فَرَّجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمْ مِنَ الْكُرْبَةِ بِمِقْدَارِ ثُلُثِ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ فَتْحَةِ الْغَارِ.

وَآخَرُ يَتَوَسَّلُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِرِعَايَةِ سِرٍّ عَلَى قِيَامِهِ.. عَلَى ضَمِيرِهِ بِمَا يَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا تَرَكَهُ الْأَجِيرُ، وَمَضَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَصِّلَ أُجْرَتَهُ؛ لَمْ يَكْتَفِ بِأَنْ تَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَنْ يُعْلِمَ بِهَا مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ؛ حَتَّى إِذَا مَا قَضَى، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ الْأَجِيرُ يَوْمًا؛ لِكَيْ يَطْلُبُ أَجْرَهُ؛ أَعْطَوْا هَذَا الْأَجِيرَ مَا يَسْتَحِقُّ، وَلَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لَكَانَتْ ذِمَّتُهُ قَدْ بَرَأَتْ مِمَّا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَخَذَ يُنَمِّي لَهُ مَا كَانَ هُنَالِكَ حَتَّى كَانَ وَادِيًا!!

فَلَمَّا جَاءَهُ فَطَالَبَهُ بِأَجْرِهِ؛ دَفَعَ إِلَيْهِ مَا كَانَ قَدْ نَمَّاهُ لَهُ.

هَذَا يُرَاقِبُ فِيهِ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا أَحَدَ يُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ رِقَابَةُ السِّرِّ، وَهُوَ الْقِيَامُ عَلَى الضَّمِيرِ بِمَا يَتَوَجَّبُ الْقِيَامُ بِهِ عَلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَلَّا يُفْلِتَ الزِّمَامُ، وَيَدْخُلَ النِّفَاقُ مُتَسَلِّلًا.

وَالرِّيَاءُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، يَتَسَلَّلُ إِلَى الْقُلُوبِ تَسَلُّلًا خَفِيًّا، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا؛ تَشَعَّبَ فِيهَا تَشَعُّبًا سَرَطَانِيًّا؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الِاسْتِئْصَالُ وَالْبَتْرُ، وَهُوَ الْمَوْتُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَفِيمَنْ ذَكَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الثَّلَاثَةِ: ذَلِكَ الَّذِي كَانَ -أَيْضًا- مُرَاقِبًا لِنَفْسِهِ وَضَمِيرِهِ، قَائِمًا عَلَيْهِ بِمَا يَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ أَنْ أَلْجَأَتْهَا الضَّرُورَةُ فِي سَنَةٍ عَامَّةٍ -وَكَانَتْ سَنَةً شَدِيدَةً- فَأَلْجَأَتْهَا إِلَى ذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ تَفِرُّ مِنْهُ، وَلَا تَبِيعُ شَرَفَهَا -مَهْمَا كَانَ- لِأَجْلِهِ، حَتَّى أَلْجَأَتْهَا الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ.

وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَعْرِضُهُ مِنَ الْمَالِ مُرَاوِدًا، فَلَمَّا أَنْ أَلْجَأَتْهَا الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ، وَأَخَذَتْ مِنْهُ الْمَالَ وَحَصَّلَتْهُ، وَكَانَ مِنْهَا كَمَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ؛ قَالَتْ: ((يَا هَذَا؛ اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ)).

قَالَ: ((قُمْتُ عَنْهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ؛ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ)).

وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ يَمْنَعُهُ عَنْ إِتْيَانِ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ وَعَزَمَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ؛ بَلْ إِنَّهُ يَقُولُ: ((لَقَدْ قُمْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إِلَيَّ)).

وَمَعَ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ دَبْرَ أُذُنَيْهِ، وَتَحْتَ مَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي قَفْزَةٍ وَاحِدَةٍ، يَعْبُرُ سُدُودَ الْمَعَاصِي؛ حَتَّى كَانَ فِي رِحَابِ طَاعَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

يَقُولُ: ((إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ؛ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ)).

رِقَابَةُ السِّرِّ، هَذَا كُلُّهُ فِي رِقَابَةِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إِيمَانًا صَحِيحًا؛ فَإِنَّهُ لَا سِرَّ عِنْدَهُ أَصْلًا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِيمَانُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ عَلَى نَحْوٍ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُرَاقِبًا لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، وَإِقْبَالُهُ وَإِدْبَارُهُ، وَيَكُونُ سُكُونُهُ، وَتَكُونُ حَرَكَتُهُ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَيَتَوَقَّفُ مُتَمَلِّيًا فِي ضَمِيرِهِ، نَاظِرًا فِي سِرِّهِ: أَذَلِكَ يُفْعَلُ خَالِصًا للهِ؟

أَهَذَا يُقَالُ خَالِصًا للهِ؟

فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ.

«مُرَاقَبَةُ اللهِ وَالضَّمِيرُ الْحَيُّ فِي الْعَمَلِ»

*مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ فِي الْعَمَلِ: أَدَاءُ الْعَمَلِ بِأَمَانَةٍ:

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ  فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ: أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ؛ فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ، وَكُلُّ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ عَمَلٌ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَقَدْ أَكَلَ مِنْ حَرَامٍ إِنْ كَانَ مُتَحَصِّلًا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى أَجْرٍ؛ شَاءَ أَمْ أَبَى.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانَ مُوَظَّفًا يَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبٍ فِي مُقَابِلِ عَمَلِهِ؛ كَثِيرٌ مِنْهُمْ -بَلْ جُلُّهُمْ- لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ، هُمْ أُجَرَاءُ، مُسْتَأْجَرُونَ عَلَى حَسَبِ عَقْدٍ مُبْرَمٍ وَلَائِحَةٍ لَهَا بُنُودٌ، وَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ بَدْءًا.

وَكُلُّ مَنْ فَرَّطَ فَقَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، وَهُوَ مُغَذٍّ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَانٍ بَيْتَهُ، وَمُقْتَنٍ مَرْكُوبَهُ مِنْ حَرَامٍ.

*وَمِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ فِي الْعَمَلِ: حُرْمَةُ تَحْصِيلِ الْمُوَظَّفِ أَمْوَالًا غَيْرَ رَاتِبِهِ في أَثْنَاءِ الْعَمَلِ:

النَّبِيُّ ﷺ حَذَّرَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَرْءُ شَيْئًا فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ، يَعْنِي: فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ، لَا فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجَرٌ، قَدْ يَأْتِيهِ صَاحِبُ الْحَاجَةِ فِي بَيْتِهِ، لَا فِي عَمَلِهِ، فَيُعْطِيهِ الْهَدِيَّةَ.. هِيَ لَا تَحِلُّ، الْهَدِيَّةُ لَا تَحِلُّ؛ ((فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ؛ لِنَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟!)) .

فَكُلُّ مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ الْمُوَظَّفُ مِنْ هَدِيَّةٍ؛ فَلَا يَحِلُّ.

*مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ فِي التِّجَارَةِ: عَدَمُ الْغِشِّ فِي الْبَيْعِ:

النَّبِيُّ ﷺ رَهَّبَ مِنَ الغِشِّ، وَرَغَّبَ فِي النَّصِيحَةِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»

قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَﷺ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

وَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.

وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرَّحْمَن: 7-9].

وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا» .

عِبَادَ اللهِ! فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي أَدَاءِ عَمَلِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَافِعَ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.

فَاللهَ اللهَ فِي أَنْفُسِكِمْ عِبَادَ اللهِ، أَدُّوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُصْلِحَ سَرَائِرَنَا، وَأَنْ يُصْلِحَ بَوَاطِنَنَا، وَأَنْ يُجَمِّلَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ ظَوَاهِرَنَا وَبَوَاطِنَنَا، وَأَنْ يُمَسِّكَنَا الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ عَلَى قَدَمِ الصِّدْقِ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَثَلٌ عَجِيبٌ فِي رِقَابَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ))

فَمِنَ أَعْظَمِ مَا يُتَمَلَّى فِيهِ فِي رِقَابَةِ السِّرِّ، وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ، وَالْفَتْشِ عَنِ الْبَوَاعِثِ، وَالْفَحْصِ عَنِ الدَّوَافِعِ، وَالرِّقَابَةِ لِلنِّيَّاتِ:

مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، حَدِيثٌ ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا وَقَعَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدِ اسْتَسْلَفَ رَجُلًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ.

قَالَ: كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.

قَالَ: فَائْتِنِي بِالْكَفِيلِ -يَعْنِي: الَّذِي يَكْفُلُكَ، فَإِذَا قَصَّرْتَ، أَوْ عَجَزْتَ، أَوْ مَاطَلْتَ، أَوْ سَوَّفْتَ، أَوْ أَفْلَسْتَ، أَوْ جَحَدْتَ؛ طَالَبْتُهُ، فَائْتِنِي بِالْكَفِيلِ-.

قَالَ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا.

قَالَ: رَضِيتُ بِاللهِ شَهِيدًا، وَرَضِيتُ بِاللهِ كَفِيلًا، فَأَسْلَفَهُ.

الدِّينَارُ مِنَ ذَهَبِ، وَالدِّرْهَمُ مِنَ الْفِضَّةِ.

فَأَسْلَفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ قَدْ وَاعَدَهُ عِدَةً عَلَى أَلَّا يُخْلِفَهُ، وَأَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَيَذْهَبُ بِهِ مُتَاجِرًا، فَوَعَدَهُ مَوْعِدَةً، وَضَرَبَ لَهُ مَوْعِدًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْمَالِ الَّذِي اسْتَسْلَفَهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْعِدِ، ثُمَّ مَضَى لِسَبِيلِهِ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ.

ثُمَّ دَنَا الْمَوْعِدُ وَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى السَّاحِلِ يَنْظُرُ، فَلَا يَجِدُ وَلَا فِي الْأُفُقِ بِمَبْعَدَةٍ مَرْكَبًا، وَلَا شِرَاعَ يَخْفِتُ، وَالْبَحْرُ مُمَتَّدٌ أَمَامَهُ، لَا يَصِلُ فِيهِ الطَّرْفُ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَإِنَّمَا مُنْتَهَاهُ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ: انْطِبَاقُ السَّمَاءِ عَلَى الْمَاءِ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ، فَيَعُودُ.

فَلَمَّا دَنَا الْمَوْعِدُ؛ أَتَى بِخَشَبَةٍ، فَنَقَرَهَا، فَوَضَعَ فِيهَا الْأَلْفَ الدِّينَارِ، وَكَتَبَ كِتَابًا -حَرَّرَ خِطَابًا- فَجَعَلَهُ مَعَ الْمَالِ فِي صُرَّةٍ فِي تِلْكَ النُّقْرَةِ الَّتِي نَقَرَ، ثُمَّ ذَجَّجَهَا -يَعْنِي: أَحْكَمَ الْمَكَانَ الَّذِي نَقَرَ آنِفًا- ثُمَّ أَتَى الْبَحْرَ.

ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: ((وَاللهِ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ قَدِ اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِ فِي مَوْعِدِ كَذَا، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا، فَلَمْ أَجِدْ؛ فَاللهم أَدِّ عَنِّي)).

ثُمَّ دَفَعَهَا فِي الْمَاءِ، وَوَقَفَ يَنْظُرُ حَتَّى لَجَّجَتْ فِي لُجَّةِ الْمَاءِ، وَرَجَعَ!!

فَلَمْ يَزَلْ جَاهِدًا فِي تَطَلُّبِ الْمَرْكَبِ؛ حَتَّى يَعُودَ إِلَى وَطَنِهِ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ؛ فَقَدِ اسْتَوْدَعَهَا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ: ((وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا)).

وَزَجَّ بِهَا فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ، تَتَلَجَّجُ ارْتِفَاعًا وَانْخِفَاضًا مَعَ أَمْوَاجِهَا.

وَأَمَّا الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ، فَيَنْظُرُ، فَلَا يَجِدُ فِي الْأُفُقِ مِنْ شِرَاعٍ يَلُوحُ، فَيَعُودُ مَعَ الْعَشِيَّةِ إِلَى أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ.

وَكَانَ يَخْرُجُ مُنْتَظِرًا الَّذِي وَعَدَهُ، وَالَّذِي رَضِيَ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَعَهُ فِيمَا أَسْلَفَهُ إِيَّاهُ كَفِيلًا وَشَهِيدًا؛ كَيْفَ يُؤَدِّي؟!!

وَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ فِي خَرْجَةٍ مِنْ خَرْجَاتِهِ؛ وَجَدَ خَشَبَةً هُنَالِكَ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ تَلُوحُ، فَانْتَظَرَهَا حَتَّى تَهَادَتْ إِلَيْهِ، وَأَخَذَهَا، يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهَا جَمْرًا، يُرِيدُ أَنْ يُشْعِلَهَا لِأَبْنَائِهِ نَارًا.

فَلَمَّا أَخَذَهَا؛ نَشَرَهَا.. كَسَرَهَا، نَظَرَ فِيهَا؛ وَجَدَ الْمَالَ وَالْخِطَابَ!!

وَأَمَّا الْآخَرُ؛ فَإِنَّهُ ظَلَّ عَلَى تَرَقُّبِهِ، يَنْظُرُ مَرْكَبًا، يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَنْ أَسْلَفَهُ؛ لِكَيْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ صَنَعَ مَا صَنَعَ!!

وَهَذَا الَّذِي صَنَعَ؛ مَاذَا كَانَ؟!!

ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ -بَعْدُ- مَرْكَبًا، فَعَادَ، فَذَهَبَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَقَالَ: إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَسْلَفْتَنِي أَلْفَ دِينَارٍ إِلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِنِّي كُنْتُ قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِي الْمَوْعِدِ، فَلَمْ يُقَدَّرْ، وَإِنِّي قَدْ رَجَعْتُ إِلَيْكَ عَلَى أَوَّلِ مَرْكَبٍ أَتَتْ، ثُمَّ رَحَلَتْ وَأَبْحَرَتْ، وَهَذَا مَالُكَ.

فَقَالَ: أَلَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟

قَالَ: قُلْتُ لَكَ: إِنِّي جِئْتُكَ عَلَى أَوَّلِ مَرْكَبٍ.

قَالَ: أَلَمْ تُؤَدِّ إِلَيَّ مَا كُنْتَ أَخَذْتَ؟

قَالَ: قُلْتُ لَكَ: إِنِّي قَدْ رَجَعْتُ إِلَيْكَ، وَجِئْتُ إِلَيْكِ مُعْتَذِرًا عَمَّا كَانَ مِنَ التَّأْخِيرِ عَنِ الْمَوْعِدِ الْمَضْرُوبِ، وَأَخْبَرْتُكَ أَنِّي قَدْ رَجَعْتُ إِلَيْكَ عَلَى أَوَّلِ مَرْكَبٍ.

فَقَالَ: فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَدَّى عَنْكَ.

تَأَمَّلِ الْآنَ فِي رِقَابَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ عَلَى السَّاحِلِ، وَعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَذَا الَّذِي فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ؛ ذَهَبَ إِلَيْهِ، يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مَا كَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: يَا فُلَانُ! إِنِّي وَاللهِ فِي الْمَوْعِدِ قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ الْخَشَبَةَ؛ أَوَصَلَتْ، أَمْ هِيَ تَتَلَكَّأُ مَعَ الْأَمْوَاجُ؟!!

لَعَلَّهَا تَكُونُ طَافِيَةً هَا هُنَا أَوْ هُنَاكَ تَلْعَبُ مَعَ الْأَسْمَاكِ!!

لَمْ يَقُلْ لَهُ مَا صَنَعَ، بَلْ إِنَّهُ كَانَ يُرَاجِعُهُ، يَقُولُ: قُلْتُ لَكَ: إِنِّي قَدْ أَتَيْتُ إِلَيْكَ أَوَّلَ مَا وَجَدْتُ الْوَسِيلَةَ إِلَيْكَ؛ فَكَيْفَ أَكُونُ قَدْ أَدَّيْتُ مَا كَانَ عَلَيَّ؟!!

وَهُوَ يُرَاجِعهُ..

فَمَا الَّذِي فِي ضَمِيرِهِ؟!!

مَا الَّذِي فِي نَفْسِهِ؟!!

مَا الَّذِي كَانَ يَدُورُ فِي قَلْبِهِ وَفُؤَادِهِ وَهُوَ يَقِفُ هُنَالِكَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي أَسْلَفَهُ قَدْ رَضِيَ بِاللهِ شَهِيدًا، وَرَضِيَ بِاللهِ كَفِيلًا، وَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ.. كَبِيرٌ عَلَى الَّذِي كَانَ قَدْ أَخَذَ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: رَضِيَ بِاللهِ شَهِيدًا.. رَضِيَ بِاللهِ كَفِيلًا، وَأَنَا أَلْعَبُ؟!! وَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعُودَ، مَعَ أَنَّهَا -كَمَا تَرَى- ضَرُورَةٌ مُلِحَّةٌ قَاضِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ وَسِيلَةً، وَلَكِنْ مَا زَالَ ذَلِكَ يَتَحَرَّكُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى فَعَلَ مَا فَعَلَ.

((رِقَابَةُ الضَّمِيرِ وَرِعَايَةُ السِّرِّ فِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ وَصِرَاعَاتِهَا!!))

رِقَابَةُ الضَّمِيرِ، وَرِعَايَةُ الْمَكْنُونِ فِي السِّرِّ، فِي قَلْبٍ قَدِ انْطَوَى عَلَى مَا انْطَوَى عَلَيْهِ، وَفِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ بِأَحْدَاثِهَا يَتَبَدَّى الْمَنْطِقُ الذُّبَابِيُّ، صِرَاعَاتُ النَّاسِ، وَاهْتِمَامَاتُهُمُ الصَّغِيرَةُ؛ حَتَّى وَإِنْ بَدَا النَّاسُ آخِذِينَ بِمَا هُوَ حَقٌّ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ وَلَكِنَّهُمْ رُبَّمَا أَخْطَئُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.

اشْتِبَاكَاتُهُمْ.. مُشَاجَرَاتُهُمْ.. صِرَاعَاتُهُمْ.. مَعَارِكُهُمْ.. أَحْوَالُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ.

النَّاسُ فِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ يُبَدِّدُونَ كَثِيرًا مِنَ الطَّاقَاتِ، وَيَفْقِدُونَ كَثِيرًا مِنْ صَالِحِ النِّيَّاتِ، وَيَتَبَدَّى فِي حَيَاتِهِمُ الْمَنْطِقُ الذُّبَابِيُّ؛ فَإِنَّ الذُّبَابَةَ إِذَا رَأَتِ الْعَسَلَ قَالَتْ: مَنْ يُوَصِّلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ؟!!

فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ، فَوَقَعَتْ فِيهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ؛ تَقُولُ: مَنْ يُخْرِجُنِي مِنْهُ وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ؟!!

فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ؛ إِذَا مَا انْزَلَقَتْ رِجْلُهُ فِي تِلْكَ الشَّبَكَةِ الْعَجِيبَةِ، وَتِلْكَ الْمَتَاهَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي؛ مِنَ اشْتِبَاكَاتِ اهْتِمَامَاتِ النَّاسِ الصَّغِيرَةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعُودَ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَنْزَلِقَ؛ حَتَّى يَكُونَ كَالْحَجَرِ الَّذِي يَنْحَدِرُ مِنْ قِمَّةِ الْجَبَلِ، لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِي السَّفْحِ، لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِي الْهُوَّةِ، وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوقِفَهُ؟!!

حَجَرٌ مُنْدَفِعٌ مِنْ قِمَّةِ الْجَبَلِ، يَنْزِلُ بِثِقَلِهِ، وَبِالْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي تَشُدُّهُ إِلَيْهَا شَدًّا، حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَى قَرَارٍ، وَأَيْنَ الْقَرَارُ؟!!

وَأَيْنَ السَّفْحُ مِنَ الْقِمَّةِ الشَّمَّاءِ، وَمِنَ الْمُرْتَفَعِ الْعَالِي؟!!

وَأَيْنَ السَّفْحُ مِنْ طَهَارَةِ مَاءِ الْمُزْنِ فِي عُلْيَا أَجْوَازِ الْفَضَاءِ؟!!

أَيْنَ مِنْ أَيْنَ؟!!

فَإِذَا دَخَلَ الْمَرْءُ مُشْتَبِكًا فِي هُمُومِ النَّاسِ الصَّغِيرَةِ، هُمُومُهُمْ صَغِيرَةٌ، أَحْيَانًا يُزَيِّنُونَهَا، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا حَظُّ النَّفْسِ، وَالنَّفْسُ كَلْبِيَّةٌ، وَخِنْزِيرِيَّةٌ، وَسَبُعِيَّةٌ، وَإِنْسَانِيَّةٌ، وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ؛ لَرَأَيْتَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ!!

فَأَمَّا أَهْلُ الِاعْتِدَاءِ، وَالِاشْتِبَاكِ، وَالتَّعَدِّي، وَالظُّلْمِ، وَالْعُدْوَانِ؛ فَنُفُوسٌ سَبُعِيَّةٌ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْبِلُونَ عَلَى الْقَاذُورَاتِ يَتَقَمَّمُونَهَا؛ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النُّفُوسِ الْخِنْزِيرِيَّةِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يَغِلُّونَ.. يَهِرُّونَ.. يَمْدَحُونَ، لَا يَأْتِي مِنْهُمْ خَيْرٌ إِلَّا لِمَامًا؛ فَأَصْحَابُ النُّفُوسِ الْكَلْبِيَّةِ.

وَأَمَّا الْبَشَرُ الْأَسْوِيَاءُ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى مِنْهَاجِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَهُمُ النَّاسُ حَقًّا، هَؤُلَاءِ لَا تَسْتَفِزُّهُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ، فَيَقِفُ صَامِدًا؛ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُ السِّرَّ.

النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمُ الْخَلْقِ إِخْلَاصًا للهِ.

النَّبِيُّ ﷺ قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ ﷺ، وَهُوَ ﷺ يُبَلِّغُ دِينَ رَبِّهِ، وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يُجَاهِدُ فِي مَوَاطِنِ الْجِهَادِ بِاللِّسَانِ، كَمَا يُجَاهِدُ بِالسِّنَانِ ﷺ، وَيَحْلُمُ فِي مَوَاطِنِ الْحِلْمِ.

وَكَانَ ﷺ إِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ اللهِ؛ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ ﷺ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ أَبَدًا، وَلَمْ يَنْتَصِرْ لِنَفْسِهِ قَطُّ، وَهُوَ ﷺ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُوَ شَرْعِيٌّ، وَمَا هُوَ شَخْصِيٌّ.

فَمَا كَانَ شَخْصِيًّا فَهُوَ مُهْدَرٌ، وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ لَا يَقْبَلُ اعْتِدَاءً عَلَى الشَّرْعِ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ ﷺ.

يُهَانُ فِي ذَاتِهِ؛ هَذَا شَيْءٌ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَأَمَّا إِذَا مَا أُهِينَ ﷺ لَا فِي شَخْصِهِ، وَإِنَّمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ وَنَبِيٌّ؛ فَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ.

وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ الْأَعْرَابِيُّ، فَيَأْخُذُ بِرِدَائِهِ، أَوْ يَأْخُذُ بِحَاشِيَةِ الْبُرْدِ، فَمَا يَزَالُ يَجْذِبُهُ وَيَجْبِذُهُ -وَهُمَا بِمَعْنًى- حَتَّى يُؤَثِّرَ ذَلِكَ الْبُرْدُ بِحَاشِيَتِهِ فِي صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ: ((أَعْطِنِي؛ فَإِنَّكَ لَا تُعْطِينِي مِنْ مَالِكَ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ!!)).

هَذَا يَمُرُّ صَفْحًا وَعَفْوًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى حُرُمَاتِ الدِّينِ، فَيَذُمُّونَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ الْمَاجِنِ الدَّاعِرِ -كَمَا كَانَ مِنَ الْقَيْنَتَيْنِ-، أَوْ يَسُبُّ النَّبِيَّ ﷺ، وَيَعْتَدِي عَلَيْهِ؛ وَحِينَئِذٍ يَتَأَتَّى الشَّرْعُ بِأَحْكَامِهِ: ((هَؤُلَاءِ إِذَا فُتِحَتْ مَكَّةُ؛ فَلَا تَدَعُوهُمْ حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ؛ وَلَوْ كَانُوا مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ)).

فَتُفَرِّقُ أَنْتَ بَيْنَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ شَخْصِيٌّ؛ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِكَ أَنْتَ، هَذَا مُهْدَرٌ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ هَذَا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، هَذَا لَا تَفْرِيطَ فِيهِ بِحَالٍ، هَذَا لَا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ فِي التَّحَصُّلِ عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَائِهِ كَامِلًا، هَذَا إِذَا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمَا تَعَلَّقَ بِشَخْصِكَ فَهُوَ مُهْدَرٌ، لَا قِيمَةَ لَهُ، هَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالدِّينِ؛ فَهَذَا مَا يَكُونُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ شَخْصِيٌّ، وَمَا هُوَ دِينِيٌّ شَرْعِيٌّ مَوْضُوعِيٌّ، يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.

قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَيُظَنُّ مَا هُوَ شَرْعِيٌّ؛ يُظَنُّ ذَاتِيًّا شَخْصِيًّا، وَيُظَنُّ مَا هُوَ شَخْصِيٌّ دِينِيًّا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ مَوْطِنِ النِّزَاعِ هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ سَيَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، سَتَفْتَرِقُ هَا هُنَا السُّبُلُ.

فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ مَوْطِنِ النِّزَاعِ هَا هُنَا، فَإِذَا مَا حُرِّرَ مَوْطِنُ النِّزَاعِ، وَإِذَا مَا كُنْتَ مُتَأَكِّدًا مُتَيَقِّنًا أَنَّكَ فِيهِ قَدْ رَاقَبْتَ السِّرَّ، وَرَجَعْتَ فِيهِ إِلَى الطَّوِيَّةِ، وَنَظَرْتَ فِيهِ بِالْبَحْثِ وَالْفَحْصِ فِي أَطْوَاءِ الضَّمِيرِ، وَكُنْتَ مُتَيَقِّنًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.

 ((الصِّيَامُ تَدْرِيبٌ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ، فَقَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ التَّقْوَى، لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ.

فَمِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْوَى: أَنَّ الصَّائِمَ يَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهَا، الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا نَفْسُهُ؛ مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، رَاجِيًا بِتَرْكِهَا ثَوَابَهُ، فَهَذَا مِنَ التَّقْوَى.

وَمِنْ أَعْظَمِ حِكَمِ الصِّيَامِ: أَنَّ الصَّائِمَ يُدَرِّبُ نَفْسَهُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَتْرُكُ مَا تَهْوَى نَفْسُهُ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ بِاطِّلَاعِ اللَّهِ عَلَيْهِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ عَلَّمَ الْأُمَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَيْفَ تَكُونُ عَابِدَةً للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَصَارَ الشَّهْرُ مَدْرَسَةً لِتَعَلُّمِ الطَّاعَاتِ، وَالْإِقْبَالِ عَلى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَطَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ.

جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ مَدْرَسَةً؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَعَلَّمَ كَيْفَ نَعْبُدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَكَيْفَ نُحَصِّلُ التَّقْوَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

فَأَنْتُمْ تُحَصِّلُونَ التَّقْوَى بِصِيَامِكُمْ لِرَبِّكُمْ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَى صَائِمًا وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ مُفْطِرٌ، آتٍ بِكُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الصِّيَامِ عَلَيهِ.

وَلَكِنْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ سِوَى اللهِ، وَهُوَ يُرَاقِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ.

فِي السِّرِّ بِأَلَّا يَفْسَخَ نِيَّةَ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَسَخَ النِّيَّةَ، وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَلَمْ يَأْتِ بِمُفَطِّرٍ؛ فَقَدْ أَفْطَرَ، فَهَذَا سِرٌّ بَاطِنٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى نِيَّةِ الصِّيَامِ لَا يَفْسَخُهَا.

ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ بَعِيدٌ عَنْ كُلِّ مَا يُفْطِرُ، فِي الجَلْوَةِ كَمَا هُوَ فِي الخَلْوَةِ، فِي السِّرِّ كَمَا هُوَ فِي الْعَلَنِ، وَالَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

فَالصِّيَامُ يُعَلِّمُنَا التَّقْوَى، وَشَهْرُ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ؛ يَتَعَلَّمُ الْإِنْسَانُ فِيهَا كَيْفَ يَكُونُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَصِّلًا لِلتَّقْوَى.

رِقَابَةُ السِّرِّ، وَرِعَايَةُ الضَّمِيرِ، وَالتَّفْتِيشُ وَالتَّمْحِيصُ فِي الْبَوَاعِثِ وَالنِّيَّاتِ؛ أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدًّا.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالَ عَلَيْهِ، وَالِانْطِرَاحَ عَلَى أَبْوَابِ طَاعَاتِهِ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّة وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الحوثيون ذراع المجوس في اليمن
  عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  ضَوَابِطُ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ وَسُبُلُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  يَوْمُ بَدْرٍ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ وَعِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  فَرَائِضُ الْإِسْلَامِ غَايَاتُهَا وَمَقَاصِدُهَا
  الإدمان والإفساد في الأرض
  نِعْمَةُ الْمَاءِ وَضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَيْهَا
  جماعة الإخوان الإرهابية
  السُّخْرِيَةُ وَأَثَرُهَا الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ السَّمَاحَةُ وَالتَّيْسِيرُ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان