الْأَوْطَانُ لَيْسَتْ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ

الْأَوْطَانُ لَيْسَتْ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ

((الْأَوْطَانُ لَيْسَتْ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

 ((أَنْتَ بَعْضُ الْوَطَنِ وَالْوَطَنُ كُلُّكَ))

فَـ(الْوَطَنُ) كَلِمَةٌ صَغِيرَةٌ وَاحِدَةٌ؛ وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا عَظِيمٌ جَلِيلٌ، فَهُوَ التُّرْبَةُ الَّتِي مِنْهَا خَرَجْنَا، وَعَلَيْهَا دَرَجْنَا، وَفِيهَا حَيَاتُنَا، وَإِلَيْهَا مَرْجِعُنَا وَمَآبُنَا.

وَهَلْ كَانَ الْوَطَنُ إِلَّا أَنْتَ، وَتِلْكَ الْعِظَامَ الَّتِي اخْتَلَطَتْ بِأَرْضِهِ مِنْ عِظَامِ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ مِنَ الْقِدَمِ؟!!

فَأَنْتَ بَعْضُ الْوَطَنِ، وَالْوَطَنُ كُلُّكَ؛ فِي حِيَاتِهِ حَيَاتُكَ وَلَوْ مُتَّ، وَفِي مَوْتِهِ مَوْتُكَ وَلَوْ حَيِيتَ.

وَلَا تَحْسَبَنَّ حَيَاتَكَ هِيَ تِلْكَ الْأَيَّامَ الْقَصِيرَةَ الَّتِي تَقْضِيهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ، وَتَلْهُو وَتَلْعَبُ؛ إِنَّمَا حَيَاتُكَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، هِيَ ذِكْرَى الْمَاضِي، وَعِظَةُ الْحَاضِرِ، وَأَمَلُ الْمُسْتَقْبَلِ، هِيَ كُلُّ هَذَا، وَكُلُّ هَذَا هُوَ الْوَطَنُ.

الْوَطَنُ هُوَّ الْأَرْضُ الَّتِي طَوَيْنَا فِيهَا ثَوْبَ طُفُولَتِنَا الْمَرِحَةِ، وَلَا نَزَالُ نَطْوِي فِيهَا رِدَاءَ شَبَابِنَا وَشَيْخُوخَتِنَا، وَالَّتِي نَشَأْنَا فِيهَا وَأَحْبَبْنَاهَا وَفَضَّلْنَاهَا -بِحُكْمِ الطَّبْعِ وَاللُّغَةِ وَالنَّشْأَةِ- عَلَى كُلِّ بَلَدٍ سِوَاهَا.

هَذِهِ هِيَ فِطْرَةُ الْإِنْسَانِ، وَتِلْكَ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ.

((تَجْسِيدُ النَّبِيِّ ﷺ مَعْنَى حُبِّ الْوَطَنِ))

لَقَدْ جَسَّدَ نَبِيُّنَا ﷺ مَعْنَى حُبِّ الْوَطَنِ حِينَ أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، فَخَاطَبَهَا قَائِلًا: ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْ لَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).

وَحَيْثُ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ.

وَمِنْ حَنِينِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَقَدِمَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْهَا سَأَلَهُ عَنْهَا يَتَلَمَّسُ أَخْبَارَهَا، وَهَذَا كَلِيمُ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ مُجْبَرًا، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ((أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَحَنَّ إِلَى وَطَنِهِ، وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتِ التُّهْمَةُ وَبَلِيَتِ الْقِصَّةُ)).

وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَبِيرَةُ تُوجَدُ دَاخِلَنَا، وَتَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ فِي صُوَرٍ..

الصُّورَةُ الْأُولَى: إِذَا سَافَرَ الْإِنْسَانُ مِنَّا؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَرْضٍ هِيَ أَجْمَلُ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ أَغْنَى مِنْ أَرْضِنَا، فَإِنَّ مَشَاعِرَ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ يَنْفَدُ صَبْرُهَا عَنِ الْكِتْمَانِ، فَتَبُوحُ بِالْحَنِينِ إِلَى الْوَطَنِ، وَالتَّشَوُّقِ إِلَيْهِ فِي عِبَارَاتٍ يَتْلُوهَا الْإِنْسَانُ أَوْ دُمُوعٍ تَذْرِفُهَا الْعَيْنَانِ، وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مِنْ أَمَارَةِ الْعَاقِلِ: بِرُّهُ بِإِخْوَانِهِ، وَحَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَمُدَارَاتُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ)).

قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَتَشَوَّقُ إِلَى وَطَنِهِ:

ذَكَرْتُ بِلَادِي فَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي=بِشَوْقِي إِلَى عَهْدِ الصِّبَا الْمُتَقَادِمِ

حَنَنْتُ إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي=وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ

وَالتَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ؛ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى صِبْيَانِهَا يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ -فِي زَعْمِهِمْ- فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ، فَهَذَا يَذْكُرُ مَا كَانَ.

أَخَذَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ:

بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهِ الشَّبِيبَةَ وَالصِّبَا  =    وَلَبِسْتُ فِيهِ الْعَيْشَ وَهْوَ جَدِيدُ

فَإِذَا تَمَثَّلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ    =     وَعَلَيْهِ أَفْنَانُ الشَّبَابِ تَمِيدُ

فَتَأَمَّلْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً عَلَّلَهَا الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ مَا فِي مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.

فَالتَّعْزِيرُ -مَثَلًا- قَدْ يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْوَطَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إِلَى الْوَطَنِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ بِهِ، أَوْ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).

وَأَيْضًا ذَكَرُوا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: ((أَنَّ مَنْ خُوِّفَ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ)). ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِي حَدِّ الْحِرَابَةِ؛ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنْ وَطَنِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ.

قَالَ: يَكْفِيهِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ خِذْلَانًا وَذِلَّةً؛ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ، أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ.

فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْوَطَنِ سَوَاءٌ كَانَ لِسَفَرٍ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ خَرَجَ مُرْغَمًا؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَيَتَأَلَّمُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ، فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ يَثُورُ التَّعَلُّقُ الْعَاطِفِيُّ بِالْبَلَدِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ.

وَالصُّورَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ لِأَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ دَاخِلَنَا: أَنَّهُ إِذَا مُسَّتْ بَلَدُكَ بِسُوءٍ صَغِيرًا كَانَ هَذَا السُّوءُ أَوْ كَبِيرًا -مَثَلًا إِذَا سَبَّهَا أَحَدٌ-؛ تَحَرَّكَتْ فِيكَ مَشَاعِرُ الْحُبِّ فَدَافَعْتَ عَنْهَا.

وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا احْتِلَالٌ أَوْ عَبَثَ بِأَمْنِهَا مُفْسِدٌ؛ فَهُنَا تَتَفَجَّرُ جَمِيعُ الْمَشَاعِرِ الْكَامِنَةِ فِيكَ، فَلَا تَرَى نَفْسَكَ الْغَالِيَةَ إِلَّا بِأَرْخَصِ عُهُودِهَا، تَجُودُ بِهَا، تَحْمِلُهَا عَلَى رَاحَتَيْكَ لَعَلَّ وَطَنَكَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يُصَابُ بِأَذًى، وَلَا يَغْصِبُهُ مُغْتَصِبٌ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]

وَهَذَا أَمْرٌ مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَقُولُ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَوْ مَدْحِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:

إِنَّ الْبِلَادَ سِوَى بِلَادِكَ   =    ضَاقَ عَرْضُ فَضَائِهَا

فَاجْمَعْ بَنِيَّ إِلَى بَنِيكَ       =    فَأَنْتَ خَيْرُ رِعَائِهَا

نُشْهِدْكَ مِنَّا مَشْهَدًا        =    ضَنْكًا عَلَى أَعْدَائِهَا

نَحْنُ الْفَوَارِسُ مِنْ قُرَيْشٍ   =     يَوْمَ جِدِّ لِقَائِهَا

فَانْظُرْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

فَهَذِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهَا مَشَاعِرُ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ فِي صِدْقٍ وَوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ.

((مُقْتَضَيَاتُ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ))

إِنَّ حَقَّ الْوَطَنِ عَلَى أَبْنَائِهِ مِنْ أَوْجَبِ الْحُقُوقِ وَآكَدِهَا، وَالْمُشَارَكَةَ فِي بِنَائِهِ وَرُقِيِّهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ وَأَشْرَفِهَا، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ؛ فَالْحُرُّ الْكَرِيمُ يَفْتَدِي وَطَنَهُ بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ، وَللهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

وَلِلْأَوْطَانِ فِي دَمِ كُلِّ حُرٍّ        =     يَدٌ سَلَفَتْ وَدَيْنٌ مُسْتَحَق

((إِنَّ الْوَطَنَ هُوَ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، يَقْضِي الْعُمُرَ فِيهَا الطَّالِبُ؛ حَقُّ اللهِ وَمَا أَقْدَسَهُ وَأَقْدَمَهُ، وَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَمَا أَعْظَمَهُ، وَحَقُّ النَّفْسِ وَمَا أَلْزَمَهُ، إِلَى أَخٍ تُنْصِفُهُ، أَوْ جَارٍ تُسْعِفُهُ، أَوْ رَفِيقٍ فِي رِحَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَلَّفُهُ، أَوْ فَضْلٍ لِلرِّجَالِ تُزَيِّنُهُ وَلَا تُزَيِّفُهُ.

فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْوَطَنِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَعْبَاءِ أَمَانَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةُ بِنَائِهِ، وَالضَّنَانَةُ بِأَشْيَائِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَبْنَائِهِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِوَائِهِ، قُيُودٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عَدَدٍ، يَكْسِرُهَا الْمَوْتُ وَهُوَ قَيْدُ الْأَبَدِ.

رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ فِيهِ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ كَرِيمٍ، وَأَثَرٍ ضَئِيلٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَمُدَّخَرٍ حَدِيثٍ أَوْ قَدِيمٍ؛ يَنْمُو عَلَى الدِّرْهَمِ كَمَا يَنْمُو عَلَى الدِّينَارِ، وَيَرْبُو عَلَى الرَّذَاذِ كَمَا يَرْبُو عَلَى الْوَابِلِ الْمِدْرَارِ، بَحْرٌ يَتَقَبَّلُ مِنَ السُّحُبِ وَيَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَنْهَارِ.

فَيَا خَادِمَ الْوَطَنِ! مَاذَا أَعَدَدْتَ لِلْبِنَاءِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ زِدْتَ فِي الْفِنَاءِ مِنْ شَجَرٍ؟!!

عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ الْجَهْدَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْنِيَ السَّدَّ؛ فَإِنَّمَا الْوَطَنُ كَالْبُنْيَانِ.. فَقِيرٌ إِلَى الرَّأْسِ الْعَاقِلِ، وَالسَّاعِدِ الْعَامِلِ، وَإِلَى الْعَتَبِ الْوَضِيعَةِ، وَالسُّقُوفِ الرَّفِيعَةِ.

وَكَالرَّوْضِ مُحْتَاجٌ إِلَى رَخِيصِ الشَّجَرِ وَثَمِينِهِ، وَنَجِيبِ النَّبَاتِ وَهَجِينِهِ؛ إِذْ كَانَ ائْتِلَافُهُ فِي اخْتِلَافِ رَيَاحِينِهِ».

((مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ: الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ))

إِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ أَوْ شِعَارَاتٍ تُرْفَعُ، إِنَّمَا هُوَ سُلُوكٌ وَتَضْحِيَّاتٌ وَحُقُوقٌ تُؤَدَّى؛ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَشْرَفِهَا: التَّضْحِيَةُ فِي سَبِيلِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَزِيزِ، وَحِمَايَتُهُ مِنْ أَيِّ خَطَرٍ يَتَهَدَّدُهُ، أَوْ يُقَوِّضُ بُنْيَانَهُ، أَوْ يُزَعْزِعُ أَرْكَانَهُ، أَوْ يُرَوِّعُ مُوَاطِنِيهِ، فَحِمَايَةُ الْأَوْطَانِ مِنْ صَمِيمِ مَقَاصِدِ الْأَدْيَانِ، وَهَذَا سَبِيلُ الشُّرَفَاءِ وَالْعُظَمَاءِ الْأَوْفِيَاءِ، فَالْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِدَاءٌ وَتَضْحِيَةٌ، وَاعْتِزَازٌ بِالْوَطَنِ وَتُرَابِهِ، وَحِفَاظٌ عَلَى مُؤَسَّسَاتِهِ؛ فَالْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا، وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

 ((مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْوَطَنِيَّةِ: الْمُشَارَكَةُ فِي بِنَاءِ الْوَطَنِ))

إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بِإِخْلَاصٍ فِي بِنَاءِ الْوَطَنِ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَسَاسٍ تُبْنَى عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْعَزِيزَةُ وَالدَّوْلَةُ الْقَوِيَّةُ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَقَاةُ مِنَ الْوَحْيَيْنِ الْمَعْصُومَيْنِ: الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ مَنْ يَفْهَمُ دِينَهُ فَهْمًا صَحِيحًا يُدْرِكُ أَنَّ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ لِلدِّينِ -وَهُوَ فَهْمُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-- يُسْهِمُ وَبِقُوَّةٍ فِي بِنَاءِ وَاسْتِقْرَارِ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ عَزِيزَةٍ تَقُومُ عَلَى أُسُسٍ شَرْعِيَّةٍ مَتِينَةٍ وَوَطَنِيَّةٍ رَاسِخَةٍ، كَمَا أَنَّ الدَّوْلَةَ الرَّشِيدَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَصْطَدِمَ مَعَ الْفِطْرَةِ وَالْإِسْلَامُ الْفِطْرَةُ، وَالْفِطْرَةُ الْإِسْلَامُ- الَّتِي تَبْحَثُ عَنِ الْإِيمَانِ الرَّشِيدِ الصَّحِيحِ.

((وَعَدَ اللهُ بِالنَّصْرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، بِأَنْ يُورِثَهُمْ أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَجْعَلُهُمْ خُلَفَاءَ فِيهَا، مِثْلَمَا فَعَلَ مَعَ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ -وَهُوَ الْإِسْلَامُ- دِينًا عَزِيزًا مَكِينًا، وَأَنْ يُبَدِّلَ حَالَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ إِلَى الْأَمْنِ، إِذَا عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا مَعَهُ شَيْئًا، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِخْلَافِ وَالْأَمْنِ وَالتَّمْكِينِ وَالسَّلْطَنَةِ التَّامَّةِ، وَجَحَدَ نِعَمَ اللهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ))، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

فَلَا يَسْتَتِبُّ الْأَمْنُ وَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِقْرَارُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ.

وَهَذِهِ الْمَطَالِبُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنَ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينِ لِلدِّينِ، وَالْإِتْيَانِ بِالْأَمْنِ.. كُلُّهَا لَا تَأْتِي إِلَّا بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.

فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.

أَمَّا إِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ، وَتَفَشَّتِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ، وَقِيلَ: اتْرُكُوا النَّاسَ أَحْرَارًا فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا تُنَفِّرُوهُمْ، وَلَا تُبَدِّدُوا جَمْعَهُمْ!! إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ، وَحَصَلَ التَّفَرُّقُ، وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَأَوْهَى قُوَّتَهُمْ؛ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَرْسَلَ نَبِيَّهُ ﷺ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ بِهِ، وَنَظَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، كَانُوا قَدْ قَرَؤُوا الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، وَيَعْرِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِشِيَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ، وَأَطْبَقَتِ الْأَرْضُ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ.

فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَدَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَانْصَاعَتْ قُلُوبٌ إِلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ، وَأُسِّسَتِ الْمِلَّةُ عَلَيْهِ، وَانْتَشَرَ التَّوْحِيدُ فِي الْأَرْضِ.. عَمَّ فِيهَا الْخَيْرُ، وَقَلَّ فِيهَا الشَّرُّ.

وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ؛ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)).

كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ.. كَثُرَ الشَّرُّ، وَقَلَّ الْخَيْرُ.

عِبَادَ اللهِ! إِذَا أَرَدْنَا الْإِصْلَاحَ حَقًّا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ؛ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ.

إِنَّ الَّذِينَ يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَحْتَاجُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ!! هَؤُلَاءِ يَخُونُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ!!

وَهُؤَلَاءِ مِنْ جُنْدِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَجِّي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا تَوْحِيدُهُمْ لِرَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِخْلَاصُهُمْ فِي الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

الْمُرْسَلُونَ كُلُّهُمْ دَعَوْا إِلَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَخَاتَمُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ صَدَّقَهُمْ، وَدَعَا إِلَى التَّوْحِيدِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22].

قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].

فَالْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: هِيَ إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

هَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهَا.

هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَبِسَبَبِهِ كَانَتِ الْمِحْنَةُ، وَوَقَعَتِ الْمَلْحَمَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ، هُوَ أَمْرُ الْعَقِيدَةِ، أَمْرُ التَّوْحِيدِ.

فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَسَاسُ، الْعَقِيدَةُ رَأْسُ الدِّينِ.

قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يُصْلِحُ آخَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَقَدْ أَصْلَحَ أَوَّلَهَا الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ)) .

هَذِهِ الْأُمَّةُ إِذَا أَرَادَتْ الِاجْتِمَاعَ، وَأَرَادَتِ الْقُوَّةَ، وَأَرَادَتْ الِائْتِلَافَ.. فَإِنَّهُ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَالَّذِي أَصْلَحَ أَوَّلَهَا هُوَ التَّوْحِيدُ.

لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا التَّوْحِيدُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ؛ الِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَالَّذِي يَجْمَعُ الْأُمَّةَ: الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33].

وَالْهُدَى: الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَسَاسُ ذَلِكَ: التَّوْحِيدُ، وَإِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ.

وَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا.. هُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ بَعَثَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَقْوَامِهِمْ، وَقَدْ تَفَشَّتْ فِيهِمُ الْأَمْرَاضُ فَوْقَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ.

كَانَتْ عِنْدَهُمْ -أَيْضًا- أَمْرَاضٌ تَتَعَلَّقُ بِسِيَاسَاتِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِاقْتِصَادِهِمْ، وَتَتَعَلَّقُ بِمُجْتَمَعَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَعَ ذَلِكَ.. لَمْ يَبْدَأْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ -وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ حَقًّا، وَهُمُ الْمُصْلِحُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ-؛ لَمْ يَبْدَؤُوا دَعْوَةَ أَقْوَامِهِمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَلَنَا فِيهِمُ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].

((هَذَا مِنْ أَوْعَادِهِ الصَّادِقَةِ الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَمَخْبَرُهَا؛ فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِيهَا، الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا، وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ؛ لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذَى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهَدْ: الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ؛ بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ، فَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُدِيلُهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)).

فَالِاسْتِخْلَافُ وَالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ، وَالنَّصْرُ، وَبِنَاءُ الدَّوْلَةِ الْقَوِيَّةِ الْعَزِيزَةِ.. وَعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الَّذِينَ يُحَقِّقُونَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَبِغَيْرِ الْإِسْلَامِ وَبِتَضْيِيعِ الْعَقِيدَةِ فَلَا اسْتِخْلَافَ وَلَا تَمْكِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19-20].

((إِنَّ الدِّينَ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ لِخَلْقِهِ، وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَلَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ للهِ وَحْدَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَاتِّبَاعُ الرُّسُلِ فِيمَا بَعَثَهُمُ اللهُ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ بَعْدَ بِعْثَتِهِ دِينًا سِوَى الْإِسْلَامِ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85].

إِنَّ الدِّينَ الْمَقْبُولَ عِنْدَ اللهِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَلِرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَمُتَابَعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِنَّ كُلَّ دِينٍ سِوَاهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ مَا يَأْمُرُ اللهُ بِهِ، وَيَرْضَى عَنْ فَاعِلِهِ، وَيُثِيبُهُ عَلَيْهِ.

وَمَنْ يَطْلُبُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ ﷺ دِينًا غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَشَرِيعَةً غَيْرَ شَرِيعَتِهِ؛ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ إِذْ صَارُوا إِلَى عَذَابِ النَّارِ الْأَبَدِيِّ فِي جَهَنَّمَ.

((الْأَوْطَانُ لَيْسَتْ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ

وَمُحَارَبَةُ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ))

لَقَدْ تَشَوَّهَ مَفْهُومُ (الْوَطَنِ) عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْفِكْرِ الْمُنْحَرِفِ؛ فَالْوَطَنُ عِنْدَ -أَقْوَامٍ- لَا قِيمَةَ لَهُ، فَـ(سَيِّد قُطْب) -وَهُوَ كَبِيرُهُمُ الَّذِي عَلَّمَهُمُ التَّكْفِيرَ وَالْإِثْمَ-، يَقُولُ: إِنَّ الْوَطَنَ مَا هُوَ إِلَّا حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابٍ نَجِسٍ!

لَوْ كَانَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ طَاهِرٍ مَا كَانَتْ لَهُ قِيمَةٌ، فَكَيْفَ وَهُوَ حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابٍ نَجِسٍ؟!

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا كَانَ لَدَيْهِ حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابٍ نَجِسٍ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُهِمُّهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ؛ تُرَابٌ نَجِسٌ فَمَا قِيمَتُهُ؟! يَجِبُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ!

هَذَا هُوَ الْوَطَنُ عِنْدَهُمْ، لَا قِيمَةَ لَهُ!

يُبَعْثَرُ.. يُشَتَّتُ.. يُقَسَّمُ.. يَصِيرُ أَنْهَارًا مِنَ الدِّمَاءِ.. لَا بَأْسَ!!

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْوَسَائِلِ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْوَطَنِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ: مُحَارَبَةَ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ وَالسَّعْيَ لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ.

وَمِنْ وَسَائِلِ مُحَارَبَةِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ: بَثُّ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ فِي الْأُمَّةِ:

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَوْجَبَ نَشْرَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُزِيلُ الْغَبَشَ، وَيَمْنَعُ الِانْحِرَافَ، وَكِثيٌر مِمَّا تَرَاهُ الْآنَ مِنْ مَظَاهِرِ الْإِرْهَابِ وَالْقَتْلِ وَالتَّفْجِيرِ وَالتَّدْمِيرِ وَالتَّكْفِيرِ، كُلُّهُ بِسَبَبِ الْجَهْلِ، وَسُوءِ الْفَهْمِ، كَمَا وَقَعَ مِنَ الْخَوَارِجِ، ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ))، فَأَنَّى يَفْهَمُونَ؟!

وَالْخَوَارِجُ الْمُحْدَثُونَ كَالْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)).

أَوْجَبَ طَاعَةَ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرَّمَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، مَا لَمْ يُظْهِرُوا كُفْرًا بَوَاحًا بَيِّنًا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ.

وَأَيْضًا لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ الْخُرُوجَ إِلَّا بِإِعْدَادِ الْعُدَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا عَلَى الْأَصْلِ.

الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ رَكَّزَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الرَّحْمَةِ، دِينُ الْإِحْسَانِ، وَتِلْكَ نَقِيضَةُ الْإِرْهَابِ:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.

{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

وَفِيمَا وَصَفَ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]؛ أَيْ: لَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَهْتَدُوا.

فَتَأَمَّلْ فِي وَصْفِ الرَّسُولِ، وَتَأَمَّلْ فِيمَا عَلَيْهِ الْقَوْمُ:

حِرْصُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ!

حِرْصُهُمْ عَلَى الْإِبَادَةِ!

حِرْصُهُمْ عَلَى الِاسْتِئْصَالِ!

وَأَمَّا الرَّسُولُ فَيُعَاتِبُهُ رَبُّهُ لِشَدِيدِ حُزْنِهِ، وَعَظِيمِ هَمِّهِ لِعَدَمِ اهْتِدَاءِ قَوْمِهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ قُوَّادَهُ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ، كَمَا مَرَّ فِي وَصِيَّتِهِ لِقَادَةِ الْجُيُوشِ، أَنْ لَا يَقْتُلُوا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا رَاهِبًا، وَلَا عَابِدًا.

وَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- امْرَأَةً مَقْتُولَةً، غَضِبَ، وَقَالَ: ((مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ))، أَيْ: فَلَمْ تُقَاتِلْ هَذِهِ، فَلِمَ تُقْتَلُ؟!

وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهَا بِحَالٍ، لَمْ تَكُنْ مُحَارِبَةً، فَعَاتَبَهُمْ فِي قَتْلِهَا.

حَرَّمَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا يُغَذِّي الْإِرْهَابَ وَيَنْشُرُهُ مِنْ مَدْحِ الْمُجْرِمِينَ، وَإِضْفَاءِ صِفَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى جَرَائِمِهِمْ، كَوَصْفِ فِعْلِهِمْ بِأَنَّهُ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَوَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، كَمَا تَسْمَعُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الَّتِي تُحَارِبُهُمْ، يَقُولُ: مِنَ الْجِهَادِيِّينَ!

يُجَاهِدُونَ الْإِسْلَامَ، أَمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الْإِسْلَامِ؟!

أَيُّ جِهَادٍ هَذَا؟!

هَذَا إِرْهَابٌ، هَذَا عُنْفٌ لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ ﷺ.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْمُتَّبِعُونَ، فَقَدْ أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، كَنَشْرِ الْإِرْهَابِ بِالْإِشَاعَةِ، وَتَخْوِيفِ النَّاسِ وَتَفْزِيعِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْشُرُ الْإِرْهَابَ، وَيَجْعَلُهُ مَقْبُولًا فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَيُعَظِّمُ أَثَرَهُ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ.

إِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ خَيْرُ مَا بُذِلَتْ فِيهِ الْأَعْمَارُ وَأُلْحِقَ فِيهِ اللَّيْلُ بِالنَّهَارِ.

الْعِلْمُ أشْرَفُ مَطْلوبٍ وَطَالِبُهُ * * * للهِ أَكْـرَمُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ * * * أَهْـلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَّالُ فِي الظُّلَمِ

الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَا لَهُ اسْتَمَعَتْ * * * أُذْنٌ وَأَعْـرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الْجَهْلَ وَالْجُهَّالَ سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

وَمَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ؛ لِذَا كَانَ مِنَ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الدَّفَاعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدَافِعَ عَنِ الشَّرِيعَةِ، إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ حَامِلُهَا.

وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ يُسَمَّى سَبِيلَ اللهِ؛ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَوْلَهُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، بِالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُم الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، هَؤُلَاءِ بِأَيْدِيهِمْ -يَعْنِي: الْأُمَرَاءَ-، وَهَؤُلَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ -يَعْنِي الْعُلَمَاءَ-.

 ذَكَرَ ابنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((الْجَامِعِ)) عَنْ بَعْضِهِمْ فِي قَدْرِ الْعُلَمَاءِ وَقِيمَتِهِمْ: ((وَمِدَادُ مَا تَجْرِي بِهِ أَقْلَامُهُمْ أَزْكَى وَأَفْضْلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ   ***   يَا طَالِبِي عِلْمِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ مَا أَنْتُمْ وَسُوَاكُمْ بِسَوَاءٍ)).

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتِصَمَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الطَّلَبِ عَلَى نَهْجِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي هَذَا النَّجَاةُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ النَّجَاةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَأَصْلُهُ، فَمَهْمَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَتَنَكَّبْهُمَا وَاسْتَدْبَرْهُمَا وَجَعَلَهُمَا دَبْرَ أُذُنيْهِ وَخَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.

فَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ حَقًّا وَصِدْقًا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَمُوجُ بِالْفِتَنِ مَوْجَ الْبَحْرِ، وَهِيَ تَتَلَاطَمُ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَقَد عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ؛ فَتَسَنَّمُوا كُلَّ ذِرْوَةٍ، وَعَلَوْا كُلَّ مِنْبَرٍ، وَصَارَ صَوْتُهُمْ عَالِيًا قَوِيًّا، وَإِنَّمَا هُمْ فِي النِّهَايَةِ غُثَاءٌ، مَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ وَالْحَالَ هَذِهِ؛ فَعَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَمِنْ وَسَائِلِ مُحَارَبَةِ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ: تَصْحِيحُ الْعَقِيدَةِ وَالدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ:

إِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي أَخْذٍ بِأَسْبَابِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أُمُورَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ بِالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَلَّغَنَا عَنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ التَّوْحِيدِ، وَعَظِيمَ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَفِي الْمَآلِ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

إِنَّ التَّوْحِيدَ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ؛ لِيَكُونَ عَبْدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ رَبِّ الْعِبَادِ.

فَالتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ الصَّافِي يُحَرِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ؛ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ الْبَاطِلَةِ.

وَيَجْعَلُ التَّوْحِيدُ الْإِنْسَانَ شَاعِرًا بِعِزَّةٍ وَكَرَامَةٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَهُ، وَبَرَأَهُ، وَسَوَّاهُ.

يُحَرِّرُ عَقْلَهُ كَمَا حَرَّرَ قَلْبَهُ، يُحَرِّرُ عَقْلَهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ، مِنَ التُّرَّهَاتِ، مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ، حَتَّى لَا يَخَافَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِاللهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَأَفْضَالِهِ.

وَالْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].

فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.

مِنْ أَنْفَعِ الْعِلَاجَاتِ لِلْقَضَاءِ عَلَى التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ: تَمْكِينُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ لِمُحَارَبَتِهِ، وَمُحَارَبَةِ الْإِرْهَابِ وَالْإِلْحَادِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ:

إِنَّ التَّكْفِيرَ شَائِعٌ ذَائِعٌ يَسْرِي فِي شَبَابِ الْأُمَّةِ كَالنَّارِ فِي الْهَشِيمِ، وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْحَوَادِثُ فِي التَّارِيخِ كُلِّهِ -تَارِيخِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ- أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّى لِلتَّكْفِيرِيِّينَ أَحَدٌ مِثْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، هُمُ الَّذِينَ يَمْتِلِكُونَ الْحُجَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَدْحَضُونَ الْفِرْيَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَكِرُّونَ بِجَيْشِ الْحُجَّةِ وَرَجْلِهَا وَخَيْلِهَا عَلَى أُولَئِكَ التَّكْفِيرِيِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ حَتَّى يَنْسِفُوا حُجَجَهُمْ، لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ.

فَمِنْ أَكْبَرِ الْجَرَائِمِ أَلَّا يَكُونَ لِهَؤُلَاءِ صَوْتٌ عَالٍ فِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْحَمْلَةِ التَّكْفِيرِيَّةِ لِأُمَّةِ الْإِسْلَامِ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ، مِنْ أَجْلِ صَدِّ هَذَا الزَّحْفِ الْهَائِجِ الْمَائِجِ الَّذِي هُوَ وَلَا كَزَحْفِ التَّتَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ يَغْزُو الْقُلُوبَ وَالنُّفُوسَ وَالْعُقُولَ حَتَّى يُدَمِّرَهَا، وَحَتَّى تَصِيرَ حَرْبًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَحَتَّى يُسَلِّمُوا بِأَيْدِيهِم -وَيَا سُوءَ مَا صَنَعَتْ وَاجْتَرَحَتْ أَيْدِيهُمْ!!- حَتَّى يُسَلِّمُوا بِأَيْدِيهِمْ أَوْطَانَهُمُ الْإِسْلَامِيَّةَ لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَحَتَّى تَضِيعَ مَكَاسِبُ الْإِسْلَامِ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَد مَرَّ عَلَيْهَا مِنَ الْقُرُونِ مَا مَرَّ؛ يُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ، وَيُرْكَعُ فِيهَا وَيُسْجَدُ لِلرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، وَيُتَعَامَلُ فِيهَا بِالْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَيُدْعَى فِيهَا إِلَى اللهِ، وَيَرْتَفِعُ فِيهَا قَوْلُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

عِبَادَ اللهِ! لَا شَكَّ أَنَّ عَقِيدَةَ الْخَوَارِجِ مُنْتَشِرَةٌ بَيْنَ الشَّبَابِ، فَكَيْفَ نُعَالِجُ هَذَا الِانْحِرَافَ وَنُنَجِّي أَنْفُسَنَا وَأَوْطَانَنَا مِنَ الدَّمَارِ؟

هَذِهِ هِيَ الْقَضِيَّةُ الرَّئِيسَةُ، كَيْفُ يُعَالَجُ هَذَا الْأَمْرُ؟

لَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِمُحَارَبَةِ هَذَا الْفِكْرِ، كَانُوا فِي الْجُمْلَةِ غَيْرَ أَهْلٍ لِذَلِكَ؛ لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِطَبِيعَةِ فِكْرِ الْخَوَارِجِ، وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِمُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، مِمَّا جَعَلَهُمْ يَخْلِطُونَ بَيْنَ هَذَا الِانْحِرَافِ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ، وَبَيْنَ الْجِهَادِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الْإِفْسَادِ بِاسْمِ الْجِهَادِ.

إِنَّ انْتِشَارَ مَظَاهِرِ الْفَسَادِ فِي كَثِيرٍ مِنْ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّمَاحَ لِدُعَاةِ الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ بِالتَّعَدِّي وَالظُّهُورِ وَالتَّحَدُّثِ ضِدَّ الْإِسْلَامِ، عَلَانِيَةً، مَعَ انْتِشَارِ مَظَاهِرِ الِانْحِرَافِ الْأَخْلَاقِيِّ، هَذِهِ كُلُّهَا لَا شَكَّ شَجَّعَتْ عَلَى رُدُودِ الْفِعْلِ لَدَى الشَّبَابِ، فَوَجَبَ إِزَالَتُهَا، وَالسَّعْيُ لِتَطْبِيقِ شَرِيعَةِ اللهِ، وَجَعْلُ الدِّينِ الْمُسْيَطَرِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إِنْشَاءُ الْمُوَاطِنِ الصَّالِحِ.

لَقَدْ تَصَدَّى الْعُلَمَاءُ الرَّبَانِيُّونَ لِلْخَوَارِجِ مُنْذُ ظُهُورِهِمْ، فَنَسَفُوا شُبُهَاتِهِمْ، وَأَحْكَمُوا قَبْضَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رِقَابِ حُجَجِهِمْ، فَهَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَحَمَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شِبَاكِهِمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ -وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَنَزَلُوا حَرُورَاءَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَنُسِبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ- لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحُرُورِيَّةُ يَخْرُجُونَ عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((جَعَلَ يَأْتِيهِ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! الْقَوْمُ خَارِجُونَ عَلَيْكَ.

فَيَقُولُ: دَعْهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا.

فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ قُلْتُ -وَالْقَائِلُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ -وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ هُوَ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يُتَمَكَّنَ مِنَ الْمَشْيِ فِي الْفَيْحِ- قَالَ: أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ فَلَا تَفُوتُنِي حَتَّى آتِيَ الْقَوْمَ.

قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ قَائِلُونَ -مِنَ الْقَيْلُولَةِ- فَإِذَا هُمْ مُسَهَّمَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ -أَيْ مُتَغَيِّرَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ- قَدْ أَثَّرَ السُّجُودُ فِي جِبَاهِهِمْ، كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ ثَفِنُ الْإِبِلِ -وَالثِّفِنُ: جَمْعُ ثَفِنَةٍ وَهِيَ مَا وَلِيَ الْأَرْضَ مِنْ كُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ إِذَا بَرَكَتْ، كَالرُّكْبَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَيَحْصُلُ فِيهِمَا غِلَظٌ مِنْ أَثَرِ الْبُرُوكِ- عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ- أَيْ مَغْسُولَةٌ-.

فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ عَلَيْكَ؟

قَالَ: قُلْتُ: مَا تَعِيبُونَ هَذِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ ثِيَابٍ الْيَمَنِيَّةِ، ثُمَّ قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].

فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ؟

قَالَ: قُلْتُ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَمِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنَ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ، جِئْتُ لِأُبْلَغَهُمْ عَنْكُمْ وَلِأُبْلِغَكُمْ عَنْهُمْ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولَ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58].

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلَى فَلْنُكَلِّمْهُ.

قَالَ: فَكَلَّمَنِي مِنْهُمْ رَجَلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ -قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- مَاذَا نَقِمْتُمْ عَلَيْهِ -أَيْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟

قَالُوا: ثَلَاثًا.

قَالَ: فَقُلْتُ مَا هُنَّ؟

قَالُوا: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللهِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40].

قَالَ: قُلْتُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، وَمَاذَا أَيْضًا؟

 قَالُوا: فَإِنَّهُ قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغنَمْ -يُرِيدُونَ يَوْمَ الْجَمَلِ- فَلَإنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ قِتَالُهْمْ، وَلِإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ لَقَدْ حَلَّ قِتَالُهُمْ وَسَبْيُهُمْ.

قَالَ: قُلْتُ: وَمَاذَا أَيْضًا؟

قَالُوا: وَمَحَا نَفْسَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:  قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا يَنقُضُ قَوْلَكُمْ هَذَا، أَتْرْجِعُونَ؟

قَالُوا: وَمَا لَنَا لَا نَرْجِعُ.

قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95].

وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].

فَصَيَّرَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى حُكْمِ الرِّجَالِ، فَنَاشَدْتُكُمُ اللهَ أَتْعَلَمُونَ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي إِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَفْضَلُ أَوْ فِي دَمِ أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، وَفِي بُضْعِ امْرَأَةٍ؟

قَالُوا: بَلَى هَذَا أَفْضَلُ.

قَالَ: أخْرجتُ مِنْ هَذِهِ؟

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ فَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؟

فَإِنْ قُلْتُمْ نَسْبِيهَا، فَنَسْتَحِلَّ مِنْهَا مَا نَسْتَحِلُّ مِنْ غَيْرِهَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ بِأُمِّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، فَأَنْتُمْ تَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ، أخرجتُ مِنْ هَذَا؟

قَالُوا: بَلَى.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا آتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ، إِنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَّة، حِينَ صَالَحَ أَبَا سُفْيَانَ وَسُهَيْلَ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اُكْتُبْ يَا عَلِيُّ، هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)).

فَقَالَ أَبُو سُفْيَان وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولَ اللهِ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولَ اللهِ مَا قَاتَلْنَاكَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللهم إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، اُمْحُ يَا عَلِيُّ، وَاُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ)).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَخَرَجُوا فَقُتِلُوا أَجْمَعُونَ)).

أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُودَ مُخْتَصَرًا، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ))، وَعَبْدُ الرَّزَّاقُ فِي ((الْمُصَنَّفِ))، وَالنَّسَائِىُّ فِي ((تَهْذِيبِ خَصَائِصِ الْإِمَامِ عَلِىٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

وَمِنْ إِرْشَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ مَسْأَلَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ الْخَوارِجِ وَمَعَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيِّ.

وَمِثَالٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ لِمُحَارَبَةِ الْعُلَمَاءِ الْأَكَابِرِ لِلتَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ:

جَاءَ فِي ((الْقِصَّةِ الْكَامِلَةِ لِخَوَارِجِ عَصْرِنَا)):

دَوْرُ عُلَمَائِنَا فِي إِخْمَادِ فِتْنَةِ الْجَزَائِرِ:

إِنَّ فِتْنَةَ خَوَارِجِ الْجَزَائِرِ لَمْ تَنْتَهِ حَتَّى هَذِهِ السَّاعَة؛ لَكِنْ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِجُهُودِ عُلَمَائِنَا خَمَدَتِ الْفِتْنَةُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، حَيْثُ قَامَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ بِنَشْرِ فَتَاوَى أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ -فِي هَذَا الْعَصْرِ- عَنْ مَسَائِلِ الْخُرُوجِ.

فَأَمَّا الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمَيْنِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَقَدْ كَانَتْ لَهُ صَوْلَاتٌ وَجَوْلَاتٌ مَعَ الْمُنَظِّرِينَ وَالْمُنَفِّذِينَ، وَمِنْ أَشْهَرِهَا: أَنَّهُ وَجَّهَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُقَاتِلَةِ -وَيُدْعَى حَسَن حَطَّاب- يَنْصَحُهُ فِي عَدَمِ الْخَوْضِ فِي دِمَاءِ الْأُمَّةِ، وَكَانَ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ وَقْعٌ كَبِيرٌ فِي نُفُوسِ الشَّبَابِ؛ فَقَدْ اكْتَشَفُوا -بَعْدَ سِنِينَ مِنَ الْمَجَازِرِ- أَنْ فِعْلَهُمْ لَيْسَ جِهَادًا؛ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ؛ فَقَرَّرَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ وَضْعَ السِّلَاحِ، وَالتَّوْبَةِ، وَعَفَتِ الدَّوْلَةُ عَنْهُمْ، وَأَوَّلُ التَّائِبِينَ كَبِيرُهُمْ حَطَّاب)).

وَمِنْ نَفْعِ اللهِ الشَّبَابَ بِكَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ: أَنَّهُ قَامَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْقَوْمِ -الَّذِينَ غُرِّرَ بِهِمْ- بِالِاتِّصَالِ هَاتِفِيًّا بِالشَّيْخِ، وَالشَّرِيطُ مَعْرُوفٌ بِاسْمِ: ((لِقَاءُ ثُوَّارِ الْجَزَائِرِ بِالشَّيْخِ ابْنِ عُثَيْمِينَ هَاتِفِيًّا))، وَكَانَ مِحْوَرُ الْأَسْئِلَةِ تَدُورُ حَوْلَ شَرْعِيَّةِ قِتَالِهِمْ.

وَمِمَّا قَالَهُ الشَّيْخُ -نَاصِحًا لَهُمْ- أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ سَفْكٍ الدِّمَاءِ، وَاسْتِبَاحَةٍ لِلْأَعْرَاضِ: سَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِجِهَادٍ.

عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِ شَيْءٌ وَالْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ وَالْخُصُومَةَ شَيْءٌ آخَرُ، هَذَا مَنْهيٌّ عَنْهُ، وَذَاكَ مُرَغَّبٌ فِيهِ.

كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ لَمْ يَتَمَكَّنِ الضَّلَالُ مِنْ قُلُوبِهِمْ بَعْدُ، أَعْنِي النَّاشِئَةَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ سَرَتِ الْعَدْوَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا تَوْبَتُهُ رَاجِحَةٌ وَأَوْبَتُهُ مُمْكِنَةٌ، وَمُنَاظَرَتُهُ نَافِعَةٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُقْدِمُ عَلَى مُنَاظَرَةِ هَؤُلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْعِلْمِ الْقَوِيِّ الْقَائِمِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسُرْعَةِ الْبَدِيهَةِ كَمَا يُلَاحَظُ مِنْ مُنَاظَرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَأَنْ يَكُونَ مِمَنْ حَظِيَ بِالْقَبُولِ وَالْإِمَامَةِ، ذَلِكُمْ أَنَّ إِرْسَالَ أَيِّ رَجُلٍ كَانَ لِمُنَاظَرَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا حَصَلَ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ، فَتَغَلَّبَ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِ بِالْحُجَةِ الدَّاحِضَةِ وَالْبَيَانِ الظَّاهِرِيِّ، هَذَا جَعَلَهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ.

وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُنَاظِرُهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَثَبِّتًا نَاطِقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا أَنْ يُقَدَّمَ إِلَى هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَهَذَا هُوَ الْعَبَثُ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا يُمَكِّنُ لِهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتِهِمْ.

إِذَنْ، مُنَاظَرَةُ نَاشِئَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ نَافِعَةٌ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَلَيْسَ يَنْفَعُ مَعَهُمْ إِلَّا مَا نَفَعَ صَبِيغَ بْنِ عِسْلٍ التَّمِيمِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ صَبِيغٌ.

فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ، فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ عُمَرُ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِتِلْكَ الْعَرَاجِينِ، فَمَا زَالَ يَضْرِبُهُ حَتَّى شَجَّهُ، وَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَنْ وَجْهِهِ.

فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ وَاللهِ ذَهَبَ الَّذِي أَجِدُ فِي رَأْسِي!

فَنَفَاهُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَر بِعَدَمِ مُجَالَسَتِهِ، ثُمَّ صَلُحَ حَالُهُ، فَعَفَا عَنْهُ)). أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْآجُرِيُّ، وَاللَّالَكَائِيُّ، وَابْنُ وَضَّاحٍ فِي ((الْبِدَعِ)).

فَخَلُّوا -عِبَادَ اللهِ- عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا مَعَ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ الْمَعْرَكَةَ مَعْرَكَةُ عَقِيدَةٍ، لَا يُفْلِحُ فِي خَوْضِهَا الزَّائِغُونَ، وَلَا الْمُنْحَرِفُونَ، وَلَا الْمُتَحَلِّلُونَ، وَلَا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الدِّينَ، وَلَا الَّذِينَ يَنْسِفُونَ تُرَاثَ الْمُسْلِمِينَ، هَؤُلَاءِ يَزِيدُونَ النَّارَ اشْتِعَالًا.

((رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ مُحِبٍّ لِوَطَنِهِ))

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ تُوجِبُ: ((أَنْ يَبْذُلَ الْمَرْءُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْخِبْرَةِ وَالنُّصْحِ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ لِمَنْفَعَةِ بَنِي وَطَنِهِ؛ فَيَسْتَقِيمُ فِي وَظِيفَتِهِ، وَيَنْصَحُ فِي تِجَارَتِهِ، وَلَا يَغُشُّ فِي حِرْفَتِهِ.

وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي تَحْسِينِ حَالَتِهِ وَلَوْ بِالسَّفَرِ إِلَى الْمَمَالِكِ الْبَعِيدَةِ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ يُفِيدُ بِهِ قَوْمَهُ، أَوْ صَنْعَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي وَطَنِهِ، أَوْ تِجَارَةٍ يَجْلِبُ مِنْهَا لِبِلَادِهِ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ)).

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُثَبِّتَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي هَدَاهُمُ اللهُ إِلَيْهِ وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَأَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُنَجِّيَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: الْأَوْطَانُ لَيْسَتْ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
  مَنْزِلَةُ الرِّضَا
  بَيَانُ الشَّيْخِ رَسْلَان حَوْلَ تَهْجِيرِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ
  مواعظ رمضانية - الجزء الثاني
  الْقُدْسُ عَرَبِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَسَتَظَلُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى...
  قُوا أنفسَكم وأهليكم نارًا
  السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ وَمَكَانَتُهَا فِي التَّشْرِيعِ وَرَدُّ شُبُهَاتِ الطَّاعِنِينَ فِيهَا
  فضائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  تَارِيخُ الْقُدْسِ وَالْأَقْصَى وَعَدَاوَةُ الْيَهُودِ
  الْأَمَلُ حَيَاةٌ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان