نِعْمَةُ الْهَادِي الْبَشِيرِ وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِ ﷺ

نِعْمَةُ الْهَادِي الْبَشِيرِ وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِ ﷺ

((نِعْمَةُ الْهَادِي الْبَشِيرِ وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِ ﷺ ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نِعْمَةُ الْهَادِي الْبَشِيرِ))

فَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعِبَادِهِ أَنْ أَرْسَلَ فِيهِمْ رُسُلَهُ يُبَشِّرُونَ وَيُنْذِرُونَ، كُلَّمَا ذَهَبَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، حَتَّى خَتَمَهُمْ بِنَبِيِّ الرَّحْمَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الثَّقَلَيْنِ بِرِسَالَتِهِ ﷺ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ [النحل: 36].

وَلَقَدِ اخْتَارَ مِنْهُمْ سَيِّدَهُمْ وَإِمَامَهُمْ فَجَعَلَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ صَفْوَةُ الْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَصَّهُ اللهُ -تَعَالَى- بِخَصَائِصَ وَمَزَايَا لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَاخْتَصَّ اللهُ -تَعَالَى- أُمَّتَهُ بِخَصَائِصَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.

لَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ هِيَ إِرْسَالُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّهُمَا دَعَوَا اللهَ -تَعَالَى- لِأَهْلِ الْحَرَمِ وَهُمَا يَبْنِيَانِ الْبَيْتَ بِأَدْعِيَةٍ، مِنْهَا: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129].

وَقَدْ أَجَابَ اللهُ -تَعَالَى- دُعَاءَهُمَا، فَبَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ وَفِي غَيْرِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَتِلْكَ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى وَالْمِنَّةُ الْكُبْرَى نَوَّهَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الجمعة: 2-4].

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 151-152].

وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

وَإِنَّمَا كَانَ إِرْسَالُهُ ﷺ إِلَى النَّاسِ أَعْظَمَ مِنَّةٍ امْتَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَخْلِيصَ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ وَهَدَاهُ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ؛ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، وَالِابْتِعَادِ عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾[النساء: 48]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].

وَلَا يَعْرِفُ قِيمَةَ الرِّسَالَةِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ حَالَ الْعَالَمِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَانَ -كَمَا أَخْبَرَ هُوَ ﷺ- فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، وَفِي لَيْلٍ مِنَ الشِّرْكِ غَاسِقٍ، قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ؛ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ؛ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ».. فِي الدَّيَّارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، وَأُولَئِكَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَ الرَّسُولِ ﷺ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ قَدْ أَطْبَقَتْ عَلَى الْكُفْرِ، وَغَصَّتْ بِالشِّرْكِ، وَمَاجَتْ بِالظُّلْمِ، وَتَلَاطَمَتْ بَيْنَ جَنَبَاتِهَا أَمْوَاهُ الْجَوْرِ حَتَّى جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ، فَأَخْرَجَ اللهُ بِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، أَخْرَجَهُمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ -ضَلَالَاتِ الْفِكْرِ وَالِاعْتِقَادِ-؛ إِذْ كَانُوا يُقَدِّسُونَ الْأَحْجَارَ وَالْأَشْجَارَ، وَيَعْبُدُونَ النُّجُومَ وَالْأَبْقَارَ، وَكَانُوا يُشْرِكُونَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَقَدْ تَرَسَّخَتْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ خُرَافَاتٌ وَخُزَعْبَلَاتٌ جَعَلَتِ الْفِكْرَ مُقَيَّدًا، وَجَعَلَتِ الْقُلُوبَ بِالْأَغْلَالِ مُوثَقَةً، حَتَّى جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ، فَحَرَّرَ اللهُ بِهِ الْعُقُولَ، وَأَطْلَقَ الْقُلُوبَ مِنْ أَسْرِهَا حَتَّى عَادَتْ إِلَى رَبِّهَا؛ لِتَعُودَ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي كُلَّهُمْ حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ».

فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، فِيهَا النُّورُ وَالْهُدَى، وَفِيهَا الْعَفَافُ وَالْعِفَّةُ، وَكَانَ النَّاسُ قَبْلَ ذَلِكَ كَالْحُمُرِ يَتَسَافَدُونَ، تَخْتَلِطُ أَنْسَابُهُمْ، وَلَا يُرَاعُونَ فِي أَحَدٍ عِرْضًا وَلَا حُرْمَةً، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَيَئِدُونَ الْبَنَاتِ، وَيَجُورُونَ وَيَظْلِمُونَ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُمْ كَانُوا بِاللهِ يَكْفُرُونَ، وَكَانُوا بِالْإِلَهِ الْحَقِّ يُشْرِكُونَ، فَأَخْرَجَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الْمُتَكَاثِفَاتِ كُلِّهَا بِمَقْدَمِ الرَّسُولِ ﷺ.

((رِسَالَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْخَلْقِ كَافَّةً))

اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا، أَرْسَلَهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، وَعَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَفُرْسِهِمْ وَهِنْدِهِمْ وَبَرْبَرِهِمْ وَرُومِهِمْ وَسَائِرِ أَصْنَافِ الْعَجَمِ أَسْوَدِهِمْ وَأَبْيَضِهِمْ.

وَالْمُرَادُ بِالْعَجَمِ: مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ؛ فَمُحَمَّدٌ ﷺ أُرْسِلَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كِتَابِيِّهِمْ وَغَيْرِ كِتَابِيِّهِمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْبَاطِّنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فِي عَقَائِدِهِ وَحَقَائِقِهِ، وَطَرَائِقِهِ وَشَرَائِعِهِ، فَلَا عَقِيدَةَ إِلَّا عَقِيدَتُهُ، وَلَا حَقِيقَةَ إِلَّا حَقِيقَتُهُ، وَلَا طَرِيقَةَ إِلَّا طَرِيقَتُهُ، وَلَا شَرِيعَةَ إِلَّا شَرِيعَتُهُ، وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ وَإِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَوِلَايَتِهِ إِلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي الْأَقْوَالِ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ فِي أَقْوَالِ الْقَلْبِ وَعَقَائِدِهِ، وَأَحْوَالِ الْقَلْبِ وَحَقَائِقِهِ، وَأَقْوَالِ اللِّسَانِ، وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ.

وَلَيْسَ للهِ وَلِيٌّ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فَصَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْغُيُوبِ، وَالْتَزَمَ طَاعَتَهُ فِيمَا فَرَضَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُصَدِّقًا فِيمَا أَخْبَرَ، مُلْتَزِمًا لِطَاعَتِهِ فِيمَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ، مُنْقَادًا فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا للهِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَاذَا عَسَى أَنْ يَحْصُلُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِهِ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِطَهَارَتِهَا وَوَاجِبَاتِهَا.. لَا يَكُونُ مَعَ تَرْكِهِ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُبْعِدَةِ لِصَاحِبِهَا عَنِ اللهِ، الْمُقَرِّبَةِ إِلَى سَخَطَهِ وَعَذَابِهِ.

مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي امْتَازَ بِهَا ﷺ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-: أَنْ بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ؛ بَلْ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعًا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْجِنِّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ ﷺ، ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الأحقاف: 31-32].

وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي»، فَذَكَرَ مِنْ بَيْنِهَا: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28].

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].

وَقَدْ أَوْضَحَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: 17])).

وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ» يَعْنِي: أُمَّةَ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَهُ ﷺ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا فِي مُطْلَقِ الزَّمَانِ وَمُطْلَقِ الْمَكَانِ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

فَكُلُّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُنْذُ بِعْثَتِهِ ﷺ؛ مِنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ وَالْأَصْفَرِ، وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ.. كُلُّهُمْ أُمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، هُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، يَدْعُوهُمْ جَمِيعًا، وَكُلُّهُمْ مُكَلَّفٌ بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ.

فَأُمَّةُ الدَّعْوَةِ تَشْمَلُ كُلَّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُنْذُ بِعْثَتِهِ إِلَى الْقِيَامَةِ؛ فَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَالْبُوذِيُّونَ، وَالْمُلْحِدُونَ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ مِنَ الصَّابِئَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ أُمَّةُ رَسُولِ اللهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: 17].

((مَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ!))

عِبَادَ اللهِ! مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ: مَحَبَّةُ سَيِّدِ الْأَنَامِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَيْفَ لَا يُحِبُّ الْمُسْلِمُ نَبِيَّهُ وَهُوَ السَّبَبُ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى طَرِيقِ النُّورِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّبَبُ فِي نَجَاتِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّيرَانِ؟!

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

بَلْ إِنَّ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ ﷺ تَتَجَاوَزُ مَحَبَّةَ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! حَتَّى أَكُونَ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)).

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ((إِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْآنَ يَا عُمَرُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

أَيِ: الْآنَ عَرَفْتَ فَنَطَقْتَ بِمَا يَجِبُ.

إِنَّ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ ﷺ يَدَّعِيهَا كُلُّ أَحَدٍ، يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، يَدَّعِيهَا الْقَبْرِيُّونَ وَالسَّحَرَةُ وَالْمُشَعْوِذُونَ؛ بَلْ يَدَّعِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ؛ وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ بِدَعْوَى الْمَحَبَّةِ، بَلْ بِحَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ؛ إِذْ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللَّهُ -تعالى- إِلَّا وَفْقَ شَرِيعَتِهِ، لَا بِالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ؛ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)).

قَالُوا: ((وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).

قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إِنَّ مَحَبَّةَ النَّبِيِّ ﷺ لَيْسَتْ فِي إِقَامَةِ الْمَوَالِدِ وَلَا الْمَآتِمِ، وَلَا فِي إِنْشَاءِ قَصَائِدِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ، بَلْ هِيَ فِي الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ، وَتَعْظِيمِ شَرِيعَتِهِ، وَإِحْيَاءِ هَدْيِهِ، وَالذَّبِّ عَنْهُ وَعَنْ سُنَّتِهِ، وَتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، وَاسْتِحْضَارِ هَيْبَتِهِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْهُ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ كُلَّمَا ذُكِرَ، وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ فِي شَرِيعَتِهِ، وَمَحَبَّةِ أَصْحَابِهِ، وَالِانْتِصَارِ لَهُمْ، وَمَعْرِفَةِ فَضَائِلِهِمْ، وَبُغْضِ مَنْ عَادَى سُنَّتَهُ، أَوْ خَالَفَ شَرِيعَتَهُ، أَوِ انْتَقَصَ مِنْ أَقْدَارِ حَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا.

فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ بِقَدْرِ مُخَالَفَتِهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ -مَثَلًا- يَقُولُ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيَقُولُ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ)). كَمَا رَوَى أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ.

وَمَعَ هَذَا التَّحْذِيرِ مِنَ الْبِدَعِ يَأْتِي أُنَاسٌ فَيَبْتَدِعُونَ فِي دِينِ اللَّهِ -تعالى- مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيَسْتَحْسِنُونَ هَذِهِ الْبِدَعَ؛ بَلْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ دَلَائِلِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ بَلْ قَدْ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ، وَيَضَعُونَ الْحَدِيثَ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: كَذَبْنَا لَهُ، وَلَمْ نَكْذِبْ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى، وَأَقْبَحِ الضَّلَالِ؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ اللَّهِ كَامِلَةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى كَذِبِ هَؤُلَاءِ وَأَبَاطِيلِهِمْ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ سَبِّ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَقَالَ: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَعَ ذَلِكَ يَأْتِي أُنَاسٌ فَيَسُبُّونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَيَلْعَنُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَرْمُونَ الطَّاهِرَةَ الْمُطَهَّرَةَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ -تعالى- مِنْهُ فِي كِتَابِهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَدِفَاعًا عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-!!

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ -أَيْضًا-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنِ الْغُلُوِّ فِي إِطْرَائِهِ، فَقَالَ ﷺ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمَعَ هَذَا النَّهْيِ الْوَاضِحِ يَأْتِي أُنَاسٌ يَتَّبِعُونَ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَصِفُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْخَالِقِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيَسْأَلُونَهُ الرِّزْقَ، وَشِفَاءَ الْأَمْرَاضِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَهَالِكِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْجَهْلِ وَالشِّرْكِ، وَالْمُخَالَفَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

لَقَدْ قَامَتِ الدَّلَائِلُ بِإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ، وَتَمَيَّزَتِ الرِّسَالَةُ بِأَنَّهَا رِسَالَةٌ عَالَمِيَّةٌ لِجَمِيعِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّهَا رِسَالَةٌ خَالِدَةٌ، نَسَخَ اللَّهُ بِهَا جَمِيعَ الرَّسَائِلِ السَّابِقَةِ، وَخَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ وَفَضَّلَهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، كَمَا خَصَّ أُمَّةَ الْإِجَابَةِ وَفَضَّلَهَا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ؛ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ -تعالى- لِنَبِيِّهِ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ كَثِيرًا مِنَ الْحُقُوقِ، أَهَمُّهَا: مَحَبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

وَمَعْنَى مَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنْ يَمِيلَ قَلْبُ الْمُسْلِمِ إِلَيْهِ ﷺ مَيْلًا يَتَجَلَّى فِيهِ إِيثَارُهُ ﷺ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ؛ مِنْ نَفْسٍ، وَوَالِدٍ، وَوَلَدٍ، وَمَالٍ، وَمِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَمَحَبَّةُ الرَّسُولِ ﷺ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.

لَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَكْبَرِ أُصُولِهِ، وَأَجَلِّ قَوَاعِدِهِ؛ بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ، كَمَا أَنَّ التَّصْدِيقَ أَصْلُ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الْإِيمَانِ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ مِنَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِيمَانُ الْعَبْدِ إِلَّا بِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ إِحْدَى الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ فَوْقَ مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَقَالَ -تعالى-: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

فَنَصَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْمَحَبَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى كُلِّ مَحَبَّةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَكَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ حَضًّا وَتَنْبِيهًا وَدَلَالَةً وَحُجَّةً عَلَى لُزُومِ مَحَبَّتِهِ، وَوُجُوبِ فَرْضِهَا، وَاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا ﷺ؛ إِذْ قَرَّعَ -تعالى- مَنْ كَانَ مَالُهُ وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ -تعالى-: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، ثُمَّ فَسَّقَهُمْ بِتَمَامِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ ضَلَّ وَلَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ: قَوْلُهُ -تعالى-: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ تَتَضَمَّنُ أُمُورًا، أَهَمُّهَا: أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ أَصْلُهَا الْحُبُّ، وَنَفْسُ الْعَبْدِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا؛ فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ الِانْقِيَادُ، وَالطَّاعَةُ، وَالرِّضَا، وَالتَّسْلِيمُ، وَسَائِرُ لَوَازِمِ الْمَحَبَّةِ؛ مِنَ الرِّضَا بِحُكْمِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ.

وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ كَذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ: قَوْلُهُ -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} [البقرة: 165].

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا قَدْ تَضَمَّنَتْ وُجُوبَ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ: مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ يُحِبُّ نَبِيَّهُ وَخَلِيلَهُ ﷺ؛ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْنَا مَحَبَّتُهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَصْلَ حُبِّ أَهْلِ الْإِيمَانِ هُوَ حُبُّ اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَكُلُّ مَا يُحِبُّ سِوَاهُ فَمَحَبَّتُهُ تَكُونُ تَبَعًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا اللَّهُ، فَالرَّسُولُ ﷺ إِنَّمَا يُحَبُّ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَيُطَاعُ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَيُتَّبَعُ لِأَجْلِ اللَّهِ، وَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ، وَالصَّالِحُونَ، وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تُحَبُّ جَمِيعًا لِأَنَّهَا مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ تَعَيُّنُ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَوُجُوبُهَا وَلُزُومُهَا.

وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ مَحَبَّةِ الرَّسُولِ ﷺ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ -تعالى-: {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24].

وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((ثَلَاثَةٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا)). كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)).

وَهَذَا الِاقْتِرَانُ يَدُلُّ عَلَى مَدَى الصِّلَةِ الْوَثِيقَةِ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ وَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ دَاخِلَةً ضِمْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ -تعالى- أَصْلًا؛ لَكِنَّ إِفْرَادَهَا بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّهَا ضِمْنَ مَحَبَّةِ اللَّهِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِهَا، وَإِشْعَارٌ بِأَهَمِّيَّتِهَا وَمَكَانَتِهَا.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُهُ -تعالى-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].

فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ ضِمْنِيَّةٌ إِلَى وُجُوبِ مَحَبَّةِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ ﷺ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تعالى- قَدْ جَعَلَ بُرْهَانَ مَحَبَّتِهِ -تعالى- وَدَلِيلَ صِدْقِهَا اتِّبَاعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذَا الِاتِّبَاعُ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَالْإِيمَانُ بِهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَحَقُّقِ شُرُوطِهِ الَّتِي مِنْهَا: مَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ)). وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.

وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّتِهِ ﷺ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْهَا:

قَوْلُهُ ﷺ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)).

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ((فَإِنَّهُ الْآنَ -وَاللَّهِ- لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْآنَ يَا عُمَرُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟)).

قَالَ: ((وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟))

قَالَ: ((حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)).

قَالَ: ((فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)).

قَالَ أَنَسٌ: ((فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)).

قَالَ أَنَسٌ: ((فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَمَحَبَّةُ النَّبِيِّ ﷺ لَهَا عَلَامَاتٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ كَثِيرَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا:

* التَّمَسُّكُ بِشَرِيعَتِهِ، وَاتِّبَاعُ سُنَّتِهِ، قَالَ -تعالى-: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

فَجَعَلَ -تعالى- مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ ﷺ عَلَامَةً عَلَى مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ الْعَبْدِ عَلَى حُسْنِ مُتَابَعَتِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَحَبَّةَ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَغُفْرَانَهُ -سُبْحَانَهُ- لَهُ.

* وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ: تَعْظِيمُهُ ﷺ وَتَوْقِيرُهُ، وَالْأَدَبُ مَعَهُ، قَالَ -تعالى-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8-9].

فَالتَّسْبِيحُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالتَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَالتَّعْزِيرُ: نَصْرٌ مَعَ تَعْظِيمٍ، وَالتَّوْقِيرُ: التَّبْجِيلُ وَالِاحْتِرَامُ.

وَقَالَ -تعالى-: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

أَصْلُ التَّعْزِيرِ: الْمَنْعُ وَالنُّصْرَةُ، وَتَعْزِيرُ النَّبِيِّ ﷺ: تَعْظِيمُهُ وَإِجْلَالُهُ، وَدَفْعُ الْأَعْدَاءِ عَنْهُ، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ}: النُّورُ: الْقُرْآنُ، وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ نُورًا لِأَنَّهُ يُنِيرُ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ، فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَالْجَهَالَةِ إِلَى نُورِ الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ.

* وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ: كَثْرَةُ تَذَكُّرِهِ ﷺ، وَتَمَنِّي رُؤْيَتِهِ، وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا شَغَلَتِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَ الْمُحِبِّ وَفِكْرَهُ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ ﷺ؛ إِذْ كُلُّ حَبِيبٍ يُحِبُّ لِقَاءَ حَبِيبِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

* وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ: الْإِكْثَارُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، قَالَ -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ -تعالى-: ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ.

وَالصَّلَاةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: الدُّعَاءُ لَهُ ﷺ.

وَالصَّلَاةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: الطَّلَبُ مِنَ اللَّهِ -تعالى- أَنْ يُعْلِيَ ذِكْرَهُ، وَيَزِيدَهُ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا.

وَقَدْ رَغَّبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: قَوْلُهُ ﷺ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَاللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَآلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

* وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَحَبَّةِ: مَحَبَّةُ آلِ بَيْتِهِ، وَقَرَابَتِهِ، وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ ﷺ، فَمِنْ مَظَاهِرِ حُبِّهِ ﷺ: مَحَبَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَتَوْقِيرُهُمْ، وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمْ، وَحِفْظُ حُرْمَتِهِمْ، قَالَ -تعالى-: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].

وَقَدْ أَوْصَى ﷺ  بِآلِ بَيْتِهِ فَقَالَ: ((أَذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدْ جَاءَ عَنِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَالْمُرَاقَبَةُ لِلشَّيْءِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: احْفَظُوهُ فِيهِمْ، فَلَا تُؤْذُوهُمْ، وَلَا تُسِيئُوا إِلَيْهِمْ.

* وَمِنْ مَظَاهِرِ حُبِّهِ ﷺ: حُبُّ أَصْحَابِهِ، وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمْ وَقَدْرِهِمْ، وَالدِّفَاعُ عَنْهُمْ، وَصَوْنُ حُرْمَتِهِمْ؛ فَهُمْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا، وَيَكْفِيهِمْ شَرَفًا أَنَّهُمْ فَازُوا بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ الَّتِي لَا تُعَادِلُهَا أَيُّ مَنْزِلَةٍ سِوَاهَا.

وَقَدْ أَعْلَنَ -تعالى- شَهَادَتَهُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَثْنَى -سُبْحَانَهُ- عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ: حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ، أَعْظَمُ ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ أَنْ يَجِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَلْبِهِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْمُؤْمِنُ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ ازْدَادَ ذَوْقُهُ لِحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ.

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ: أَنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَحَبَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ مَعَهُ، وَسَعِدَ بِمُرَافَقَتِهِ، وَتَنَعَّمَ بِرُؤْيَتِهِ، قَالَ ﷺ: ((الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((جُمْلَةٌ مِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ ))

إِنَّ أَوْجَبَ الْحُقُوقِ بَعْدَ حَقِّ اللَّهِ -تعالى- حَقُّ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْقِيَامُ بِهَذَا الْحَقِّ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، كَمَا أَنَّ فِيهِ مُقَابَلَةَ إِحْسَانِهِ ﷺ بِالْإِحْسَانِ.

قَالَ الْحَلِيمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ مَوَاقِعَ الْخَيْرَاتِ الَّتِي سَاقَهَا اللَّهُ -تعالى- إِلَى عِبَادِهِ بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي الدُّنْيَا، وَمَا هُوَ سَائِقُهُ إِلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ مِنْ شَفَاعَتِهِ لَهُمْ فِي الْأُخْرَى؛ عُلِمَ أَنَّهُ لَا حَقَّ بَعْدَ حُقُوقِ اللَّهِ -تعالى- أَوْجَبُ مِنْ حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ عَلَى دَرَجَاتٍ؛ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِدُونِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ، يَأْثَمُ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِهِ، وَيَنْقُصُ إِيمَانُهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِكَمَالِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمِ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِهِ)).

الْمُسْلِمُ بِحَاجَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ حَتَّى يَحْفَظَ دِينَهُ، وَيَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَيَحْصُلَ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَيَعْرِفَ مَقَامَ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

* فَمِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ ﷺ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالِاطْمِئْنَانُ إِلَى ذَلِكَ، وَالْيَقِينُ بِهِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، وَالْعَرَبِ وَالْعَجَمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمُصَدِّقٌ لَهُمْ، وَنَاسِخٌ لِرِسَالَاتِهِمْ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا بَعْدَهُ سِوَى الْإِسْلَامِ.

وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِ، فَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ، وَأَنَّهُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي الْبَلَاغِ، وَأَنَّهُ دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.

* وَمِنْ حُقُوقِهِ ﷺ: اتِّبَاعُهُ، وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ هُوَ الْبُرْهَانُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَمَنِ ادَّعَى الْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ هُوَ لَا يَمْتَثِلُ لَهُ أَمْرًا، وَلَا يَنْتَهِي عَنْ مُحَرَّمٍ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ، وَلَا يَتَّبِعُ سُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ ﷺ؛ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ، وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ.

وَقَدْ بَيَّنَ -تعالى- أَنَّ رَحْمَتَهُ لَا تَنَالُ إِلَّا أَهْلَ الِاتِّبَاعِ وَالِانْقِيَادِ، فَقَالَ -تعالى-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156-157].

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ -تعالى- تَوَعَّدَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، الْمُخَالِفِينَ أَمْرَهُ؛ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقَالَ -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

* وَقَدْ أَمَرَ -تعالى- بِالتَّسْلِيمِ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ لِحُكْمِهِ، فَقَالَ -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

* وَمِنْ حُقُوقِهِ ﷺ: مَحَبَّتُهُ.. مَحَبَّتُهُ كُلَّ الْحَبِّ وَأَكْمَلَهُ وَأَعْظَمَهُ؛ فَقَدْ قَالَ ﷺ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَأَيُّ إِنْسَانٍ لَا يُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ؛ وَإِنْ تَسَمَّى بِأَسْمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَاشَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، وَأَعْظَمُ الْحُبِّ أَنْ يُحِبَّ الْمُؤْمِنُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِنَفْسِهِ؛ فَقَدْ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)).

فَقَالَ عُمَرُ: ((فَإِنَّهُ الْآنَ  وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْآنَ يَا عُمَرُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

* وَمِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: الِانْتِصَارُ لَهُ ﷺ، وَهُوَ مِنْ آكَدِ حُقُوقِهِ ﷺ حَيًّا وَمَيِّتًا؛ فَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ قَامَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ خَيْرَ قِيَامٍ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَالذَّبُّ يَكُونُ عَنْ سُنَّتِهِ إِذَا تَعَرَّضَتْ لِطَعْنِ الطَّاعِنِينَ، وَتَحْرِيفِ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَيَكُونُ الذَّبُّ كَذَلِكَ عَنْ شَخْصِهِ الْكَرِيمِ إِذَا تَنَاوَلَهُ أَحَدٌ بِسُوءٍ أَوْ سُخْرِيَةٍ، أَوْ وَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ لَا تَلِيقُ بِمَقَامِهِ الْكَرِيمِ ﷺ.

وَقَدْ كَثُرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حَمَلَاتُ التَّشْوِيهِ الَّتِي يَطْعَنُونَ بِهَا عَلَى نَبِيِّ الْإِسْلَامِ ﷺ، وَعَلَى الْأُمَّةِ كُلِّهَا أَنْ تَهُبَّ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَبِيِّهَا ﷺ بِكُلِّ مَا تَمْلِكُ مِنْ وَسَائِلِ قُوَّةٍ وَأَدَوَاتِ ضَغْطٍ حَتَّى يَكُفَّ هَؤُلَاءِ عَنْ كَذِبِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَافْتِرَائِهِمْ -عَامَلَهُمُ اللَّهُ -تعالى- بِعَدْلِهِ-.

* وَمِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ.

مِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ؛ فَتَصْدِيقُ النَّبِيِّ ﷺ هُوَ الْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ الدَّاخِلُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ شَطْرُ مَعْنَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالِانْقِيَادُ، وَتَصْدِيقُهُ ﷺ يَتَضَمَّنُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآدَابِ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ -تعالى- حَقٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، كَمَا قَالَ -تعالى-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم: 3-4].

وَانْظُرْ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي حَازَهَا الصِّدِّيقُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي آمَنَ بِالنَّبِيِّ ﷺ حَقَّ الْإِيمَانِ، وَصَدَّقَهُ حَقَّ التَّصْدِيقِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالُوا: ((هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟)).

قَالَ: ((أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟)).

قَالُوا: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ)).

قَالُوا: ((أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟!)).

قَالَ: ((نَعَمْ، إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ)).

((فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَتَصْدِيقُ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ فَضْلٌ كَبِيرٌ، قَالَ -تعالى-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69) ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69-70].

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ -الدُّرِّيُّ: هُوَ الْكَوْكَبُ الْعَظِيمُ، سُمِّيَ دُرِّيًّا لِبَيَاضِهِ كَالدُّرِّ- كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ -يَعْنِي: الذَّاهِبَ الْمَاشِيَ الَّذِي تَدَلَّى لِلْغُرُوبِ، وَبَعُدَ عَنِ الْعُيُونِ-، إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟)).

قَالَ: ((بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَضِدُّ التَّصْدِيقِ: التَّكْذِيبُ وَالشَّكُّ، وَكِلَاهُمَا نَاقِضٌ لِلتَّصْدِيقِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعْرُوفٌ بِالصِّدْقِ؛ حَتَّى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَقَدْ كَانَ يُسَمَّى بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ-.

مِنْ حُقُوقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: اجْتِنَابُ مَا نَهَيَ عَنْهُ وَزَجَرَ.

ضِدُّ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ: مَعْصِيَتُهُ، وَقَدْ جَاءَ التَّحْذِيرُ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ -تعالى-: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14].

وَقَالَ -تعالى-: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

وَقَالَ -تعالى-: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27-29].

وَقَالَ -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62) لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 62-63].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا أَدَبٌ أَرْشَدَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، فَكَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ كَذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ؛ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا فِي أَمْرٍ جَامِعٍ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ؛ مِنْ صَلَاةِ جُمُعَةٍ، أَوْ عِيدٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ، أَوْ اجْتِمَاعٍ فِي مَشُورَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَرَهُمُ اللَّهُ -تعالى- أَلَّا يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ وَمُشَاوَرَتِهِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ.

ثُمَّ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أَيْ: عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ وَهُوَ سَبِيلُهُ، وَمِنْهَاجُهُ، وَطَرِيقَتُهُ، وَسُنَّتُهُ، وَشَرِيعَتُهُ، فَتُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ قُبِلَ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ وَفَاعِلِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) أَيْ: فَلْيَحْذَرْ وَلْيَخْشَ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ: فِي قُلُوبِهِمْ؛ مِنْ كُفْرٍ، أَوْ نِفَاقٍ، أَوْ بِدْعَةٍ، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِقَتْلٍ، أَوْ حَدٍّ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ)).

وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ -تعالى-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]: ((قَوْلُهُ: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ} أَيْ: وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ، فَصَارَ فِي شِقٍّ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ، وَذَلِكَ عَنْ عَمْدٍ مِنْهُ بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ، وَتَبَيَّنَ لَهُ وَاتَّضَحَ لَهُ، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}: هَذَا مُلَازِمٌ لِلصِّفَةِ الْأُولَى؛ وَلَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ لِنَصِّ الشَّارِعِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِيمَا عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ ضُمِنَتْ لَهُمُ الْعِصْمَةُ فِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ، تَشْرِيفًا لَهُمْ، وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّهِمْ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَلِهَذَا تَوَعَّدَ -تعالى- عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أَيْ: إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ جَازَيْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ نُحَسِّنَهَا فِي صَدْرِهِ، وَنُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْرَاجًا لَهُ، كَمَا قَالَ -تعالى-: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44].

وَقَالَ -تعالى-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وَقَوْلُهُ -تعالى-: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]: جَعَلَ النَّارَ مَصِيرَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْهُدَى لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا إِلَى النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

مِنْ حُقُوقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: طَاعَتُهُ.

لَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ -تعالى- طَاعَتَهُ ﷺ وَاتِّبَاعَهُ، فَمِنْ حُقُوقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ: امْتِثَالُ أَمْرِهِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، هَادٍ إِلَى صِرَاطِهِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52-53].

وَقَالَ -تعالى-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم: 3-4].

وَمَنْ كَانَ شَأْنُهُ كَذَلِكَ كَانَتْ طَاعَتُهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ -تعالى-؛ لِأَنَّ الْآمِرَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ -تعالى-، وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ، قَالَ -تعالى-: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وَقَدْ أَفْرَدَ -تعالى- الْأَمْرَ بِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: قَوْلُهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

كَمَا قَرَنَ -سُبْحَانَهُ- طَاعَتَهُ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: قَوْلُهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]: {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} يَعْنِي: عَنْ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ سُنَّتِهِ وَهَدْيِهِ إِعْرَاضٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-؛ لِتَلَازُمِ الطَّاعَتَيْنِ، وَتَدَاوُمِ الْحَالَتَيْنِ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ: تَحْكِيمُ السُّنَّةِ وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهَا، قَالَ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} أَيِ: اخْتَلَفْتُمْ، التَّنَازُعُ: اخْتِلَافُ الْآرَاءِ، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أَيْ: رُدُّوا الْأَمْرَ الَّذِي تَنَازَعْتُمْ فِيهِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِلَى رَسُولِهِ ﷺ مَا دَامَ حَيًّا، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ رَدُّوهُ إِلَى سُنَّتِهِ.

فَأَمَرَ -تعالى- الْمُؤْمِنِينَ بِرَدِّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْإِيمَانِ.

وَأَقْسَمَ -سُبْحَانَهُ- بِذَاتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي أَنْوَاعِ النِّزَاعِ كَافَّةً، مَعَ الرِّضَا بِحُكْمِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ ﷺ، قَالَ -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

{فَلَا وَرَبُّكَ} أَيْ: فَوَرَبِّكَ {لَا} لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْقَسَمِ، أَوْ (لَا) رَدٌّ لِكَلَامٍ سَبَقَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُخَالِفُونَ حُكْمَكَ، {شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أَيِ: اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ، وَأَصْلُ التَّدَاخُلِ وَالِاخْتِلَاطِ، وَمِنْهُ الشَّجَرُ؛ لِتَدَاخُلِ أَغْصَانِهِ، {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} أَيْ: ضِيقًا {مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}: يَنْقَادُوا لِأَمْرِكَ انْقِيَادًا.

مِنْ عَلَامَاتِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِهِ ﷺ: الرِّضَا بِحُكْمِهِ وَشَرْعِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّضَا إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ الْمُطْلَقِ، وَالِانْقِيَادِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَكُلُّ الْتِفَاتٍ عَنِ الْوَحْيِ أَوِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِ فَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلرِّضَا، وَدَلِيلٌ عَلَى النِّفَاقِ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ: الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَالتَّأَسِّي بِهِ، قَالَ -تعالى-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وَالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ ﷺ: هُوَ أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَمَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ، وَأَنْ نَتْرُكَ مَا تَرَكَهُ أَوْ نَهَى عَنْهُ مِنْ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ كَمَا يَشْمَلُ التَّأَسِّي بِهِ التَّأَدُّبَ بِآدَابِهِ، وَالتَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِهِ ﷺ.

* وَمِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: نَشْرُ دَعْوَتِهِ؛ فَمِنَ الْوَفَاءِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَقُومَ بِنَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ فِي كَافَّةِ أَصْقَاعِ الْأَرْضِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ ﷺ: ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَخْبَرَ ﷺ: ((أَنَّهُ مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ.

وَمِنْ أَسْبَابِ كَثْرَةِ الْأُمَّةِ: قِيَامُهَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ بَيَّنَ -تعالى- أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَيْهِ هِيَ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَقَالَ -تعالى-: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

فَعَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَتَمَسَّكَ بِوَظِيفَتِهَا الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ لِأَجْلِهَا، وَهِيَ الدَّعْوَةُ وَالْبَلَاغُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

* وَمِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: تَوْقِيرُهُ ﷺ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَهَذَا -أَيْضًا- مِنْ حُقُوقِهِ ﷺ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، قَالَ -تعالى-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8-9].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ: تُعَزِّرُوا الرَّسُولَ وَتُوَقِّرُوهُ، أَيْ: تُعَظِّمُوهُ وَتُجِلُّوهُ، وَتَقُومُوا بِحُقُوقِهِ كَمَا كَانَتْ لَهُ الْمِنَّةُ الْعَظِيمَةُ فِي رِقَابِكُمْ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ يُعَظِّمُونَهُ وَيُوَقِّرُونَهُ، وَيُجِلُّونَهُ إِجْلَالًا عَظِيمًا؛ فَقَدْ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقُوا لَهُ حَتَّى كَأَنَّمَا عَلَى رُؤُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَاللَّهِ! لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَهَا إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ)))).

وَأَمَّا تَوْقِيرُهُ ﷺ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ فَيَكُونُ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ، وَقَبُولِ حُكْمِهِ، وَالتَّأَدُّبِ مَعَ كَلَامِهِ، وَعَدَمِ مُخَالَفَةِ حَدِيثِهِ لِرَأْيِ مَذْهَبٍ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ الْإِمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ)).

* وَمِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ﷺ كُلَّمَا ذُكِرَ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

وَقَالَ ﷺ: ((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَالَ ﷺ: ((الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَمِنَ الْجَفَاءِ أَنْ يَسْمَعَ الْمُسْلِمُ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ يَبْخَلَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ.

* وَمِنْ حُقُوقِهِ ﷺ: مُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ، وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ ﷺ، قَالَ -تعالى-: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22].

وَمِنْ مُوَالَاتِهِ ﷺ: مُوَالَاةُ أَصْحَابِهِ وَمَحَبَّتُهُمْ، وَبِرُّهُمْ، وَمَعْرِفَةُ حَقِّهِمْ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُمْ أَوْ سَبَّهُمْ، أَوْ قَدَحَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ.

وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ آلِ بَيْتِهِ، وَمُوَالَاتُهُمْ، وَالذَّبُّ عَنْهُمْ، وَتَرْكُ الْغُلُوِّ فِيهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَحَبَّةُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمُوَالَاتُهُمْ، وَتَرْكُ انْتِقَاصِهِمْ وَالْخَوْضِ فِي أَعْرَاضِهِمْ.

وَمِنْ مُوَالَاةِ النَّبِيِّ ﷺ:  مُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ: ((أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ))، فَوَلَّى عَنْهُ وَهُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ: ((وَلَا نِصْفَ كَلِمَةٍ))؛ تَعْظِيمًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمُعَادَاةً لِأَعْدَائِهَا.

* وَمِنْ حُقُوقِهِ ﷺ: تَرْكُ الْغُلُوِّ فِيهِ، كَمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)). خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ  فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهِ: اعْتِقَادُ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نُورِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ أَنَّهُ مَظْهَرٌ يَتَجَلَّى اللَّهُ فِيهِ، أَوْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ خُلِقَتْ مِنْهُ، أَوْ أَنَّهُ خُلِقَ قَبْلَ آدَمَ، أَوْ أَنَّ الدُّنْيَا خُلِقَتْ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ أَنَّهُ يُسْتَغَاثُ بِهِ، أَوْ تُطْلَبُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ فِي قَبْرِهِ، أَوْ يُتَّخَذُ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ فِي الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ، أَوْ يُصْرَفُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِبَادَةِ؛ كَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالذَّبْحِ وَالنَّذْرِ، أَوْ يُسْجَدُ لَهُ عِنْدَ حُجْرَتِهِ، أَوْ يُطَافُ بِهَا، أَوْ يُتَمَسَّحُ بِجُدْرَانِهَا، أَوْ تُقَبَّلُ وَيُمَرَّرُ الْخَدُّ عَلَيْهَا، أَوْ يُحْلَفُ بِهِ، أَوْ يُشَدُّ الرَّحْلُ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ، أَوْ تُقَامُ أَعْيَادٌ لِمَوْلِدِهِ أَوْ بَعْثَتِهِ أَوْ هِجْرَتِهِ، أَوِ الْإِسْرَاءِ بِهِ وَالْعُرُوجِ.

((وُجُوبُ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ ))

عِبَادَ اللهِ! مِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: اتِّبَاعُهُ.

وَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ هُوَ الْبُرْهَانُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَمَنِ ادَّعَى الْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَمَحَبَّتَهُ ثُمَّ هُوَ لَا يَمْتَثِلُ لَهُ أَمْرًا، وَلَا يَنْتَهِي عَنْ مُحَرَّمٍ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ، وَلَا يَتَّبِعُ سُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ ﷺ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ.

لَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ ﷺ، وَالتَّأَسِّي بِهِ فِي مَوَاطِنَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَعَلَ اللَّهُ الِاتِّبَاعَ سَبِيلًا إِلَى نَيْلِ حُبِّهِ، وَوَسِيلَةً إِلَى تَحْقِيقِ رِضَاهُ، وَحُصُولِ غُفْرَانِهِ؛ إِذْ بِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ ﷺ يَحْصُلُ حُبُّ اللَّهِ -تَعَالَى- وَرِضَاهُ وَمَثُوبَتُهُ، فَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِهِ، وَالشَّرُّ كُلُّ الشَّرِّ فِي مُخَالَفَتِهِ وَالِابْتِعَادِ عَنْ سُنَّتِهِ، فَالِاتِّبَاعُ هُوَ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ وَبُرْهَانُهَا، وَبِتَحَقُّقِهِ تَكُونُ الْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ إِحْدَى ثَمَرَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.

كَمَا أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِهِ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ كَمَا فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةُ وَالْمَكَانَةُ لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ ﷺ نَابِعَةٌ مِنْ كَوْنِ هَذَا الِاتِّبَاعِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اتِّبَاعٌ لِلَّهِ؛ إِذِ الرَّسُولُ ﷺ إِنَّمَا جَاءَ بِهَذَا الدِّينِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَهُوَ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ الَّذِي أَوْحَاهُ لِرَسُولِهِ ﷺ لِيُبَلِّغَهُ لِلْعِبَادِ، فَالرَّسُولُ إِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} [البقرة: 285].

وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالتَّأَسِّي وَالِاتِّبَاعِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

جَاءَ الْأَمْرُ بِالِاتِّبَاعِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ تَأْكِيدًا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، وَإِلَّا فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ، وَلَكِنْ أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

فَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْجَبَتْ الِاتِّبَاعَ الْمُطْلَقَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ عَلَيْنَا فِعْلَهُ، وَمَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّ عَلَيْنَا تَرْكَهُ وَاجْتِنَابَهُ، فَهُوَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَرٍّ.

وَفِي هَذَا الِاتِّبَاعِ وَالِانْقِيَادِ حَيَاتُنَا وَفَلَاحُنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]؛ إِذِ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ حَيَاةُ مَنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَحْيَاءُ وَإِنْ مَاتُوا، وَغَيْرُهُمْ أَمْوَاتٌ وَإِنْ كَانُوا أَحْيَاءَ الْأَبْدَانِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلُ النَّاسِ حَيَاةً أَكْمَلَهُمُ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِنَّ كُلَّ مَا دَعَا إِلَيْهِ فَفِيهِ الْحَيَاةُ، فَمَنْ فَاتَهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَاتَهُ جُزْءٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَفِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ بِحَسَبِ مَا اسْتَجَابَ لِلرَّسُولِ ﷺ.

وَلَقَدْ أَعْقَبَ هَذَا الْأَمْرَ بِالِاسْتِجَابَةِ تَحْذِيرُ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِجَابَةَ لَهُ، أَوْ تَثَاقَلَ وَتَبَاطَأَ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ تَثَاقَلْتُمْ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ وَأَبْطَأْتُمْ عَنْهَا فَلَا تَأْمَنُوا أَنْ يَحُولَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَلَا يُمَكِّنَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِجَابَةِ عُقُوبَةً لَكُمْ بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ وَاسْتِبَانَتِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]: فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- مِنْ رَسُولِهِ الْأُسْوَةَ وَالْقُدْوَةَ لِيَحْتَذِيَ بِهِ الْخَلْقُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ ﷺ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ)).

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ رَحْمَتَهُ لَا تَنَالُ إِلَّا أَهْلَ الِاتِّبَاعِ وَالِانْقِيَادِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156-157].

وَقَدْ قَرَنَ -تَعَالَى- بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ وَالْفَلَاحِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- تَوَعَّدَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمُخَالِفِينَ أَمْرَهُ، تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ بِاتِّبَاعِ حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي هُوَ حُكْمُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ ﷺ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وَلَا يَكْفِي التَّحَاكُمُ إِلَيْهِ مَعَ بُغْضِ الْقَلْبِ لِحُكْمِهِ، بَلْ يَجِبُ انْشِرَاحُ الْقَلْبِ لِحُكْمِهِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَرَجٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِأَجَلِّ مُقْسَمٍ بِهِ -وَهُوَ نَفْسُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-- عَلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُمُ الْإِيمَانُ وَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ، فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الدِّينِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا حَتَّى ضَمَّ إِلَيْهِ انْشِرَاحَ صُدُورِهِمْ بِحُكْمِهِ؛ حَيْثُ لَا يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا -وَهُوَ الضِّيقُ وَالْحَصَرُ- مِنْ حُكْمِهِ، بَلْ إِنَّهُمْ يَقْبَلُونَ حُكْمَهُ بِالِانْشِرَاحِ، وَيُقَابِلُونَهُ بِالتَّسْلِيمِ)).

فَاتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِمَحَبَّتِهِ ﷺ، وَهَذَا حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِ ﷺ: اتِّبَاعُهُ وَمَحَبَّتُهُ.

مِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: طَاعَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ ﷺ؛ فَالصَّادِقُ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّهِ ﷺ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَهُ الْقُدْوَةَ وَالْأُسْوَةَ، وَالْمُحَكَّمَ فِي كُلِّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ، وَهَذَا الْحَقُّ يَتَضَمَّنُ مَا يَأْتِي:

أَوَّلًا: يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَنْ يُعَظِّمَهَا، وَهَذَا فَرْعٌ عَنْ صَادِقِ مَحَبَّتِهِ لَهُ ﷺ.

ثَانِيًا: عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ سُنَّتَهُ هِيَ غَايَةُ الْكَمَالِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهَا غَايَةُ الْهُدَى، وَالضِّدُّ بِالضِّدِّ: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، فَمَا ثَمَّ إِلَّا طَرِيقَانِ: الِاسْتِجَابَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، أَوِ اتِّبَاعُ الْهَوَى.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَلَهُ ﷺ حَوْضَانِ عَظِيمَانِ، حَوْضٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ سُنَّتُهُ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَحَوْضٌ فِي الْآخِرَةِ، فَالشَّارِبُونَ مِنْ هَذَا الْحَوْضِ فِي الدُّنْيَا هُمُ الشَّارِبُونَ مِنْ حَوْضِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَشَارِبٌ وَمَحْرُومٌ، وَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، فَمَنْ ظَمِئَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا شُرْبٌ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ ظَمَأً وَأَحَرُّ كَبِدًا)).

ثَالِثًا: الْمُبَادَرَةُ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ لِسُنَّتِهِ ﷺ دُونَ تَلَكُّؤٍ وَالدِّقَّةُ فِي تَطْبِيقِهَا.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

رَابِعًا: التَّسْلِيمُ التَّامُّ لِسُنَّتِهِ ﷺ، وَالتَّجَافِي عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا، وَمَا أَكْثَرَ التَّقْصِيرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَكَمْ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا ذُكِرَتْ لَهُ السُّنَّةُ حَكَّمَ عَقْلَهُ وَقَالَ: لَكِنَّ الْعَقْلَ يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَكَمْ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا ذُكِرَتْ لَهُ السُّنَّةُ قَالَ: وَلَكِنَّ هَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبِي، وَكَمْ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا ذُكِرَتْ لَهُ السُّنَّةُ تَمَحَّلَ الْأَعْذَارَ الْوَاهِيَةَ لِتَرْكِهَا، وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ حَدِيثٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ((فَمَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟)).

فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ وَانْتَفَضَ وَقَالَ: ((أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا رَوَيْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقُلْتُ بِغَيْرِهِ؟!)).

وَهَذَا هُوَ مَوْقِفُ الْمُسْلِمِ الصَّادِقِ الْإِذْعَانُ وَالتَّسْلِيمُ، وَرَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

وَسَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ الصَّلَاةِ بِمِنًى أَيْ لِمَ كَانَتْ مَقْصُورَةً فَقَالَ لَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((هَلْ سَمِعْتَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ؟)).

فَقَالَ الرَّجُلُ: ((نَعَمْ وَآمَنْتُ بِهِ)).

قَالَ: ((فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ)).

وَهَكَذَا تَكُونُ التَّرْبِيَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالِاتِّبَاعِ، فَيَكْفِيكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَفْعَلُ، وَلَا خِيَارَ لَكَ حِينَهَا إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ.

خَامِسًا: الْحَذَرُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ إِحْدَاثٍ فِي الدِّينِ، فَلِسَانُ حَالِ الْمُحْدِثِ يَقُولُ: سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ غَيْرُ كَافِيَةٍ، فَأَنَا أَزِيدُ عَلَيْهَا بِدَعًا.

((ثَمَرَاتُ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ ثَمَرَاتِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ كَثِيرَةٌ وَعَظِيمَةٌ.

* فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَائِزِينَ فَعَلَيْهِ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﷺ: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52].

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ: الْهِدَايَةُ إِلَى الْحَقِّ، قَالَ -تعالى-: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].

{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ: رَحْمَةُ اللهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ: حُبُّ اللَّهِ وَمَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، قَالَ -تعالى-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ: دُخُولُ الْجَنَّةِ، فَمَنْ نَالَ هِدَايَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَحُبَّهُ وَغُفْرَانَهُ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ وَفَازَ الْفَوْزَ الْعَظِيمَ، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71].

وَقَالَ -تعالى-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13].

وَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)).

قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟)).

قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَالْمُرَادُ بِالْإِبَاءِ هُنَا: هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الِالْتِزَامِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَعِصْيَانُ أَمْرِهِ.

وَالْمَوْصُوفُ بِالْإِبَاءِ وَالِامْتِنَاعِ إِنْ كَانَ كَافِرًا فَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا مُنِعَ مِنْ دُخُولِهَا مَعَ أَوَّلِ دَاخِلٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ -تعالى-.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِي لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ ﷺ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ)) أَيْ: يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ بِتَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ.

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الطَّاعَةِ وَالِاتِّبَاعِ: مَعِيَّةُ الرَّسُولِ ﷺ، قَالَ -تعالى-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69) ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69-70].

وَأَيُّ شَرَفٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الشَّرَفِ أَنْ يَنَالَ الْمُؤْمِنُ ذَاكَ الْمَقَامَ الرَّفِيعَ فِي صُحْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْأَخْيَارِ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْقَرَارِ؟!

وَمَنْ ذَا الَّذِي يَزْهَدُ فِي تِلْكَ الثَّمَرَاتِ، وَيَعْزِفُ عَنْ هَذِهِ الْمَكْرُمَاتِ؟!

وَإِذَا كَانَ هَذَا بَعْضَ فَضْلِ مَنْ لَازَمَ السُّنَّةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ عَانَدَ السُّنَّةَ وَأَصَرَّ عَلَى تَنَكُّبِ طَرِيقِهَا فَقَدْ أَوْرَدَ نَفْسَهُ الْمَوَارِدَ، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَيَكْفِيهِ أَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

وَمُتَوَعَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ فِيهِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27].

هَذَا سِوَى عُقُوبَةٍ قَدْ تَحُلُّ بِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، قَالَ ﷺ: ((وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصِّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي)).

وَلْيَتَأَمَّلِ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَجِيبَةَ، فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلْ بِيَمِينِكَ)).

فَاسْتَكْبَرَ عَنِ الْأَمْرِ وَقَالَ: ((لَا أَسْتَطِيعُ)).

فَقَالَ ﷺ: ((لَا اسْتَطَعْتَ! مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ)).

قَالَ الرَّاوِي: ((فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ)) أَيْ: إِلَى فَمِهِ، أَيْ: شَلَّتْ يَدُهُ -عِيَاذًا بِاللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا--.

((بَيَانُ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ ﷺ ))

مِنْ حُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ: وُجُوبُ طَاعَتِهِ، وَالْحَذَرُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ.

قَالَ -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

وَقَالَ -تعالى-: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].

وَقَالَ -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وَقَالَ -تعالى-: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

وَقَالَ -تعالى-: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((كُلُّ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟)).

قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. 

لَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ مَعْصِيَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ((إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَعْصِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ لَهُ: ((كُلْ بِيَمِينِكَ)).

قَالَ: ((لَا أَسْتَطِيعُ)).

فَقَالَ لَهُ ﷺ: ((لَا اسْتَطَعْتَ! مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ)).

قَالَ: ((فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا، وَحَسَّنَهُ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْنَا تَبُوكَ قَالَ: ((أَمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهَا)).

((فَعَقَلْنَاهَا، وَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ -أَيِ: الرِّيحُ- بِجَبَلِ طَيِّئٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: ((لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ))، فَقَالَ لَهُ: ((لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)).

قَالَ -أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ-: قُلْتُ: ((طَهُورٌ، كَلًّا بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَنَعَمْ إِذَنْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ شُرَحْبِيلَ الْجُعْفِيِّ قَالَ: ((كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ؛ إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ طَوِيلٌ أَبْيَضُ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! شَيْخٌ كَبِيرٌ بِهِ حُمَّى تَفُورُ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((شَيْخٌ كَبِيرٌ بِهِ حُمَّى تَفُورُ هِيَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ)).

فَأَعَادَ -أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ-، وَأَعَادَهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ أَرْبَعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَهِيَ كَمَا تَقُولُ، وَمَا قَضَى اللَّهُ فَهُوَ كَائِنٌ)).

قَالَ: ((مَا أَمْسَى مِنَ الْغَدِ إِلَّا مَيِّتًا)).

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ حَزْنٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((مَا اسْمُكَ؟)).

قَالَ: ((حَزْنٌ)).

وَالْحُزُونَةُ: هِيَ الصُّعُوبَةُ ضِدُّ السُّهُولَةِ.

قَالَ: ((حَزْنٌ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنْتَ سَهْلٌ)).

قَالَ: ((مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي)).

قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: ((فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

فَيَجِبُ السَّيْرُ عَلَى هَدْيِهِ، وَالْتِزَامُ سُنَّتِهِ، وَالْحَذَرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، قَالَ ﷺ: ((فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)).

((دَلَائِلُ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ ﷺ ))

عِبَادَ اللهِ! لِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ ﷺ دَلَائِلُ.

* مِنْ أَهَمِّ دَلَائِلِ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ ﷺ: تَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ الْمَجِيدِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ كَانَ مُعَظِّمًا لَهُ حَقًّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَهُ فِي ذَلِكَ لَا مُخَالِفًا.

* وَمِنْ دَلَائِلِ التَّعْظِيمِ: تَجْرِيدُ مُتَابَعَتِهِ ﷺ، وَتَحْكِيمُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ.

* وَمِنْ دَلَائِلِ التَّعْظِيمِ: تَعْظِيمُ سُنَّتِهِ ﷺ، وَالسَّعْيُ فِي تَعَلُّمِهَا، وَالْفَرَحُ بِسَمَاعِ حَدِيثِهِ، وَالْإِصْغَاءُ لَهُ.

وَمِنْ لَطِيفِ مَا يُذْكَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، قَالَ: ((أَرَى رَفْعَ الصَّوْتِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، إِذَا قُرِئَ حَدِيثُهُ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُنْصِتَ لَهُ كَمَا تُنْصِتُ لِلْقُرْآنِ)).

* وَمِنْ دَلَائِلِ التَّعْظِيمِ لِلرَّسُولِ ﷺ: الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَالذَّوْدُ عَنْ عِرْضِهِ؛ فَهُوَ الْمُفَدَّى بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ.

* وَمِنْ دَلَائِلِ التَّعْظِيمِ:  تَبْلِيغُ سُنَّتِهِ ﷺ لِلنَّاسِ، وَقَدْ قَالَ ﷺ: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مَبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَتَبْلِيغُ سُنَّتِهِ إِلَى الْأُمَّةِ أَفْضَلُ مِنْ تَبْلِيغِ السِّهَامِ إِلَى نُحُورِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّبْلِيغَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا تَبْلِيغُ السُّنَنِ فَلَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاؤُهُمْ فِي أُمَمِهِمْ جَعَلَنَا اللَّهُ -تعالى- مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ)).

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَعْظِيمِهِ ﷺ فِي شَيْءٍ أَنْ يُرْفَعَ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا؛ فَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ عَبْدٌ لَا يُعْبَدُ، وَنَبِيٌّ لَا يُكَذَّبُ، بَلْ يُطَاعُ وَيُتَّبَعُ، فَغُلُوُّ مَنْ غَلَا فِيهِ فَخَلَعَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْ حُقُوقِ الْأُلُوهِيَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّعْظِيمِ الشَّرْعِيِّ فِي شَيْءٍ، بَلْ هَذَا عَيْنُ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُحَادَّةِ لَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْهَانَا ﷺ عَنِ الْغُلُوِّ عُمُومًا، وَيَنْهَانَا عَنِ الْغُلُوِّ فِيهِ خُصُوصًا، أَلَيْسَ هُوَ ﷺ الْقَائِلَ: ((لَا تَطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

إِذَنْ؛ أَيُّ تَعْظِيمٍ هَذَا الَّذِي لَمْ يُؤْخَذْ فِيهِ بِقَوْلِهِ، وَلَا اتُّبِعَ فِيهِ فِعْلُهُ، وَلَا رُضِيَ فِيهِ بِحُكْمِهِ؟!!

فَثَمَّةَ فُرْقَانٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحَقِّ رَسُولِهِ ﷺ، حَقِّ الْأُلُوهِيَّةِ وَحَقِّ النُّبُوَّةِ، وَمَنْ خَلَطَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ.

وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي النُّونِيَّةِ:

لِلَّهِ حَقٌّ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ               =             وَلِعَبْدِهِ حَقٌّ هُمَا حَقَّانِ

لَا تَجْعَلُوا الْحَقَّيْنِ حَقًّا وَاحِدًا        =            مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ وَلَا فُرْقَانِ

((بَعْضُ ثَمَرَاتِ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الرَّسُولِ ﷺ ))

لَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ -تعالى- مَنْ قَامَ بِحُقُوقِ النَّبِيِّ ﷺ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ وَالْهِدَايَةِ، قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف: 156-158].

((قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}: مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ، وَلَكِنَّ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسَتْ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهَا: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الْمَعَاصِيَ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: الْوَاجِبَةَ مُسْتَحِقِّيهَا، {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}.

وَمِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِآيَاتِ اللَّهِ: مَعْرِفَةُ مَعْنَاهَا، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَمِنْ ذَلِكَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ.

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ}: احْتِرَازٌ عَنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ﷺ.

وَالسِّيَاقُ فِي أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ شَرْطٌ فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الْمُتَّبِعِينَ هُمْ أَهْلُ الرَّحْمَةِ الْمُطْلَقَةِ، الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَوَصَفَهُ بِالْأُمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، وَلَيْسَ عِنْدَهَا قَبْلَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ.

{الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}: بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ، الَّتِي مِنْ أَعْظَمِهَا وَأَجَلِّهَا مَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ، وَأَنَّهُ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}: وَهُوَ كُلُّ مَا عُرِفَ حُسْنُهُ وَصَلَاحُهُ وَنَفْعُهُ، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}: وَهُوَ كُلُّ مَا عُرِفَ قُبْحُهُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ.

فَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ وَالْمَمْلُوكِ، وَبَذْلِ النَّفْعِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْبِرِّ، وَالنَّصِيحَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ مَا يُسْكِرُ الْعَقْلَ، وَالظُّلْمِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، وَالْكَذِبِ، وَالْفُجُورِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَأَعْظَمُ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مَا دَعَا إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَحَلَّهُ وَحَرَّمَهُ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَنَاكِحِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أَيْ: وَمِنْ وَصْفِهِ أَنَّ دِينَهُ سَهْلٌ سَمْحٌ مُيَسَّرٌ، لَا إِصْرَ فِيهِ، وَلَا أَغْلَالَ، وَلَا مَشَقَّاتِ وَلَا تَكَالِيفَ ثِقَالًا.

{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ} أَيْ: عَظَّمُوهُ وَبَجَّلُوهُ {وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}: وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَالْجَهَالَاتِ، وَيُقْتَدَى بِهِ إِذَا تَعَارَضَتِ الْمَقَالَاتُ، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: الظَّافِرُونَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالنَّاجُونَ مِنْ شَرِّهِمَا؛ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَكْبَرِ أَسْبَابِ الْفَلَاحِ.

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَذَا النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَيُعَزِّرْهُ، وَيَنْصُرْهُ، وَلَمْ يَتَّبِعِ النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ.

وَلَمَّا دَعَا أَهْلَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَكَانَ رُبَّمَا تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ فَقَالَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أَيْ: عَرَبِيِّكُمْ، وَعَجَمِيِّكُمْ، أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْكُمْ، وَغَيْرِهِمْ، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}: يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا بِأَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالتَّدَابِيرِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَبِأَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا عَظِيمًا يَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، وَيُحَذِّرُكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُبَاعِدُكُمْ مِنْهُ، وَمِنْ دَارِ كَرَامَتِهِ.

{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلَا تُعْرَفُ عِبَادَتُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ، {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ تَدَابِيرِهِ: الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، الَّذِي جَعَلَ الْمَوْتَ جِسْرًا وَمَعْبَرًا يُعْبَرُ مِنْهُ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، الَّتِي مَنْ آمَنَ بِهَا صَدَّقَ الرَّسُولَ مُحَمَّدًا ﷺ قَطْعًا.

{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ}: إِيمَانًا فِي الْقَلْبِ مُتَضَمِّنًا لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} أَيْ: آمِنُوا بِهَذَا الرَّسُولِ الْمُسْتَقِيمِ فِي عَقَائِدِهِ وَأَعْمَالِهِ، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: فِي مَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا لَمْ تَتَّبِعُوهُ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)).

وَأَرْسَلَ اللَّهُ -تعالى- النَّبِيَّ الْكَرِيمَ ﷺ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

وَهُوَ الدَّاعِي لِكُلِّ خَيْرٍ، الْمُحَذِّرُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ لِجَمِيعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 45-48].

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16].

وَهُوَ ﷺ مِنَّةُ الْمِنَنِ مِنَ اللهِ -تعالى- عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].

((مَحَبَّةُ الرَّسُولِ ﷺ عَلَامَةُ الْإِيمَانِ))

الْمُؤْمِنُ الْحَقِيقِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مِنْ سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سَبَبٌ فِي إِيمَانِهِ، وَسَبَبٌ فِي نَجَاتِهِ مِنَ النَّارِ، وَسَبَبُ سَعَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ عَظِيمَ قَدْرِ مَحَبَّتِهِ فَقَالَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَأَيُّ إِنْسَانٍ لَا يُحِبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَإِنْ تَسَمَّى بِأَسْمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، بَلْ وَإِنْ كَانَ مُلْتَزِمًا بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَالشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

وَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ حُبُّ النَّبِيِّ عَلَى سَائِرِ الْمَحْبُوبَاتِ سِوَى اللهِ -تَعَالَى-، فَيَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ حُبِّ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، بَلْ أَكْبَرَ مِنْ حُبِّ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، وَهَذِهِ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا أَهْلُ الْكَمَالِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: نِعْمَةُ الْهَادِي الْبَشِيرِ وَوُجُوبُ اتِّبَاعِهِ ﷺ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْمَالُ الْحَرَامُ، وَأَثَرُهُ الْمُدَمِّرُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ
  الْإِسْلَامُ عَمَلٌ وَسُلُوكٌ..نَمَاذِجُ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ
  مَفْهُومُ التَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ
  حَقُّ الْوَطَنِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي بِنَائِهِ
  وَحْدَةُ الْوَطَنِ سَبِيلُ قُوَّتِهِ
  الْأُسْرَةُ سَكَنٌ وَمَوَدَّةٌ
  ((مِنْ دُرُوسِ شَهْرِ رَمَضَانَ)) رَمَضَان 1444هـ
  مواعظ رمضانية - الجزء الأول
  الْاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ... وَكَيْفَ نَحْيَاهُ؟
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان