الْيَقِينُ وَنَقْضُ الْإِلْحَادِ

الْيَقِينُ وَنَقْضُ الْإِلْحَادِ

((الْيَقِينُ وَنَقْضُ الْإِلْحَادِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مَنْزِلَةُ الْيَقِينِ))

فَمَنْزِلَةُ الْيَقِينِ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَالْيَقِينُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَفِيهِ تَفَاضَلَ الْعَارِفُونَ، وَفِيهِ تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَإِلَيْهِ شَمَّرَ الْعَامِلُونَ، وَعَمَلُ الْقَوْمِ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِشَارَاتُهُمْ كُلُّهَا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الصَّبْرُ بِالْيَقِينِ وُلِدَ بَيْنَهُمَا حُصُولُ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -وَبِقَوْلِهِ: يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

وَخَصَّ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، فَقَالَ -وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ-: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20].

وَخَصَّ أَهْلَ الْيَقِينِ بِالْهُدَى وَالْفَلَاحِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: ٤-5].

وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].

فَالْيَقِينُ رُوحُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ أَرْوَاحُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَالْيَقِينُ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ)).

وَالْعَبْدُ مُفْتَقِرٌ إِلَى يَقِينٍ رَاسِخٍ يَثْبُتُ بِهِ إِيمَانُهُ حِينَمَا تَعْصِفُ بِهِ الشُّبُهَاتُ الْمُزَلْزِلَةُ، كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِحَاجَةٍ إِلَى يَقِينٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالتَّضْحِيَةِ، وَالْعَمَلِ، وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.

وَهَكَذَا إِذَا لَاحَ الطَّمَعُ، وَتَطَلَّعَتِ النُّفُوسُ إِلَى مَطْلُوبَاتِهَا الَّتِي تَهْوَاهَا وَتَشْتَهِيهَا؛ فَإِنَّ الْيَقِينَ يَكُونُ كَابِحًا لَهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ بِإِذْنِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

 ((مَعْنَى الْيَقِينِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ))

وَالْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ، وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ، وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ؛ فَالْيَقِينُ نَقِيضُ الشَّكِّ، وَالْعِلْمُ نَقِيضُ الْجَهْلِ، تَقُولُ: عَلِمْتُهُ يَقِينًا.

وَأَمَّا الْيَقِينُ فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ: فَهُوَ سُكُونُ الْفَهْمِ مَعَ ثَبَاتِ الْحُكْمِ، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ تَرَدُّدٌ وَتَشَكُّكٌ وَرِيبَةٌ وَقَلَقٌ فِي دَاخِلِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُطْمَئِنًّا إِلَى مَا يَعْتَقِدُهُ.

وَلِهَذَا قَالَ الْجُنَيْدُ: ((الْيَقِينُ: هُوَ اسْتِقْرَارُ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يَحُولُ وَلَا يَتَغَيَّرُ فِي الْقَلْبِ)).

فَهُوَ شَيْءٌ رَاسِخٌ ثَابِتٌ فِيهِ، وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بِمَعْنَى: طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَثَبَاتِ وَاسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ فِيهِ.

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْيَقِينُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَاحِبُهُ شَاكًّا فِيهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى عِلْمِهِ -تَعَالَى-)).

وَقَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الْيَقِينُ: هُوَ أَنْ تَعْلَمَ الشَّيْءَ وَلَا تَتَخَيَّلَ خِلَافَهُ)).

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: ((الْيَقِينُ: هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الثَّابِتُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْقَلْبِ؛ لِثُبُوتِهِ مِنْ سَبَبٍ مُتَعَيِّنٍ لَهُ، بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ الِانْهِدَامَ)).

وَقَالَ التَّهَانَوِيُّ: ((الْيَقِينُ: هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ الثَّابِتُ، أَيِ: الَّذِي لَا يَزُولُ بِتَشْكِيكِ الْمُتَشَكِّكِ)).

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((اعْتِقَادُ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ كَذَا، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا كَذَا، مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ، غَيْرَ مُمْكِنِ الزَّوَالِ)).

وَهَذَا الْيَقِينُ يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: عِلْمُ الْقَلْبِ.

وَالثَّانِي: عَمَلُ الْقَلْبِ.

كَمَا فَصَّلَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَالْعَبْدُ قَدْ يَعْلَمُ عِلْمًا جَازِمًا بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَمَعَ هَذَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ حَرَكَةٌ وَاخْتِلَاجٌ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ؛ فَمُقْتَضَى الْعِلْمِ إِثْمَارُهُ وَتَأْثِيرُهُ فِي الْعَبْدِ تَأْثِيرًا عَمَلِيًّا؛ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، أَمْ كَانَ فِي جَوَارِحِهِ.

وَرُبَّمَا وُجِدَ الْعِلْمُ فِي قَلْبِ الْمَرْءِ؛ لَكِنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَصِلْ بِهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْعَمَلِ.

فَالْعَبْدُ -مَثَلًا- يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَأَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ؛ فَهَذَا قَدْ تَصْحَبُهُ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَقَدْ لَا يَصْحَبُهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ؛ لِغَفْلَةِ الْقَلْبِ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ التَّامِّ الَّذِي يُوجِبُ الِاسْتِحْضَارَ الدَّائِمَ لِمَعَانِي الْعُبُودِيَّةِ.

فَصَاحِبُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ يَسْتَسْلِمُ لِلْخَوَاطِرِ إِذَا غَفَلَ عَنِ الْحَقَائِقِ الَّتِي عَلِمَهَا، فَتَجِدُ تِلْكَ الْخَوَاطِرُ طَرِيقَهَا إِلَى قَلْبِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَإِلَى مَا يَدِينُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: ((الْيَقِينُ: مُشَاهَدَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَيْنَ تُشَاهِدُ الْحَقَائِقَ الْمَاثِلَةَ أَمَامَهَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ؛ فَإِنَّ الْيَقِينَ هُوَ مُشَاهَدَةُ الْغَيْبِ بِالْقَلْبِ)).

فَإِذَا وَصَلَ الْقَلْبُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَصَلَ إِلَى أَعْلَى الْمَنَازِلِ، وَنَالَ أَسْمَى الدَّرَجَاتِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْيَقِينُ: يَتَضَمَّنُ الْيَقِينَ فِي الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللهِ، وَمَا وَعَدَ اللهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ، وَيَتَضَمَّنُ الْيَقِينَ بِقَدَرِ اللهِ وَخَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ، فَإِذَا أَرْضَيْتَهُمْ بِسَخَطِ اللهِ لَمْ تَكُنْ مُوقِنًا لَا بِوَعْدِهِ وَلَا بِرِزْقِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا مَيْلٌ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، فَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللهِ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْهُمْ، وَإِمَّا ضَعْفُ تَصْدِيقٍ بِمَا وَعَدَ اللهُ أَهْلَ طَاعَتِهِ مِنَ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالثَّوَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّكَ إِذَا أَرْضَيْتَ اللهَ نَصَرَكَ، وَرَزَقَكَ، وَكَفَاكَ مُؤْنَتَهُمْ، وَإِرْضَاؤُهُمْ بِسَخَطِهِ إِنَّمَا يَكُونُ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَرَجَاءً لَهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ)).

((بَعْضُ مَا جَاءَ فِي الْيَقِينِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ وَرَدَ الْيَقِينُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ، وَعَلَى صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- الْيَقِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ:

فَتَارَةً يَذْكُرُهُ صِفَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: وَالْآخِرَةُ: اسْمٌ لِمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ؛ وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ بَاعِثٍ عَلَى الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْعَمَلِ، وَالْيَقِينُ: هُوَ الْعِلْمُ التَّامُّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَدْنَى شَكٍّ، الْمُوجِبُ لِلْعَمَلِ)).

وَتَارَةً يَذْكُرُ أَنَّ أَصْحَابَهُ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].

وَتَارَةً يَذْكُرُهُ حِكْمَةً رَبَّانِيَّةً، وَمَرْتَبَةً عَالِيَةً يَبْلُغُهَا مَنْ يَصْطَفِي مِنْ عِبَادِهِ، فَيَقُولُ: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].

وَتَارَةً يَذْكُرُ تَصْرِيفَهُ لِلْأُمُورِ، وَتَفْصِيلَهُ لِلْآيَاتِ؛ لِغَايَةِ الْيَقِينِ بِالْغَيْبِيَّاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].

وَتَارَةً يَذْكُرُهُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ تُنَالُ بِهِمَا الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الصَّبْرُ وَالْيَقِينُ بِهِمَا تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ)).

وَتَارَةً يَذُمُّ مَنْ لَا يَقِينَ عِنْدَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82].

وَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].

وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ يُبَيِّنُ فِيهَا فَضْلَ الْيَقِينِ، وَمَنْزِلَتَهُ وَشَرَفَهُ؛ كَقَوْلِهِ ﷺ لِأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)). كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ.

وَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ بِلَالًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَوَافَقَهُمَا الْأَلْبَانِيُّ.

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ.

وَعَنِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: ((اسْأَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((عَلَامَاتُ الْيَقِينِ))

وَأَمَّا عَلَامَاتُ الْيَقِينِ فَقَدْ قَالَ الْفَيْرُوزَ آبَادِيُّ: ((ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْيَقِينِ:

* قِلَّةُ مُخَالَطَةِ النَّاسِ فِي الْعِشْرَةِ.

* تَرْكُ الْمَدْحِ لَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ.

* التَّنَزُّهُ عَنْ ذَمِّهِمْ عِنْدَ الْمَنْعِ)).

وَمِنْ عَلَامَاتِ الْيَقِينِ -أَيْضًا-:

* النَّظَرُ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

* وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ.

* وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ.

((أَنْوَاعُ الْيَقِينِ))

((قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: ((الْيَقِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

* يَقِينُ خَبَرٍ.

* وَيَقِينُ دَلَالَةٍ.

* وَيَقِينُ مُشَاهَدَةٍ.

يُرِيدُ بِيَقِينِ الْخَبَرِ: سُكُونَ الْقَلْبِ إِلَى خَبَرِ الْمُخْبِرِ، وَوُثُوقَهُ بِهِ.

وَبِيَقِينِ الدَّلَالَةِ: مَا هُوَ فَوْقَهُ، وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ لَهُ -مَعَ وُثُوقِهِ بِصِدْقِهِ- الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ؛ وَهَذَا كَعَامَّةِ أَخْبَارِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ -مَعَ كَوْنِهِ أَصْدَقَ الصَّادِقِينَ- يُقِيمُ لِعِبَادِهِ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِ أَخْبَارِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُمُ الْيَقِينُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ -وَهُوَ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ-، وَمِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ.

فَيَرْتَفِعُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: وَهِيَ يَقِينُ الْمُكَاشَفَةِ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُخْبَرُ بِهِ لِقُلُوبِهِمْ كَالْمَرْئِيِّ لِعُيُونِهِمْ، فَنِسْبَةُ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ هِيَ إِلَى الْقَلْبِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَى الْعَيْنِ، وَهَذَا أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَةِ.

وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ: «لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا».

وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا مِنْ كَلَامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْمَنْقُولَاتِ)).

((دَرَجَاتُ الْيَقِينِ))

((وَالْيَقِينُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: عِلْمُ الْيَقِينِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ.

* عِلْمُ الْيَقِينِ: هُوَ قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحَقِّ، وَقَبُولُ مَا غَابَ لِلْحَقِّ، وَالْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ.

الْأَوَّلُ: قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحَقِّ -تَعَالَى-، وَالَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَشَرْعُهُ، وَدِينُهُ الَّذِي ظَهَرَ لَنَا مِنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَنَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، وَالِانْقِيَادِ وَالْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَالدُّخُولِ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ.

الثَّانِي: قَبُولُ مَا غَابَ لِلْحَقِّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ مِنْ أُمُورِ الْمَعَادِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ مِنَ الصِّرَاطِ، وَالْمِيزَانِ، وَالْحِسَابِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ تَشَقُّقِ السَّمَاءِ وَانْفِطَارِهَا، وَانْتِثَارِ الْكَوَاكِبِ، وَنَسْفِ الْجِبَالِ، وَطَيِّ الْعَالَمِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْبَرْزَخِ، وَنَعِيمِهِ وَعَذَابِهِ.

فَقَبُولُ هَذَا كُلِّهِ -إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَإِيقَانًا- هُوَ الْيَقِينُ؛ بِحَيْثُ لَا يُخَالِجُ الْقَلْبَ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا شَكٌّ، وَلَا تَنَاسٍ، وَلَا غَفْلَةٌ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْ يَقِينُهُ أَفْسَدَهُ وَأَضْعَفَهُ.

الثَّالِثُ: الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ -سُبْحَانَهُ-: مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.

وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ الَّذِي أَسَاسُهُ: إِثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَضِدُّهُ: التَّعْطِيلُ وَالنَّفْيُ، وَالتَّهَجُّمُ، فَهَذَا التَّوْحِيدُ يُقَابِلُهُ التَّعْطِيلُ.

وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْقَصْدِيُّ الْإِرَادِيُّ الَّذِي هُوَ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ؛ فَيُقَابِلُهُ الشِّرْكُ، وَالتَّعْطِيلُ شَرٌّ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ جَاحِدٌ لِلذَّاتِ أَوْ لِكَمَالِهَا، وَهُوَ جَحْدٌ لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ؛ فَإِنَّ ذَاتًا لَا تَسْمَعُ، وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَتَكَلَّمُ، وَلَا تَرْضَى، وَلَا تَغْضَبُ، وَلَا تَفْعَلُ شَيْئًا، وَلَيْسَتْ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا مُتَّصِلَةً بِالْعَالَمِ وَلَا مُنْفَصِلَةً، وَلَا مُجَانِبَةً لَهُ وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ، وَلَا مُجَاوِرَةً وَلَا مُجَاوِزَةً، وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَا تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ؛ سَوَاءٌ هِيَ وَالْعَدَمُ!

وَالْمُشْرِكُ مُقِرٌّ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ؛ لَكِنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَطِّلِ لِلذَّاتِ وَالصِّفَاتِ.

فَالْيَقِينُ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا قَامَ بِالْحَقِّ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنُعُوتِ كَمَالِهِ، وَتَوْحِيدِهِ.

وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْرَفُ عُلُومِ الْخَلَائِقِ: عِلْمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعِلْمُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ، وَعِلْمُ الْمَعَادِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْيَقِينِ: عَيْنُ الْيَقِينِ:

عَيْنُ الْيَقِينِ: وَهُوَ الْمُغْنِي بِالِاسْتِدْرَاكِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَعَنِ الْخَبَرِ بِالْعَيَانِ، وَخَرْقُ الشُّهُودِ حِجَابَ الْعِلْمِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ: كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ وَالْعَيَانِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ فَوْقَ هَذَا.

وَقَدْ مَثَّلْتُ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَ بِمَنْ أَخْبَرَكَ: أَنَّ عِنْدَهُ عَسَلًا، وَأَنْتَ لَا تَشُكُّ فِي صِدْقِهِ، ثُمَّ أَرَاكَ إِيَّاهُ، فَازْدَدْتَ يَقِينًا، ثُمَّ ذُقْتَ مِنْهُ.

فَالْأَوَّلُ: عِلْمُ الْيَقِينِ، وَالثَّانِي: عَيْنُ الْيَقِينِ، وَالثَّالِثُ: حَقُّ الْيَقِينِ.

فَعِلْمُنَا الْآنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ عِلْمُ يَقِينٍ.

فَإِذَا أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ فِي الْمَوْقِفِ لِلْمُتَّقِينَ، وَشَاهَدَهَا الْخَلَائِقُ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ، وَعَايَنَهَا الْخَلَائِقُ؛ فَذَلِكَ عَيْنُ الْيَقِينِ.

فَإِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ؛ فَذَلِكَ -حِينَئِذٍ- حَقُّ الْيَقِينِ.

هُوَ الْمُغْنِي بِالِاسْتِدْرَاكِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ: يُرِيدُ بِالِاسْتِدْرَاكِ: الْإِدْرَاكَ وَالشُّهُودَ. يَعْنِي: صَاحِبُهُ قَدِ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ الدَّلِيلَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ، فَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ مُشَاهَدًا لَهُ -وَقَدْ أَدْرَكَهُ بِكَشْفِهِ-؛ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ؟!

وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْخَبَرِ بِالْعِيَانِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَخَرْقُ الشُّهُودِ حِجَابَ الْعِلْمِ؛ فَيُرِيدُ بِهِ: أَنَّ الْمَعَارِفَ الَّتِي تَحْصُلُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: هِيَ مِنَ الشُّهُودِ الْخَارِقِ لِحِجَابِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ حِجَابٌ عَنِ الشُّهُودِ؛ فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَرْتَفِعُ الْحِجَابُ، وَيُفْضِي إِلَى الْمَعْلُومِ؛ بِحَيْثُ يُكَافِحُ بَصِيرَتَهُ وَقَلْبَهُ مُكَافَحَةً.

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: حَقُّ الْيَقِينِ.

هَذِهِ الدَّرَجَةُ لَا تُنَالُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا لِلرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-؛ فَإِنَّ نَبِيَّنَا ﷺ رَأَى بِعَيْنِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا؛ وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ وَمُوسَى يَنْظُرُ، فَجَعَلَهُ دَكًّا هَشِيمًا.

نَعَمْ يَحْصُلُ لَنَا حَقُّ الْيَقِينِ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَهِيَ ذَوْقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا بَاشَرَهَا وَذَاقَهَا صَارَتْ فِي حَقِّهِ حَقَّ يَقِينٍ.

وَأَمَّا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَادِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ جَهْرَةً عِيَانًا، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ حَقِيقَةً بِلَا وَاسِطَةٍ؛ فَحَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ: الْإِيمَانُ، وَعِلْمُ الْيَقِينِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ يَتَأَخَّرُ إِلَى وَقْتِ اللِّقَاءِ)).

((أَسْبَابُ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ))

وَأَمَّا الطَّرِيقُ إِلَى تَحْقِيقِ الْيَقِينِ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ تَحْصِيلِهِ؛ فَذَلِكَ لَهُ أَسْبَابُهُ، فَالْيَقِينُ هُوَ طَرِيقُ السَّالِكِينَ إِلَى إِيمَانٍ لَا شَكَّ فِيهِ، وَخَوْفٍ لَا يَأْسَ مَعَهُ، وَرَجَاءٍ لَا اغْتِرَارَ بِهِ؛ فَكَيْفَ يَسْمُو الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْيَقِينِ، وَكَيْفَ يُرَبِّي نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يَرْتَقِي بِإِيمَانِهِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ الْمُنِيفَةِ؟

* أَعْظَمُ ذَلِكَ: أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ التَّوْفِيقَ وَالْمَوَاهِبَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحْدَهُ؛ فَمَا عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَلْجَأَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَصْدُقَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، فَيَسْأَلَ رَبَّهُ قَائِمًا وَقَاعِدًا أَنْ يَرْزُقَهُ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ، وَالْيَقِينَ الْجَازِمَ الرَّاسِخَ الَّذِي لَا يَتَزَعْزَعُ، مَعَ بَذْلِ الْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ.

* وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ: الْعِلْمُ؛ فَهُوَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْيَقِينِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((الْعِلْمُ يَسْتَعْمِلُكَ، وَالْيَقِينُ يَحْمِلُكَ))، فَيَنْدَفِعُ الْعَبْدُ لِلْعَمَلِ، وَيُبَادِرُ إِلَيْهِ، وَيُنْفِقُ مَالَهُ الَّذِي يَحْرِصُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِالْجَزَاءِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَالْمَنَازِلِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى-: مَرْتَبَةَ الشُّهَدَاءِ، فَيَبْذُلُ نَفْسَهُ رَخِيصَةً فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ        =         الْجُودُ يُفْقِرُ وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ

فَالْمَالُ حَبِيبٌ إِلَى النُّفُوسِ، وَالنُّفُوسُ عَزِيزَةٌ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَالْعَبْدُ يَعْلَمُ أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا هُوَ مَا يُوَصِّلُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ يُرَبِّي صَدَقَتَهُ، وَالْعَبْدُ يَعْلَمُ -أَيْضًا- أَنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ مَعَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهِ؛ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ قَدْ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا يَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ.

وَأَمَّا صَاحِبُ الْيَقِينِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ حَمْلًا، فَلَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ يَقِينُهُ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَالْإِقْدَامِ، وَالْعَمَلِ؛ وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ إِزْهَاقُ رُوحِهِ، وَإِنْفَاقُ مَالِهِ؛ فَإِنَّهُ مُوقِنٌ بِأَنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى عَائِدَةَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ هُوَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ.

وَلِهَذَا فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا رَسَخَ أَثْمَرَ الْيَقِينَ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ حَيَاةِ الْقَلْبِ، وَبِهِ طُمَأْنِينَتُهُ وَقُوَّتُهُ وَنَشَاطُهُ.

وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ لِيَصِلَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا، هِيَ: الْعِلْمُ بِاللهِ، وَالْعِلْمُ بِالنَّفْسِ، وَالْعِلْمُ بِالْخَلْقِ.

أَمَّا الْعِلْمُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَيَشْمَلُ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَلَا يَلْتَفِتُ قَلْبُهُ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.

وَيَشْمَلُ الْعِلْمُ بِاللهِ -أَيْضًا-: الْعِلْمَ بِرُبُوبِيَّتِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِلْكَائِنَاتِ، وَأَنَّ أَزِمَّةَ أُمُورِهِمْ بِيَدِهِ، وَأَنَّهُ مُدَبِّرُ هَذَا الْكَوْنِ وَمُصَرِّفُهُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ عَبِيدُهُ، يُرَبِّيهِمْ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَ شَاءَ.

إِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ ذَلِكَ اطْمَأَنَّ إِلَى رِزْقِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى أَجَلِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى أَقْدَارِهِ، وَإِلَى عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ، فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى اللهِ، وَإِنَّمَا يَرْضَى، فَإِذَا أَصَابَتْهُ نَعْمَاءُ شَكَرَ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، مُؤْمِنٌ بِرَبِّهِ، مُوقِنٌ بِوَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ.

وَيَشْمَلُ الْعِلْمُ بِاللهِ -أَيْضَا-: الْعِلْمَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْعَظِيمُ، فَلَا يَعْظُمُ أَحَدٌ فِي عَيْنِهِ عَظَمَةً لَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- هُوَ الْجَبَّارُ الْقَاهِرُ الْقَادِرُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ، فَلَا يَهَابُ الْمَخْلُوقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْظُمُ الْخَوْفُ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي نَفْسِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ هُوَ الرَّقِيبُ، فَلَا تَمْتَدُّ عَيْنُهُ وَلَا يَدُهُ إِلَى حَرَامٍ، وَلَا تَخْطُو رِجْلُهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَقِينَهُ رَاسِخٌ بِأَنَّ اللهَ يَرَاهُ، وَأَنَّ مَا يَخْفَى عَلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ، فَتَسْكُنُ جَوَارِحُهُ، وَتَلْتَزِمُ طَاعَةَ رَبِّهَا وَمَلِيكِهَا، فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ شَيْءٌ يُنَافِي هَذَا الْإِيمَانَ وَهَذَا الْيَقِينَ الَّذِي وَقَرَ فِي قَلْبِهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِأَوْصَافِ رَبِّهِ الْكَامِلَةِ، وَإِذَا عَرَفَ رَبَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا عَرَفَهُ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُ الْمَخَاوِفَ، قَادِرًا عَلَى حِفْظِهِ، فَهُوَ يَلْجَأُ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، فَيُفَوِّضُ أُمُورَهُ إِلَيْهِ، وَيُحْسِنُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ.

فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ رَبَّهُ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَإِنَّ قَلْبَهُ يَنْشَرِحُ بِذَلِكَ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَى رَبِّهِ الْمُتَّصِفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَيُحْسِنُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الِافْتِقَارِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَيَجِدُ مِنْ رَبِّهِ الْإِغْنَاءَ وَالْعَطَاءَ، وَالدَّفْعَ وَالْمَنْعَ، وَيَجِدُ كُلَّ مَطْلُوبٍ لَهُ.

إِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ فَإِنَّهُ يَرْضَى بِاللهِ رَبًّا، وَيَذُوقُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرِّضَا،  ((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا)). الْحَدِيثَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَيُؤْمِنُ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، فَتَمُرُّ بِهِ الْآلَامُ وَالْمَصَائِبُ وَالْمَكَارِهُ وَهُوَ سَاكِنٌ مُطْمَئِنٌّ لَا يَتَزَعْزَعُ، وَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَا يَصْدُرُ مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَقَّ مَعْرِفَتِهِ.

وَهَذَا الْعِلْمُ الَّذِي يُوصِلُ الْعَبْدَ إِلَى الْيَقِينِ كَمَا أَنَّهُ عِلْمٌ بِالرَّبِّ الْمَعْبُودِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ -أَيْضًا- الْعِلْمَ بِالنَّفْسِ، وَالْعِلْمَ بِالْخَلْقِ.

فَيَعْلَمُ قَدْرَ نَفْسِهِ، وَيَعْلَمُ قَدْرَ ضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ، فَلَا يَرْكَنُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ، وَأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُصَرِّفُهُمْ وَيُدَبِّرُهُمْ، وَأَنَّهُ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَمْتَدُّ طَمَعُهُ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((إِذَا أَرَدْتَ الْيَقِينَ فَكُنْ أَفْقَرَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ)).

* فَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ إِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مُتَحَقِّقًا بِالْيَقِينِ، وَأَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَلَّا يُمْسِيَ وَلَا يُصْبِحَ وَأَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللهِ، وَلَا أَخْوَفُ عِنْدَهُ مِنَ اللهِ، وَلَا أَرْجَى وَلَا أَقْدَرُ عَلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-، فَلَا يَتَعَلَّقُ -حِينَئِذٍ- قَلْبُهُ بِشَيْءٍ سِوَاهُ؛ مَحَبَّةً، وَخَوْفًا، وَرَجَاءً وَطَمَعًا، وَلَا يَشْغَلُهُ حُبٌّ عَنْ حُبِّهِ، وَلَا خَوْفٌ مِنْ أَحَدٍ عَنِ الْخَوْفِ مِنْهُ، وَلَا رَجَاءٌ فِي مِنَّةٍ أَوْ مِنْحَةٍ عَنْ رَجَاءٍ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ؛ فَبِذَلِكَ يَرْسَخُ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيَسْتَقِرُّ الْيَقِينُ فِيهِ.

قَالَ شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيُّ: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَعْرِفَتَهُ بِاللهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَا وَعَدَهُ اللهُ وَوَعَدَهُ النَّاسُ؛ بِأَيِّهِمَا قَلْبُهُ أَوْثَقُ)).

* وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُحَصَّلُ بِهَا الْيَقِينُ: دَفْعُ الْوَارِدَاتِ وَالْخَوَاطِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُنَافِيَةِ لِلْيَقِينِ.

وَمِنْ ثَمَّ كَانَ جِهَادُ الشَّيْطَانِ عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: جِهَادُهُ فِيمَا يُلْقِيهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالْوَسَاوِسِ وَالْخَوَاطِرِ الْمُزَعْزِعَةِ لِلْيَقِينِ، وَهَذَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْعَبْدُ إِلَّا إِذَا دَفَعَ وَجَاهَدَ شَيْطَانَهُ بِدَفْعِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ وَالْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ، فَلَا يَقْرَأُ فِي كُتُبِ الشُّبَهِ، وَلَا يُنَاقِشُ أَهْلَ الشُّبَهِ، وَلَا يَسْمَعُ مِنْهُمْ، وَلَا يَجْعَلُ قَلْبَهُ عُرْضَةً لِكُلِّ آسِرٍ وَكَاسِرٍ وَقَاطِعِ طَرِيقٍ، بَلْ يَرْبَأُ بِنَفْسِهِ عَنْ طُرُقِ مُنْتَدَيَاتِ شَبَكَةِ التَّوَاصُلِ وَمَوَاقِعِهَا الَّتِي تُلْقِي بِشِبَاكِ الشُّبَهِ عَلَى الْعُقُولِ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ، فَلَا يَجْعَلُ قَلْبَهُ عُرْضَةً لِسِهَامِ هَؤُلَاءِ، فَيُصِيبُهُ مِنْهُ مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَبَدًا.

وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي تُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى الْوُصُولِ لْمَرْتَبَةِ الْيَقِينِ: أَنْ يَدْفَعَ الْخَوَاطِرَ وَالْوَسَاوِسَ، وَأَنْ يَقْضِيَ عَلَى أَسْبَابِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، فَإِذَا دَفَعَ الْعَبْدُ الشُّبَهَ عَنْ قَلْبِهِ؛ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الدَّفْعُ يَقِينًا صَادِقًا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: جِهَادُهُ فِيمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ مِنَ الشَّهَوَاتِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا جَاهَدَ الشَّيْطَانَ فِي بَابِ الشَّهَوَاتِ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ صَبْرًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلِهَذَا كَانَتِ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ تُنَالُ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ؛ فَالصَّبْرُ يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ وَالشُّبُهَاتِ)).

* وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُحَصِّلُ بِهَا الْعَبْدُ الْيَقِينَ: الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَرْضَاةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَيُقْدِمُ الْعَبْدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي الْمَآلَاتِ وَالْحِسَابَاتِ، بِخِلَافِ مَنْ يُحْجِمُ عَنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ مِنْ تَوْبَةٍ وَصَدَقَةٍ وَصَوْمٍ لِأَجْلِ حِسَابِ الْأَرْبَاحِ وَالْخَسَائِرِ؛ فَإِنَّهُ تَنْقَضِي أَيَّامُهُ وَلَمْ يَتَقَرَّبْ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَثِيرًا.

فَالْعَبْدُ بِحَاجَةٍ إِلَى الْإِقْدَامِ وَالْجَزْمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((الِاهْتِمَامُ بِالْعَمَلِ يُورِثُ الْفِكْرَةَ، وَالْفِكْرَةُ تُورِثُ الْعِبْرَةَ، وَالْعِبْرَةُ تُورِثُ الْحَزْمَ، وَالْحَزْمُ يُورِثُ الْعَزْمَ، وَالْعَزْمُ يُورِثُ الْيَقِينَ، وَالْيَقِينُ يُورِثُ الْغِنَى، وَالْغِنَى يُورِثُ الْحُبَّ، وَالْحُبُّ يُورِثُ اللِّقَاءَ)).

* وَمِنَ الْأَسْبَابِ لِتَحْصِيلِ الْيَقِينِ -بِفَضْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-: مُفَارَقَةُ الشَّهَوَاتِ وَالْحُظُوظِ النَّفْسَانِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُنْغَمِسًا فِي شَهَوَاتِهِ، مُتَّبِعًا لِنَزَوَاتِهِ؛ فَأَنَّى لَهُ بِالْيَقِينِ؟!

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَصْلُ التَّقْوَى مُبَايَنَةُ مَا نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُ، وَهُوَ مُبَايَنَةُ النَّفْسِ، فَعَلَى قَدْرِ مُفَارَقَتِهِمُ النَّفْسَ وَصَلُوا إِلَى الْيَقِينِ)).

* مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ -أَيْضًا-: التَّفَكُّرُ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُوصِلُ إِلَى الْيَقِينِ؛ فَكُلَّمَا تَوَارَدَتِ الْبَرَاهِينُ الْمَسْمُوعَةُ وَالْمَعْقُولَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي يَقِينِهِ وَإِيمَانِهِ، وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِي حَيَاتِنَا وَالَّتِي نُعَايِشُهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي شَاهَدْنَاهَا وَالَّتِي لَمْ نُشَاهِدْهَا تَيَقَّنَّاهَا، مَعَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا؛ فَكَيْفَ حَصَّلْنَا الْيَقِينَ بِذَلِكَ؟!

حَصَّلْنَا هَذَا الْيَقِينَ: إِمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا، أَوْ بِالْمُشَاهَدَةِ ابْتِدَاءً، أَوْ بِتَوَارُدِ الْأَدِلَّةِ، فَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَقٌّ لَا يَقْبَلُ الْجَدَلَ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ ثَابِتٌ رَاسِخٌ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلًا، وَقَدْ يَكُونُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ يَقِينٌ أَنَّ عِنْدَهُ عَقْلًا في دِمَاغِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ هَذَا الْيَقِينُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِتَوَارُدِ مَا تَوَهَّمُوهُ أَنَّهُ أَدِلَّةٌ؛ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَعْجَبُ الْعَجَبَ كُلَّهُ، وَيَسْتَنْكِرُ سَمَاعَ مَا يُخَالِفُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ الَّتِي رَسَخَتْ فِي نَفْسِهِ.

فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يُحَصِّلُ بِهِ الْمَرْءُ الْيَقِينَ.

((ثَمَرَاتُ الْيَقِينِ))

إِنَّ لِلْيَقِينِ ثَمَرَاتٍ؛ فَإِنَّ شَجَرَةَ الْيَقِينِ مَتَى غُرِسَتْ فِي الْقَلْبِ آتَتْ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: أَنَّهُ إِذَا خَالَطَ قَلْبَ الْإِنْسَانِ أَفَاضَ عَلَى قَلْبِهِ نُورًا وَإِشْرَاقًا، وَنَفَى عَنْهُ كِيرَ الشُّكُوكِ وَالرَّيْبِ وَالشُّبُهَاتِ الَّتِي تُقْلِقُهُ، فَيَكُونُ الْقَلْبُ مُسْتَرِيحًا مُطْمَئِنًّا، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ السَّخَطُ وَالْهَمُّ وَالْغَمُّ الَّذِي يَجْلِبُهُ الشَّكُّ وَالرَّيْبُ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ مَحَبَّةً للهِ، وَخَوْفًا مِنْهُ، وَرِضًا بِهِ، وَشُكْرًا لَهُ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ.

فَهُوَ جِذْرُ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ، وَالْحَامِلُ لَهَا -كَمَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ--، بِخِلَافِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ؛ فَإِنَّهُ يُورِثُ قَلَقًا فِي الْقَلْبِ، وَضَجَرًا وَأَلَمًا؛ فَالشَّكُّ يُلْهِبُ فِي الْقَلْبِ حَرَارَةً لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا بَرْدُ الْيَقِينِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: ثَلَجَ صَدْرُهُ، وَحَصَلَ لَهُ بَرْدُ الْيَقِينِ.

فَتَزُولُ عَنْهُ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي تَعْصِرُ الْقَلْبَ، وَتُؤْلِمُهُ، وَتَعْصِفُ بِهِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- -وَهُوَ يَصِفُ أَثَرَ الْيَقِينِ عَلَى الْقَلْبِ، وَمَا يُفِيضُهُ عَلَى الْجَوَارِحِ بَعْدَ أَنْ رَآهُ رَأْيَ عَيْنٍ فِي شَيْخِهِ -شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ--، قَالَ: ((وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَا يَدْخُلُ جَنَّةَ الْآخِرَةِ.

وَقَالَ لِي مَرَّةً: مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي؟! أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي، أَيْنَ رُحْتُ فَهِيَ مَعَي لَا تُفَارِقُنِي، إِنَّ حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ، وَكَانَ يَقُولُ فِي مَحْبَسِهِ فِي الْقَلْعَةِ: لَوْ بَذَلْتُ مِلْءَ هَذِهِ الْقَلْعَةِ ذَهَبًا مَا عَدَلَ عِنْدِي شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، أَوْ قَالَ: مَا جَزَيْتُهُمْ عَلَى مَا تَسَبَّبُوا لِي فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَنَحْوِ هَذَا.

وَكَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ: (اللهم أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) مَا شَاءَ اللهُ.

وَقَالَ لِي مَرَّةً: الْمَحْبُوسُ مَنْ حُبِسَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ -تَعَالَى-، وَالْمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاهُ.

وَلَمَّا دَخَلَ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَصَارَ دَاخِلَ سُورِهَا؛ نَظَرَ إِلَيْهِ -أَيْ: إِلَى السُّورِ- وَقَالَ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13].

قَالَ: وَعَلِمَ اللهُ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَطْيَبَ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ، مَعَ كُلِّ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، وَخِلَافِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ، بَلْ ضِدِّهَا، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِرْهَاقِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا، وَأَشْرَحِهِمْ صَدْرًا، وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا، وَأَسَرِّهِمْ نَفْسًا، تَلُوحُ نَضْرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ.

وَكُنَّا إِذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ، وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ، وَضَاقَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَتَيْنَاهُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَرَاهُ، وَنَسْمَعَ كَلَامَهُ؛ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا، وَقُوَّةً، وَيَقِينًا، وَطُمَأْنِينَةً؛ فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ، فَأَتَاهُمْ مِنْ رَوْحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا اسْتَفْرَغَ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا)).

فَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا ارْتَقَى إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ الشُّكُوكُ وَالرِّيَبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: ((يَسِيرُ الْيَقِينِ يُخْرِجُ كُلَّ شَكٍّ مِنَ الْقَلْبِ)).

كَمَا أَنَّ الْيَقِينَ يُورِثُ صَاحِبَهُ بَصِيرَةً يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَبَيْنَ مَا يُلَبِّسُهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْجُهَّالِ مِنَ الْعُبَّادِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ نِزَارٍ الْقَيْرَوَانِيُّ: ((كَانَ يَخْتِمُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي مَسْجِدِهِ، فَرَأَى لَيْلَةً نُورًا قَدْ خَرَجَ مِنَ الْحَائِطِ وَقَالَ: تَمَلَّ مِنْ وَجْهِي فَأَنَا رَبُّكَ، فَبَصَقَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: اذْهَبْ يَا مَلْعُونُ، فَطُفِئَ النُّورُ)).

فَهَذَا شَيْطَانٌ أَرَادَ أَنْ يُضِلَّهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا رَاسِخَ الْإِيمَانِ، ثَابِتَ الْيَقِينِ؛ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ازْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ.

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: أَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْهُدَى وَالْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْفَلَاحُ: تَحْصِيلُ الْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَرْهُوبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4-5].

وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -مَرْفُوعًا-: ((اسْأَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ)).

وَفِي ذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يَتِمُّ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ إِلَّا بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ؛ فَالْيَقِينُ يَدْفَعُ عَنْهُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ، وَالْعَافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- مُشِيرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5].. قَالَ: ((وَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ- أَنَّ شَرَابَ الْأَبْرَارِ يُمْزَجُ مِنْ شَرَابِ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مَزَجُوا أَعْمَالَهُمْ، وَيَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا خَالِصًا كَمَا أَخْلَصُوا أَعْمَالَهُمْ، وَجَعَلَ -سُبْحَانَهُ- شَرَابَ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْكَافُورِ الَّذِي فِيهِ مِنَ التَّبْرِيدِ وَالْقُوَّةِ مَا يُنَاسِبُ بَرْدَ الْيَقِينِ وَقُوَّتَهُ؛ لِمَا حَصَلَ لِقُلُوبِهِمْ وَوَصَلَ إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُقَابَلَتِهِ لِلسَّعِيرِ)).

فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَلَكُوا فِي الدُّنْيَا مِرْقَاةَ الْيَقِينِ حَتَّى وَصَلُوهُ، وَحَصَلَ لَهُمْ بَرْدُهُ؛ حَصَلَ لَهُمْ -أَيْضًا- بَرْدُ هَذَا الشَّرَابِ مِنَ الْكَافُورِ فِي الْجَنَّةِ.

* وَالْيَقِينُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ: أَنَّهُ يُورِثُهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، وَقِصَرَ الْأَمَلِ؛ فَلَا تَتَعَلَّقُ نَفْسُهُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ زَاهِدًا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْطِنًا لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ دَارُ ابْتِلَاءٍ، وَأَنَّهُ فِيهَا كَالْمُسَافِرِ يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِ زَادِ الرَّاكِبِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْتَازُ وَيَعْبُرُ إِلَى دَارِ الْمُقَامِ، فَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يُشَمِّرَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَعْمَلَ لَهَا.

وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)).

قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

 قَالَ: ((بَخٍ بَخٍ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟)).

 قَالَ: ((لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا)).

قَالَ: ((فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا)).

فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ((لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ)).

قَالَ: ((فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: ((عِبَادَ الرَّحْمَنِ! اعْلَمُوا أَنَّكُمْ تَعْمَلُونَ فِي أَيَّامٍ قِصَارٍ لِأَيَّامٍ طُوَالٍ، فِي دَارِ زَوَالٍ لِدَارِ مُقَامٍ، وَدَارِ حُزْنٍ وَنَصَبٍ لِدَارِ نَعِيمٍ وَخُلْدٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى الْيَقِينِ فَلَا يَتَعَنَّ)).

وَكَانَ يَقُولُ: ((كَأَنَّا قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ، وَكَأَنَّا قَوْمٌ لَا يُوقِنُونَ!)).

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- سَبَبَ تَشَبُّثِ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ فَقَالَ: ((فَمَا ضَعُفَ مَنْ ضَعُفَ، وَتَأَخَّرَ مَنْ تَأَخَّرَ إِلَّا بِحُبِّهِ لِلْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَنُفْرَتِهِ مِنْ ذَمِّهِمْ لَهُ، فَإِذَا زَهَدَ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ الْعَوَارِضُ كُلُّهَا)).

وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَنْشَغِلُ بِالدُّنْيَا وَيَتَكَالَبُ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَتِ الْغَفْلَةُ غَالِبَةً عَلَى قَلْبِهِ، وَكَانَ الْيَقِينُ مُتَرَحِّلًا عَنْهُ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ آلِ فِرْعَوْنَ: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136].

وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَا وُجِدَ هَذَا التَّكَاثُرُ وَالْإِلْهَاءُ عَمَّا هُوَ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ دَارِ الْكَرَامَةِ إِلَّا لِاخْتِلَالِ الْيَقِينِ فِي النُّفُوسِ.

وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَصِلُ بِهِ صَاحِبُهُ إِلَى حَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا يُشَكُّ وَلَا يُمَارَى فِي صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا، وَلَوْ وَصَلَتْ حَقِيقَةُ هَذَا الْعِلْمِ إِلَى الْقَلْبِ وَبَاشَرَتْهُ لَمَا أَلْهَاهُ عَنْ مُوجِبِهِ، وَتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِقُبْحِ الشَّيْءِ وَسُوءِ عَوَاقِبِهِ قَدْ لَا يَكْفِي فِي تَرْكِهِ، فَإِذَا صَارَ لَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ كَانَ اقْتِضَاءُ هَذَا الْعِلْمِ لِتَرْكِهِ أَشَدَّ، فَإِذَا صَارَ عَيْنَ يَقِينٍ كَجُمْلَةِ الْمُشَاهَدَاتِ؛ كَانَ تَخَلُّفُ مُوجَبِهِ عَنْهُ مِنْ أَنْدَرِ شَيْءٍ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ حَسَّانٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:

سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحَتْفِهِمُ                =         لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْعِلْمِ مَا سَارُوا

وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: ((دَخَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَلِيفَةُ الْأُمَوِيُّ الْكَعْبَةَ؛ فَإِذَا بِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ لَهُ: ((يَا سَالِمُ! سَلْنِي حَاجَةً)).

فَقَالَ: ((إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أَسْأَلَ فِي بَيْتِ اللهِ غَيْرَ اللهِ)).

فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ فِي إِثْرِهِ فَقَالَ لَهُ: ((الْآنَ قَدْ خَرَجْتَ فَسَلْنِي حَاجَتَكَ)).

فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: ((مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا، أَمْ حَوَائِجِ الْآخِرَةِ؟)).

فَقَالَ: ((مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا)).

فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: ((وَاللهِ! مَا سَأَلْتُ الدُّنْيَا مَنْ يَمْلِكُهَا؛ فَكَيْفَ أَسْأَلُ الدُّنْيَا مَنْ لَا يَمْلِكُهَا؟!)).

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ((أَنْفَعُ الْيَقِينِ مَا عَظَّمَ الْحَقَّ فِي عَيْنِكَ، وَصَغَّرَ مَا دُونَهُ عِنْدَكَ، وَثَبَّتَ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ فِي قَلْبِكَ)).

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: أَنَّهُ يُثْمِرُ الِانْتِفَاعَ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20]

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((وَالْمُوقِنُونَ هُمُ الْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ وَحْدَانِيَّةَ رَبِّهِمْ، وَصِدْقَ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِمْ؛ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَتَدَبُّرِهَا)).

فَالْآيَاتُ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ وَتُحَرِّكُ نُفُوسَ أَصْحَابِ الْيَقِينِ، أَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا؛ وَلِهَذَا يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: أَنَّهُ يُوَلِّدُ الصَّبْرَ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا يُمْكِنُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَصْبِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَطْمَئِنُّ لَهُ، وَيَتَنَعَّمُ بِهِ، وَيَغْتَذِي بِهِ؛ وَهُوَ الْيَقِينُ)).

فَالْعَبْدُ إِذَا كَانَ فَارِغَ الْقَلْبِ مِنَ الْيَقِينِ لَمْ يَصْبِرْ، وَكَانَ كَالْكِيسِ الْفَارِغِ فِي مَهَابِّ الْقَلَقِ وَالْجَزَعِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ لَدَيْهِ مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، وَيَلْتَذُّ بِهِ فَإِنَّهُ يَرْكَنُ، وَيَصْبِرُ، وَيَسْكُنُ، فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ شَيْءٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الصَّبْرِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَعَلَى حَسَبِ يَقِينِ الْعَبْدِ بِالْمَشْرُوعِ يَكُونُ صَبْرُهُ عَلَى الْمَقْدُورِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].

فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ، وَلَا يَتَشَبَّهَ بِالَّذِينَ لَا يَقِينَ عِنْدَهُمْ لِعَدَمِ الصَّبْرِ؛ فَإِنَّهُمْ لِعَدَمِ يَقِينِهِمْ عُدِمَ صَبْرُهُمْ، وَخَفُّوا وَاسْتَخَفُّوا قَوْمَهُمْ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَقِينُ وَالْحَقُّ لَصَبَرُوا، وَمَا خَفُّوا وَلَا اسْتَخَفُّوا، فَمَنْ قَلَّ يَقِينُهُ قَلَّ صَبْرُهُ، وَمَنْ قَلَّ صَبْرُهُ خَفَّ وَاسْتَخَفَّ، فَالْمُوقِنُ الصَّابِرُ رَزِينٌ؛ لِأَنَّهُ ذُو لُبٍّ وَعَقْلٍ، وَمَنْ لَا يَقِينَ لَهُ وَلَا صَبْرَ عِنْدَهُ خَفِيفٌ طَائِشٌ، تَلْعَبُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَالشَّهَوَاتُ كَمَا تَلْعَبُ الرِّيَاحُ بِالشَّيْءِ الْخَفِيفِ)).

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إنَّمَا مَثَلِي ومَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ)).

 شَبَّهَهُمْ بِالْفَرَاشِ؛ لِخِفَّةِ الْفَرَاشِ، وَسُرْعَةِ حَرَكَتِهَا وَانْتِشَارِهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ جَاهِلَةٌ بِمَصَالِحِهَا، تَتَهَافَتُ فِي النَّارِ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِإِحْرَاقِهَا.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنْ أَطَاعَ مَنْ يُغْوِيهِ: إِنَّهُ اسْتَخَفَّهُ، وَقَالَ اللهُ عَنْ فِرْعَوْنَ: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، وَالْخَفِيفُ لَا يَثْبُتُ، بَلْ يَطِيشُ، وَصَاحِبُ الْيَقِينِ ثَابِتٌ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَذَّةُ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ وَأَدْوَمُ، وَلَذَّةُ الدُّنْيَا أَصْغَرُ وَأَقْصَرُ، وَكَذَلِكَ أَلَمُ الْآخِرَةِ وَأَلَمُ الدُّنْيَا، وَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، فَإِذَا قَوِيَ الْيَقِينُ، وَبَاشَرَ الْقَلْبَ؛ آثَرَ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى فِي جَانِبِ اللَّذَّةِ، وَاحْتَمَلَ الْأَلَمَ الْأَسْهَلَ عَلَى الْأَصْعَبِ)).

لِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجَيْلَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَرِدُ عَلَيَّ الْأَثْقَالُ -يَعْنِى: مِنَ الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ وَمَا يَكْرَهُ-، وَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى الْجِبَالِ تَفَسَّخَتْ، فَأَضَعُ جَنْبِي عَلَى الْأَرْضِ وَأَقُولُ -مُثَبِّتًا لِنَفْسِهِ-: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]، ثُمَّ أَرْفَعُ رَأْسِي وَقَدِ انْفَرَجَتْ عَنِّي)).

وَالْعَبْدُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَوِّضَ نَفْسَهُ عَلَى الْحَدِّ الْأَدْنَى، وَهُوَ الصَّبْرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ دُونَ الصَّبْرِ إِلَّا الْجَزَعُ وَالسَّخَطُ، فَيَذْهَبُ الْأَجْرُ، وَلَا يُسْتَرَدُّ الْمَفْقُودُ؛ فَإِنَّ مَا ذَهَبَ لَا يَرْجِعُ، وَمَا فَاتَ لَا يَعُودُ، فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ إِلَّا الصَّبْرُ؛ لِيُؤْجَرَ عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا إِذَا تَسَخَّطَ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ، وَيَفُوتُهُ الْأَجْرُ، ثُمَّ يَسْلُو سُلُوَّ الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ احْتِسَابٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ: ((أَعْيَتِ الْحِيلَةُ فِي الْأَمْرِ إِذَا أَقْبَلَ أَنْ يُدْبِرَ، وَإِذَا أَدْبَرَ أَنْ يُقْبِلَ)) يَعْنِي: مَا قَدَّرَهُ اللهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَسْتَقْبِلَهُ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ.

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَالْيَقِينُ أَفْضَلُ مَوَاهِبِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ، وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الرِّضَا إِلَّا عَلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11].

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((هُوَ الَّذِي إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ رَضِيَ وَعَرَفَ أَنَّهَا مِنَ اللهِ)).

وَلِهَذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هِدَايَةُ الْقَلْبِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ إِلَّا بِالْيَقِينِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلِمَ أَنَّهَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ؛ هَدَى اللهُ قَلْبَهُ، وَعَوَّضَهُ عَمَّا فَاتَهُ مِنَ الدُّنْيَا هُدًى فِي قَلْبِهِ، وَيَقِينًا صَادِقًا، وَقَدْ يُخْلِفُ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْهُ، أَوْ خَيْرًا مِنْهُ)).

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: تَحَوُّلُ الْبَلَاءِ إِلَى نِعْمَةٍ، وَالْمِحْنَةِ إِلَى مِنْحَةٍ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ؛ فَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: ((لَيْسَ بِفَقِيهٍ مَنْ لَمْ يَعُدَّ الْبَلَاءَ نِعْمَةً، وَالرَّخَاءَ مُصِيبَةً)).

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهُدَى، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12]، وَقَالَ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].

وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْيَقِينُ -كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ-.

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: ((كَيْفَ أَخَافُ الْفَقْرَ وَلِمَوْلَايَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)).

فَمَنْ حَقَّقَ الْيَقِينَ وَثِقَ بِاللهِ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَرَضِيَ بِتَدْبِيرِهِ لَهُ، وَانْقَطَعَ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْمَخْلُوقِينَ رَجَاءً وَخَوْفًا، وَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا بِالْأَسْبَابِ الْمَكْرُوهَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا حَقِيقَةً، وَكَانَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا.

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَهْوَالِ، وَرُكُوبِ الْأَخْطَارِ، وَهُوَ يَأْمُرُ بِالْإِقْدَامِ دَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ الْعِلْمُ فَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْمَعَاطِبِ.

قَالَ الْجُنَيْدُ: ((قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ)).

وَلَمَّا أَرَادَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَعْبُرَ دِجْلَةَ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَقَطَعَ الْفُرْسُ عَلَيْهِ الْجِسْرَ، وَحَازُوا السُّفُنَ؛ نَظَرَ سَعْدٌ فِي جَيْشِهِ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّ إِلَى حَالِهِمُ اقْتَحَمَ الْمَاءَ، فَخَاضَ النَّاسُ مَعَهُ، وَعَبَرُوا النَّهْرَ، فَمَا غَرِقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَا ذَهَبَ لَهُمْ مَتَاعٌ، فَعَامَتْ بِهِمُ الْخَيْلُ وَسَعْدٌ يَقُولُ: ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللهِ! لَيَنْصُرَّنَ اللهُ وَلِيَّهُ، وَلَيُظْهِرَنَّ اللهُ دِينَهُ، وَلَيَهْزِمَنَّ اللهُ عَدُوَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ بَغْيٌ أَوْ ذُنُوبٌ تَغْلِبُ الْحَسَنَاتِ)).

لَوْ أَنَّ عَبْدًا قَلَّ يَقِينُهُ وَإِيمَانُهُ، وَكَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى عَدُوِّهِ، فَاقْتَحَمَ إِلَيْهِ الْمَاءَ؛ فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَى الْغَرَقِ وَالْمَوْتِ وَالْهَلَاكِ؛ وَلَكِنَّ سَعْدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَازَ هَذَا الْيَقِينَ بِالْعِلْمِ، فَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا وَجَدَهُمْ عَلَى حَالٍ مِنَ التُّقَى، وَخَافَ أَنْ يَفُوتَ الْمُسْلِمِينَ تَحْصِيلُ تِلْكَ الْغَنَائِمِ الْهَائِلَةِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يَرْكَبُهُ إِلَيْهِمْ إِلَّا الْمَاءَ رَكِبَهُ، فَخَشِيَ إِذَا تَأَخَّرَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَرَكِبَ الْمَاءَ، وَسَلَّمَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: أَنَّ الصَّبْرَ لِقَاحُ الْيَقِينِ؛ فَإِذَا اجْتَمَعَا أَوْرَثَا الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: أَنَّ الْيَقِينَ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الْجِدِّ فِي طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالتَّشْمِيرِ وَالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

قَالَ الْحَسَنُ: ((مَا أَيْقَنَ عَبْدٌ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَقَّ يَقِينِهِمَا إِلَّا خَشَعَ، وَوَجِلَ، وَذَلَّ، وَاسْتَقَامَ، وَاقْتَصَرَ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ)).

وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَصْحَابَ الْيَقِينِ يَمْتَطُونَ الْعَزَائِمَ، وَيَهْجُرُونَ اللَّذَّاتِ، وَكَمَا قِيلَ: وَمَا لَيْلُ الْمُحِبِّ بِنَائِمِ!

عَلِمُوا طُولَ الطَّرِيقِ، وَقِلَّةَ الْمُقَامِ فِي مَنْزِلِ التَّزَوُّدِ، فَسَارَعُوا فِي الْجِهَازِ، وَجَدَّ بِهِمُ السَّيْرُ إِلَى مَنْزِلِ الْأَحْبَابِ، فَقَطَعُوا الْمَرَاحِلَ، وَطَوَوُا الْمَفَاوِزَ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اسْتَيْقَنَ مَا أَمَامَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللهِ، وَمَا أَعَدَّ لِأَوْلِيَائِهِ؛ بِحَيْثُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الدُّنْيَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا زَالَ الْحِجَابُ رَأَى ذَلِكَ عِيَانًا؛ زَالَتْ عَنْهُ الْوَحْشَةُ الَّتِي يَجِدُهَا الْمُتَخَلِّفُونَ، وَلَانَ لَهُ مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ.

 * مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: ثَبَاتُ صَاحِبِهِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي اتَّبَعَهُ وَعَرَفَهُ؛ فَأَهْلُ الْيَقِينِ هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ ثَبَاتًا عَلَى الْحَقِّ.

وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ((أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟)).

قَالَ: ((لَا)).

قَالَ: ((وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا أَصْحَابُ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْجَدَلِ الْبَاطِلِ؛ فَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ تَنَقُّلًا مِنْ قَوْلٍ إِلَى قَوْلٍ، وَمِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ، بِخِلَافِ حَالِ الْمُؤْمِنِ الثَّابِتِ.

* مِنْ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ: الثَّبَاتُ أَمَامَ الْأَعْدَاءِ حَتَّى النَّصْرِ أَوِ الشَّهَادَةِ، وَأَخْبَارُ أَهْلِ الْيَقِينِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهَكَذَا أَهْلُ الْيَقِينِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِنَا.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالْيَقِينُ يُورِثُ صَاحِبَهُ أُمُورًا جَلِيلَةً عَظِيمَةً؛ فَهُوَ يَزِيدُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ قُرْبًا مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحُبًّا، وَرِضًا بِمَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، وَيَزِيدُ صَاحِبَهُ اسْتِكَانَةً وَخُضُوعًا لِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ -جَلَّ جَلَالُهُ-، كَمَا أَنَّهُ يُكْسِبُهُ رِفْعَةً وَعِزَّةً، وَيُبْعِدُهُ عَنْ مَوَاطِنِ الذُّلِّ وَالضَّعَةِ.

وَهُوَ -أَيْضا-: بِالْيَقِينِ يَتَّبِعُ النُّورَ وَالْحَقَّ الْمُبِينَ، وَيَسْلُكُ طَرِيقَ السَّلَامَةِ الْمُحَقَّقَةِ، فَلَا يَحِيدُ عَنْهَا بِضَعْفِ يَقِينِهِ؛ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً.

 كَمَا أَنَّهُ -أَيِ: الْيَقِينَ- يَحْمِلُ صَاحِبَهُ دَائِمًا عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ، وَتَحَرِّي ذَلِكَ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ.

وَالْيَقِينُ -أَيْضًا- يَضْبِطُ عَلَاقَةَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، فَيُلْزِمُهُ الْمُرَاقَبَةَ، وَفِعْلَ مَا يَلِيقُ، وَتَرْكَ مَا لَا يَلِيقُ فِي تَعَامُلِهِ مَعَ رَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يُوصِلُهُ إِلَى دَارِ الْأَمَانِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَّا بِسُلُوكِ هَذِهِ الطَّرِيقِ.

فَهَذِهِ بَعْضُ ثَمَرَاتِ الْيَقِينِ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا الْيَقِينَ وَحَقِيقَةَ الْيَقِينِ؛ إِنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

((ظَاهِرَةُ الْإِلْحَادِ الْخَطِيرَةُ))

إِنَّ الْإِلْحَادَ ظَاهِرَةٌ خَطِيرَةٌ انْتَشَرَتْ فِي الْأُمَّةِ، وَاسْتَشْرَتْ فِيهَا كَالنَّارِ فِي الْهَشِيمِ!

وَقَدِ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَى هَذَا الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّ تَيَّارَ الْإِلْحَادِ، وَطُغْيَانَ الْمَادَّةِ جَرَفَ جُمْهُورَ الْخَلْقِ؛ فَمِنْهُمُ الدُّعَاةُ، وَالرُّؤَسَاءُ الْمُخَادِعُونَ الْمُغَرِّرُونَ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ السِّيَاسَةِ الْمُسْتَعْمِرُونَ، وَمِنْهُمْ ضُعَفَاءُ الْبَصَائِرِ الْمُغْتَرُّونَ، وَمِنْهُمُ السَّمَاسِرَةُ الْمَأْجُورُونَ الْمُنَافِقُونَ، فَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ، وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ، وَعَادَ الدِّينُ الصَّحِيحُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، وَصَارَ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ الْحَقِّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ.

((مَعْنَى الْإِلْحَادِ))

الْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

الْإِلْحَادُ: مَذْهَبٌ فَلْسَفِيٌّ يَقُومُ عَلَى فِكْرَةٍ عَدَمِيَّةٍ أَسَاسُهَا إِنْكَارُ وُجُودِ الْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فَيَدَّعِي الْمُلْحِدُونَ بِأَنَّ الْكَوْنَ وُجِدَ بِلَا خَالِقٍ، وَأَنَّ الْمَادَّةَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَهِيَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ.

وَالْمُلْحِدُونَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ بَلْهَ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ.

وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْكَوْنَ وُجِدَ بِلَا خَالِقٍ، وَالْمَادَّةُ أَزَلِيَّةٌ هِيَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ مَعًا؛ وَبِالتَّالِي فَإِنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرُّسُلِ، وَيَجْحَدُونَ الْأَدْيَانَ.

وَالْمُلْحِدُونَ فِي الْجُمْلَةِ صِنْفَانِ:

الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: مَنْ يَعْتَقِدُ بِنَفْيِ وُجُودِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالصِّنْفُ الثَّانِي: هُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ (اللَّاأَدْرِيَّةَ)، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي هَلْ يُوجَدُ رَبٌّ خَالِقٌ أَوْ لَا؟

وَيَجْمَعُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِالْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ-؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ مَعَ شَكٍّ، وَأُولَئِكَ مَعَ جَزْمٍ.

((نَشْأَةُ الْإِلْحَادِ فِي أُورُبَّا وَالْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ))

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ دُوَلِ الْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ وَالشَّرْقِيِّ تُعَانِي مِنْ نَزْعَةٍ إِلْحَادِيَّةٍ عَارِمَةٍ جَسَّدَتْهَا الشُّيُوعِيَّةُ الْمُنْهَارَةُ، وَتُجَسِّدُهَا الْعَلْمَانِيَّةُ الْمُخَادِعَةُ.

وَالْإِلْحَادُ بِدْعَةٌ جَدِيدَةٌ، لَمْ تُوجَدْ فِي الْقَدِيمِ إِلَّا فِي النَّادِرِ فِي بَعْضِ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ.

وَكَانَتِ الْكَنِيسَةُ الْأُورُبِّيَّةُ الْمَسْؤُولَ الْأَوَّلَ عَنْ ظُهُورِ الْإِلْحَادِ، فَحَمَاقَاتُهَا هِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى جَعْلِ الْعِلْمِ بَدِيلًا عَنِ الدِّينِ، وَجُعِلَ الصِّدَامُ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ وَأَفْكَارِ الْكَنِيسَةِ الْمُتَحَجِّرَةِ مِمَّا لَيْسَ بِدِينٍ أَصْلًا سَبَبًا لِتَحَلُّلِ النَّاسِ مِنَ الدِّينِ.

فَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ جُعِلَ بَدِيلًا عَنِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ، وَتَوَقَّفَ النَّاسُ عِنْدَ حُدُودِ مَا تُثْبِتُهُ وَتُدْرِكُهُ حَوَاسُّهُمْ، وَجُعِلَتِ الطَّبِيعَةُ خَالِقَةً بَدِيلًا عَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَلِكَ حِينَ حَارَبَتِ الْكَنِيسَةُ الْغَرْبِيَّةُ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ، وَخَيَّرَتِ النَّاسَ بَيْنَ اتِّبَاعِ الْخُرَافَةِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، عَلَى دِينِهَا الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ وَشَكَّلَتْهُ عَلَى حَسَبِ أَهْوَائِهَا، خَيَّرَتِ النَّاسَ بَيْنَ اتِّبَاعِ الْخُرَافَةِ، وَاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ.

وَقَدِ اخْتَارَ الْعُلَمَاءُ الْمَادِّيُّونَ لِمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ الثَّابِتَةِ، اخْتَارُوا اتِّبَاعَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ قَدْرَهُ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنَ الْخُرَافَةِ الَّتِي تَمَسَّكَتْ بِهَا الْكَنِيسَةُ الْغَرْبِيَّةُ، فَلَمَّا طَرَدَتِ الْكَنِيسَةُ الْعُلَمَاءَ مِنَ الدِّينِ كَانَ الْعِلْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمُ الْبَدِيلَ عَنِ الدِّينِ، لَا لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَدِيلٌ عَنْهُ، وَلَا لِأَنَّهُ بِطَبِيعَتِهِ يُغْنِي عَنِ الدِّينِ، وَلَكِنَّ لِأَنَّ حَمَاقَةَ الْكَنِيسَةِ الْغَرْبِيَّةِ وَضَعَتِ الْأُمُورَ فِي هَذَا الْوَضْعِ.

وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ لَيْسَ بَدِيلًا عَنِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ يُفَسِّرُ فَقَطْ كَيْفَ تَحْدُثُ الْأَشْيَاءُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَحْدُثُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُفَسِّرُ لِمَاذَا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؟

وَحِينَ جَعَلَتْ أُورُوبَّا الطَّبِيعَةَ بَدِيلًا عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا مَهْرَبًا مِنْ إِلَهِ الْكَنِيسَةِ الَّذِي تَسْتَعْبِدُ النَّاسَ بِاسْمِهِ، وَتَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِتَاوَاتِ وَالْعُشُورَ بِاسْمِهِ، وَتُذِلُّهُمْ وَتُخْضِعُهُمْ لِرِجَالِ الدِّينِ مَعَ مُحَارَبَةِ الْعِلْمِ وَالْحَجْرِ عَلَى حُرِّيَّةِ النَّظَرِ فِي أَسْرَارِ اللهِ فِي الْكَوْنِ، وَمَعَ الْوُقُوفِ الظَّالِمِ مَعَ رِجَالِ الْإِقْطَاعِ ضِدَّ الَّذِينَ كَانُوا يُطَالِبُونَ بِالْإِصْلَاحِ، لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ قَطُّ حَقِيقَةً عِلْمِيَّةً، وَكَانَ هَذَا كُلُّهُ إِلْحَادَ الْعُلَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُفَكِّرِينَ.

أَمَّا الْجَمَاهِيرُ، فَكَانَتْ مَا تَزَالُ تُؤْمِنُ بِالدِّينِ عَلَى مَا بِهِ مِنْ تَحْرِيفٍ وَتَشْوِيهٍ وَخُرَافَةٍ، فَيُعَدُّ أَتْبَاعُ الْعَلْمَانِيَّةِ الْمُؤَسِّسِينَ الْحَقِيقِيِّينَ لِلْإِلْحَادِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعُ الشُّيُوعِيَّةِ، وَالْوُجُودِيَّةِ، وَالدَّارْوِينِيَّةِ، وَالْعَقْلَانِيَّةِ.

وَقَدِ اسْتَغَلَّتِ الْحَرَكَةُ الصُّهْيُونِيَّةُ كُلَّ هَذَا؛ فَعَمِلَتْ عَلَى نَشْرِ الْإِلْحَادِ فِي الْأَرْضِ، فَنَشَرَتِ الْعَلْمَانِيَّةَ لِإِفْسَادِ أُمَمِ الْأَرْضِ بِالْإِلْحَادِ وَالْمَادِّيَّةِ الْمُفْرِطَةِ، وَالِانْسِلَاخِ مِنْ كُلِّ الضَّوَابِطِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِيَّةِ كَيْ تَهْدِمَ هَذِهِ الْأُمَمُ نَفْسَهَا بِنَفْسِهَا، وَعِنْدَهَا يَخْلُو الْجَوُّ لِلْيَهُودِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْيَهُودُ حُكْمَ الْعَالَمِ كُلِّهِ.

وَقَدْ نَشَرَ الْيَهُودُ نَظَرِيَّاتِ مَارْكِس فِي الِاقْتِصَادِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَادِّيِّ لِلتَّارِيخِ، وَنَشَرُوا نَظَرِيَّاتِ فُرُويِد فِي عِلْمِ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ نَشَرُوا نَظَرِيَّةَ دَارْوِن فِي أَصْلِ الْأَنْوَاعِ، وَنَشَرُوا نَظَرِيَّاتِ دُورْكَايِم فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ، وَكُلُّ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ مِنْ أُسُسِ الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ.

وَأَوَّلُ كِتَابٍ مُصَرِّحٍ بِالْإِلْحَادِ وَدَاعٍ لَهُ ظَهَرَ فِي أُورُوبَّا سَنَةَ سَبْعِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ التَّارِيخِ الصَّلِيبِيِّ (1770م).

أَمَّا حَرَكَاتُ الْإِلْحَادِ الْمُنَظَّمَةُ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ، وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِالْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَإِعْلَانُهُ عَلَى الْمَلَأِ؛ فَقَدْ نَشَأَ بَعْدَ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ حِينَمَا بَدَأَ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ وَالْعَرَبِيُّ يَتَّصِلُ بِالْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ عَنْ طَرِيقِ إِرْسَالِيَّاتِ الدِّرَاسَةِ أَوِ التَّدْرِيبِ.

وَتَسَبَّبَ ذَلِكَ فِي رُجُوعِ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الطُّلَّابِ مُتَأَثِّرِينَ بِالْفِكْرِ الْأُورُبِّيِّ الْمَادِّيِّ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَى أَسَاسِ تَعْظِيمِ عُلُومِ الطَّبِيعَةِ وَرَفْعِ شَأْنِ الْعَقْلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُومُ عَلَى تَنْحِيَةِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ عَنْ حُكْمِ الْحَيَاةِ وَالنَّاسِ وَإِدَارَةِ شُؤُونِهِمْ.

وَفِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَعْوَةٌ صَرِيحَةٌ لِلْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْعَرَبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هُنَاكَ دَعَوَاتٌ لِلتَّحَرُّرِ، أَوْ لِلتَّغْرِيبِ، أَوْ لِفَتْحِ الْمَجَالِ أَمَامَ الْعَقْلِ، أَوْ إِلَى مُحَاكَمَةِ بَعْضِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى الْعَقْلِ أَوِ الْحِسِّ أَوِ الْوَاقِعِ، أَوْ إِلَى مُحَاوَلَةِ إِنْشَاءِ خِلَافٍ وَهْمِيٍّ وَصِرَاعٍ مُفْتَعَلٍ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ.

وَمَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ وَزِيَادَةِ الِاتِّصَالِ بِالْغَرْبِ وَتُرَاثِهِ، وَانْتِشَارِ مَوْجَةِ التَّغْرِيبِ بَيْنَ النَّاسِ، ظَهَرَتْ بَعْضُ الدَّعَوَاتِ الصَّرِيحَةِ لِلْإِلْحَادِ، وَفُتِحِ بَابُ الرِّدَّةِ بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ الْفَرْدِيَّةِ.

وَحِينَمَا نَشِطَ الْيَهُودُ فِي تُرْكِيَا، وَدَعَوْا إِلَى إِقَامَةِ قَوْمِيَّةٍ تُرْكِيَّةٍ تَحُلُّ مَحَلَّ الرَّابِطَةِ الدِّينِيَّةِ، ظَهَرَتْ مَظَاهِرُ عِدَّةٌ فِي الْوَاقِعِ تَدْعُو إِلَى نَبْذِ الدِّينِ، وَتُظْهِرُ الْعَدَاءَ لِبَعْضِ شَعَائِرِهِ.

وَمَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ تَطَوَّرَتْ هَذِهِ الْحَرَكَةُ حَتَّى جَاءَ (مُصْطَفَى كَمَال أَتَاتُورك)، وَقَامَ بِإِلْغَاءِ الْخِلَافَةِ، وَأَنْشَأَ الدَّوْلَةَ التُّرْكِيَّةَ الْعَلْمَانِيَّةَ، وَحَارَبَ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ وَسَجَنَهُمْ.

وَرَاجَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْإِلْحَادُ، وَظَهَرَتْ عِدَّةُ كُتُبٍ تَدْعُو إِلَى الْإِلْحَادِ وَتَطْعَنُ فِي الْأَدْيَانِ، وَمِنْهَا كِتَابٌ بِعُنْوَانِ «مُصْطَفَى كَمَال»، لِكَاتِبٍ اسْمُهُ قَابِيل آدَم، يَتَضَمَّنُ مَطَاعِنَ قَبِيحَةً فِي الْأَدْيَانِ، وَبِخَاصَّةٍ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ، وَفِي ذَلِكَ الْكِتَابِ دَعْوَةٌ صَرِيحَةٌ لِلْإِلْحَادِ بِالدِّينِ، وَإِشَادَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْعَقْلِيَّةِ الْأُورُبِّيَّةِ.

هَذِهِ الْجُرْأَةُ فِي تُرْكِيَا قَابَلَهَا جَرَاءَةٌ مُمَاثِلَةٌ فِي مِصْرَ، سُمِّيَتْ ظُلْمًا وَزُورًا عَصْرَ النَّهْضَةِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، بَيْنَمَا هِيَ فِي حَقِيقَتِهَا حَرَكَةٌ تَغْرِيبِيَّةٌ تَهْدُفُ إِلَى إِلْحَاقِ مِصْرَ بِالْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِ، وَاحْتِذَائِهَا فِي ذَلِكَ حَذْوَ تُرْكِيَا الَّتِي خَلَعَتْ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ وَالدِّينِ، وَصَبَغَتْ حَيَاتَهَا بِالطَّابَعِ الْعَلْمَانِيِّ، وَبِالسُّفُورِ وَالتَّمَرُّدِ.

فِي تِلْكَ الْحِقْبَةِ ظَهَرَ فِي مِصْرَ الْعَدِيدُ مِنَ الْمُفَكِّرِينَ وَالْأُدَبَاءِ يَدْعُونَ إِلَى التَّغْرِيبِ وَالْإِلْحَادِ، وَفَتْحِ بَابِ الرِّدَّةِ بِاسْمِ التَّنْوِيرِ تَارَةً، وَبِاسْمِ النَّهْضَةِ الْأَدَبِيَّةِ تَارَةً أُخْرَى، وَمَرَّةً بِاسْمِ الْحُرِّيَّاتِ الْفِكْرِيَّةِ، وَتَلَقَّفَتْ مِصْرُ -فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ- دُونَ تَمْيِيزٍ جَمِيعَ أَمْرَاضِ الْمُجْتَمَعِ الْأُورُبِّيِّ، وَكَذَلِكَ تَلَقَّتْ أَخْلَاقَهُ الْمُنْحَلَّةَ.

وَحَاوَلَتْ جَاهِدَةً بِفِعْلِ أُولَئِكَ الَّذِي أَرَادُوا لَهَا التَّغْرِيبَ، حَاوَلَتْ أَنْ تُصْبِحَ قِطْعَةً مِنْ أُورُوبَّا، وَمِنْ فَرَنْسَا تَحْدِيدًا، وَعَاثَ فِي أَرْضِ مِصْرَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، ثُمَّ سَلَّمُوا دَفَّةَ الْإِفْسَادِ إِلَى بَعْضِ الْمِصْرِيِّينَ مِمَّنْ لَمْ يَتَوَانَوْا فِي نَشْرِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، وَسَعَوْا سَعْيًا حَثِيثًا إِلَى إِلْغَاءِ الْفَضِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَإِحْلَالِ النَّفْعِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ مَحَلَّهَا، حَتَّى أَصْبَحَ دُعَاةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُحَافَظَةِ غُرَبَاءَ عَلَى الْمُجْتَمَعِ دُخَلَاءَ عَلَيْهِ، يُوصَفُونَ بِالْجُمُودِ وَالتَّخَلُّفِ وَالْعَدَاءِ لِلْحَضَارَةِ!

وَمِنْ مِصْرَ انْتَقَلَتْ حُمَّى الرِّدَّةِ وَالْإِلْحَادِ إِلَى جَمِيعِ دُوَلِ الْجِوَارِ ابْتِدَاءً مِنَ الشَّامِ، وَمُرُورًا بِالْعِرَاقِ وَالْخَلِيجِ بِمَا فِيهَا السُّعُودِيَّةُ، وَانْتِهَاءً بِبِلَادِ الْيَمَنِ.

((أَعْلَامُ الْإِلْحَادِ فِي أُورُوبَّا وَالْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ))

وَأَمَّا أَعْلَامُ الْإِلْحَادِ فِي أُورُوبَّا فَهُمْ أَتْبَاعُ الشُّيُوعِيَّةِ، وَيَتَقَدَّمُهُمْ (كَارْل مَارْكِس)، وَقَدْ هَلَكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1883م)، وَهُوَ يَهُودِيٌّ أَلْمَانِيٌّ.

(أَنْجِلْز)، وَهُوَ رَفِيقُ دَرْبِهِ، الْتَقَى بِهِ فِي إِنْجِلْتِرَا، وَأَصْدَرَا مَعًا ((الْمَانِيفِسْتُو أَوِ الْبَيَانَ الشُّيُوعِيَّ)) سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1848م)، وَقَدْ هَلَكَ أَنْجِلْز سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1895م).

فَأَعْلَامُ الْإِلْحَادِ فِي أُورُوبَّا أَتْبَاعُ الشُّيُوعِيَّةِ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ (مَاركِس)، وَ(أَنْجِلْز).

أَتْبَاعُ الْوُجُودِيَّةِ -أَيْضًا- مِنْ أَعْلَامِ الْإِلْحَادِ فِي أُورُوبَّا، وَعَلَى رَأْسِهِمْ (جَان بُول سَارْتَر)، وَ(سِيمُون دِي بُوفْوَار)، وَ(أَلْبِير كَامُو).

وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الدَّارْوِينِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الْإِلْحَادِ فِي أُورُوبَّا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأُدَبَاءِ (نِيتْشَه)، وَهُوَ فَيْلَسُوفٌ أَلْمَانِيٌّ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُلْحِدِينَ فِي الْعَصْرِ، بَلْ فِي التَّارِيخِ.

وَكَذَلِكَ (بِيرْترَانْد رَاسِل)، وَهُوَ فَيْلَسُوفٌ إِنْجِلِيزِيٌّ.

وَ(هِيجِل)، وَهُوَ فَيْلَسُوفٌ أَلْمَانِيٌّ قَامَتْ فَلْسَفَتُهُ عَلَى دِرَاسَةِ التَّارِيخِ.

وَكَذَلِكَ (هِرْبِرْت سبِنْسَر)، وَهُوَ إِنْجِلِيزِيٌّ كَتَبَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ.

وَ(فُولْتِير)، وَهُوَ أَدِيبٌ فَرَنْسِيٌّ.

فَهَؤُلَاءِ مِنْ رُؤُوسِ الْإِلْحَادِ فِي أُورُوبَّا، وَهُمْ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأُدَبَاءِ.

وَأَمَّا أَعْلَامُ الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَعَلَى رَأْسِهِمْ: (إِسْمَاعِيل أَحْمَد أَدْهَم)، الَّذِي هَلَكَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1940م)، كَانَ مِنْ دُعَاةِ الشُّعُوبِيَّةِ، وَحَاوَلَ نَشْرَ الْإِلْحَادِ فِي مِصْرَ، وَأَلَّفَ رِسَالَةً بِعُنْوَانِ: «لِمَاذَا هُوَ مُلْحِدٌ؟»، وَ(هُوَ) جَعَلَ مَكَانَهَا (أَنَا)؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ، لَكِنْ لَا يَجْمُلُ أَنْ نُعِيدَ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الشَّيْطَانِ: «إِذَا سَجَدَ ابْنُ آدَمَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ نَاحِيَةً يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ!»، وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو بِالْوَيْلِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنْ أَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ حَتَّى لَا يَحْكِيَ مَا قَالَهُ الشَّيْطَان كَمَا فِي هَذَا النَّصِّ.

فَكَتَبَ إِسْمَاعِيل أَحْمَد أَدْهَم رِسَالَةً بِعُنْوَانِ: «لِمَاذَا هُوَ مُلْحِدٌ؟»، وَطَبَعَهَا بِمَطْبَعَةِ التَّعَاوُنِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ حَوَالَيْ سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ(1926م).

مِنْ أَعْلَامِ الْإِلْحَادِ -أَيْضًا- فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ: (إِسْمَاعِيل مَظْهَر)، الَّذِي هَلَكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ التَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ (1381هـ)، وَهُوَ أَحَدُ دُعَاةِ الشُّعُوبِيَّةِ وَالدَّارْوِينِيَّةِ، أَصْدَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1928م) مَجَلَّةَ «الْعُصُورِ» فِي مِصْرَ، وَكَانَتْ مَجَلَّةُ الْعُصُورِ تَدْعُو لِلْإِلْحَادِ وَالطَّعْنِ فِي الْعَرَبِ وَالْعُرُوبَةِ طَعْنًا قَبِيحًا، مُعِيدًا تَارِيخَ الشُّعُوبِيَّةِ تَمَامًا كَمَا فَعَلَ إِسْمَاعِيل أَدْهَم، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الشُّعُوبِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ إِسْمَاعِيل مَظْهَر أَصْدَرَ هَذِهِ الْمَجَلَّةَ -وَهِيَ مَجَلَّةُ الْعُصُورِ- تَدْعُو لِلْإِلْحَادِ وَالطَّعْنِ فِي الْعَرَبِ وَالْعُرُوبَةِ طَعْنًا قَبِيحًا، مُعِيدًا تَارِيخَ الشُّعُوبِيَّةِ، وَمُتَّهِمًا الْعَقْلِيَّةَ الْعَرَبِيَّةَ بِالْجُمُودِ وَالِانْحِطَاطِ، وَمُشِيدًا بِأَمْجَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَشَاطِهِمْ، وَقَدْ تَابَ إِسْمَاعِيل مَظْهَر إِلَى اللهِ بَعْدَ أَنْ تَعَدَّى مَرْحَلَةَ الشَّبَابِ، وَأَصْبَحَ يَكْتُبُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ، وَأَلَّفَ كِتَابًا أَسْمَاهُ: «الْإِسْلَامُ لَا الشُّيُوعِيَّةُ».

فَقَدْ أُسِّسَتْ فِي مِصْرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1928م) جَمَاعَةٌ لِنَشْرِ الْإِلْحَادِ تَحْتَ شِعَارِ الْأَدَبِ، وَاتَّخَذَتْ دَارَ الْعُصُورِ مَقَرًّا لَهَا، وَاسْمُهَا: رَابِطَةُ الْأَدَبِ الْجَدِيدِ، وَكَانَ أَمِينَ سِرِّهَا كَامِل كِيلَانِي، وَقَدْ تَابَ كَامِل كِيلَانِي إِلَى اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَمِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَنْشُرُونَ فِي مَجَلَّةِ الْعُصُورِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْإِلْحَادِ فِي مِصْرَ.. كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ النَّاشِرِينَ فِيهَا الشَّاعِرُ (عَبْدُ اللَّطِيفِ ثَابِت) الَّذِي كَانَ يُشَكِّكُ فِي الْأَدْيَانِ فِي شِعْرِهِ.

وَالشَّاعِرُ (جَمِيل صِدْقِي بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَيْضِي الزَّهَاوِيُّ، جَمِيل صِدْقِي الزَّهَاوِيُّ)، وَهُوَ شَاعِرٌ عِرَاقِيٌّ يُعَدُّ عَمِيدَ الشُّعَرَاءِ الْمُشَكِّكِينَ فِي عَصْرِهِ.

وَكَذَلِكَ (صَادِق جَلَال الْعَظْم)، وَهُوَ أَحَدُ أَسَاطِينِ الْفِكْرِ الشُّيُوعِيِّ الْمَادِّيِّ مِمَّنْ أَخَذَ يُجَاهِرُ بِالْإِلْحَادِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَأَلَّفَ كِتَابًا يُقَرِّرُ فِيهِ الْإِلْحَادَ أَسْمَاهُ: ((نَقْدُ الْفِكْرِ الدِّينِيِّ))، زَعَمَ أَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ بَرَاهِينَ تُثْبِتُ عَدَمَ وُجُودِ اللهِ، وَأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ -يَعْنِي: مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ إِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ تَعَالَى وَالرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ-.. أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْهَامِ وَالْأَسَاطِيرِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْكَثِيرُونَ.

كَذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ: (عَبْدُ اللهِ بْنُ عَلِيٍّ الْقَصِيمِيُّ)، وَهُوَ أَحَدُ أَشْهَرِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُعَاصِرِينَ، لَهُ كُتُبٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ الْعُلَمَاءُ يَسْتَمْدِحُونَهَا وَيُثْنُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَعْلَنَ بَعْدَ ذَلِكَ رِدَّتَهُ وَإِلْحَادَهُ، وَجَاهَرَ بِدَعْوَتِهِ الْجَدِيدَةِ إِلَى الْإِلْحَادِ، وَأَلَّفَ مَجْمُوعَةً كَبِيرَةً مِنَ الْكُتُبِ الدَّاعِيَةِ لِلتَّحَرُّرِ مِنْ سُلْطَةِ الدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ، مِنْهَا: «هَذِهِ الْأَغْلَالُ»، وَمِنْهَا: «أَيُّهَا الْعَقْلُ مَنْ رَآكَ»، وَمِنْهَا: «الْإِنْسَانُ يَعْصِي لِهَذَا يَصْنَعُ الْحَضَارَاتِ».

وَهُوَ مِنْ دُعَاةِ الصُّهْيُونِيَّةِ الْعَرَبِ، وَلَهُ مَقَالَاتٌ وَعِبَارَاتٌ بَشِعَةٌ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَقِّ رُسُلِهِ، وَمِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَإِنَّ كِتَابَهُ فِي قَطْعِ وَإِبْطَالِ أُصُولِ الْمُلْحِدِينَ إِنَّمَا كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ وَإِلَى دَعْوَتِهِ.

وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعْوَتَهُ وَأَخْمَلَ ذِكْرَهُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي كُلِّ مَنْ حَادَّ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُخْمِلُهُ، وَيَجْعَلُ آثَارَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَزْبَلَةِ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَّا الْحَقُّ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْخَيْرُ، وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ.

كَذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ: (فَهْدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرُ)، وَهُوَ شَاعِرٌ كُوَيْتِيٌّ مَاجِنٌ، وَدَاعِيَةٌ إِلَى التَّمَرُّدِ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمِنْ كِبَارِ الْمُتَشَكِّكِينَ وَالسَّاخِرِينَ بِالْأَدْيَانِ فِي شِعْرِهِ، وَقَدْ هَلَكَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ التَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ (1370هـ).

وَمِنْهُمْ أَيْضًا: (أَحْمَد لُطْفِي السَّيِّد)، وَ(طَه حُسَيْن)، وَ(زَكِي نَجِيب مَحْمُود)، وَ(عَلِي أَحْمَد سَعِيد) الْمَعْرُوفُ بِـ (أَدُونِيس) الَّذِي يُقَالُ عَنْهُ إِنَّهُ شَاعِرٌ!

فَهَؤُلَاءِ بَعْضُ أَعْلَامِ الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ.

((أَفْكَارُ الْإِلْحَادِ))

وَأَمَّا أَفْكَارُ الْإِلْحَادِ، فَهِيَ: إِنْكَارُ وُجُودِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ -تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-.

مِنْ أَفْكَارِ الْإِلْحَادِ: أَنَّ الْكَوْنَ وَالْإِنْسَانَ وَالْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ وُجِدَ صُدْفَةً، وَسَيَنْتَهِي كَمَا بَدَأَ، وَلَا تُوجَدُ حَيَاةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى أَصْلِ الْأُصُولِ، وَكُبْرَى الْيَقِينِيَّاتِ، وَهُوَ وُجُودُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنْكَرَ وُجُودَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقُولُ: إِنَّ الْخَلْقَ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ إِنَّمَا خَلَقَتْهُ الصُّدْفَةُ، أَوْ أَوْجَدَتْهُ الطَّبِيعَةُ، أَوْ أَوْجَدَ نَفْسَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجِيبَ عَنْ أَسْئِلَةٍ، فَتَأْتِي هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ مُؤَسَّسَةً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَنْكَرَهُ، وَهُوَ وُجُودُ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَلِذَلِكَ تَجِدُ مِنْ أَفْكَارِهِمْ أَنَّ الْمَادَّةَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَّ الْمَادَةَ هِيَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ.

وَهُمْ يَنْظُرُونَ نَظْرَةً غَائِيَّةً لِلْكَوْنِ وَكَذَلِكَ لِلْمَفَاهِيمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ تُعِيقُ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ، وَأَيْضًا يُنْكِرُونَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ لَا يَقْبَلُهَا الْعِلْمُ كَمَا يَزْعُمُونَ، وَلَكِنْ هُمْ يُنْكِرُونَهَا ابْتِدَاءً لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَنْ أَرْسَلَهُمْ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَنَبَّأَ الْأَنْبِيَاءَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَالَّذِي كَانَ مِنْهُ الْوَحْيُ الْمَعْصُومُ.

مِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْمُلْحِدِينَ الْمَادِّيِّينَ يَقْبَلُونَ مُعْجِزَاتِ الطَّفْرَةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي تَقُولُ بِهَا الدَّارْوِينِيَّةُ، وَلَا سَنَدَ لَهَا إِلَّا الْهَوَسُ وَالْخَيَالُ؛ لِأَنَّ الدَّارْوِينِيَّةَ لَيْسَ عِنْدَهَا تَفْسِيرٌ لِلتَّطَوُّرِ.

ثُمَّ إِنَّ دَارْوِن لَمْ يَقُلْ فِي نَظَرِيَّتِهِ: إِنَّ التَّطَوُّرَ خَالِقٌ، وَإِنَّمَا هُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ شَيْئًا، فَجَعَلَ التَّطَوُّرَ مُفَسِّرًا لَا خَالِقًا، فَيَبْقَى السُّؤَالُ عَلَى حَالِهِ: فَمَنِ الَّذِي خَلَقَ؟!

إِذَنْ، دَارْوِن حَتَّى فِي أَصْلِ نَظَرِيَّتِهِ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ التَّطَوُّرَ الَّذِي زَعَمَهُ وَجَاءَ بِهِ فِي أَصْلِ الْأَنْوَاعِ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْخَلْقَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ يُفَسِّرُ بِهِ أَمْرًا عَلَى حَسَبِ نَظَرِيَّتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا.

فَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَقْبَلُونَ مُعْجِزَاتِ الطَّفْرَةِ الْوَحِيدَةِ؛ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَانَ قِرْدًا، فَجَاءَتْ طَفْرَةٌ فَنَقَلَتْهُ مِنَ الْقِرْدِيَّةِ إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: كَيْفَ جَاءَ ذَلِكَ؟!

قَالُوا: هَذَا يَأْتِي بِالطَّفْرَةِ.

فَمِنَ الْحَيَوَانِ الْأَوَّلِ، مِنَ الْخَلِيَّةِ الْوَحِيدَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا ارْتَقَى إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ حَتَّى صَارَ قِرْدًا، ثُمَّ ارْتَقَى بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ إِنْسَانًا!

يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الِانْتِقَالَ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إِنَّمَا يَحْدُثُ بِمَا يُسَمَّى بِالطَّفْرَةِ الْوَحِيدَةِ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: وَهَذِهِ الطَّفْرَةُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَحْدُثُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُنْشِئَ شَيْئًا أَحْكَمَ، مِنْ أَجْلِ أَنْ تُنْشِئَ شَيْئًا أَتْقَنَ؟!

فَلِمَاذَا تَقْبَلُونَ هَذَا وَهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُخَالِفٌ لِمُقَرَّرَاتِ الْعَقْلِ، مُخَالِفٌ لِلْبَدَهِيَّاتِ الْفِطْرِيَّةِ؟!

وَلَكِنْ هَمُّهُمْ وَقَصْدُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا وُجُودَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، فَهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالْمَفَاهِيمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ، وَلَا بِالْحَقِّ، وَلَا بِالْعَدْلِ، وَلَا بِالْأَهْدَافِ السَّامِيَةِ، وَلَا بِالرُّوحِ، وَلَا بِالْجَمَالِ فِي الْكَوْنِ.

وَلِذَلِكَ كُنْتَ تَجِدُ فِي فَتْرَةِ اسْتِحْوَاذِ الِاتِّحَادِ السُّوفْيِتِيِّ عَلَى الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي ابْتَلَعَهَا فَلَمْ يَهْضِمْهَا حَتَّى خَلَّصَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ نِيرِهِ، كُنْتَ تَجِدُ الصِّنَاعَةَ الرُّوسِيَّةَ عَلَى الضِّدِّ مِنَ الصِّنَاعَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَالصِّنَاعَةُ الرُّوسِيَّةُ لَا جَمَالَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الشَّكْلُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالرُّوحِ وَلَا بِالْجَمَالِ، وَلَا يَعْتَرِفُونَ بِالْمَفَاهِيمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ.

وَلِمَاذَا يَعْتَرِفُونَ بِالْمَفَاهِيمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالْمَادِّيُّونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْحَيَاةَ هِيَ نِهَايَةُ كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ، وَأَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بَعْثَ وَلَا قِيَامَ؟!

فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ يَحْيَا، حَتَّى إِذَا مَا مَاتَ لَمْ يُبْعَثْ، وَلَمْ يُحَاسَبْ عَلَى شَيْءٍ، فَلِمَاذَا يَتَمَسَّكُ بِالْأَخْلَاقِ؟!

بَلْ لِمَاذَا تُوجَدُ الْأَخْلَاقُ أَصْلًا؟!

وَحِينَئِذٍ يَحْيَا الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ؛ يُحَصِّلُ اللَّذَّاتِ، وَيَسْتَحْوِذُ عَلَى الْمَلَذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلَيْسَ لَهُ ارْتِقَاءٌ فِي خُلُقٍ، وَلَا نَظْرَةٌ إِلَى هَدَفٍ سَامٍ.

وَيَنْظُرُ الْمَلَاحِدَةُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرُوهُ فِي أَصْلِ الْوُجُودِ وَالْخَلْقِ، يَنْظُرُونَ لِلتَّارِيخِ بِاعْتِبَارِهِ صُورَةً لِلْجَرَائِمِ وَالْحَمَاقَةِ وَخَيْبَةِ الْأَمَلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ قِصَّةَ التَّارِيخِ لَا تَعْنِي شَيْئًا.

وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ الدِّينِيَّةُ فِي رَأْيِ الْمَلَاحِدَةِ فَتَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا جِذْرِيًّا وَكُلِّيًّا عَنِ الْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا الْعَقْلِيِّ أَوِ الْعِلْمِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْضَعُونَ لِلْعَقْلِ، وَلَا يَخْضَعُونَ لِلْعِلْمِ، وَبَدَاهَةً هُمْ لَا يَخْضَعُونَ لِلنَّقْلِ وَالشَّرْعِ.

وَالْإِنْسَانُ عِنْدَ الْمُلْحِدِينَ الْمَادِّيِّينَ مَادَّةٌ، تَنْطَبِقُ عَلَى الْإِنْسَانِ عِنْدَهُمْ قَوَانِينُ الطَّبِيعَةِ الَّتِي اكْتَشَفَتْهَا الْعُلُومُ كَمَا تَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ.

فَالْكَائِنُ الْإِنْسَانِيُّ عِنْدَهُمْ لَا مِيزَةَ فِيهِ، هُوَ مِثْلُ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، بَلْ هُوَ مِثْلُ الْحِجَارَةِ، مِثْلُ الْجَمَادِ، تَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا الْإِنْسَانِ قَوَانِينُ الطَّبِيعَةِ الَّتِي اكْتَشَفَتْهَا الْعُلُومُ كَمَا تَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ.

وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ الْحَاجَاتِ هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ الْأَفْكَارَ، وَلَيْسَتِ الْأَفْكَارُ هِيَ الَّتِي تُحَدِّدُ الْحَاجَاتِ.

وَنَظَرِيَّاتُ مَارْكِس فِي الِاقْتِصَادِ وَالتَّفْسِيرِ الْمَادِّيِّ لِلتَّارِيخِ وَنَظَرِيَّةُ فُرُويِد -وَهِيَ نَظَرِيَّةٌ جِنْسِيَّةٌ مَحْضَةٌ- فِي عِلْمِ النَّفْسِ، وَنَظَرِيَّةُ دَارْوِن فِي أَصْلِ الْأَنْوَاعِ، وَنَظَرِيَّةُ دُورْكَايِم فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ أَهَمِّ أُسُسِ الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ.

وَجَمِيعُ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ مِمَّا أَثْبَتَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا حَدْسٌ وَخَيَالَاتٌ وَأَوْهَامٌ شَخْصِيَّةٌ، وَلَا صِلَةَ لَهَا بِالْعِلْمِ.

وَالْبَحْثُ وَالْوَاقِعُ يَكْشِفَانِ أَنَّ مُعْظَمَ الْمُفَكِّرِينَ الَّذِينَ أَعْلَنُوا إِلْحَادَهُمْ لَمْ يَتَمَتَّعُوا بِصِفَةِ الْإِلْحَادِ المُوجَبِ؛ أَيْ: أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَنِدُوا إِلَى أُسُسٍ عِلْمِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هُمْ مُلْحِدُونَ إِلْحَادًا سَلْبِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُبْدُونَ فَقَطْ عَدَمَ قَنَاعَتِهِمْ بِأَدِلَّةِ وُجُودِ اللهِ -تَعَالَى-.

وَفِي هَذَا يَقُولُ أَحَدُ الْفَلَاسِفَةِ الْفَرَنْسِيِّينَ، وَهُوَ (مُورِيس بْلُونْدِيل): ((لَيْسَ هُنَاكَ مُلْحِدُونَ بِمَعْنَى الْكَلِمَةِ)).

وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنْ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِإِثْبَاتِ خَالِقٍ لِلْكَوْنِ؛ لَكِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ تَخَلَّى عَنْهُ أَوْ فَنِيَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ وَتَرَكَهُ يَسِيرُ بِنَفْسِهِ -تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-.

((الْقَوَاسِمُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمَلَاحِدَةِ الْعَرَبِ))

الْقَوَاسِمُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمَلَاحِدَةِ الْعَرَبِ هِيَ: إِنْكَارُهُمْ لِلْغَيْبِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَصْرُهُمُ الْإِيمَانَ بِحُدُودِ الْمَلْمُوسِ وَالْمَحْسُوسِ فَقَطْ دُونَ مَا غَابَ عَنِ الْعَيْنِ أَوْ مَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ بِالْحِسِّ.

وَمِنَ الْقَوَاسِمِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ: اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ جَمِيعِهَا، وَوَصْفُهُمْ لِلْمُتَمَسِّكِينَ بِالشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ بِالرَّجْعِيِّينَ وَالْمُتَخَلِّفِينَ، وَمُحَارَبَةُ أَيِّ دَعْوَةٍ تَدْعُو إِلَى التَّدَيُّنِ أَوْ صَبْغِ الْحَيَاةِ بِمَظَاهِرِ الدِّينِ.

وَمِنَ الْقَوَاسِمِ بَيْنَهُمْ: مَيْلُهُمْ نَحْوَ احْتِقَارِ الْعَرَبِ، وَهِيَ الشُّعُوبِيَّةُ الَّتِي -مَرَّ ذِكْرُهَا-، وَكَانَ عَلَيْهَا أَوَائِلُ الدُّعَاةِ إِلَى الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ وَالْإِسْلَامِيِّ، فَهُمْ يَمِيلُونَ نَحْوَ احْتِقَارِ الْعَرَبِ، وَاحْتِقَارِ عَادَاتِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ، وَيَمْدَحُونَ الشُّعُوبِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ، بَلْ مِنْهُمْ دُعَاةٌ لِلصُّهْيُونِيَّةِ؛ كَمَا كَانَ الْقَصِيمِيُّ، فَإِنَّهُ كَانَ دَاعِيَةً مِنْ دُعَاةِ الصُّهْيُونِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ هُمْ يَدْعُونَ لِلتَّغْرِيبِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا احْتَقَرُوا الْجِنْسَ الْعَرَبِيَّ وَاحْتَقَرُوا الْعُرُوبَةَ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ احْتِقَارَ الدِّينِ، وَإِذَا احْتَقَرُوا اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَأَيَّ شَيْءٍ يُقَدِّرُونَ؟!

هُمْ يَدْعُونَ لِلتَّغْرِيبِ وَالِالْتِحَاقِ بِالْغَرْبِ، وَالْأَخْذِ بِجَمِيعِ ثَقَافَاتِهِمْ وَأُمُورِهِمُ الْحَيَاتِيَّةِ، وَالتَّعَلُّمِ مِنْهُمْ وَمِنْ سُلُوكِيَّاتِهِمْ، حَتَّى إِنَّ مِنْ غُلَاةِ الدَّاعِينَ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ طه حُسَيْن كَمَا فِي ((مُسْتَقْبَلُ الثَّقَافَةِ فِي مِصْرَ))، وَهُوَ الْآنَ يُعَادُ طَبْعُهُ وَيُنْشَرُ نَشْرًا مُوَسَّعًا، وَالرَّجُلُ يُقَرِّرُ فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا مِنْ أَجْلِ أَنْ نَلْحَقَ بِالرَّكْبِ الْعَالَمِيِّ فِي التَّقَدُّمِ وَالتِّقْنِيَةِ أَنْ نَتَخَلَّى عَنْ كُلِّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَأَنْ نَأْخُذَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ حَتَّى تَكُونَ فَضَلَاتُنَا كَفَضَلَاتِهِمْ!

وَهُمْ يَشُنُّونَ الْحَرْبَ الشَّرِسَةَ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ الْحَمِيدَةِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثَابِتٌ مُطْلَقًا، فَكُلُّ الْأُمُورِ نِسْبِيَّةٌ؛ الدِّينُ نِسْبِيٌّ يَتَغَيَّرُ وَيَتَطَوَّرُ وَيَرْتَقِي النَّاسُ فِيهِ، وَالشَّرَفُ كَذَلِكَ نِسْبِيٌّ، فَمَا كَانَ يُقَاتِلُ الْمَرْءُ عَنْهُ وَدُونَهُ فِي الْقَدِيمِ صَارَ شَيْئًا مَبْذُولًا لَا تَهْتَزُّ شَعْرَةٌ فِي مَفْرِقِ أَحَدٍ إِذَا مَا اعْتُدِيَ عَلَى عِرْضِهِ، وَإِذَا مَا دُنِّسَ فَرَاشُهُ، فَذَلِكَ عِنْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ.

فَهَؤُلَاءِ شَنُّوا الْحَرْبَ الشَّرِسَةَ عَلَى الْعَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثَابِتٌ مُطْلَقًا، وَأَنَّ الْحَيَاةَ وَالْأَخْلَاقَ وَالْعَادَاتِ فِي تَطَوُّرٍ مُسْتَمِرٍّ، وَأَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شَأْنِ الْغَوْغَائِينَ وَالْمُتَخَلِّفِينَ وَالرَّجْعِيِّينَ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَتَطَوَّرُ وَتَرْتَقِي، وَكَذَلِكَ الْأَدْيَانُ تَتَطَوَّرُ وَتَرْتَقِي، وَبِالتَّالِي الْمُثُلُ وَالْقِيَمُ تَتَطَوَّرُ وَتَرْتَقِي.

فَمَا كَانَ يَتَمَسَّكُ بِهِ النَّاسُ قَدِيمًا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ، يَنْبَغِي أَنْ يُطَلَّقَ أَلْبَتَّةَ، وَأَلَّا يَلْتَفِتَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَيُعَظِّمُونَ الْمَادَّةَ وَالطَّبِيعَةَ، وَيُعَظِّمُونَ جَمِيعَ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ أَسَاسَ كُلِّ الْحَضَارَاتِ بِافْتِعَالِ الصِّرَاعِ الْمَزْعُومِ بَيْنَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ الْمَادِّيِّ التَّطْبِيقِيِّ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي الْغَرْبِ لَمَّا تَحَجَّرَتِ الْكَنِيسَةُ عَلَى مُعْتَقَدَاتِهَا الْبَالِيَةِ، وَحَارَبَتِ الْعِلْمَ التَّطْبِيقِيَّ الْمَادِّيَّ بِحَقَائِقِهِ الثَّابِتَةِ، فَلَمَّا وَقَعَ الصِّدَامُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِسَبَبِ تَعَنُّتِ وَجَهْلِ الْكَنِيسَةِ الْغَرْبِيَّةِ تَمَّ الْفَصْلُ بَيْنَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ، هَذَا وَقَعَ فِي الْغَرْبِ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَمُدُّوا ذَيْلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَتَسَلَّلُوا لَمَّا ذَهَبَتِ الْبِعْثَاتُ إِلَى تِلْكَ الدِّيَارِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْقُلَ لَا الْعَادَاتِ، وَلَا الْأَخْلَاقَ، وَلَا التَّقَالِيدَ، وَإِنَّمَا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْقُلَ مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ التَّقَدُّمِ التِّقْنِيِّ، وَمِنَ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ، فَمَا عَادُوا إِلَّا بِنَقْلِ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ كَمَا فَعَلَ الطَّهْطَاوِيُّ وَغَيْرُهُ عِنْدَمَا كَانَ شَيْخًا مُرَافِقًا لِلْبِعْثَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُفْتِيَهُمْ فِي دِيَارِ الْغُرْبَةِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ.

فَلَمَّا رَأَى الْمَسَارِحَ الْفَرَنْسِيَّةَ، وَأَبْصَرَتْ عَيْنَاهُ النِّسَاءَ الْفَرَنْسِيَّاتِ وَقَدْ تَهَتَّكْنَ وَتَبَذَّلْنَ وَتَعَرَّيْنَ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْجَنُوبِ فِي مِصْرَ، وَالْمَرْأَةُ فِيهِ فِي غَايَةِ الْمُحَافَظَةِ، فَلَمَّا انْتَقَلَ هَذِهِ النَّقْلَةَ عَادَ مَبْهُورًا بِالَّذِي رَأَى يَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ بِـ((تَخْلِيصِ الْإِبْرِيزِ فِي أَحْوَالِ أَوْ فِي شُؤُونِ بَارِيزَ))، أَوْ كَمَا سَمَّاهُ.

وَالتَّنْوِيرِيُّونَ الْآنَ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَبْعَثُونَ هَذِهِ الْكُتُبَ مِنْ كُهُوفِهَا وَقُبُورِهَا، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَقْرَأَهَا النَّاشِئَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمَّا وَجَدُوا أَنَّ النَّاشِئَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَقْبَلُوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الدِّينِ، وَعَلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّعَالِيمِ، فَجَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ بِهَذِهِ الْأَفْكَارِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْرِفُوا النَّاسَ عَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ.

الْمُلْحِدُونَ الْمَادِّيُّونَ فِي الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْقَوَاسِمِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ: أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ مِنْ مُحَارَبَةِ الِاحْتِلَالِ، يَقِفُونَ دَائِمًا ضِدَّ مُقَاوَمَةِ الِاحْتِلَالِ، يَدْعُونَ إِلَى الرِّضَا بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا جَاؤُوا لِتَنْوِيرِنَا وَإِخْرَاجِنَا مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَهُمْ، كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمْلَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ عَلَى مِصْرَ، وَمَا زَالُوا إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا يَحْتَفِلُونَ بِذِكْرَى الِاحْتِلَالِ الْفَرَنْسِيِّ لِمِصْرَ عَلَى أَنَّهُ بِدَايَةُ التَّنْوِيرِ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ، وَفِي الْوَاقِعِ الْمُعَاصِرِ لِلْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لِلشَّرْقِ بِأَجْمَعِهِ، وَهَذَا مَحْضُ الْوَهْمِ.

وَإِنَّمَا جَاءَتِ الْحَمْلَةُ الْفَرَنْسِيَّةُ لِوَأْدِ النَّهْضَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي مِصْرَ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْعَرَبِيِّ، وَكَانَتْ هَذِهِ النَّهْضَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى وَشَكِ أَنْ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا، وَأَنْ تَقُومَ عَلَى سُوقِهَا وَتَسْتَوِيَ عَلَيْهِ، فَجَاءَتِ الْحَمْلَةُ الْفَرَنْسِيَّةُ مِنْ أَجْلِ وَأْدِ هَذَا.

وَمِنَ الْقَوَاسِمِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ مَلَاحِدَةِ الْعَرَبِ: تَعَاوُنُهُمُ الْوَثِيقُ مَعَ الصُّهْيُونِيَّةِ وَالْمَاسُونِيَّةِ، وَمَدْحُهُمُ اللَّامَحْدُودُ لِلْيَهُودِ وَلِلصَّهَايِنَةِ، وَهَذِهِ سِمَةٌ غَالِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُرْتَدِّينَ؛ لِأَنَّ الْمُلْحِدَ فِي الْحَقِّ مُشْرِكٌ، وَقَدْ يُسْتَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَلَاحِدَةَ الْمُعَاصِرِينَ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ لَمَّا أَنْكَرُوا وُجُودَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ ذَهَبُوا إِلَى نَظَرِيَّاتٍ يُفَسِّرُونَ فِيهَا الْخَلْقَ، وَيَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى سَبَبِ الْوُجُودِ.

فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الطَّبِيعَةُ! فَجَعَلَهَا إِلَهًا مَعْبُودًا، فَهَذَا مُشْرِكٌ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَأَمَّا الْمُلْحِدُ فَهُوَ الَّذِي لَا يُثْبِتُ خَالِقًا فِي الْأَصْلِ؛ فَيُنْكِرُ وُجُودَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ سَبَبٌ مَا قَدْ أَدَّى إِلَى خَلْقِ الْخَلْقِ وَإِيجَادِ الْوُجُودِ.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ، فَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ.

يَدَّعِي الْمَلَاحِدَةُ أَنَّ الدِّينَ سَبَبٌ لِلتَّنَاحُرِ وَنَشْرِ الْبَغْضَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إِشْعَالِ وَإِذْكَاءِ نَارِ الْحُرُوبِ فِي الْكَثِيرِ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ لِتَرْكِهِ وَالتَّخَلِّي عَنْهُ.

هَؤُلَاءِ الْكَذَبَةُ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْمَادِّيِّينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الدِّينَ سَبَبٌ لِلتَّنَاحُرِ وَنَشْرِ الْبَغْضَاءِ فِي الْأَرْضِ! وَهَلْ قَامَتِ الْحَرْبُ الْعَالَمِيَّةُ الْأُولَى وَالْحَرْبُ الْعَالَمِيَّةُ الثَّانِيَةُ لِأَسْبَابٍ دِينِيَّةٍ؟!

أَلَمْ تَقُمِ الْحَرْبُ الْعَالَمِيَّةُ الْأُولَى وَكَذَا الْحَرْبُ الثَّانِيَةُ بِأَسْبَابٍ عِلْمِيَّةٍ، بِأَسْبَابٍ تِقْنِيَّةٍ؟!

لَمْ تَقُمْ بِأَسْبَابٍ دِينِيَّةٍ.

فَهَؤُلَاءِ الْكَذَبَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الدِّينَ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاحُرِ وَنَشْرِ الْبَغْضَاءِ فِي الْأَرْضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَخَلَّى عَنْهُ!

هَذِهِ هِيَ فِكْرَةُ الْمَاسُونِيَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ تَحْتَ لِوَائِهَا كُلَّ مُنْحَرِفٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مَهْمَا كَانَ دِينُهُ.

فَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْآنَ نُنَاقِشُ هَذِهِ الْأُمُورَ، ثُمَّ إِذَا مَا اسْتَمَرَّ مَرِيرُهُ مَعَ الْمَاسُونِ صَارَ بَعْدَ حِينٍ مُلْحِدًا بِلَا دِينٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّى مَعَ الْوَقْتِ بِسَبَبِ التَّعَايُشِ السِّلْمِيِّ بَيْنَ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْمُتَضَادَّةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ حِينٍ يَتَخَلَّى عَنْ دِينِهِ حَتَّى يَصِيرَ مَاسُونِيًّا مُلْحِدًا.

((انْتِشَارُ الْإِلْحَادِ فِي أُورُبَّا وَالْعَالَمِ))

انْتَشَرَ الْإِلْحَادُ أَوَّلًا فِي أُورُوبَّا، وَكَانَتْ لَهُ أَسْبَابُهُ.

انْتَقَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِلْحَادُ إِلَى أَمِيرِكَا، وَمِنْ أُورُوبَّا وَأَمِيرِكَا إِلَى سَائِرِ بِقَاعِ الْعَالَمِ.

عِنْدَمَا حَكَمَتِ الشُّيُوعِيَّةُ فِيمَا كَانَ يُعْرَفُ بِالِاتِّحَادِ السُّوفْيِتِيِّ قَبْلَ انْهِيَارِهِ وَتَفَكُّكِهِ، فَرَضَتِ الْإِلْحَادَ فَرْضًا عَلَى شُعُوبِهِ، وَأَنْشَأَتْ لَهُ مَدَارِسَ وَجَمْعِيَّاتٍ، وَكَانُوا يُحَارِبُونَ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ خَاصَّةً.

فَإِنَّ الدُّوَلَ الَّتِي وَقَعَتْ تَحْتَ الْحُكْمِ الشُّيُوعِيِّ كَانَ أَفْرَادُهَا يُؤْمَرُونَ -بَلْ يُجْبَرُونَ- عَلَى تَغْيِيرِ أَسْمَائِهِمْ، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا ضُبِطَ تَالِيًا لِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أُعْدِمَ بِأَبْشَعِ صُوَرِ الْإِعْدَامِ، وَكَانَ التَّفْتِيشُ لَا يَفْتُرُ أَبَدًا فِي الْبُيُوتِ، بِالنَّظَرِ إِلَى مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدُّوَلَ كَانَتْ دُوَلًا إِسْلَامِيَّةً، فَلَمَّا جَاءَتِ الشُّيُوعِيَّةُ عَلَى يَدَيْ مَارْكِس وَمَنْ تَبِعَهُ، ثُمَّ انْتَشَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، احْتَلَّتِ الدُّوَلَ الْإِسْلَامِيَّةَ الَّتِي تُجَاوِرُ رُوسْيَا الشُّيُوعِيَّةَ، وَهِيَ دُوَلٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَأَهْلُهَا كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لَهُمْ مَوَاقِفُ صِدْقٍ فِي نُصْرَةِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَبَسَطُوا النُّفُوذَ عَلَيْهِمْ، وَاحْتَلُّوا دِيَارَهُمْ، وَأَدْخَلُوهَا فِيمَا سُمِّيَ بِالِاتِّحَادِ السُّوفْيِتِيِّ الشُّيُوعِيِّ، وَفَرَضُوا الشُّيُوعِيَّةَ عَلَيْهِمْ فَرْضًا، فَنَقَلُوهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الشُّيُوعِيَّةِ، هَذِهِ نَقْلَةً لَا تَقْبَلُهَا الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ، أَمِنَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْحَقِّ إِلَى سَوَاءِ الْبَاطِلِ؟!

فَفَرَضُوا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَكَانُوا فِي جُمْلَتِهِمْ فِي الْبِدَايَةِ يُقَاوِمُونَ بَعْضَ الْمُقَاوَمَةِ السَّلْبِيَّةِ، يُعَلِّمُونَ أَبْنَاءَهُمْ فِي الْخَفَاءِ مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَعْرِفُونَهُ مِنْ دِينِ اللهِ، وَرُبَّمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَالِكًا لِنُسْخَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَيُخْفِيهَا بِحَيْثُ إِذَا مَا وَجَدَ غَفْلَةً مِنَ السُّلُطَاتِ انْتَحَى نَاحِيَةً فِي خَفَاءٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتْلُوَ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، إِذَا ضُبِطَ عِنْدَهُ وَرَقَةٌ مِنَ الْمُصْحَفِ أُعْدِمَ، بَلْ وَأُعْدِمَ أَهْلُهُ، حَتَّى أَجْبَرُوهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ أَسْمَائِهِمْ حَتَّى تَصِيرَ كَأَسْمَاءِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ.

فَلَمَّا جَاءَ هَذَا الِاتِّحَادُ بِهَذَا الْبَلَاءِ أُنْشِئَتْ لِلْإِلْحَادِ وَلِلشُّيُوعِيَّةِ فِي تِلْكَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَدَارِسُ وَجَمْعِيَّاتٌ، حَاوَلَتِ الشُّيُوعِيَّةُ نَشْرَ الْإِلْحَادِ فِي شَتَّى أَنْحَاءِ الْعَالَمِ عَنْ طَرِيقِ أَحْزَابِهَا، وَسُقُوطُ الشُّيُوعِيَّةِ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ يُنْبِئُ عَنْ قُرْبِ سُقُوطِ الْإِلْحَادِ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ لَمْ يَجِدْ عَلَى مَدَارِ تَارِيخِ الْبَشَرِ فِي الْأَرْضِ سُلْطَةً تَنْشُرُهُ بِالسَّيْفِ، تَفْرِضُهُ بِالْقُوَّةِ، بِالْقُوَّةِ الْمُفْرِطَةِ مَعَ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْمَسْكَنَةِ، لَمْ يَحْدُثْ ذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ إِلَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ لَمَّا نَشَأَ الِاتِّحَادُ السُّوفيِتِّيِّ، وَنَشَرَ الْإِلْحَادَ فِي الدُّوَلِ الَّتِي احْتَلَّهَا بِالسَّيْفِ وَبِالسِّلَاحِ.

وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ سَقَطَ وَانْهَارَ عَادُوا إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَلَمَّسُ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي الْجُمْلَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ هَذَا التَّهَرُّءِ الْأَخْلَاقِيِّ، بَلْ مِنَ الِانْعِدَامِ الْأَخْلَاقِيِّ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مِنَ الْجَهْلِ الْمَحْضِ بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَتَجْهِيلِ الْخَلْقِ بِهِ إِلَى مُحَاوَلَةِ مَعْرِفَةِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ.

وَمَسْؤُولِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَالَمِ قَائِمَةٌ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ مِنْ أَجْلِ تَعْلِيمِهِمْ دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ بَيْنَهُمْ.

يُوجَدُ الْآنَ فِي الْهِنْدِ جَمْعِيَّةٌ تُسَمَّى (جَمْعِيَّةَ النَّشْرِ الْإِلْحَادِيَّةَ)، هَذِهِ الْجَمْعِيَّةُ حَدِيثَةُ التَّكْوِينِ، وَتُرَكِّزُ نَشَاطَهَا فِي الْمَنَاطِقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَيَرْأَسُهَا جُوزِيف إِدْيَا مَارْك، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا مِنْ خُطَبَاءِ التَّنْصِيرِ، وَمُعَلِّمًا فِي إِحْدَى مَدَارِسِ الْأَحَدِ، وَعُضْوًا فِي اللَّجْنَةِ الْمَرْكَزِيَّةِ لِلْحِزْبِ الشُّيُوعِيِّ، أَلَّفَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينً وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1953م) كِتَابًا يُدْعَى «إِنَّمَا عِيسَى بَشَرٌ»، فَغَضِبَتْ عَلَيْهِ الْكَنِيسَةُ وَطَرَدَتْهُ، فَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ هِنْدُوكِيَّةٍ وَبَدَأَ نَشَاطَهُ الْإِلْحَادِيَّ، وَأَصْدَرَ مَجَلَّةً إِلْحَادِيَّةً بِاسْمِ إِسْكَا؛ أَيْ شَرَارَةِ النَّارِ، وَلَمَّا تَوَقَّفَتْ عَمِلَ مُرَاسِلًا لِمَجَلَّةِ كِيرَالَا شبِيتْم؛ أَيْ صَوْتِ كِيرَالَا الْأُسْبُوعِيَّةِ، وَقَدْ نَالَ جَائِزَةَ الْإِلْحَادِ الْعَالَمِيَّةِ -الْإِلْحَادُ صَارَتْ لَهُ جَوَائِزُ عَالَمِيَّةٌ!- سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَتِسْعِ مِائَةٍ وَأَلْفٍ (1978م)، وَيُعْتَبَرُ أَوَّلَ مَنْ نَالَهَا مِنْ آسِيَا.

((الْإِلْحَادُ الْمُعَاصِرُ فِي الْغَرْبِ))

وَلَمْ يَلْقَ إِنْكَارُ الْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ- قَدِيمًا رَوَاجًا بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ أَحَدُ مُؤَرِّخِي الْإِغْرِيقِ وَهُوَ (بْلُوتَارْخ): ((لَقَدْ وُجِدَتْ فِي التَّارِيخِ مُدُنٌ بِلَا حُصُونٍ، وَمُدُنٌ بِلَا قُصُورٍ، وَمُدُنٌ بِلَا مَدَارِسَ؛ وَلَكِنْ لَمْ تُوجَدْ أَبَدًا مُدُنٌ بِلَا مَعَابِدَ)).

وَأَمَّا فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْأَمْرَ اخْتَلَفَ؛ فَمُنْذُ نِهَايَاتِ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ، وَبِدَايَاتِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ، وَمَعَ التَّطَوُّرِ الْعِلْمِيِّ وَالتِّقْنِيِّ الَّذِي شَهِدَهُ الْغَرْبُ بَدَأَتْ بَوَادِرُ تَيَّارَاتٍ أَعْلَنَتْ نَفْيَ وُجُودِ الْخَالِقِ -سُبْحَانَهُ-.

وَهَذَا الْعَصْرُ كَانَ عَصْرَ (مَارْكِس) وَ(دَارْوِين) وَ(نِيتْشَه) وَ(فْرُويِد) الَّذِينَ قَامُوا بِتَحْلِيلِ الظَّوَاهِرِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالنَّفْسِيَّةِ، وَالِاقْتِصَادِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ بِطَرِيقٍ لَيْسَ لِاعْتِقَادِ الْخَالِقِ فِيهَا أَثَرٌ.

وَهَكَذَا بَدَأَ الْإِلْحَادُ الْمُعَاصِرُ فِي الْغَرْبِ، وَهَكَذَا انْتَشَرَ سَرِيعًا حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى هَذِهِ السَّنَوَاتِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي بَدَأَ فِيهَا بَرِيقُ الْإِلْحَادِ يَتَوَهَّجُ بَعْدَ فَتْرَةِ رُكُودٍ أَعْقَبَتْ سُقُوطَ الدَّوْلَةِ الرَّاعِيَةِ لِلْإِلْحَادِ الدَّاعِمَةِ لَهُ، وَهِيَ (الِاتِّحَادُ السُّوفْيِتِيُّ).

وَوَفْقًا لِلْإِحْصَاءَاتِ فَإِنَّ انْتِشَارَ الْإِلْحَادِ فِي الْعَالَمِ يَتَنَامَى بِصُورَةٍ خَطِيرَةٍ.

((الْإِلْحَادُ الْمُعَاصِرُ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ))

وَالْمُتَتَبِّعُ لِلتَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ يَجِدُ حَالَاتٍ فَرْدِيَّةً وَشَاذَّةً لِأُنَاسٍ ارْتَدُّوا إِلَى الْإِلْحَادِ، مِنْ أَشْهَرِ أُولَئِكَ (ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ) الْمُلْحِدُ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا، ثُمَّ أَعْلَنَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ تَهَوَّدَ، ثُمَّ أَلْحَدَ.

أَمَّا الْإِلْحَادُ فِي ثَوْبِهِ الْمُعَاصِرِ؛ فَإِنَّهُ دَخَلَ إِلَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ مَدْعُومًا مِنَ الِاسْتِعْمَارِ، وَمُغَطًّى بِغِطَاءِ التَّغْرِيبِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى التَّحَرُّرِ وَالْعَقْلَانِيَّةِ وَالتَّنْوِيرِ بِدَايَةً، وَالْإِلْحَادِ وَإِنْكَارِ وُجُودِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- نِهَايَةً.

وَقَدْ حَفَلَ التَّارِيخُ الْمُعَاصِرُ بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ حَجَزَتْ لِنَفْسِهَا مَكَانًا فِي سِجِلِّ الْإِلْحَادِ الْمُظْلِمِ مِنَ الدَّاعِينَ الْمُتَحَمِّسِينَ لَهُ، وَمِنَ الْمُقَعِّدِينَ وَالْمُؤَصِّلِينَ لِأُصُولِهِ.

وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا يَغْفُلُ عَنْ أَنَّ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ حَتْمًا سَيَتَأَثَّرُ بِالْمَدِّ الْإِلْحَادِيِّ الْغَرْبِيِّ؛ نَظَرًا لِهَذَا التَّقَارُبِ الْكَبِيرِ، وَالتَّوَاصُلِ الْوَاسِعِ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ.

((خَطَرُ الْإِلْحَادِ عَلَى مِصْرَ))

يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْإِلْحَادَ مَذْهَبٌ فَلْسَفِيٌّ يَقُومُ عَلَى إِنْكَارِ وُجُودِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَيَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْكَوْنَ بِلَا خَالِقٍ، مَذْهَبٌ فَلْسَفِيٌّ عِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ مِنَ الْمُفَكِّرِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْأُدَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ مِنَ الْعَوَامِّ وَالْجُهَلَاءِ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ، فَإِلْحَادُهُمْ لَيْسَ إِلْحَادًا فَلْسَفِيًّا، إِنَّمَا هُوَ إِلْحَادُ بَطْنٍ وَفَرْجٍ، مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ، وَمِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ الْمَلَذَّاتِ.

يُعَدُّ أَتْبَاعُ الْعَقْلَانِيَّةِ الْمُؤَسِّسِينَ الْحَقِيقِيِّينَ لِلْإِلْحَادِ الَّذِي يُنْكِرُ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ، وَيَرَى أَنَّ الْمَادَّةَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ اسْمُهُ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الْعِلْمُ فِي زَعْمِ الْمُلْحِدِينَ الَّذِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ -أَيْضًا- بِأَيَّةِ مَفَاهِيمَ أَخْلَاقِيَّةٍ.

لِأَنَّ الَّذِي يُؤَسِّسُ الْمَفَاهِيمَ الْأَخْلَاقِيَّةَ هُوَ الدِّينُ، هُوَ الْوَحْيُ، فَإِذَا أَنْكَرُوهُ، وَإِذَا أَنْكَرُوا وُجُودَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَأَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ وَالْوَحْيَ، وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَخْلَاقَ، وَتَصِيرُ الْحَيَاةُ مَادِّيَّةً مَحْضَةً، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَتَسَفَّلُ حَتَّى يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الْبَهَائِمِ، لَا يَعْتَرِفُونَ بِقِيَمِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَلَا بِفِكْرَةِ الرُّوحِ.

وَلِذَا فَإِنَّ التَّارِيخَ عِنْدَ الْمُلْحِدِينَ هُوَ صُورَةٌ لِلْجَرَائِمِ وَالْحَمَاقَاتِ وَخَيْبَةِ الْأَمَلِ، وَقِصَّةُ التَّارِيخِ عِنْدَهُمْ لَا تَعْنِي شَيْئًا، وَالْإِنْسَانُ مُجَرَّدُ مَادَّةٍ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ الْقَوَانِينُ الطَّبِيعِيَّةُ كَافَّةً.

وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَهُ الشَّابُّ الْمُسْلِمُ عِنْدَمَا يُطَالِعُ أَوْ يَسْمَعُ أَفْكَارَ هَذَا الْمَذْهَبِ الْخَبِيثِ.

وَهُوَ الْآنَ يَجِدُ مُؤَسَّسَاتٍ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَجَلَّاتٍ، وَجَمْعِيَّاتٍ، وَجَوَائِزَ لِلْحَضِّ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَهُوَ يُزَيَّنُ لِلشَّبَابِ الْمُسْلِمِ، بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَهَافَتُوا عَلَيْهِ تَهَافُتَ الْفَرَاشِ عَلَى النَّارِ.

وَقَدْ وَصَلُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةٍ مَا، حَتَّى ظَهَرَ فِي مِصْرَ فِي هَذِهِ الْآوِنَةِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ مَنْ يَخْرُجُ لِلْمُنَاظَرَةِ عَلَى شَاشَاتِ التِّلْفَاز، فَيُنَاظِرُ عَنْ مَذْهَبِهِ الْإِلْحَادِيِّ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِلْحَادِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.

وَأَيْضًا، ظَهَرَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ فِي مِصْرَ مَنْ طَالَبَ اللَّجْنَةَ الَّتِي كَانَتْ تُعِدُّ مَشْرُوعَ الدُّسْتُورِ الْمِصْرِيِّ، مَنْ طَالَبَ اللَّجْنَةَ بِإِقْرَارِ حُقُوقِ الْمَلَاحِدَةِ فِي الدُّسْتُورِ الْمِصْرِيِّ الْجَدِيدِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ لِلِاجْتِمَاعِ بِرَئِيسِ تِلْكَ اللَّجْنَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ -وَعَلَى اللَّجْنَةِ تَبَعًا- مَطَالِبَ الْمَلَاحِدَةِ فِي مِصْرَ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا إِنَّمَا هُوَ قِمَّةُ جَبَلِ الثَّلْجِ، وَجَبَلُ الثَّلْجِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- لَا يَظْهَرُ مِنْهُ إِلَّا قِمَّتُهُ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَاعِدَةِ جَبَلِ الْجَلِيدِ الَّذِي يَكُونُ مَطْمُورًا أَوْ مَغْمُورًا تَحْتَ سَطْحِ الْمَاءِ، هَذِهِ الْقِمَّةُ لَا شَيْءَ بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ جَبَلِ الْجَلِيدِ.

فَالَّذِي يَظْهَرُ الْآنَ إِنَّمَا هُوَ قِمَّةُ جَبَلِ الْجَلِيدِ فِي هَذَا الْإِلْحَادِ الْمُعَاصِرِ، وَمَا خَفِيَ كَانَ أَعْظَمَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

كَثِيرٌ جِدًّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُحَاوِلُونَ، كُلٌّ بِطَرِيقَتِهِ، وَكُلٌّ فِي تَخَصُّصِهِ، يُحَاوِلُونَ صَدَّ الْهَجْمَةِ الْإِلْحَادِيَّةِ، فَيَكْتُبُونَ الْكُتُبَ، وَيَنْشُرُونَ النَّشْرَاتِ، وَيُبَيِّنُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمُحَاضَرَاتِ وَفِي الْخُطَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ خُطُورَةَ الْإِلْحَادِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى خُطُورَةِ الْإِلْحَادِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا جَمْعٌ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الدِّينِ.

فَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَوْمٌ فَارِغَةٌ عُقُولُهُمْ، غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ حَمَاقَاتُهُمْ، يَشْغَلُونَ الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ، وَيُشَتِّتُونَهُمْ، وَيُفَرِّقُونَ صَفَّهُمْ، وَيَدْعُونَ إِلَى إِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالْفَسَادِ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ، وَهِيَ أَفْضَلُ بِيئَةٍ لِلْإِلْحَادِ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يُحْدِثَ الْفَوْضَى، فَإِذَا وَقَعَتِ الْفَوْضَى فَهَذِهِ هِيَ الْبِيئَةُ الْمُنَاسِبَةُ لِلْإِلْحَادِ.

لِذَلِكَ لَمْ يُسْمَعْ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا فِي وَقْتٍ سَبَقَ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِلْحَادِ فِي مِصْرَ إِلَّا لَمَّا وَقَعَتْ الِاضْطِرَابَاتُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، وَوَقَعَ مِنَ الْفَوْضَى فِي مِصْرَ مَا وَقَعَ، وَظَهَرَ الْإِلْحَادُ بِرَأْسِهِ، وَأَطَلَّ عَلَى هَذَا الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ بِوَجْهِهِ الْكَالِحِ الْقَبِيحِ، وَارْتَفَعَ صَوْتُ الْإِلْحَادِ يَدْعُو إِلَى تَقْرِيرِ حُقُوقِهِ لَا بِالْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا بِقُوَّةِ الْقَانُونِ، يُرِيدُونَ أَنْ يَفْرِضُوا لِأَنْفُسِهِمْ فُرُوضًا فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ بِقُوَّةِ الْقَانُونِ.

مَا الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى هَذَا؟!

مَا الَّذِي أَفْسَحَ لَهُمُ الْمَجَالَ؟!

وَمَنْ أَفْسَحَ لَهُمُ الْمَجَالَ؟!

مَا وَقَعَ فِي مِصْرَ مِنْ هَذِهِ الِاضْطِرَابَاتِ وَهَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي إِنَّمَا كَانَتْ فِي مُعْظَمِهَا بِاسْمِ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَانْظُرْ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ صَارَتْ؟! مِنَ النَّقِيضِ إِلَى النَّقِيضِ، مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَطْبِيقِ الشَّرِيعَةِ وَالِالْتِزَامِ بِهَا، وَإِقَامَةِ دِينِ اللهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِقَامَةِ وَإِعَادَةِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْفَارِغَةِ، إِلَى ظُهُورِ الْإِلْحَادِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.

وَأَمَّا مَا دُونَ الْإِلْحَادِ فَحَدِّثْ عَنِ انْتِشَارِهِ وَفُشُوِّهِ بِلَا حَرَجٍ؛ مِنَ انْحِلَالِ الْأَخْلَاقِ، وَمِنَ انْهِيَارِ الْمَنْظُومَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَفِي مِصْرَ عَلَى وَجْهِ التَّحْدِيدِ، فَإِنَّكَ مَا عُدْتَ تَجِدُ صَغِيرًا يَحْتَرِمُ كَبِيرًا، وَلَا كَبِيرًا يَحْنُو عَلَى صَغِيرٍ، وَمَا وَجَدْتَ أَحَدًا يَنْظُرُ إِلَى فَضِيلَةٍ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

وَصَارَ الْبَنَاتُ وَالنِّسَاءُ يَتَهَافَتْنَ عَلَى أُمُورٍ فِيهَا مِنَ الِانْحِلَالِ مَا فِيهَا بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ، أَلَمْ تَقُمْ ثَوْرَتُهُمْ مِنْ أَجْلِ الْحُرِّيَّةِ؟! فَهَذِهِ هِيَ الْحُرِّيَّةُ فِي جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهَا، وَاللَّهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَؤُولُ الْأُمُورُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

((نَقْضُ الْإِلْحَادِ وَالْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ))

فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُثْبِتَ خَطَأَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي يُقَرِّرُ أَنَّ اللهَ مَوْجُودٌ، كَمَا أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُثْبِتَ صِحَّةَ الْفِكْرَةِ الَّتِي تَقُولُ: إِنَّ اللهَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

وَقَدْ يُنْكِرُ مُنْكِرٌ وُجُودَ اللهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَيِّدَ إِنْكَارَهُ بِدَلِيلٍ، وَأَحْيَانًا يَشُكُّ الْإِنْسَانُ فِي وُجُودِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا بُدَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَنِدَ شَكُّهُ إِلَى أَسَاسٍ فِكْرِيٍّ، وَلَكِنْ لَمْ يُقْرَأْ وَلَمْ يُسْمَعْ فِي تَارِيخِ الْإِنْسَانِيَّةِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَاحِدٌ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ اللهِ -تَعَالَى-، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُقْرَأُ وَيُسْمَعُ فِيهِ أَدِلَّةٌ لَا تُحْصَى عَلَى وُجُودِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَضْلًا عَمَّا يَلْمَسُهُ كُلُّ امْرِئٍ بِنَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ مَا يَتْرُكُهُ الْإِيمَانُ مِنْ حَلَاوَةٍ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يُخَلِّفُهُ الْإِلْحَادُ مِنْ مَرَارَةٍ فِي نُفُوسِ الْمُلْحِدِينَ.

إِنَّ مُعْظَمَ الْمُلْحِدِينَ وَالْمَارِقِينَ مِنَ الْأَدْيَانِ يَنْظُرُونَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- كَمَا لَوْ كَانَ بَشَرًا يُمْكِنُ التَّعَامُلُ مَعَهُ تَعَامُلَ الْأَنْدَادِ، فَيَقُولُونَ -مَثَلًا-: سَوْفَ أَعْتَقِدُ بِوُجُودِ اللهِ إِذَا شَفَانِي مِنْ مَرَضِي، أَوْ إِذَا نَزَلَ الْمَطَرُ، أَوْ إِذَا قَضَى حَاجَتِي، أَوْ إِذَا أَوْقَفَ الْفَيَضَانَ، أَوْ إِذَا مَحَا الشَّرَّ وَالظُّلْمَ مِنَ الْكَوْنِ، إِلَى آخِرِ ذَلِكَ!

وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانَ هُنَالِكَ إِلَهٌ عَادِلٌ مَا أَصَابَنِي وَجَعٌ فِي أَسْنَانِي، وَمَعْنَى ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى يَقُولُ: أُؤمِنُ بِاللهِ إِذَا بَنَى الْكَوْنَ أَوْ عَدْلَهُ تَبَعًا لِخُطَّتِي الْخَاصَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى الْأَنَانِيَّةِ، وَتَبَعًا لِصَالِحِي الشَّخْصِيِّ.

إِنَّهُ لَا مَنَاصَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى اللهِ، وَلِكَيْ يُفَكِّرَ الْإِنْسَانُ فِيهِ تَفْكِيرًا مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا حُيُودَ عَنْهُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّرَ عَقْلَهُ مِنَ الْأَنَانِيَةِ، وَمِنَ الْأَحْقَادِ، وَمِنْ كُلِّ مَا يُعَوِّقُ التَّفْكِيرَ الصَّافِيَ السَّلِيمَ؛ حَتَّى يَتَسَنَّى لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَى اللهِ وَيُحِبَّهُ، وَبِذَلِكَ يُسْهِمُ فِي مُحَارَبَةِ الشُّرُورِ وَالظُّلْمِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنْهُ مَنْ يَشُكُّونَ فِي أَمْرِهِ وَوُجُودِهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَلَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ -تَعَالَى- أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْإِنْسَانُ عَقْلَهُ وَإِرَادَتَهُ فِي اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ اللَّازِمَةِ لِمُحَارَبَةِ هَذِهِ الشُّرُورِ؛ حَتَّى يَصِيرَ حُكْمُ اللهِ فِي الْأَرْضِ مِثْلَ حُكْمِهِ فِي السَّمَاءِ.

إِنَّ فُرُوعَ الْعِلْمِ كَافَّةً تُثْبِتُ أَنَّ هُنَالِكَ نِظَامًا مُعْجِزًا يَسُودُ هَذَا الْكَوْنَ، أَسَاسُهُ الْقَوَانِينُ وَالسُّنَنُ الثَّابِتَةُ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، وَالَّتِي يَعْمَلُ الْعُلَمَاءُ جَاهِدِينَ عَلَى كَشْفِهَا وَالْإِحَاطَةِ بِهَا، وَقَدْ بَلَغَتْ كُشُوفُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الدِّقَّةِ قَدْرًا مَكَّنَهُمْ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الظَّوَاهِرِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِمِئَاتِ السِّنِينَ.

فَمَنِ الَّذِي سَنَّ هَذِهِ الْقَوَانِينَ، وَأَوْدَعَهَا كُلَّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْوُجُودِ؛ بَلْ فِي كُلِّ مَا هُوَ دُونَ الذَّرَّةِ عِنْدَ نَشْأَتِهَا الْأُولَى؟!!

وَمَنِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ ذَلِكَ النَّظِامَ وَالتَّوَافُقَ وَالِانْسِجَامَ؟!!

وَمَنِ الَّذِي صَمَّمَ فَأَبْدَعَ، وَقَدَّرَ فَأَحْسَنَ التَّقْدِيرَ؟!!

هَلْ خُلِقَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟!!

إِنَّ النِّظَامَ وَالْقَانُونَ وَذَلِكَ الْإِبْدَاعَ الَّذِي نَلْمَسُهُ فِي الْكَوْنِ حَيْثُمَا اتَّجَهَتْ أَبْصَارُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَقْدِيرِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

وَفِي الْبَيَانِ الْإِلَهِيِّ الْخَاتَمِ مِنْ وَحْيِ اللهِ -تَعَالَى- إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ بَاهِرَةٌ، وَدَلَالَةٌ دَامِغَةٌ قَاهِرَةٌ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ الْحَكِيمِ، وَنَفْيٌ لِلْمُصَادَفَةِ فِي خَلْقِ الْكَوْنِ الْبَدِيعِ.

قَالَ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].

فَهَلْ أَوْجَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ، وَمَنَحُوا أَنْفُسَهُمْ -فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمُ- الْوُجُودَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ؟!!

وَهَلْ فَاقِدُ الشَّيْءِ يُعْطِيهِ؟!!

فَبَطَلَ أَنْ يَكُونُوا خَالِقِينَ؛ فَهَلْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فَخَلَقَتْهُمُ الْمُصَادَفَةُ، وَمَنَحَتْهُمُ الْوُجُودَ؟!!

لَقَدْ قَالَتْ رُسُلُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأَقْوَامِهِمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10].

كَيْفَ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- أَظْهَرُ الْحَقَائِقِ وَأَجْلَاهَا، الَّذِي وُجُودُ الْأَشْيَاءِ مُسْتَنِدٌ إِلَى وُجُودِهِ، فَهُوَ الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَهُوَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ، هُوَ الدَّلِيلُ بِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ أَطْلُبُ الدَّلِيلَ عَلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟!! فَأَيُّ دَلِيلٍ طَلَبْتُهُ عَلَيْهِ فَوُجُودُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ.

فَسُبْحَانَ مَنْ شَهِدَتْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ الْمَخْلُوقَاتُ، وَخَشَعَتْ لِعَظَمَتِهِ الْكَائِنَاتُ، وَافْتَقَرَتْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْبَرِيَّاتِ، فَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَهُوَ يُحْيِيهَا وَيُمِيتُهَا، وَيُعْدِمُهَا وَيُبْقِيهَا، وَيَحْفَظُهَا وَيُدَبِّرُهَا، وَيُصَرِّفُهَا وَيُسَخِّرُهَا؛ فَمِنْهُ الْإِيجَادُ وَمِنْهُ الْإِمْدَادُ، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [طه: 50]؛ فَبَأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ؟!!

أَفِي اللهِ شَكٌّ؟!!

هُوَ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْحَدَ.

وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ   =     إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيل

فَوُجُودُهُ -سُبْحَانَهُ- وَرُبُوبِيَّتُهُ وَقُدْرَتُهُ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَهُوَ أَظْهَرُ لِلْبَصَائِرِ مِنَ الشَّمْسِ لِلْأَبْصَارِ، وَأَبْيَنُ لِلْعُقُولِ مِنْ كُلِّ مَا تَعْقِلُهُ وَتُقِرُّ بِوُجُودِهِ؛ فَمَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ وَعَقْلُهُ وَفِطْرَتُهُ كُلُّهَا تُكَذِّبُهُ فِي إِنْكَارِهِ؛ أَفِي اللهِ شَكٌّ؟!!

إِنَّمَا يَكُونُ الشَّكُّ فِيمَا تَخْفَى أَدِلَّتُهُ وَتُشْكِلُ بَرَاهِينُهُ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَحْسُوسٍ أَوْ مَعْقُولٍ آيَةٌ؛ بَلْ آيَاتٌ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ فِيهِ شَكٌّ؟!!

فَلَيْسَ فِي طُرُقِ الْعُلُومِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْبَشَرُ أَكْثَرُ وَلَا أَدَلُّ وَلَا أَبْيَنُ وَلَا أَوْضَحُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

إِنَّ كُلَّ مَا تَرَاهُ بِعَيْنِكَ أَوْ تَسْمَعُهُ بِأُذُنِكَ أَوْ تَعْقِلُهُ بِقَلْبِكَ، كُلُّ مَا نَادَتْهُ حَاسَّةٌ مِنْكَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

إِذَنْ؛ طُرُقُ الْعِلْمِ بِالْخَالِقِ -عَزَّ وَجَلَّ- ضَرُورِيَّةٌ، لَيْسَ فِيهَا أَدْنَى شَكٍّ؛ وَلِذَا قَالَتِ الرُّسُلُ لِأُمَمَهِمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10].

فَخَاطَبُوهُمْ مُخَاطَبَةَ مَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْطُرَ لَهُ الشَّكُّ فِي وُجُودِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ بَلْ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَكَمَالِهِ فِي صِفَاتِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَلْنَنْظُرْ فِي إِثْبَاتِ وُجُودِ الْبَارِي -جَلَّ وَعَلَا- بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لِيُدْفَعَ بِذَلِكَ فِي وُجُوهِ الْمُلْحِدِينَ.

وَأَمَّا مَنْ كَانَ ذَا فِطْرَةٍ سَوِيَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ.

وُجُودُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-:

الْكَائِنَاتُ مُمْكِنَةٌ، فَنَحْنُ نَرَى فِي الْكَوْنِ أَمَامَنَا أَشْيَاءَ تُوجَدُ وَتُعْدَمُ، وَنَاسٌ يُولَدُونَ، وَآخَرُونَ يَمُوتُونَ، وَنَبَاتَاتٌ وَحَيَوَانَاتٌ تُوجَدُ، وَأُخْرَى تُعْدَمُ، إِلَى آخِرِ ذَلِكَ.

هَذِهِ الْكَائِنَاتُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَحِيلِ، أَوْ مِنْ قِسْمِ الْوَاجِبِ، أَوْ مِنْ قِسْمِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِسْمَ وَرَاءَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ.

لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَائِنَاتُ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَحِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ مَا عَدَمُهُ لِذَاتِهِ، وَلَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ أَبَدًا، وَهَذِهِ الْكَائِنَاتُ نَرَاهَا تُوجَدُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً.

وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَائِنَاتُ مِنْ قِسْمِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا وُجُودُهُ لِذَاتِهِ، وَلَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ أَصْلًا، وَهَذِهِ الْكَائِنَاتُ يَلْحَقُهَا الْعَدَمُ؛ إِمَّا قَبْلَ وُجُودِهَا، أَوْ بَعْدَ وُجُودِهَا تَصِيرُ إِلَى الْعَدَمِ.

إِذَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَائِنَاتُ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَحِيلِ أَوْ مِنْ قِسْمِ الْوَاجِبِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ قِسْمِ الْمُمْكِنِ؛ إِذْ لَيْسَ هُنَالِكَ قِسْمٌ آخَرُ سِوَاهُ.

فَهَذِهِ الْكَائِنَاتُ إِذَنْ مُمْكِنَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَقْبَلُ الْوُجُودَ تَارَةً، وَتَقْبَلُ الْعَدَمَ تَارَةً أُخْرَى.

فَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ضَرُورَةً.

وَهَذَا الْمُمْكِنُ -أَعْنِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ- مَوْجُودٌ قَطْعًا، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْكَائِنَاتُ مُمْكِنَةً، وَنَحْنُ نُحِسُّ بِوُجُودِهَا ثُمَّ عَدَمِهَا إِحْسَاسًا ظَاهِرًا، كَانَ حُكْمُنَا عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ حُكْمًا بَدِيهِيًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ تَوْجِيهِ الْإِحْسَاسِ إِلَى الْكَوْنِ مِنْ حَوْلِنَا، بَلْ إِلَى أَنْفُسِنَا ذَاتِهَا.

إِذَنْ، هَذِهِ الْكَائِنَاتُ -كَمَا مَرَّ- مِنْ قِسْمِ الْمُمْكِنِ، وَهَذِهِ الْكَائِنَاتُ الْمُمْكِنَةُ مَوْجُودَةٌ لَا يُمَارِي فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، بَلْ لَا نَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لِإِثْبَاتِ وُجُودِ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ -أَيْ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ-، بَلْ يَكْفِي أَنْ نُوَجِّهَ الْإِحْسَاسَ إِلَى الْكَوْنِ مِنْ حَوْلِنَا -بَلْ إِلَى أَنْفُسِنَا ذَاتِهَا- لِنُثْبِتَ أَنَّ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ أَوْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ مَوْجُودَةٌ قَطْعًا.

فَالْمُمْكِنُ مَوْجُودٌ قَطْعًا، وُجُودُ الْمُمْكِنِ يَقْتَضِي بِالضَّرُورَةِ وُجُودَ الْوَاجِبِ، فَجُمْلَةُ الْكَائِنَاتِ الْمَوْجُودَةِ مُمْكِنَةٌ قَطْعًا، وَكُلُّ مُمْكِنٍ مَوْجُودٌ مُحْتَاجٌ إِلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ يُعْطِيهِ الْوُجُودَ، وَذَلِكَ السَّبَبُ هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ.

مَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟

الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَجُمْلَةُ الْكَائِنَاتِ الْمُمْكِنَةِ إِذَنْ مُحْتَاجَةٌ إِلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ يُوجِدُهَا، وَذَلِكَ السَّبَبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ أَوْ جُزْءَهَا أَوْ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّكَ تَجِدُ الْمُلْحِدِينَ لَا يُمَارُونَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ احْتَاجَتْ إِلَى سَبَبٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وُجِدَتْ بِالصُّدْفَةِ!

أَوْجَدَتْهَا الطَّبِيعَةُ!

أَوْجَدَتْ نَفْسَهَا!

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مَرْدُودَةٌ عَقْلًا.

فَإِذَنْ، جُمْلَةُ الْكَائِنَاتِ الْمُمْكِنَةِ تَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ يُوجِدُهَا، ذَلِكَ السَّبَبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ أَوْ جُزْءَهَا أَوْ غَيْرَهَا.

لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتُ سَبَبَ وُجُودِهَا، إِذْ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوُجُودِ؛ أَيْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَائِنَاتُ مَوْجُودَةً بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا لِلْمُسَبَّبِ كَمَا مَرَّ، فَإِنَّ الَّذِي أَوْجَدَ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى وُجُودِ هَذَا الْمُمْكِنِ، وَقَدْ مَرَّ إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِالطَّرِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ.

فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوُجُودُ سَبَبَ وُجُودِ نَفْسِهِ؛ أَيْ أَنَّ هَذَا الْكَوْنَ هُوَ الَّذِي أَعْطَى نَفْسَهُ الْوُجُودَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوُجُودِ؛ أَيْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَائِنَاتُ مَوْجُودَةً بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ بِاعْتِبَارِهَا مُسَبَّبَةً، وَفِي هَذَا اجْتِمَاعٌ لِلنَّقِيضَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُمَا الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ، وَالتَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ، فَبَطَلَ هَذَا.

وَلَا يَصِحُّ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جُزْءُ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ، أَنْ يَكُونَ جُزْءُ هَذَا الْوُجُودِ السَّبَبَ فِي وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ إِنْ فُرِضَ أَنَّهُ أَوَّلُ جُزْءٍ وُجِدَ مِنْ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا فِي وُجُودِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِهِ جُزْءًا مِنْ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ الَّتِي هُوَ سَبَبٌ فِي وُجُودِهَا جَمِيعًا، وَكَوْنُ الشَّيْءِ سَبَبًا فِي وُجُودِ نَفْسِهِ مُحَالٌ كَمَا مَرَّ.

كَذَلِكَ إِذَا فُرِضَ أَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ لَيْسَ هُوَ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ بِأَنْ كَانَ الْجُزْءَ الْعَاشِرَ أَوِ الْعِشْرِينَ مَثَلًا؛ أَيِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي أَوَّلِ زَمَنٍ وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتُ، بَلْ وُجِدَ فِي زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ السَّبَبَ فِي وُجُودِ جُمْلَةِ الْكَائِنَاتِ؛ إِذْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ وَلِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَقَدْ مَرَّ بُطْلَانُ كَوْنِ الشَّيْءِ عِلَّةً فِي نَفْسِهِ.

وَأَمَّا بُطْلَانُ كَوْنِهِ عِلَّةً لِمَا سَبَقَ فَلِأَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ -كَمَا مَرَّ- لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْوُجُودَ، فَلَا يُوجَدُ بَعْدَهُ أَبَدًا، وَإِلَّا فَإِنَّ الشَّيْءَ لَوْ وُجِدَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهِ لَمَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ السَّبَبِ، وَعَدَمُ حَاجَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ بَاطِلٌ كَمَا مَرَّ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ أَوْ جُزْءَهَا لَيْسَتْ سَبَبًا فِي وُجُودِهَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا غَيْرَهَا، وَذَلِكَ الْغَيْرُ: إِمَّا مُسْتَحِيلٌ، أَوْ وَاجِبٌ.

الْمُسْتَحِيلُ مَعْدُومٌ، وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ مَصْدَرًا لِلْوُجُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ وَاجِبَ الْوُجُودِ.

فَهَذِهِ الْكَائِنَاتُ الْمَوْجُودَةُ إِذَنْ لَهَا مُوجِدٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ هُوَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

هَذَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ، وَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ.

الدَّلِيلُ الثَّانِي: هَذِهِ الْمُمْكِنَاتُ الْمَوْجُودَةُ -سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَنَاهِيَةً فِي الْعَدَدِ أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ- قَائِمَةٌ بِوُجُودٍ؛ أَيْ: أَنَّ تَحَقُّقَهَا فِي الْخَارِجِ إِنَّمَا كَانَ لِمَا ثَبَتَ لَهَا مِنْ مَعْنَى الْوُجُودِ، وَإِلَّا لَمَا وُجِدَتْ، وَوُجُودُ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ فِي الْخَارِجِ إِنَّمَا كَانَ لِمَا ثَبَتَ لَهَا مِنْ مَعْنَى الْوُجُودِ، ذَلِكَ الْوُجُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ مَعْنَى الْإِمْكَانِ الْقَائِمِ بِالْمُمْكِنَاتِ وَهُوَ تَسَاوِي وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا، وَمَاهِيَّاتِ تِلْكَ الْمُمْكِنَاتِ وَحَقَائِقِهَا بِاعْتِبَارِهَا أُمُورًا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ.

وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِمَا سَبَقَ فِي أَحْكَامِ الْمُمْكِنِ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْمَاهِيَّاتِ الْمُمْكِنَةِ بِمُقْتَضٍ لِلْوُجُودِ اقْتِضَاءً ضَرُورِيًّا بِحَيْثُ يَجِبُ وُجُودُهُ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ مُمْكِنًا؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ مَا اسْتَوَى فِي حَقِّهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُ الْوُجُودِ فِي تِلْكَ الْمُمْكِنَاتِ سِوَاهَا، وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ ضَرُورَةً.

لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: نَعَمْ، سَبَبُ وَمَصْدَرُ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ سِوَاهَا، وَلَكِنَّهُ الْمُسْتَحِيلُ.

فَيُقَالُ: إِنَّ الْمُسْتَحِيلَ مَعْدُومٌ، وَعَدَمُهُ لِذَاتِهِ، فَكَيْفَ يُعْطِي الْوُجُودَ لِهَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ؟!

إِذَنْ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُوجِدُهَا وَاجِبَ الْوُجُودِ ضَرُورَةً؛ يَعْنِي وُجُودُهُ لَيْسَ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَهَذَا الْوَاجِبُ -كَمَا يَقُولُونَ- لَهُ أَحْكَامٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ تَعْرِيفُهُ بِأَنَّهُ مَا كَانَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ؛ أَيْ مَا تَقْتَضِي ذَاتُهُ الْوُجُودَ دَائِمًا بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ أَصْلًا، فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ.

بِنَاءً عَلَى تَعْرِيفِهِ ثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْأَوَّلِيَّةُ، فَمِنْ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ:

أَنَّهُ أَوَّلٌ أَزَلِيٌّ، وَالْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَلَمْ يُسْبَقْ وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سُبِقَ وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ لَكَانَ مُمْكِنًا، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يُعْطِيهِ الْوُجُودَ، وَيَكُونُ هُنَالِكَ مَنْ أَوْجَدَهُ بَعْدَ الْعَدَمِ.

إِذَنْ، مِنْ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ أَوَّلٌ أَزَلِيٌّ، وَالْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَلَمْ يُسْبَقْ وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ.

يُقَابِلُ الْأَوَّلَ الْحَادِثُ، هُوَ الَّذِي لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ يَكُونُ مَسْبُوقًا فِيهِ بِالْعَدَمِ.

هَذَا حَادِثٌ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ.

الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ أَوَّلٌ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَوَّلًا لَكَانَ حَادِثًا، وَفِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ اسْتِخْدَامٌ لِلْقَدِيمِ بَدَلَ الْأَوَّلِ، فَيَقُولُونَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ قَدِيمٌ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا لَكَانَ حَادِثًا.

وَلَكِنْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ.

وَقَدْ مَرَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقَدِيمِ وَإِنْ كَانَ فَاشِيًا عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ مَنْ كَتَبَ فِي الْعَقِيدَةِ كَالسَّفَّارِينِيِّ وَغَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّهُ انْتُقِضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ قَدِيمٍ إِلَّا وَهُوَ حَادِثٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ أَوْ لِمَنْ هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ، فَالْعُرْجُونُ الْقَدِيمُ هُوَ قَدِيمٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُرْجُونِ الْحَادِثِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْعُرْجُونَ الْقَدِيمَ هُوَ حَادِثٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُرْجُونِ الَّذِي هُوَ أَقْدَمُ مِنْهُ.

فَاسْتِعْمَالُ الْقَدِيمِ اسْتِعْمَالٌ حَادِثٌ؛ يَعْنِي لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ لَا الْقُرْآنُ وَلَا السُّنَّةُ وَلَا السَّلَفُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الْعَقِيدَةِ عِنْدَمَا ظَهَرَ عِلْمُ الْكَلَامِ، فَاسْتَخْدَمَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى فِي تَقْرِيرِ الْعَقَائِدِ كَمَا مَرَّ ذِكْرُ ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَّارِينِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَلَكِنْ مِنْ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ أَوَّلٌ أَزَلِيٌّ، وَالْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ وَلَمْ يُسْبَقْ وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ، وَيُقَابِلُهُ الْحَادِثُ، وَهُوَ الَّذِي لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ وَيَكُونُ مَسْبُوقًا فِيهِ بِالْعَدَمِ.

الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ أَوَّلٌ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَوَّلًا لَكَانَ حَادِثًا، وَالْحَادِثُ هُوَ مَا سُبِقَ وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ أَوَّلًا لَكَانَ وُجُودُهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ.

وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا كَانَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ؛ بِمَعْنَى أَنَّ ذَاتَهُ تَقْتَضِي الْوُجُودَ دَائِمًا بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ الْعَدَمَ أَصْلًا، فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا ثُمَّ وُجِدَ، فَكَيْفَ يَكُونُ وَاجِبًا؟!

فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ أَوَّلًا لَكَانَ وُجُودُهُ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا سُبِقَ وُجُودُهُ بِالْعَدَمِ يَحْتَاجُ إِلَى عِلَّةِ تَعْطِيهِ ِالْوُجُودَ، وَإِلَّا لَزِمَ رُجْحَانُ الْمَرْجُوحُ، وَهُوَ الْوُجُودُ عَلَى الْعَدَمِ بِلَا سَبَبٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.

فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ أَوَّلًا لَكَانَ مُحْتَاجًا فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا كَانَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ الْوَاجِبُ وَاجِبًا عَلَى ذَلِكَ الْفَرْضِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ مُحَالٌ.

إِذَنْ، هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُخْتَصَرَ هَذَا الدَّلِيلُ هَكَذَا:

إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَوَّلًا لَكَانَ حَادِثًا مَسْبُوقًا فِي وُجُودِهِ بِالْعَدَمِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ، فَذَاتُهُ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ دَائِمًا وَلَا تَقْبَلُ الْعَدَمَ أَصْلًا، وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا.

فَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ الَّذِي أَوْجَدَ الْوُجُودَ وَأَعْطَاهُ وُجُودَهُ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ وَوُجُودُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَنْ يُعْطِيهِ الْوُجُودَ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ الْوُجُودَ وَأَنْ يُنْشِئَ وَيُوجِدَ شَيْئًا مِنَ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُعْطِيهِ وُجُودَهُ، فَأَعْطَاهُ الْوُجُودَ بَدْءًا، وَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى هَذَا الَّذِي أَوْجَدَهُ فِي اسْتِمْرَارِ وُجُودِهِ كَمَا مَرَّ فِي أَحْكَامِ الْمُمْكِنِ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا، بَلْ يَكُونُ مُمْكِنًا مُحْتَاجًا إِلَى مَنْ يُوجِدُهُ.

إِذَنْ، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَعْطَى الْوُجُودَ وُجُودَهُ كَالْوُجُودِ فِي أَحْكَامِهِ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ كَمَا مَرَّ، وَلَا يَكُونُ لِأَوَّلِهِ بَدْءٌ، بَلْ هُوَ أَوَّلٌ لَا بَدْءَ لَهُ، كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِيَّةُ.

وَكَذَلِكَ الْبَقَاءُ، فَمِنْ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ: الْبَقَاءُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا آخِرَ لِوُجُودِهِ وَلَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَهُ الْعَدَمُ مِنْ بَعْدِ الْوُجُودِ لَكَانَ مُمْكِنًا، وَالْمُمْكِنُ مَا يَسْتَوِي فِي حَقِّهِ الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا كَانَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ؛ أَيْ أَنَّ ذَاتَهُ تَقْتَضِي الْوُجُودَ دَائِمًا بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ الْعَدَمَ أَصْلًا، فَإِذَا مَا صَارَ هَذَا الْوَاجِبُ إِلَى الْعَدَمِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا.

إِذَنْ، مِنْ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ: الْأَوَّلِيَّةُ، وَكَذَلِكَ: الْبَقَاءُ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا آخِرَ لِوُجُودِهِ وَلَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا بِلَا آخِرٍ لِوُجُودِهِ لَلَحِقَهُ الْعَدَمُ، وَالْعَدَمُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ كَمَا مَرَّ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ الْوَاجِبِ لَا يُفَارِقُهَا.

فَلَوْ عُدِمَ الْوَاجِبُ لَسُلِبَ لَازِمُ الْمَاهِيَّةِ عَنْهَا؛ أَيْ لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ مَوْجُودًا، وَالْوَاجِبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنَاقُضًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ بَاقِيًا لَمَا كَانَ وَاجِبًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ لِلْوَاجِبِ الْبَقَاءُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ لَهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ لِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، لَيْسَ مِنْ غَيْرِهِ.

الَّذِي وُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ الْمُمْكِنُ.

الْمُسْتَحِيلُ لَا وُجُودَ لَهُ، الْعَدَمُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ.

وَأَمَّا الْمُمْكِنُ فَهُوَ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ الْعَدَمِ، فَوُجُودُهُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الْعَدَمِ مِنْ بَعْدِ الْوُجُودِ، فَإِذَا شَاءَ مَنْ أَوْجَدَهُ أَنْ يُفْنِيَهُ فَنِيَ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي وُجُودِهِ عَلَى مَنْ يُعْطِيهِ الْوُجُودَ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي يَكُونُ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ ذَاتُهُ الْعَدَمَ أَصْلًا.

فَثَبَتَ -إِذَنْ- لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حَتَّى بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَأَنْتَ لَا تَرَى هَاهُنَا نَصًّا لَا مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّكَ عِنْدَمَا تُوَاجِهُ الْمُلْحِدِينَ هُمْ أَصْلًا يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ، وَيُنْكِرُونَ الْوَحْيَ، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، وَيُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ نَعْتَمِدُ عَلَى الْحِسِّ، أَوْ نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَقْلِ.

فَإِذَا مَا أَتَيْتَ لَهُمْ بِالنَّقْلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ، مَعَ أَنَّ النَّقْلَ أَثْبَتَ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى هِيَ أَوْضَحُ وَأَجْلَى وَأَدَقُّ وَأَحْسَنُ وَأَسْمَى مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ مُخَاطِبًا أُولَئِكَ الْقَوْمَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].

فَهَذَا هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَكِنْ هُمْ لَا يَقْبَلُونَ النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُنْكِرُونَ الرَّسُولَ وَالرِّسَالَةَ، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ.

أَنْتَ إِذَا قُلْتَ -مَثَلًا-: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مُفَكِّرًا لَمَا كَانَ إِنْسَانًا، فَالتَّفْكِيرُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ أَيْ مِنْ لَوَازِمِ مَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ، فَلَوْ سُلِبَ عَنِ الذَّاتِ هَذَا اللَّازِمُ لَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا.

هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يَسْلُكُهَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- أَحْيَانًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَادِّيِّينَ أَوِ الدَّهْرِيِّينَ أَوِ الْمُلْحِدِينَ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا بِفَضْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي إِلْزَامِهِمُ الْحُجَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْخَالِقِ.

عِنْدَنَا الْآنَ أَمْرٌ مُهِمٌّ: إِذَا سَأَلَكَ سَائِلٌ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْإِيمَانِ كَيْفَ تَكَوَّنَتْ وَتَرَكَّبَتْ وَصُنِعَتْ؟ وَمَا هِيَ الْفُرُوضُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ نَتَصَوَّرَهَا وَنَفْرِضَهَا؟

إِذَا سَأَلَكَ عَنْ هَذَا، فَإِنَّمَا سَأَلَكَ كَمَا سَأَلَ الْقُرْآنُ عَمَّا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَشْيَاءَ مُرَكَّبَةٍ وَمُتَنَوِّعَةٍ، كَيْفَ يُفْرَضُ أَنْ تَكُونَ خُلِقَتْ وَتَكَوَّنَتْ بِهَذَا التَّنَوُّعِ؟

هَذِهِ الصُّوَرُ وَالْأَشْكَالُ مِنَ التَّنَوُّعَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، وَلَا سِيَّمَا الْحَيَّةُ مِنْهَا -أَيْ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ- كَالنَّبَاتَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْإِنْسَانِ خَاصَّةً، لَا الْعَقْلُ يَقُولُ إِنَّهَا قَدِيمَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا أَوَّلَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ -وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ وَمُتَغَيِّرَةٌ- أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ مُتَغَيِّرًا وَلَا يَكُونُ مُرَكَّبًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا لَاحْتَاجَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ إِلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُحْتَاجًا، وَيَقُولُونُ: الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا.

إِذَنْ، هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لَا سِيَّمَا الْحَيَّةُ مِنْهَا كَالنَّبَاتَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْإِنْسَانِ، الْعَقْلُ لَا يَقُولُ إِنَّهَا لَا أَوَّلَ لَهَا، لَا يَقُولُ إِنَّهَا قَدِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ وَمُتَغَيِّرَةٌ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً، وَلَا الْعِلْمُ يَقُولُ إِنَّهَا قَدِيمَةٌ، وَلَا الْعِلْمُ الْمَادِّيُّ يَقُولُ إِنَّهَا قَدِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ اكْتَشَفَ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ أَنَّهَا حَادِثَةٌ.

وَمَعْنَى كَوْنِهَا حَادِثَةً: أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ وَمَصْنُوعَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ كَمَا مَرَّ، كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ وُجِدَتْ، فَكُلُّ مُمْكِنٍ حَادِثٌ، فَكَيْفَ يُفْرَضُ أَنْ تَكُونَ صُنِعَتْ وَتَكَوَّنَتْ؟!

هُنَالِكَ ثَلَاثَةُ فُرُوضٍ لَا رَابِعَ لَهَا:

الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مِنْ صُنْعِ اللهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْحَادِثَةُ لَا سِيَّمَا الْحَيَّةُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ الذِّهْنُ فِيهَا إِلَى أُمُورٍ؛ لِأَنَّهَا أُعْطِيَتِ الْحَيَاةَ.

فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَنِ الَّذِي أَوْجَدَهَا؟!

وَكَيْفَ أَوْجَدَهَا؟!

وَكَيْفَ وُجِدَتْ؟!

وَكَيْفَ صُنِعَتْ؟!

عِنْدَنَا فُرُوضٌ، الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مِنْ صُنْعِ اللهِ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ صُنْعِ ذَرَّاتِ الْمَادَّةِ وَأَجْزَائِهَا وَعَنَاصِرِهَا عَنْ إِرَادَةٍ وَقَصْدٍ وَغَايَةٍ؛ أَيْ أَنَّ عَنَاصِرَ الْمَادَّةِ الْأَصْلِيَّةَ فَكَّرَتْ وَدَبَّرَتْ وَاتَّفَقَتْ عَلَى صُنْعِ تَنَوُّعَاتِ هَذَا الْعَالَمِ بِهَذِهِ الْأَشْكَالِ وَالصُّوَرِ الَّتِي تَرَاهَا!!

الثَّالِثُ مِنَ الْفُرُوضِ: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّنَوُّعَاتُ قَدْ تَكَوَّنَتْ بِطَرِيقِ الْمُصَادَفَةِ؛ أَيْ أَنَّ الذَّرَّاتِ تَلَاقَتْ وَتَجَمَّعَتْ عَلَى نِسَبٍ وَأَوْضَاعٍ مَخْصُوصَةٍ بِطَرِيقِ الْمُصَادَفَةِ، فَتَكَوَّنَتِ الْعَنَاصِرُ الْأَصْلِيَّةُ، ثُمَّ تَلَاقَتِ الْعَنَاصِرُ وَتَجَمَّعَتْ وَتَمَازَجَتْ -بِالْمُصَادَفَةِ- عَلَى نِسَبٍ صَالِحَةٍ -بِالْمُصَادَفَةِ- فِي مُدَدٍ كَافِيَةٍ -بِالْمُصَادَفَةِ- وَأَجْوَاءٍ مُلَائِمَةٍ -بِالْمُصَادَفَةِ-، فَتَكَوَّنَتْ هَذِهِ التَّنَوُّعَاتُ، وَخُلِقَتِ الْحَيَاةُ مِنْ هَذِهِ الْمُصَادَفَاتِ. هَذَا هُوَ الْفَرْضُ الثَّالِثُ.

وَلَا يُوجَدُ فَرْضٌ رَابِعٌ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ.

أَمَّا الْفَرْضُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهَا مِنْ صُنْعِ اللهِ: هَذَا مَا يَقُولُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، سَوَاءٌ كَانَ إِيمَانُهُمْ عَنْ هِدَايَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ عَنْ هِدَايَةٍ عَقْلِيَّةٍ.

كَالْمُلْحِدِ الَّذِي تَأْتِي لَهُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَيُقِرُّ بِوُجُودِهِ وَيَهْتَدِي هِدَايَةً عَقْلِيَّةً، فَهَذِهِ هِدَايَةٌ عَقْلِيَّةٌ.

وَجُمْلَةُ الْمُؤْمِنِينَ هِدَايَتُهُمْ هِدَايَةٌ قَلْبِيَّةٌ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ مَرْكُوزًا فِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذِهِ التَّنَوُّعَاتِ وَهَذَا الْكَوْنَ مِنْ صُنْعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْفَرْضُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّنَوُّعَاتُ كُلُّهَا مِنْ صُنْعِ ذَرَّاتِ الْمَادَّةِ وَأَجْزَائِهَا وَعَنَاصِرِهَا عَنْ إِرَادَةٍ وَقَصْدٍ وَغَايَةٍ، أَيْ: أَنَّ عَنَاصِرَ الْمَادَّةِ الْأَصْلِيَّةَ فَكَّرَتْ وَدَبَّرَتْ وَاتَّفَقَتْ عَلَى صُنْعِ تَنَوُّعَاتِ هَذَا الْعَالَمِ بِهَذِهِ الْأَشْكَالِ وَالصُّوَرِ الَّتِي نَرَاهَا، فَقَالَتْ: نَجْعَلُ السَّمَاءَ سَمَاءً، وَالْأَرْضَ أَرْضًا، وَالْبِحَارَ بِحَارًا، وَالْأَنَاسِيَّ، وَالْحَشَرَاتِ، وَالطُّيُورَ، وَالْحَيَوَانَاتِ.

هَذَا الْفَرْضُ الثَّانِي لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مُطْلَقًا؛ لَا الْمُؤْمِنُونَ، وَلَا الْمَادِّيُّونَ، بَلْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ لَيُنْكِرُونَ إِنْكَارًا قَاطِعًا أَنْ يَكُونَ لِعَنَاصِرِ الْمَادَّةِ إِرَادَةٌ وَقَصْدٌ وَغَايَةٌ.

إِذَنْ؛ أَصْبَحْنَا أَمَامَ فَرْضَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَنَوُّعَاتُ الْعَالَمِ مِنْ خَلْقِ اللهِ وَصُنْعِهِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ نَتِيجَةً لِلْمُصَادَفَةِ.

فَإِذَا بَطَلَ أَنَّهَا وُجِدَتْ مُصَادَفَةً لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَرْضُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِنْ صُنْعِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَكِنْ هَلِ الْمُصَادَفَةُ أَمْرٌ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا أَمْ هِيَ أَمْرٌ فِي حُدُودِ الْإِمْكَانِ؟

تَسْتَطِيعُ أَنْ تُجِيبَ بِالنَّفْيِ وَبِالْإِيجَابِ فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ فَالْمُصَادَفَةُ تَكُونُ أَحْيَانًا مُمْكِنَةً، وَتَكُونُ أَحْيَانًا فِي حُكْمِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَقْلًا، فَعَلَيْكَ إِذَنْ أَنْ تَصُوغَ هَذَا السُّؤَالَ هَكَذَا تَقُولُ: مَا هِيَ قِيمَةُ الْمُصَادَفَةِ فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ؟

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].

هَكَذَا مُصَادَفَةً، فَيُقَالُ: هَذَا الْفَرْضُ كَيْفَ؟! هَكَذَا، مَا هِيَ قِيمَةُ الْمُصَادَفَةِ فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ؟!

جَاءَ الْآنَ دَوْرُ الْإِبَرِ، خُذْ لَوْحًا مِنْ خَشَبٍ وَاغْرِزْ فِيهِ إِبْرَةً، وَضَعْ فِي ثُقْبِهَا إِبْرَةً ثَانِيَةً أُخْرَى، إِذَا رَأَى إِنْسَانٌ عَاقِلٌ هَاتَيْنِ الْإِبْرَتَيْنِ وَسَأَلَكَ: كَيْفَ أُدْخِلَتِ الثَّانِيَةُ فِي ثُقْبِ الْأُولَى؟

فَأَخْبَرَهُ إِنْسَانٌ مَعْرُوفٌ بِالصِّدْقِ أَنَّ الَّذِي أَدْخَلَهَا رَجُلٌ مَاهِرٌ قَذَفَ بِهَا مِنْ بُعْدِ عَشْرَةِ أَمْتَارٍ، فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ الْأُولَى، ثُمَّ أَخْبَرَهُ إِنْسَانٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ بِالصِّدْقِ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي أَلْقَاهَا صَبِيٌّ صَغِيرٌ وُلِدَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ أَعْمَى، فَوَقَعَتْ لَمَّا قَذَفَهَا هَذَا الصَّبِيُّ الْأَكْمَهُ، لَمَّا أَلْقَاهَا وَقَعَتِ الْإِبْرَةُ فِي الثُّقْبِ بِطَرِيقِ الْمُصَادَفَةِ، أَيَّ الْخَبَرَيْنِ يُصَدِّقُ؟!

لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمِيلُ إِلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنَّهُ أَمَامَ صِدْقِ الْمُخْبِرَيْنَ يَرَى أَنَّ الْمُصَادَفَةَ مُمْكِنَةٌ فَلَا يَجْزِمُ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، يَقُولُ: يُمْكِنُ، هَذَا رَجُلٌ صَادِقٌ مُصَدَّقٌ عِنْدِي، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الصَّبِيَّ الْأَكْمَهَ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى أَلْقَى الْإِبْرَةَ فَوَقَعَتْ فِي ثُقْبِ الَّتِي غُرِزَتْ فِي لَوْحٍ مِنْ خَشَبٍ، فَيَقُولُ: هَذَا مُمْكِنٌ، وَلَكِنَّهُ يَمِيلُ إِلَى تَصْدِيقِ مَنْ؟!

إِلَى تَصْدِيقِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجْزِمُ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.

لَكِنْ إِذَا رَأَى هَذَا الرَّجُلُ إِبْرَةً ثَالِثَةً مَغْرُوزَةً فِي ثُقْبِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا، فَهَلْ يَبْقَى عَدَمُ التَّرْجِيحِ عَلَى حَالِهِ؟!

يَعْنِي أَخْبَرَهُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الَّذِي صَنَعَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ حَاذِقٌ فَوَضَعَ هَذِهِ فِي هَذِهِ، وَأَخْبَرَهُ الثَّانِي -وَهُوَ مُصَدَّقٌ عِنْدَهُ- بِأَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ هُوَ الصَّبِيُّ الْأَعْمَى نَفْسُهُ، فَهَلْ يَبْقَى التَّرْجِيحُ عَلَى حَالِهِ؟ كَلَّا، بَلْ يَتَقَوَّى تَرْجِيحُ الْقَصْدِ عَلَى الْمُصَادَفَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّبِيَّ إِنَّمَا يَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَفَةِ، هُوَ لَا يَرَى شَيْئًا، فَيَقَعُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَفَةِ.

وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ، فَحِينَئِذٍ أَنْتَ تُرَجِّحُ الْقَصْدَ عَلَى الْمُصَادَفَةِ، وَلَكِنْ يَبْقَى عَلَى كُلِّ حَالٍ تَرْجِيحًا ضَعِيفًا.

إِذَا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ هُنَالِكَ عَشْرَ إِبَرٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَغْرُوزَةٌ فِي ثُقْبِ الْأُخْرَى الَّتِي تَلِيهَا، فَهَلْ يَبْقَي تَرْجِيحُ فِكْرَةِ الْقَصْدِ عَلَى ضَعْفِهِ؟!

كَلَّا، بَلْ يَتَقَوَّى عِنْدَهُ تَرْجِيحُ الْقَصْدِ حَتَّى تَكَادَ فِكْرَةُ الْمُصَادَفَةِ أَنْ تَتَلَاشَى.

لَوْ جَاءَ لَهُ إِنْسَانٌ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَصْدُقُ فِيهِمْ قَوْلُ الْقُرْآنِ: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، وَأَخَذَ يُجَادِلُهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِحَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالِاسْتِحَالَةِ الْعَادِيَّةِ، وَيُبَرْهِنُ لَهُ عَلَى أَنَّ الْمُصَادَفَةَ هَاهُنَا لَيْسَتْ مُسْتَحِيلَةً لَا عَقْلًا وَلَا عَادَةً، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ أَحْيَانًا مُسْتَبْعَدَةً.

فَصَاحِبُنَا الْعَاقِلُ لَا بُدَّ أَنْ يُذْعِنَ لِكَلَامِهِ، فَهُوَ كَلَامٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنْ كَانَ التَّصَوُّرُ هَاهُنَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَمَا مَرَّ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَقَّلَ وَلَا يَتَصَوَّرَ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ نَتَعَقَّلُهَا، وَلَكِنَّ الْعَقْلَ يَكِلُّ عَنْ تَصَوُّرِهَا.

فَفَرْقٌ بَيْنَ التَّعَقُّلِ وَالتَّصَوُّرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يُذْعِنُ هَاهُنَا، الْعَقْلُ يُذْعِنُ، لَكِنَّ الْقَلْبَ يَمِيلُ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَصْدِ، وَيَقُولُ: أَمَّا هَذِهِ الْمُصَادَفَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنْ هَذَا الصَّبِيِّ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى، فَهَذِهِ مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا وَلَا عَادَةً إِلَّا أَنَّنِي أَسْتَبْعِدُهَا، فَيَسْتَبْعِدُهَا وَيَمِيلُ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَصْدِ.

وَلَكِنْ، فَلْنَتَرَقَّى فِي تَعْقِيدِ الْأُحْجِيَّةِ -أَيِ اللُّغْزِ- كَمَا مَرَّ فِي أُحْجِيَّةِ اْلوَرَقَةِ الْمُقَطَّعَةِ، وَكَيْفَ أَنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ تَقْسِمُهَا وَهِيَ وَاحِدٌ إِلَى مِئَةٍ مِنَ الْمِلِّيمِتْرٍ فِي سُمْكِهَا، وَهِيَ رَقِيقَةٌ جِدًّا، وَلَكِنْ تَجْعَلُهَا ثِنْتَيْنِ، وَتَجْعَلُ الثِّنْتَيْنِ أَرْبَعَةً، وَتَجْعَلُ الْأَرْبَعَةَ ثَمَانِيَةً، وَهَكَذَا إِلَى ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَرَّةً.

فَلَوْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: إِنَّكَ لَوْ جَعَلْتَهَا رُكَامًا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَإِنَّهَا تَبْلُغُ مِتْرًا، فَإِنَّكَ تَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ.

فَكَيْفَ لَوْ كَانَ كِيلُو مِتْرٍ؟! فَإِنَّكَ تَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ أَكْثَرَ.

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى أَنْ تَكُونَ مُلَامِسَةً لِسَطْحِ الْقَمَرِ؟!

وَقَدْ مَرَّ أَنَّكَ سَتَصْعَدُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُجَرِّبَ هَذَا بِطَرِيقَةِ الْحِسَابِ، وَسَتَجِدُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ، هَذَا بِالْحِسَابِ، وَلَكِنِ الْعَقْلُ لَا يَتَصَوَّرُهُ وَإِنْ كَانَ يَتَعَقَّلُهُ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأُحْجِيَّةِ.

الْإِبَرُ الْعَشْرُ مُرَقَّمَةٌ بِخُطُوطٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا رَقْمٌ مِنَ الْوَاحِدَةِ إِلَى الْعَشْرَةِ، وَقِيلَ لَنَا فِي الْخَبَرِ: إِنَّ الصَّبِيَّ الْأَعْمَى أُعْطِيَ كِيسًا فِيهِ هَذِهِ الْإِبَرُ الْعَشْرُ مَخْلُوطَةً مُشَوَّشَةً، وَكَانَ يَضَعُ يَدَهُ فِي الْكِيسِ يَسْتَخْرِجُ الْإِبَرَ تِبَاعًا عَلَى تَرْتِيبِ أَرْقَامِهَا مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشْرَةٍ بِطَرِيقِ الْمُصَادَفَةِ وَيُلْقِيهَا، فَتَقَعُ الْأُولَى فِي ثُقْبِ الْمَغْرُوزَةِ فِي اللَّوْحِ، وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ فِي الْأُولَى، وَالثَّالِثَةُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالرَّابِعَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَهَكَذَا حَتَّى تَمَّ إِدْخَالُ الْإِبَرِ الْعَشْرِ فِي بَعْضٍ عَلَى تَرْتِيبِ أَرْقَامِهَا، وَهِيَ مُشَوَّشَةٌ فِي كِيسِهِ، وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ كُلُّهُ بِطَرِيقِ الْمُصَادَفَةِ.

وَجَاءَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْمُجَادِلُ يُحَاوِلُ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ الْمُصَادَفَةِ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا وَغَيْرَ مُسْتَحِيلٍ عَقْلًا، فَمَاذَا يَكُونُ مَوْقِفُ صَاحِبِنَا الْعَاقِلِ مَعَ هَذَا اْلمُجَادِلِ؟!

لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَادَفَةَ بِهَذَا التَّتَابُعِ وَالتَّعَاقُبِ بَعِيدَةٌ جِدًّا جِدًّا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِيلَةً، بَلْ إِنَّهَا فِي مَجَالِ الْأَعْدَادِ الْكُبْرَى تُصْبِحُ مُسْتَحِيلَةً بَدَاهَةً، هَذِهِ الْبَدَاهَةُ تَعْتَمِدُ فِي أَعْمَاقِ الْعَقْلِ الْبَاطِنِ عَلَى قَانُونٍ عَقْلِيٍّ رِيَاضِيٍّ لَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْهُ.

قَانُونُ الْمُصَادَفَةِ يَقُولُ: إِنَّ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ مِنَ الِاعْتِبَارِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِنِسْبَةٍ مَعْكُوسَةٍ مَعَ عَدَدِ الْإِمْكَانِيَّاتِ الْمُتَكَافِئَةِ الْمُتَزَاحِمَةِ، فَكُلَّمَا قَلَّ عَدَدُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَزَاحِمَةِ ازْدَادَ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ مِنَ النَّجَاحِ، وَكُلَّمَا كَثُرَ عَدَدُهَا قَلَّ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ.

فَإِذَا كَانَ التَّزَاحُمُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ يَكُونُ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ اثْنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ التَّزَاحُمُ بَيْنَ عَشْرَةٍ يَكُونُ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ عَشْرَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ فُرْصَةٌ لِلنَّجَاحِ مُمَاثِلَةٌ لِفُرْصَةِ الْآخَرِ بِدُونِ أَقَلِّ تَفَاضُلٍ طَبْعًا.

وَإِلَى هُنَا يَكُونُ الْحَظُّ فِي النَّجَاحِ قَرِيبًا مِنَ الْمُتَزَاحِمِينَ حَتَّى لَوْ كَانُوا مِئَةً أَوْ أَلْفًا، وَلَكِنْ مَتَى تَضَخَّمَتِ النِّسْبَةُ الْعَدَدِيَّةُ تَضَخُّمًا هَائِلًا يُصْبِحُ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، بَلِ الْمُسْتَحِيلِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ لِلصَّبِيِّ الْأَعْمَى أَنْ سَحَبَ أَوَّلَ مَرَّةٍ الرَّقْمَ (1) قُلْنَا: إِنَّ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ لِلرَّقْمِ (1) تَغَلَّبَ عَلَى الْأَعْدَادِ الْأُخْرَى الْمُتَزَاحِمَةِ مَعَهُ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ إِلَى عَشْرَةٍ.

وَأَمَّا إِذَا اتَّفَقَ لَهُ أَنْ سَحَبَ الْعَدَدَيْنِ (1) ثُمَّ (2) بِالتَّتَابُعِ، قُلْنَا: إِنَّ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ لِلْعَدَدِ الثَّانِي هُوَ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ مِئَّةٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعَشْرَةِ يُزَاحِمُ لِلرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ضِدَّ عَشْرَةٍ، فَيُصْبِحُ التَّزَاحُمُ بَيْنَ مِئَةٍ.

وَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ سَحَبَ الصَّبِيُّ الْأَعْمَى الْإِبَرَ الثَّلَاثَ (1) وَ(2) وَ(3) عَلَى التَّوَالِي، قُلْنَا: إِنَّ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مِنَ الْعَشْرَةِ يُزَاحِمُ ضِدَّ مِئَةٍ، وَهَكَذَا.

فَإِذَا افْتَرَضْنَا أَنَّ الصَّبِيَّ سَحَبَ الْإِبَرَ الْعَشْرَ عَلَى تَرْتِيبِ أَرْقَامِهَا مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشْرَةٍ، فَإِنَّ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ يُصْبِحُ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ عَشْرَةِ مِلْيَارَاتٍ.

هَذِهِ أُحْجِيَّةٌ حِسَابِيَّةٌ، وَهِيَ مِثْلُ أُحْجِيَّةِ الْوَرَقَةِ الرَّقِيقَةِ الَّتِي تُقَطَّعُ ثَمَانِيَ وَأَرْبَعِينَ مَرَّةً فَيَصِلُ سُمْكُهَا إِلَى الْقَمَرِ.

جَرِّبْ هَذَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الْإِبَرِ، وَاضْرِبْ كُلَّ مَرَّةٍ حَاصِلَ الضَّرْبِ بِعَشْرَةٍ، وَسَتَجِدُ أَنَّ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ يُصْبِحُ بِنِسْبَةٍ وَاحِدٍ ضِدَّ عَشْرَةِ مِلْيَارَاتٍ، وَلَكِنْ عَلَى وُجُودِ هَذِهِ النِّسْبَةِ الْبَعِيدَةِ التَّفَاوُتِ رُبَّمَا يَتَصَوَّرُ مُتَصَوِّرٌ أَنَّ الْمُصَادَفَةَ فِي سَحْبِ هَذِهِ الْإِبَرِ الْعَشْرِ عَلَى تَرْتِيبِ أَرْقَامِهَا مُمْكِنَةٌ وَغَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ.

فَلْنَنْتَقِلْ إِلَى تَرْتِيبٍ آخَرَ فِي شَكْلٍ آخَرَ وَأَعْدَادٍ أَكْبَرَ.

لَوْ فُرِضَ أَنَّكَ تَمْلِكُ مَطْبَعَةً فِيهَا نِصْفُ مِلْيُونِ حَرْفٍ مُفَرَّقَةٌ فِي صَنَادِيقِهَا كَالْمَطَابِعِ الْيَدَوِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، كَانَتِ الْحُرُوفُ تَكُونُ فِي صُنْدُوقِهَا، فَالْآنَ أَنْتَ تَمْلِكُ مَطْبَعَةً فِيهَا نِصْفُ مِلْيُونِ حَرْفٍ مُفَرَّقَةٌ فِي صَنَادِيقِهَا، فَجَاءَتْ هَزَّةٌ أَرْضِيَّةٌ، زِلْزَالٌ، فَقُلِبَتْ صَنَادِيقُ الْحُرُوفِ عَلَى بَعْضِهَا، وَتَبَعْثَرَتْ تِلْكَ الْحُرُوفُ وَاخْتَلَطَتْ.

ثُمَّ جَاءَكَ مُنَضِّدُ الْحُرُوفِ لِيُخْبِرَكَ أَنَّهُ قَدْ تَأَلَّفَ مِنَ اخْتِلَاطِ الْحُرُوفِ بِالْمُصَادَفَةِ عَشْرُ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ غَيْرِ مُتَرَابِطَةِ الْمَعَانِي، هَلْ كُنْتَ تُصَدِّقُ؟!

قَدْ تَقُولُ: نَعَمْ أُصَدِّقُ.

فَلَوْ قَالَ لَكَ: إِنَّ الْكَلِمَاتِ الْعَشْرَةَ تُؤَلِّفُ جُمْلَةً كَامِلَةً مُفِيدَةً، هَلْ كُنْتَ تُصَدِّقُ؟!

سَتَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا اسْتَبْعَدْتَهُ فِي مِثَالِ الْإِبَرِ الْعَشْرِ، وَلَكِنْ لَنْ تَرَاهُ مُسْتَحِيلًا.

لَوْ أَخْبَرَكَ أَنَّ حُرُوفَ الْمَطْبَعَةِ بِكَامِلِهَا كَوَّنَتْ عِنْدَ اخْتِلَاطِهَا بِالْمُصَادَفَةِ كِتَابًا كَامِلًا مِنْ خَمْسِمِئَةٍ صَفْحَةٍ يَنْطَوِي عَلَى قَصِيدَةٍ وَاحِدَةٍ تُؤَلِّفُ بِمَجْمُوعِهَا وِحْدَةً كَامِلَةً مُتَرَابِطَةً مُتَلَائِمَةً مُنْسَجِمَةً بِأَلْفَاظِهَا وَأَوْزَانِهَا وَقَوَافِيهَا وَمَعَانِيهَا وَمَغَازِيهَا، فَهَلْ كُنْتَ تُصَدِّقُ ذَلِكَ؟!

أَبَدًا لَا تُصَدِّقُهُ.

فَلِمَاذَا لَا تُصَدِّقُهُ؟!

لِأَنَّكَ تَرَى الِاسْتِحَالَةَ هَاهُنَا بَدِيهِيَّةً.

لِمَاذَا؟!

لِأَنَّكَ عِنْدَمَا تَتَصَوَّرُ أَنَّ الْإِبَرَ الْعَشْرَ أُلْقِيَتْ عَلَى تَرْتِيبِ أَرْقَامِهَا بِالْمُصَادَفَةِ تَجِدُ وَجْهَ الِاسْتِحَالَةِ وَاضِحًا وَبَدِيهِيًّا، كَمَا تَجِدُهُ فِي مِثَالِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُبْعَثْرَةِ.

مَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ؟!

السَّبَبُ يَرْتَكِزُ عَلَى قَانُونِ الْمُصَادَفَةِ نَفْسِهِ، فَالتَّزَاحُمُ بَيْنَ الْإِبَرِ الْمُرَقَّمَةِ يَجْرِي بَيْنَ عَشْرِ إِبَرٍ عَلَى عَشْرَةِ تَرْتِيبَاتٍ، فَيَجْعَلُ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ إِلَى عَشْرَةِ مِلْيَارَاتٍ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ عَلَى تَفَاوُتِهَا الْكَبِيرِ لَيْسَتْ مِنَ الْعِظَمِ بِحَيْثُ تُحْدِثُ لَكَ فِي عَقْلِكَ تِلْكَ الْبَدَاهَةَ فِي إِدْرَاكِ الِاسْتِحَالَةِ.

وَلَكِنَّ التَّزَاحُمَ بَيْنَ حُرُوفِ الْكِتَابِ يَجْرِي بَيْنَ خَمْسِمِئَةِ أَلْفِ حَرْفٍ عَلَى تَكْوِينِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَمِئَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ تَقْرِيبًا بِأَشْكَالٍ وَتَرْكِيبَاتٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى أَبَدًا، وَهَذَا مَا يَجْعَلُ حَظَّ الْمُصَادَفَةِ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ عَدَدٍ هَائِلٍ جِدًّا جِدًّا لَوْ قُلْتَ عَنْهُ أَنَّهُ مِلْيَارُ مِلْيَارِ مِلْيَارِ مِلْيَارٍ لَكَانَ قَلِيلًا.

وَيَكْفِيكَ لِكَيْ تُدْرِكَ ضَخَامَةَ الْعَدَدِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْإِبَرَ لَوْ كَانَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ إِبْرَةً لَأَصْبَحَ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ أَلْفِ مِلْيَارٍ، وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِبْرَةً لَأَصْبَحَ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ ضِدَّ أَلْفِ مِلْيَارِ مِلْيَارٍ، فَتَصَوَّرْ مَاذَا تَكُونُ النِّسْبَةُ إِذَا كَانَ التَّزَاحُمُ يَجْرِي بَيْنَ خَمْسِمِئَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ بِأَشْكَالٍ وَتَرْكِيبَاتٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؟!

هَذَا فِي كِتَابِ الْمَطْبَعَةِ وَكَلِمَاتِهِ الْمَحْدُودَةِ الْمَعْدُودَةِ، فَمَا قَوْلُكَ فِي كِتَابِ اللهِ الْأَعْظَمِ فِي خَلْقِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الَّتِي يَقُولُ عَنْهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].

تَأَمَّلْ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ مِيَاهِ الْبِحَارِ وَأَشْجَارِ الْأَرْضِ، وَتَأَمَّلْ فِي كُلِّ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ ذَرَّاتٍ، وَعَنَاصِرَ، وَنُظُمٍ، وَقَوَانِينَ، وَنَوَامِيسَ، وَنِسَبٍ، وَرَوَابِطَ، وَعَلَائِقَ، وَأَقْدَارٍ، وَأَحْجَامٍ، وَأَوْزَانٍ، وَمُدَدٍ، وَأَوْقَاتٍ، وَأَزْمَانٍ، وَصُوَرٍ، وَأَشْكَالٍ، وَأَلْوَانٍ، وَحَرَكَاتٍ، وَسَكَنَاتٍ، وَأَوْضَاعٍ، وَأَجْنَاسٍ، وَأَصْنَافٍ، وَأَنْوَاعٍ!

وَتَعَالَ نَتَصَوَّرُ عَدَدَ مَا فِي الْعَالَمِ -عَالَمِ الْخَلْقِ- مِنْ شَيْءٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْمَجَرَّةِ، وَتَصَوَّرْ عَدَدَ مَا يَرْبِطُ بَيْنَهَا فِي عَالَمِ الْأَمْرِ مِنْ رَوَابِطَ وَعَلَائِقَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّوَامِيسِ، وَالْأَقْدَارِ، وَالْمُدَدِ، وَالْأَشْكَالِ، وَالْحَرَكَاتِ، وَالْأَوْضَاعِ.

ثُمَّ تَعَالَ نَدْرُسُ عَلَى ضَوْءِ وَفِي ضَوْءِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ بَعْضَ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ تَقْدِيرٍ، وَاتِّزَانٍ، وَتَنْظِيمٍ، وَتَرْتِيبٍ، وَإِحْكَامٍ، وَإِتْقَانٍ لِنَعْرِفَ مَا هُوَ حَظُّ الْمُصَادَفَةِ فِي تَكْوِينِهِ.

مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ:

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

{وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8].

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 19-21].

{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون: 18].

{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].

{مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ} [الملك: 3].

{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].

{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

هَذَا بَعْضُ كَلَامِ اللهِ الَّذِي نَزَلَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ سَلِيلِ الْقَبِيلَةِ الْأُمِّيَّةِ، وَرَبِيبِ الْبِيئَةِ الْأُمِّيَّةِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ.

فَتَعَالَ فَانْظُرْ كَمَا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بَعْضَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي ضَوْءِ الْعِلْمِ لِتَرَى هَلْ فِي خَلْقِهِ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ، وَالِاتِّزَانُ، وَالْإِتْقَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَالتَّقْوِيمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي الْآيَاتِ الَّتِي مَرَّتْ لِيُبَرْهِنَ عَلَى الْخَلْقِ الْمَقْصُودِ ضِدَّ الْمُصَادَفَةِ، وَلِتَرَى كَمْ هُوَ عَدَدُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَزَاحِمَةِ الَّتِي سَتَخْضَعُ -كَمَا مَرَّ- لِقَانُونِ الْمُصَادَفَةِ عِنْدَ الْقَوْلِ بِالْمُصَادَفَةِ.

فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُتَزَاحِمَةُ ذَرَّاتٌ، وَعَنَاصِرُ، وَأَشْكَالٌ، وَمَقَايِيسُ، وَأَوْزَانٌ، وَخَوَاصُّ، وَطَبَائِعُ، وَنَوَامِيسُ، وَأَوْضَاعٌ، وَظُرُوفٌ، وَمُدَدٌ، وَأَزْمَانٌ، وَأَجْوَاءٌ، كُلُّهَا فِي تَكْوِينِ هَذَا الْعَالَمِ، ثُمَّ تَسَاءَلْ: هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَدْ كُتِبَ لَهُ الْفَوْزُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ الشَّامِلِ الْكَامِلِ الدَّقِيقِ الْمُقَدَّرِ الْمُتَّزِنِ الْمُتْقَنِ الْجَمِيلِ بِمُجَرَّدِ الْمُصَادَفَةِ ضِدَّ عَدَدٍ هَائِلٍ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْأُخْرَى الْمُتَزَاحِمَةِ؟!

مَاذَا يَقُولُ الْعِلْمُ عَمَّا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ تَقْدِيرٍ، وَتَرْتِيبٍ، وَاتِّزَانٍ، وَإِتْقَانٍ، وَإِحْسَانٍ، وَعَمَّا فِيهِ مِنْ قَوَانِينَ وَنَوَامِيسَ؟!.

فَبَطَلَ هَذَا الْفَرْضُ وَالْقَوْلُ بِالْمُصَادَفَةِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَرْضُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَوْنُ كُلُّهُ مِنْ صُنْعِ اللهِ وَخَلْقِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ إِثْبَاتُهُ.

بِمَاذَا؟

بِقَانُونِ الْعِلْمِ نَفْسِهِ، وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعِلْمُ الْمَادِّيُّ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ بِالْوَحْيِ، وَإِنْ كَانَ الْوَحْيُ أَجْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَأَظْهَرَ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُنْصِفِ الَّذِي يَقْبَلُهُ، الَّذِي يَنْظُرُ فِي الْآيَاتِ وَيَتَأَمَّلُ فِي الْأَحَادِيثِ، وَيَنْظُرُ فِي خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَفِي آيَاتِهِ الَّتِي بَثَّهَا فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ الْمَخْلُوقِ لَهُ، ثُمَّ حِينَئِذٍ يُذْعِنُ لِمَا يَدُلُّهُ عَلَيْهِ الْعَقْلُ بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ وَالْآيَاتِ الْمَنْظُورَةِ.

لَكِنْ أَيْنَ الْإِنْصَافُ مِنَ الْمُلْحِدِ؟! وَأَيْنَ الْعَدْلُ مِنْهُ؟!

فَإِذَا كَانَ يَخْضَعُ لِقَانُونِ الْعَقْلِ، فَهَذَا قَانُونُ الْعَقْلِ كَمَا مَرَّ.

وَإِذَا كَانَ يَخْضَعُ لِقَانُونِ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ، فَهَذَا قَانُونُ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ كَمَا مَرَّ أَيْضًا.

وَإِذَا كَانَ يُكَابِرُ، فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِي الْمُكَابِرِ.

 

((مُوَاجَهَةُ فِتْنَةِ الْإِلْحَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ))

وَمَعَ كَوْنِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَظْهَرَ الْقَضَايَا وَأَوْضَحَهَا إِلَّا أَنَّهُ وُجِدَ شُذَّاذٌ مِنَ الْبَشَرِ أَنْكَرُوهَا، وَأَضْحَتْ فِتْنَتُهُمْ وَوَبَاؤُهُمْ غَزْوًا مُرَكَّزًا تِجَاهَ نَاشِئَةِ الْمُسْلِمِينَ وَشَبَابِهِمْ، يُصِيبُ عَقِيدَتَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ فِي مَقْتَلٍ؛ فَلِذَا كَانَ الْوُقُوفُ فِي وَجْهِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ النَّكْرَاءِ وَهَذَا الْإِرْهَابِ الْفِكْرِيِّ الشَّنِيعِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ دَفْعٌ لِلصَّائِلِ عَنِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا.

((مَفَاسِدُ الْإِلْحَادِ الِاجْتِمَاعِيَّةُ))

إِنَّ مِنْ طَبَائِعِ الْإِلْحَادِ: اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ، وَالِانْطِلَاقَ فِي الْإِبَاحِيَّةِ؛ فَالْمُلْحِدُ لَا يُحَافِظُ عَلَى عِرْضِ أَحَدٍ، وَلَا عَلَى مَالِهِ، وَلَا عَلَى حُرُمِهِ؛ إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَتَى مَا سَاعَدَتْهُ الْفُرْصَةُ وَظَنَّ أَنَّهُ بِمَأْمَنٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَاثَ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ فَسَادًا، غَيْرَ مُتَحَرِّجٍ مِنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِهَا.

وَقَدْ يَقَعُ انْتِهَاكُ الْأَعْرَاضِ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُلْحِدِ بِدَافِعِ الشَّهْوَةِ، أَمَّا الْمُلْحِدُ فَإِنَّهُ يَأْتِيهَا مُسْتَبِيحًا لَهَا، وَضَرَرُ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَرْتَكِبُ الْفُسُوقَ مُسْتَبِيحَةً لَهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ مَنْ يَفْعَلُهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يَأْتِي أَمْرًا مُحَرَّمًا.

وَلْنَتَخَيَّلْ أُمَّةً مُؤَلَّفَةً مِنَ الْمَلَاحِدَةِ، أَوْ كَانَتِ الْأَغْلَبِيَّةُ فِيهَا لِلْمَلَاحِدَةِ، وَنَنْظُرُ كَيْفَ تَكُونُ سِيرَتُهَا؟!!

وَمَاذَا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟!!

لَا شَكَّ أَنَّهَا تَسِيرُ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ، وَتَكُونُ عَاقِبَتُهَا السُّقُوطَ إِلَى الْحَضِيضِ؛ لِأَنَّ الْمَلَاحِدَةَ يُبِيحُونَ مُوبِقَةَ الزِّنَى وَمَا يُضَاهِيهَا مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَيُبِيحُونَ الْخُمُورَ، وَلَا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَضُمُّوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِذَا وَجَدْتَ فِي أَهْلِ الدِّينِ مَنْ لَا يَفْعَلُ فَاحِشَةً، أَوْ لَا يَعْتَدِي عَلَى حَقٍّ لَوْ أَمِنَ مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مَخْلُوقٌ؛ فَإِنَّ الْمُلْحِدَ لَا يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى إِلَّا أَنْ يَخَافَ أَلَمًا يَأْتِيهِ مِنَ النَّاسِ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ الْهَوَى.

وَإِذَا وَجَدْتَ فِي زَائِغِي الْعَقِيدَةِ مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوهِمُ النَّاسَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ تَكْفِي فِي اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ، وَالِاحْتِفَاظِ بِالْعَفَافِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رِيَاءٌ وَنِفَاقٌ.

نَعَمْ، لِلْأَخْلَاقِ أَثَرٌ فِي تَقْلِيلِ الشَّيْءِ؛ وَلَكِنَّهَا لَا تَأْتِي بِأَثَرٍ عَظِيمٍ فِي انْتِظَامِ حَالِ الِاجْتِمَاعِ إِلَّا حِينَمَا تَسِيرُ تَحْتَ مُرَاقَبَةِ عَقِيدَةٍ دِينِيَّةٍ ثَابِتَةٍ.

وَلَا سَعَادَةَ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِوَحْدَتِهَا، وَلَا وِحْدَةَ لِلْأُمَّةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةَ الْعَقِيدَةِ، سَنِيَّةَ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، فَمِنَ الْحِكْمَةِ: أَنْ رَاعَى الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْوِحْدَةَ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةٌ، وَأَخَذَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِالَّتِي هِيَ أَحْزَمُ، فَكَانَ مِنْ أَحْكَامِهِ: مَنْعُ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَرْتَكِبُوا الطَّيْشَ، وَيُعْلِنُوا إِلْحَادَهُمْ تَحْتَ رَايَتِهِ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَلَاحِدَةُ قَبْلَ الْيَوْمَ يُعْلِنُونَ إِلْحَادَهُمْ، وَمَا كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْإِلْحَادِ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَكَانَ الْإِلْحَادُ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ لَا يَتَجَاوَزُ نَفَرًا قَلِيلًا يَعْرِفُهُمُ النَّاسُ فِي لَحْنِ أَقْوَالِهِمْ، وَبِانْهِمَاكِهِمْ فِي الْفُجُورِ، وَقَضَاءِ أَوْقَاتِهِمْ فِي الْمُجُونِ.

أَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ ظَهَرَ الْإِلْحَادُ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ، وَتَجَاوَزَ الْمَجَالِسَ الْخَاصَّةَ إِلَى الصُّحُفِ وَالْمُؤَلَّفَاتِ.

((آثَارُ الْإِلْحَادِ الْمُدَمِّرَةُ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))

إِنَّ لِلْإِلْحَادِ آثَارَهُ الْوَاضِحَةَ فِي سُلُوكِ الْإِنْسَانِ، وَفِي أَخْلَاقِ الْأُمَمِ وَنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، وَمُجْمَلُ هَذِهِ الْآثَارِ: هُوَ الْقَلَقُ وَالصِّرَاعُ النَّفْسِيُّ؛ فَأَوَّلُ الْآثَارِ الَّتِي يُخَلِّفُهَا الْإِلْحَادُ فِي نُفُوسِ الْأَفْرَادِ هُوَ الْقَلَقُ وَالْحَيْرَةُ، وَالصِّرَاعُ النَّفْسِيُّ، وَالْعَذَابُ الدَّاخِلِيُّ.

وَكَنَتِيجَةٍ لِلْقَلَقِ النَّفْسِيِّ وَالْخَوْفِ مِنَ الْمَجْهُولِ اتَّجَهَ الْإِنْسَانُ نَحْوَ الْأَنَانِيَّةِ، وَخِدْمَةِ مَصَالِحِهِ فَقَطْ، وَعَدَمِ التَّفْكِيرِ فِي الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ لَا يُرَبِّي النَّفْسَ، وَلَا يُخَوِّفُ الْإِنْسَانَ مِنْ إِلَهٍ عَلِيمٍ قَوِيٍّ قَاهِرٍ يُرَاقِبُ تَصَرُّفَاتِهِ؛ فَإِنَّ الْمُلْحِدَ يَغْرَقُ فِي الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ، وَيَتَغَلَّبُ عَلَى مَا أَمَامَهُ إِمَّا بِالْحِيلَةِ، أَوْ بِالْمَكْرِ، أَوْ بِالْقُوَّةِ.

وَالْإِلْحَادُ يَهْدِمُ النِّظَامَ الْأُسَرِيَّ؛ فَلِلْإِلْحَادِ آثَارُهُ الْمُدَمِّرَةُ فِي الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالنِّظَامِ الْأُسَرِيِّ.

وَفِيهِ تَخْرِيبُ الْمُجْتَمَعَاتِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمُلْحِدَ لَا تُوجَدُ عِنْدَهُ تَضْحِيَاتٌ وَلَا صَبْرٌ، وَلَا إِسْعَادٌ لِلْآخَرِينَ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.

وَمِنْ آثَارِ الْإِلْحَادِ: الْإِجْرَامُ السِّيَاسِيُّ، ذَلِكَ أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْمَادِّيَّةَ جَعَلَتْ قَلْبَ الْإِنْسَانِ يَمْتَلِئُ بِالْقَسْوَةِ وَالْأَنَانِيَّةِ فِي مَجَالِ السِّيَاسَاتِ الْعَالَمِيَّةِ؛ وَلِذَلِكَ تَرَى الدُّوَلَ الْكُبْرَى تَلْجَأُ إِلَى وَسَائِلَ خَسِيسَةٍ جِدًّا فِي اسْتِعْبَادِ الشُّعُوبِ الضَّعِيفَةِ، وَالتَّسَلُّطِ عَلَى خَيْرَاتِهَا.

((عِلَاجُ ظَاهِرَةِ الْإِلْحَادِ))

وَأَمَّا كَيْفَ نُعَالِجُ ظَاهِرَةَ الْإِلْحَادِ:

* فَبِالدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَالْهَدَفُ الْأَوَّلُ لِإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ هُوَ الْإِقْرَارُ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَبِأَنَّهُ إِلَهُ الْكَوْنِ وَمُدَبِّرُ الْوُجُودِ.

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ   =   تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

* وَبِالْعِنَايَةِ بِالتَّرْبِيَةِ الْخُلُقِيَّةِ؛ فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِقَامَةُ الْعَدْلِ وَالْإِخَاءِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْأَرْضِ.

وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْبُعْدُ عَنِ الظُّلْمِ، وَقَهْرِ الْآخَرِينَ.

* وَمِنْ سُبُلِ مُعَالَجَةِ ظَاهِرَةِ الْإِلْحَادِ: تَطْبِيقُ أَوَامِرِ اللهِ وَأَوَامِرِ رَسُولِهِ ﷺ كَمَا جَاءَتْ؛ فَفِيهَا كُلُّ خَيْرٍ وَرَاحَةٍ لِلْإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءَ.

* وَمِنْهَا: التَّصَدِّي لِشُبُهَاتِ الْمُلْحِدِينَ.

وَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلٌ: الْمَلَاحِدَةُ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ قَلِيلٌ؛ فَلِمَاذَا هَذَا التَّضْخِيمُ؟ وَلِمَاذَا يُطْرَحُ هَذَا الْمَوْضُوعُ أَصْلًا؟

وَالْجَوَابُ: مَا الَّذِي يُدْرِي هَذَا الْقَائِلَ أَنَّ الْإِلْحَادَ قَلِيلٌ؟!!

وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ؟!!

بَلْ لَعَلَّ الْوَاقِعَ أَسْوَأُ مِمَّا نَتَوَهَّمُ بِكَثِيرٍ.

ثُمَّ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ هَذَا الْمَرَضَ الْعُضَالَ قَلِيلٌ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ؛ فَهَلْ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ نَتَجَاهَلَهُ، وَأَنْ نُعْرِضَ عَنِ الْكَلَامِ عَنْهُ؟!!

وَهَلْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعَقْلِ أَنْ إِذَا اكْتُشِفَ فِي بَلَدٍ وَبَاءٌ فَتَّاكٌ يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيُخْشَى مِنْ سُرْعَةِ انْتِشَارِهِ، لَكِنَّ الْحَالَاتِ الْمُسَجَّلَةَ لَيْسَتْ إِلَّا حَالَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ؛ هَلْ مِنَ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ أَنْ نُعْرِضَ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّ الْمُصَابِينَ قَلِيلٌ؟!!

أَمْ أَنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعَقْلِ أَنْ تُسْتَنْفَرَ جَمِيعُ الْقُوَى وَجَمِيعُ الْإِمْكَانَاتِ لِدَفْعِ هَذَا الْوَبَاءِ؟!!

فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَاجِبَ فِي أَوْبِئَةِ الدُّنْيَا؛ فَمَا الْحَالُ مَعَ أَعْظَمِ وَبَاءٍ؛ وَهُوَ وَبَاءُ جَحْدِ الْخَالِقِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالْكُفْرِ بِرِسَالَاتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ؟!!

ثُمَّ يُقَالُ -أَيْضًا-: هَذَا الْوَبَاءُ الْفَتَّاكُ إِنْ سَلِمَ مِنْهُ مُجْتَمَعٌ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُجْتَمَعَاتِ تَئِنُّ تَحْتَ وَطْأَتِهِ.

إِذَنْ؛ فَالطَّرْحُ مُفِيدٌ وَلَا بُدَّ لِهَذَا وَلِذَاكَ، هَذَا فِي الْعِلَاجِ، وَذَاكَ فِي الْوِقَايَةِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.

إِنَّ وَسَائِلَ مُوَاجَهَةِ الْإِلْحَادِ كَثِيرَةٌ؛ لَكِنْ يَجِبُ أَوَّلًا أَنْ نَعِيَ أَنَّهُ لَنْ يَحْصُلَ فِي الْغَالِبِ انْحِرَافٌ لِأَحَدٍ مِنْ شَبَابِنَا، وَلَنْ يُجَرَّ إِلَى قَذَارَةِ الْإِلْحَادِ إِلَّا مِنْ تَقْصِيرٍ حَصَلَ بِوَجْهٍ أَوْ آخَرَ مِنْ ذَوِي الْمَسْؤُولِيَّةِ التَّرْبَوِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالدَّعَوِيَّةِ؛ كَالْأُسْرَةِ، وَالْمَدْرَسَةِ، وَالْجَامِعَةِ، وَالْإِعْلَامِ، وَالْمُوَجِّهِينَ، وَالدُّعَاةِ.

وَاسْتِشْعَارُ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَالدُّعَاةِ وَالْمُوَجِّهِينَ هَذِهِ الْمَسْؤُولِيَّةَ سَيُؤَدِّي -بِتَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى- إِلَى نَشَاطٍ وَاجْتِهَادٍ فِي الْوُقُوفِ أَمَامَ الْمَدِّ الْإِلْحَادِيِّ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَخْبَرَنَا أَنَّ الْكُفَّارَ وَلَوْ عَظُمَ كَيْدُهُمْ فَإِنَّهُ -تَعَالَى- مُوهِنُ كَيْدِهِمْ، {ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18].

((وَمَتَى قَيَّضَ اللهُ لِلْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ رِجَالًا يُقَدِّرُونَ فَضْلَ الدِّينِ فِي إِصْلَاحِ حَالِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَفَضْلَهُ فِي إِخْرَاجِ رِجَالٍ يَطْمَحُونَ إِلَى الْعِزَّةِ، وَيَقْتَحِمُونَ كُلَّ مَا يَعْتَرِضُهُمْ فِي سَبِيلِهَا مِنْ عَقَبَاتٍ، وَفَضْلَ الدِّينِ فِي بَسْطِ الْأَمْنِ فِي الْبِلَادِ؛ مَتَى قَدَّرَ أُولُوا الْأَمْرِ فَضْلَ الدِّينِ، وَمَتَى تَضَافَرَ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ بِالْحِكْمَةِ، وَعَلَى مُكَافَحَةِ الزَّائِغِينَ بِالْحُجَّةِ؛ طَهُرَتِ الْأُمَّةُ مِنْ خَبَثِ الْإِلْحَادِ، وَبَلَغَتْ أَقْصَى غَايَاتِ الْمَجْدِ وَالْفَلَاحِ)).

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَنَا، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: الْيَقِينُ وَنَقْضُ الْإِلْحَادِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان