الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

((الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ أَصْلُ الْعِلْمِ))

((فَإِنَّ أَفْضَلَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْحَالِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَرْضَاتِهِ، وَانْجِذَابُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ؛ فَهَذَا أَشْرَفُ مَا فِي الدُّنْيَا، وَجَزَاؤُهُ أَشْرَفُ مَا فِي الْآخِرَةِ.

وَأَجَلُّ الْمَقَاصِدِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ، وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِهِ، وَهَذَا أَجَلُّ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي تُطْلَبُ لِذَاتِهَا.

وَكُلُّ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ تَبَعٌ لِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، مُرَادَةٌ لِأَجْلِهَا، وَتَفَاوُتُ الْعُلُومِ فِي فَضْلِهَا بِحَسَبِ إِفْضَائِهَا إِلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَبُعْدِهَا؛ فَكُلُّ عِلْمٍ كَانَ أَقْرَبَ إِفْضَاءً إِلَى الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَهُوَ أَعْلَى مِمَّا دُونَهُ.

وَكَذَلِكَ حَالُ الْقَلْبِ؛ فَكُلُّ حَالٍ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ فَهُوَ أَشْرَفُ مِمَّا دُونَهُ.

وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ؛ فَكُلُّ عَمَلٍ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ أَوْ أَفْضَلَهَا؛ لِقُرْبِ إِفْضَائِهَا إِلَى الْمَقْصُودِ.

وَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ؛ فَإِنَّ كُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَقْرَبَ إِلَى الْغَايَةِ كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْبَعِيدِ عَنْهَا، فَالْعَمَلُ الْمُعِدُّ لِلْقَلْبِ، الْمُهَيِّأُ لَهُ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ)).

((عَقِيدَتُنَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ))

تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَإِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ، كَمَا جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- بَيْنَ إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِ التَّكْيِيفِ عَنْهَا فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ -يَعْنِي: لَمَّا ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ-: ((انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ)).

فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2])).

وَالصَّمَدُ: الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا سَيُورَثُ، وَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يَمُوتُ، وَلَا يُورَثُ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.

وَأَرْكَانُ الْإِيمَانِ بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ ثَلَاثَةٌ، هِيَ:

-إِيمَانٌ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كُلِّهَا.

-وَإِيمَانٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ.

-وَإِيمَانٌ بِأَحْكَامِ صِفَاتِهِ وُمَتَعَلَّقَاتِهَا.

فَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ، لَهُ الْعِلْمُ الْكَامِلُ الْمُحِيطُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ قَدِيرٌ ذُو قُدْرَةٍ عَظِيمَةٍ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ رَحْمَنٌ، ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ يَرْحَمُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ، وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ وُمَتَعَلَّقَاتِهَا.

وَطَرِيقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ -تَعَالَى- وَصِفَاتِهِ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ فِي كِتَابِ اللهِ أَوْ فِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَيُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيفِ الْمُحَرِّفِينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيفَ الْمُحَرِّفِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى سُوءِ فَهْمٍ، أَوْ سُوءِ قَصْدٍ؛ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا أَثْبَتُوا تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا؛ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ إِثْبَاتٌ لِلتَّمْثِيلِ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَدْ يَكُونُونَ مِمَّنْ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا الْفَهْمَ؛ وَلَكِنْ لَهُمْ سُوءُ قَصْدٍ فِي تَفْرِيقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ شِيَعًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ مَا سَمَّى اللهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ فَهُوَ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَعَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيفِ الْمُحَرِّفِينَ، بَلْ هُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ -أَيْضًا- لَا يُمْكِنُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ أَوِ الْمُمَاثَلَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ.

بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى يَسْلَمُونَ مِنَ الزَّيْغِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، فَلَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ إِلَّا مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ، غَيْرَ زَائِدِينَ فِي ذَلِكَ وَلَا نَاقِصِينَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ: أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ وَصِفَاتِهِ تَوْقِيفِيَّةٌ، فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يَصِفَ اللهَ بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ.

فَأَسْمَاءُ اللهِ -تَعَالَى- وَصِفَاتُهُ تَوْقِيفِيَّةٌ، لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا؛ وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْوُقُوفُ فِيهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُمْكِنُهُ إِدْرَاكُ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّصِّ.  

وَلِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ -تَعَالَى- بِمَا لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ إِنْكَارَ مَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ جِنَايَةٌ فِي حَقِّهِ -تَعَالَى-، فَوَجَبَ سُلُوكُ الْأَدَبِ فِي ذَلِكَ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ.

فَأَيُّ إِنْسَانٍ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ كَذَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ كَذَا، أَوْ إِنَّ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى- كَذَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى- كَذَا بِلَا دَلِيلٍ؛ فَإِنَّهُ -لَا شَكَّ- قَوْلٌ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- بِلَا عِلْمٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

((خَطَرُ الْجَهْلِ بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ))

((الْجُهَّالُ بِاللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، الْمُعَطِّلُونَ لِحَقَائِقِهَا يُبَغِّضُونَ اللهَ إِلَى خَلْقِهِ، وَيَقْطَعُونَ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ مَحَبَّتِهِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ يُقَرِّرُونَ فِي نُفُوسِ الضُّعَفَاءِ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- لَا تَنْفَعُ مَعَهُ طَاعَةٌ وَإِنْ طَالَ زَمَانُهَا، وَبَالَغَ الْعَبْدُ وَأَتَى بِهَا بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ وَلَا أَمْنٍ مِنْ مَكْرِهِ، بَلْ شَأْنُهُ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يَأْخُذَ الْمُطِيعَ الْمُتَّقِيَ مِنَ الْمِحْرَابِ إِلَى الْمَاخُورِ، وَمِنَ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ إِلَى الشِّرْكِ وَالْمِزْمَارِ، وَيُقَلِّبُ قَلْبَهُ مِنَ الْإِيمَانِ الْخَالِصِ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ آثَارًا صَحِيحَةً لَمْ يَفْهَمُوهَا، وَبَاطِلَةً لَمْ يَقُلْهَا الْمَعْصُومُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَيَتْلُونَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

وَقَوْلَهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].

وَقَوْلَهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].

وَيُقِيمُ هَؤُلَاءِ إِبْلِيسَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ طَاوُوسَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ فِي السَّمَاءِ رُقْعَةً وَلَا فِي الْأَرْضِ بُقْعَةً إِلَّا وَلَهُ فِيهَا سَجْدَةٌ أَوْ رَكْعَةٌ؛ وَلَكِنْ جَنَا عَلَيْهِ جَانِي الْقَدَرِ، وَسَطَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَقَلَبَ عَيْنَهُ الطَّيِّبَةَ، وَجَعَلَهَا أَخْبَثَ شَيْءٍ؛ حَتَّى قَالَ بَعْضُ عَارِفِيهِمْ: ((إِنَّكَ يَنْبَغِي أَنْ تَخَافَ اللهَ كَمَا تَخَافُ الْأَسَدَ الَّذِي يَثِبُ عَلَيْكَ بِغَيْرِ جُرْمٍ مِنْكَ وَلَا ذَنْبٍ أَتَيْتَهُ إِلَيْهِ!!)).

وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ -وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا)).

وَيَرْوُونَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ)).

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَوْ غَيْرِهِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو: ((اللهم لَا تُؤَمِّنِّي مَكْرَكَ)).

فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: ((قُل: اللهم لَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَأْمَنُ مَكْرَكَ)).

وَبَنَوْا هَذَا عَلَى أَصْلِهِمُ الْبَاطِلِ؛ وَهُوَ إِنْكَارُ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ اللهَ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ وَلَا لِسَبَبٍ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِمَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِ، فَلَا يَفْعَلُ لِشَيْءٍ وَلَا بِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَذِّبَ أَهْلَ طَاعَتِهِ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَيُنَعِّمَ أَعْدَاءَهُ وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَلَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ ذَلِكَ إِلَّا بِخَبَرٍ مِنَ الصَّادِقِ أَلَّا يَفْعَلَهُ؛ فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ لِوُقُوعِ الْخَبَرِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ، لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَظُلْمٌ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَحِيلٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَبِمَثَابَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَعْلِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ؛ فَهَذَا حَقِيقَةُ الظُّلْمِ عِنْدَهُمْ.

فَإِذَا رَجَعَ الْعَامِلُ إِلَى نَفْسِهِ قَالَ -عِنْدَمَا يَأْخُذُ بِهَذِهِ الْمَقُولَةِ الْبَاطِلَةِ، وَيَعْتَقِدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ؛ بَلْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَنْسِفُهُ نَسْفًا، وَتَمْحَقُهُ مَحْقًا-؛ إِذَا رَجَعَ الْعَامِلُ إِلَى نَفْسِهِ قَالَ: مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ أَمْرٌ، وَلَا يُؤْمَنُ لَهُ مَكْرٌ؛ كَيْفَ يُوثَقُ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ يُعَوَّلُ عَلَى طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَلَيْسَ لَنَا سِوَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، فَإِذَا هَجَرْنَا فِيهَا اللَّذَّاتِ، وَتَرَكْنَا الشَّهَوَاتِ، وَتَكَلَّفْنَا أَثْقَالَ الْعِبَادَاتِ، وَكُنَّا مَعَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ مِنْهُ أَنْ يُقَلِّبَ عَلَيْنَا الْإِيمَانَ كُفْرًا، وَالتَّوْحِيدَ شِرْكًا، وَالطَّاعَةَ مَعْصِيَةً، وَالْبِرَّ فُجُورًا، وَيُدِيمَ عَلَيْنَا الْعُقُوبَاتِ؛ كُنَّا خَاسِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ!!

فَإِذَا اسْتَحْكَمَ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَخَمَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ؛ صَارُوا إِذَا أُمِرُوا بِالطَّاعَاتِ، وَهَجْرِ الْمَلَذَّاتِ؛ بِمَنْزِلَةِ إِنْسَانٍ جَعَلَ يَقُولُ لِوَلَدِهِ: ((مُعَلِّمُكَ؛ إِنْ كَتَبْتَ، وَأَحْسَنْتَ، وَتَأَدَّبْتَ، وَلَمْ تَعْصِهِ؛ رُبَّمَا أَقَامَ لَكَ حُجَّةً وَعَاقَبَكَ، وَإِنْ كَسِلْتَ، وَبَطَلْتَ، وَتَعَطَّلْتَ، وَتَرَكْتَ مَا أَمَرَكَ بِهِ؛ رُبَّمَا قَرَّبَكَ وَأَكْرَمَكَ!)).

فَيُودِعُ بِهَذَا الْقَوْلِ قَلْبَ الصَّبِيِّ مَا لَا يَثِقُ بَعْدَهُ إِلَى وَعِيدِ الْمُعَلِّمِ، وَلَا وَعْدِهِ عَلَى الْإِحْسَانِ، وَإِنْ كَبِرَ الصَّبِيُّ وَصَلَحَ لِلْمُعَامَلَاتِ وَالْمَنَاصِبِ قَالَ لَهُ : ((هَذَا سُلْطَانُ بَلَدِنَا يَأْخُذُ اللِّصَّ مِنَ الْحَبْسِ، فَيَجْعَلُهُ وَزِيرًا وَأَمِيرًا، وَيَأْخُذُ الْكَيِّسَ الْمُحْسِنَ لِيُشَغِّلَهُ وَيُخَلِّدَهُ فِي الْحَبْسِ، وَلِيَقْتُلَهُ وَيَصْلُبَهُ))، فَإِذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ أَوْحَشَهُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَجَعَلَهُ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَزَالَ مَحَبَّتَهُ مِنْ قَلْبِهِ، وَجَعَلَهُ يَخَافُهُ مَخَافَةَ الظَّالِمِ الَّذِي يَأْخُذُ الْمُحْسِنَ بِالْعُقُوبَةِ، وَيَأْخُذُ الْبَرِيءَ بِالْعَذَابِ؛ فَأَفْلَسَ هَذَا الْمِسْكِينُ مِنِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الْأَعْمَالِ نَافِعَةً أَوْ ضَارَّةً، فَلَا بِفِعْلِ الْخَيْرِ يَسْتَأْنِسُ، وَلَا مِنْ فِعْلِ الشَّرِّ يَسْتَوْحِشُ.

وَهَلْ فِي التَّنْفِيرِ عَنِ اللهِ، وَتَبْغِيضِهِ إِلَى عِبَادِهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؟!!

وَلَوِ اجْتَهَدَ الْمَلَاحِدَةُ فِي تَبْغِيضِ الدِّينِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ اللهِ؛ لَمَا أَتَوْا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا!!

وَصَاحِبُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَظُنُّ أَنَّهُ يُقَرِّرُ التَّوْحِيدَ وَالْقَدَرَ، وَيَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيَنْصُرُ الدِّينَ، وَلَعَمْرُ اللهِ! الْعَدُوُّ الْعَاقِلُ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الصَّدِيقِ الْجَاهِلِ، وَكُتُبُ اللهِ الْمُنَزَّلَةُ كُلُّهَا وَرُسُلُهُ كُلُّهُمْ شَاهِدَةٌ بِضِدِّ ذَلِكَ؛ وَلَا سِيَّمَا الْقُرْآنُ، فَلَوْ سَلَكَ الدُّعَاةُ الْمَسْلَكَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ اللهُ وَرَسُولُهُ، الَّذِي دَعَوْا بِهِ النَّاسَ؛ لَصَلَحَ الْعَالَمُ صَلَاحًا لَا فَسَادَ مَعَهُ.

فَاللهُ -سُبْحَانَهُ- أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَامِلُ النَّاسَ بِكَسْبِهِمْ، وَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَخَافُ الْمُحْسِنُ لَدَيْهِ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا، وَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا، وَلَا يُضِيعُ عَمَلَ الْمُحْسِنِ أَبَدًا، وَلَا يُضَيِّعُ عَلَى الْعَبْدِ مِثْقَالَ ذَّرةٍ وَلَا يَظْلِمُهَا، {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].

وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ جَازَاهُ بِهَا، وَلَا يُضَيِّعُهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، وَيُحْبِطُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَالنَّدَمِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْحَسَنَاتِ، وَالْمَصَائِبِ، وَيَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، وَيُضَاعِفُ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ.

وَهُوَ -تَعَالَى- الَّذِي أَصْلَحَ الْفَاسِدِينَ، وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ الْمُعْرِضِينَ، وَتَابَ عَلَى الْمُذْنِبِينَ، وَهَدَى الضَّالِّينَ، وَأَنْقَذَ الْهَالِكِينَ، وَعَلَّمَ الْجَاهِلِينَ، وَبَصَّرَ الْمُتَحَيِّرِينَ، وَذَكَّرَ الْغَافِلِينَ، وَآوَى الشَّارِدِينَ، وَإِذَا أَوْقَعَ عِقَابًا أَوْقَعَهُ بَعْدَ شِدَّةِ التَّمَرُّدِ وَالْعُتُوِّ عَلَيْهِ، وَدَعْوَةِ الْعَبْدِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَحَقِّهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، حَتَّى إِذَا أَيِسَ مِنِ اسْتِجَابَتِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ؛ أَخَذَهُ بِبَعْضِ كُفْرِهِ وَعُتُوِّهِ وَتَمَرُّدِهِ؛ بِحَيْثُ يَعْذُرُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ، فَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَمْ يَظْلِمْهُ، وَأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [المُلك: 11].

وَقَالَ عَمَّنْ أَهْلَكَهُمْ فِي الدُّنْيَا: إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا آيَاتِهِ وَأَحَسُّوا بِعَذَابِهِ: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 14-15]

وَقَالَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا عَلَيْهِمْ لَمَّا رَأَوْهَا: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [ن: 29].

قَالَ الْحَسَنُ: ((لَقَدْ دَخَلُوا النَّارَ وَإِنَّ حَمْدَهُ لَفِي قُلُوبِهِمْ، مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ -تَعَالَى- حُجَّةً وَلَا سَبِيلًا))؛ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].

فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: قُطِعَ دَابِرُهُمْ حَالَ كَوْنِهِ -سُبْحَانَهُ- مَحْمُودًا عَلَى ذَلِكَ، فَقَطَعَ دَابِرَهُمْ قَطْعًا مُصَاحِبًا لِحَمْدِهِ، فَهُوَ قَطْعٌ وَإِهْلَاكٌ يُحْمَدُ عَلَيْهِ الرَّبُّ -تَعَالَى-؛ لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَوَضْعِهِ الْعُقُوبَةَ فِي مَوْضِعِهَا الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهَا، فَوَضَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقُولُ مَنْ عَلِمَ الْحَالَ: لَا تَلِيقُ الْعُقُوبَةُ إِلَّا بِهَذَا الْمَحَلِّ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الْعُقُوبَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَ إِخْبَارِهِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَمَصِيرِ أَهْلِ السَّعَادَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ الشَّقَاءِ إِلَى النَّارِ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]، فَحَذَفَ فَاعِلَ الْقَوْلِ إِشْعَارًا بِالْعُمُومِ، وَأَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لَمَّا شَاهَدُوا مِنْ حِكْمَتِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفَضْلِهِ مَا تَقَرُّ بِهِ الْقُلُوبُ، وَتَعْتَرِفُ بِهِ الْأَفْئِدَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَقِّ أَهْلِ النَّارِ: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر: 72]، كَأَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ؛ حَتَّى تَقُولَهُ أَعْضَاؤُهُمْ، وَأَرْوَاحُهُمْ، وَأَرْضُهُمْ، وَسَمَاؤُهُمْ؛ فَقَدْ حَذَفَ فَاعِلَ الْقَوْلِ إِشْعَارًا بِالْعُمُومِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يُخْبِرُ أَنَّهُ إِذَا أَهْلَكَ أَعْدَاءَهُ أَنْجَى أَوْلِيَاءَهُ، وَلَا يَعُمُّهُمْ بِالْهَلَاكِ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ.

وَلَمَّا سَأَلَهُ نُوحٌ نَجَاةَ ابْنِهِ أُخْبِرَ أَنَّهُ يُغْرِقُهُ بِسُوءِ عَمَلِهِ وَكُفْرهِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي أُغْرِقُهُ بِمَحْضِ مَشِيئَتِي وَإِرَادَتِي بِلَا سَبَبٍ وَلَا ذَنْبٍ.

وَقَدْ ضَمِنَ -سُبْحَانَهُ- زِيَادَةَ الْهِدَايَةِ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ يُضِلُّهُمْ، وَيُبْطِلُ سَعْيَهُمْ.

 وَكَذَلِكَ ضَمِنَ زِيَادَةَ الْهِدَايَةِ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رِضْوَانَهُ.

وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُضِلُّ مَنْ آثَرَ الضَّلَالَ، وَاخْتَارَهُ عَلَى الْهُدَى، فَيَطْبَعُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -حِينَئِذٍ- عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ.

وَأَنَّهُ -تَعَالَى- يُقَلِّبُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهُدَاهُ إِذَا جَاءَهُ الْهُدَى وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَدَفَعَهُ وَرَدَّهُ، فَيُقَلِّبُ فُؤَادَهُ وَبَصَرَهُ؛ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى رَدِّهِ وَدَفْعِهِ لِمَا تَحَقَّقَهُ وَعَرَفَهُ، وَأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَوْ عَلِمَ فِي تِلْكَ الْمَحَالِّ الَّتِي حَكَمَ عَلَيْهَا بِالضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ خَيْرًا لَأَفْهَمَهَا وَهَدَاهَا؛ وَلَكِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِنِعْمَتِهِ، وَلَا تَلِيقُ بِهَا كَرَامَتُهُ.

وَقَدْ أَزَاحَ -سُبْحَانَهُ- الْعِلَلَ، وَأَقَامَ الْحُجَجَ، وَمَكَّنَ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ، وَأَنَّهُ لا يُضِلُّ إِلَّا الْفَاسِقِينَ وَالظَّالِمِينَ، وَلَا يَطْبَعُ إِلَّا عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ، وَلَا يُرْكِسُ فِي الْفِتْنَةِ إِلَّا الْمُنَافِقِينَ بِكَسْبِهِمْ، وَأَنَّ الرَّيْنَ الَّذِي غَطَّى بِهِ قُلُوبَ الْكُفَّارِ هُوَ عَيْنُ كَسْبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

وَقَالَ عَنْ أَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155].

وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُضِلُّ مَنْ هَدَاهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُ مَا يَتَّقِي، فَيَخْتَارُ لِشِقْوَتِهِ وَسُوءِ طَبِيعَتِهِ الضَّلَالَ عَلَى الْهُدَى، وَالْغَيَّ عَلَى الرَّشَادِ، وَيَكُونُ مَعَ نَفْسِهِ وَشَيْطَانِهِ وَعَدُوِّ رَبِّهِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْمَكْرُ الَّذِي وَصَفَ -تَعَالَى- بِهِ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ مُجَازَاتُهُ لِلْمَاكِرِينَ بِأَوْلِيَائِهِ وَرُسُلِهِ, فَيُقَابِلُ مَكْرَهُمُ السَّيِّئَ بِمَكْرِهِ الْحَسَنِ, فَيَكُونُ الْمَكْرُ مِنْهُمْ أَقْبَحَ شَيْءٍ, وَمِنْهُ أَحْسَنَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ وَمُجَازَاةٌ.

وَكَذَلِكَ الْمُخَادَعَةُ مِنْهُ جَزَاءٌ عَلَى مُخَادَعَةِ الْمُخَادِعِينَ لِرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ, فَلَا أَحْسَنَ مِنْ تِلْكَ الْمُخَادَعَةِ وَالْمَكْرِ.

وَأَمَّا كَوْنُ الرَّجُلِ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ؛ فَإِنَّ هَذَا عَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ, وَلَوْ كَانَ عَمَلًا صَالِحًا مَقْبُولًا لِلْجَنَّةِ قَدْ أَحَبَّهُ اللهُ وَرَضِيَهُ؛ لَمْ يُبْطِلْهُ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: ((لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ)) يُشْكِلُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَيُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْعَمَلُ بِآخِرِهِ وَخَاتِمَتِهِ لَمْ يَصْبِرْ هَذَا الْعَامِلُ عَلَى عَمَلِهِ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ, بَلْ كَانَ فِيهِ دَسِيسَةٌ كَامِنَةٌ وَآفَةٌ كَامِنَةٌ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَضَمِيرِهِ؛ وَلَكِنَّهُ خُذِلَ بِهَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ, فَخَانَتْهُ تِلْكَ الْآفَةُ وَالدَّاهِيَةُ الْبَاطِنَةُ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ, فَرَجَعَ إِلَى مُوجَبِهَا، وَعَمِلَتْ عَمَلَهَا, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِشٌّ وَآفَةٌ لَمْ يَقْلِبِ اللهُ -تَعَالَى- إِيمَانَهُ كُفْرًا وَرِدَّةً مَعَ صِدْقِهِ فِيهِ وَإِخْلَاصِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ يَقْتَضِي إِفْسَادَهُ عَلَيْهِ, وَاللهُ يَعْلَمُ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.

وَأَمَّا شَأْنُ إِبْلِيسَ؛ فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].

فَالرَّبُّ -تَعَالَى- كَانَ يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ, فَلَمَّا أُمِرُوا بِالسُّجُودِ ظَهَرَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَشْيَةِ، وَالِانْقِيَادِ, فَبَادَرُوا إِلَى الِامْتِثَالِ, وَظَهَرَ مَا فِي قَلْبِ عَدُوِّهِ مِنَ الْكِبْرِ، وَالْغِشِّ، وَالْحَسَدِ, فَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.

وَأَمَّا خَوْفُ أَوْلِيَائِهِ مِنْ مَكْرِهِ فَحَقٌّ؛ فَإِنَّهُمْ يَخَافُونَ أَنْ يَخْذُلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ، فَيَصِيرُونَ إِلَى الشَّقَاءِ؛ فَخَوْفُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَرَجَاؤُهُمْ لِرَحْمَتِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}؛ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَا يَعْصِي وَيَأْمَنُ مُقَابَلَةَ اللهِ لَهُ عَلَى مَكْرِ السَّيِّئَاتِ بِمَكْرِهِ بِهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.

وَالَّذِي يَخَافُهُ الْعَارِفُونَ بِاللهِ مِنْ مَكْرِهِ: أَنْ يُؤَخِّرَ عَنْهُمْ عَذَابَ الْأَفْعَالِ، فَيَحْصُلَ مِنْهُمْ نَوْعُ اغْتِرَارٍ, فَيَأْنَسُوا بِالذُّنُوبِ؛ فَيَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ عَلَى غِرَّةٍ وَفَتْرَةٍ.

وَأَمْرٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَغْفُلُوا عَنْهُ، وَيَنْسَوْا ذِكْرَهُ، فَيَتَخَلَّى عَنْهُمْ إِذَا تَخَلَّوْا عَنْ ذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ, فَيُسْرِعَ إِلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَالْفِتْنَةُ؛ فَيَكُونَ مَكْرُهُ بِهِمْ تَخَلِّيَهُ عَنْهُمْ.

وَأَمْرٌ آخَرُ: أَنْ يَعْلَمَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ, فَيَأْتِيَهُمُ الْمَكْرُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.

وَأَمْرٌ آخَرُ: أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ وَيَبْتَلِيَهُمْ بِمَا لَا صَبْرَ لَهُمْ عَلَيْهِ, فَيُفْتَنُونَ بِهِ, وَذَلِكَ مَكْرٌ)).

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَالصِّدْقِ فِيهَا، وَأَنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يُجَازَى عَلَى مَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.

وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ رَبِّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ رَبِّهِ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَبَابُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ أَرْسَخِ وَأَكْمَلِ وَأَتَمِّ وَأَشْمَلِ أَبْوَابِ الدِّينِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، وَخَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ مُتَنَزَّلًا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِنَّمَا خَلَقَ هَذَا الْخَلْقَ كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِ، وَالْخَلْقُ لَا يَعْبُدُونَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ حَتَّى يَعْرِفُوهُ؛ بَلِ النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ إِلَّا بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

((مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى-: الْحَمْدُ))

مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: صِفَةُ الْحَمْدِ.

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْحَمِيدُ فِي ذَاتِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ؛ فَلَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ أَحْسَنُهَا، وَمِنَ الصِّفَاتِ أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ حَمْدٍ وَمَحَبَّةٍ وَثَنَاءٍ؛ لِكَمَالِ أَوْصَافِهِ، وَجَمِيلِ مَعْرُوفِهِ وَهِبَاتِهِ وَعَدْلِهِ، وَلِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَمْدِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ؛ لِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ النِّعَمِ الْجِزَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ لِلْعِبَادِ إِحْصَاؤُهَا، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمُ اسْتِقْصَاؤُهَا.

فَنِعْمَ الرَّبُّ الْكَرِيمُ الَّذِي ابْتَدَأَنَا بِالنِّعَمِ، وَأَسْدَى مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مَا لَا يُحْصِيهِ الْمُحْصُونَ، وَلَا يَعُدُّهُ الْعَادُّونَ؛ فَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى مَا لَهُ مِنَ الْكَمَالِ، وَمَا أَوْصَلَهُ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْضَالِ؛ فَالْحَمْدُ للهِ الْحَمِيدِ بِمَنِّهِ، لَهُ كُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ، وَوَصْفٍ كَامِلٍ، وَفِعْلٍ جَمِيلٍ.

وَهُوَ الْحَمِيدُ فَكُلُّ حَمْدٍ وَاقِعٍ    =     أَوْ كَانَ مَفْرُوضًا مَدَى الْأَزْمَانِ

مَلَأَ الْوُجُودَ جَمِيعُهُ وَنَظِيرُهُ      =      مِنْ غَيْرِ مَا عَدٍّ وَلَا حُسْبَانِ

هُوَ أَهْلُهُ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ     =    كُلَّ الْمَحَامِدِ وَصْفُ ذِي الْإِحْسَانِ

وَالْحَمْدُ هُوَ أَعَمُّ الْمَعَارِفِ، وَأَوْسَعُ الْعُلُومِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَمَالِهِ، مُسْتَلْزِمٌ لَهَا، كَمَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِحِكْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَوَامِرِهِ؛ فَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الْعُلْيَا، وَالْمَدَائِحِ وَالْمَحَامِدِ، وَالنُّعُوتِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ؛ فَلَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَلَهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ أَكْمَلُهَا وَأَعْظَمُهَا، فَكُلُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا أَكْمَلَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ؛ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمُقَدَّسَةِ؟!!

فَلَهُ الْحَمْدُ لِذَاتِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ لِصِفَاتِهِ، وَلَهُ الْحَمْدُ لِأَفْعَالِهِ؛ لِأَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ أَفْعَالِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَبَيْنَ أَفْعَالِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا كَمَالَ الْحَمْدِ.

وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى خَلْقِهِ، وَعَلَى شَرْعِهِ، وَعَلَى أَحْكَامِهِ الْقَدَرِيَّةِ، وَأَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْجَزَاءِ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ.

وَالرَّبُّ -سُبْحَانَهُ- حَمْدُهُ قَدْ مَلَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَمَلَأَ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَوَسِعَ حَمْدُهُ مَا وَسِعَ عِلْمُهُ؛ فَالْكَوْنُ كُلُّهُ نَاطِقٌ بِحَمْدِهِ، وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ صَادِرٌ عَنْ حَمْدِهِ، وَقَائِمٌ بِحَمْدِهِ، وَوُجِدَ بِحَمْدِهِ، فَحَمْدُهُ هُوَ سَبَبُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَهُوَ غَايَةُ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ شَاهِدٌ بِحَمْدِهِ، وَإِرْسَالُهُ رَسُولَهُ بِحَمْدِهِ، وَإِنْزَالُهُ كُتُبَهُ بِحَمْدِهِ، وَالْجَنَّةُ عُمِّرَتْ بِأَهْلِهَا بِحَمْدِهِ، وَالنَّارُ عُمِّرَتْ بِأَهْلِهَا بِحَمْدِهِ، وَمَا أُطِيعَ إِلَّا بِحَمْدِهِ، وَمَا عُصِيَ إِلَّا بِحَمْدِهِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ لِذَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ الْعِبَادُ.

وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ الشَّامِلَةِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].

وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِ كِتَابِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1].

وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1].

وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى كَمَالِ مُلْكِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17-18].

وَكَيْفَ لَا يُحْمَدُ عَلَى خَلْقِهِ كُلِّهِ وَهُوَ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، وَعَلَى صُنْعِهِ وَقَدْ أَتْقَنَهُ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وَعَلَى أَمْرِهِ وَكُلُّهُ حِكْمَةٌ، وَرَحْمَةٌ، وَعَدْلٌ وَمَصْلَحَةٌ، وَعَلَى نَهْيِهِ وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ شَرٌّ وَفَسَادٌ، وَعَلَى ثَوَابِهِ وَكُلُّهُ رَحْمَةٌ وَإِحْسَانٌ، وَعَلَى عِقَابِهِ وَكُلُّهُ عَدْلٌ وَحَقٌّ؟!!

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- افْتَتَحَ الْخَلْقَ بِالْحَمْدِ، وَخَتَمَ أَمْرَ هَذَا الْعَالَمِ بِالْحَمْدِ، فَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].

فَافْتَتَحَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْخَلْقَ بِالْحَمْدِ، وَخَتَمَ أَمْرَ هَذَا الْعَالَمِ بِالْحَمْدِ، فَحَمْدُهُ مَلَأَ الزَّمَانَ، وَالْمَكَانَ، وَالْأَعْيَانَ، وَعَمَّ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا، فَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْآخِرَةِ يَظْهَرُ مِنْ حَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ مِنْ تَوَالِي نِعَمِ اللهِ، وَإِدْرَارِ خَيْرِهِ، وَكَثْرَةِ بَرَكَاتِهِ، وَسَعَةِ عَطَايَاهُ الَّتِي لَا يَبْقَى فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أُمْنِيَةٌ وَلَا إِرَادَةٌ إِلَّا وَقَدْ أَعْطَى مِنْهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَوْقَ مَا تَمَنَّى وَأَرَادَ؛ بَلْ يُعْطَوْنَ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ أَمَانِيُّهُمْ، وَمَا لَمْ يَخْطُرْ بِقُلُوبِهِمْ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِحَمْدِهِمْ لِرَبِّهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ؟!! مَعَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ تَضْمَحِلُّ الْعَوَارِضُ وَالْقَوَاطِعُ الَّتِي تَقْطَعُ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَى أَهْلِهَا مِنْ كُلِّ نَعِيمٍ، وَأَلَذَّ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ، هَذَا إِذَا أَضَفْتَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَظْهَرُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ عَظَمَةِ رَبِّهِمْ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ وَسَعَةِ كَمَالِهِ مَا يُوجِبُ لَهُمْ كَمَالَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.

فَتَفَاصِيلُ حَمْدِهِ وَمَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ لَا تُحِيطُ بِهَا الْأَفْكَارُ، وَلَا تُحْصِيهَا أَقْلَامُ الدُّنْيَا وَأَوْرَاقُهَا، وَلَا قُوَى الْعِبَادِ، وَتَقْصُرُ بَلَاغَاتُ الْوَاصِفِينَ عَنْ بُلُوغِ كُنْهِهَا، وَتَعْجِزُ الْأَوْهَامُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِالْوَاحِدِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ التَّنْبِيهُ وَالْإِشَارَةُ.

((قَالَ مُؤْمِنُو الْجِنِّ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ؛ فَلَكَ الْحَمْدُ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَسُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ!

لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَفَوْقَ مَا يُثْنِي بِهِ عَلَيْهِ خَلْقُهُ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى.

فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا نَقُولُ، وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَكَيْفَ يُحْصِي الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ثَنَاءً عَلَى الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا؟!

{الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: وَفِي الْإِتْيَانِ بِـ(اللَّامِ) دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْحَمْدِ للهِ وَحْدَهُ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ؛ فَالْحَمْدُ الْمُطْلَقُ الْكَامِلُ لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ إِنَّمَا يُحْمَدُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ حَمْدًا يَلِيقُ بِهَذَا الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ، وَيُكَافِئُ هَذَا الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ.

فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْحَمْدَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا هُوَ للهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ بِأَسْرِهَا؛ إِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ ذَلِكَ كَانَ حَرِيًّا بِهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ لِذِي الْعُلَى وَالْمَجْدِ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا، وَالْإِحْسَانُ كُلُّهُ لَهُ وَمِنْهُ، فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَهْلٌ وَأَحَقُّ بِكُلِّ حَمْدٍ وَبِكُلِّ حُبٍّ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ، وَلِصِفَاتِهِ، وَلِأَفْعَالِهِ، وَلِأَسْمَائِهِ، وَلِإِحْسَانِهِ، وَلِكُلِّ مَا صَدَرَ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَلَا تَتَصَوَّرُ الْقُلُوبُ حَقِيقَةَ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَقُومَ بِشُكْرِهِ.

وَلَوِ اسْتَنْفَدَ الْعَبْدُ أَنْفَاسَهُ كُلَّهَا فِي حَمْدِهِ عَلَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ؛ كَانَ مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الْحَمْدِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَضْعَافَهُ، وَلَا يُحْصِي أَحَدٌ الْبَتَّةَ ثَنَاءً عَلَيْهِ بِمَحَامِدِهِ؛ وَلَكِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- لِكَرَمِهِ رَضِيَ مِنْ عِبَادِهِ بِالْيَسِيرِ مِنْ شُكْرِهِ وَأَدَاءِ شُكْرِهِ.

((مَعْنَى الْحَمْدِ لُغَةً وَشَرْعًا))

مَعْنَى الْحَمْدِ فِي اللُّغَةِ: هُوَ نَقِيضُ الذَّمِّ.

قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: ((الْحَاءُ وَالْمِيمُ وَالدَّالُ (ح م د): كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الذَّمِّ، يُقَالُ: حَمِدْتُ فُلَانًا أَحْمَدُهُ، وَرَجُلٌ مَحْمُودٌ وَمُحَمَّدٌ إِذَا كَثُرَتْ خِصَالُهُ الْمَحْمُودَةُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ؛ وَلِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ سُمِّيَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدًا ﷺ )).

وَقَالَ اللَّيْثُ: ((أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ: وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا، وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ، يُقَالُ: أَتَيْنَا فُلَانًا فَأَحْمَدْنَاهُ وَأَذْمَمْنَاهُ، أَيْ: وَجَدْنَاهُ مَحْمُودًا، أَوْ مَذْمُومًا)).

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- مَحْمُودٌ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ، لَيْسَ فِيهِ مَا يُذَمُّ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، فَمُحَمَّدٌ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَ اسْمًا لَهُ، عَلَمًا عَلَيْهِ؛ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَصْفِهِ بِذَلِكَ، وَتَخْصِيصِهِ بِوَافِرِ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا سِوَاهُ فَقَدْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا، وَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الِاسْمِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، أَمَّا الرَّسُولُ ﷺ فَهُوَ مُحَمَّدٌ اسْمًا وَوَصْفًا.

فَالْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ بِالْفَضِيلَةِ.

وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْمَدْحِ، وَأَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.

فَالْمَدْحُ يُقَالُ فِيمَا يَكُونُ مِنَ الْإِنْسَانِ بِاخْتِيَارِهِ، وَمِمَّا يَكُونُ مِنْهُ وَفِيهِ بِالتَّسْخِيرِ؛ فَقَدْ يُمْدَحُ الْإِنْسَانُ بِطُولِ قَامَتِهِ، وَصَبَاحَةِ وَجْهِهِ، كَمَا يُمْدَحُ بِبَذْلِ مَالِهِ، وَشَجَاعَتِهِ، وَعِلْمِهِ.

وَالْحَمْدُ يَكُونُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، أَيْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يُحْمَدُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالْعِلْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا يُحْمَدُ عَلَى صَبَاحَةِ الْوَجْهِ، وَطُولِ الْقَامَةِ، وَحُسْنِ الْخِلْقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ.

وَالشُّكْرُ لَا يُقَالُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ؛ فَكُلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حَمْدٍ شُكْرًا، وَكُلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَدْحٍ حَمْدًا.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ أَنْ يُقَالَ: الْإِخْبَارُ عَنْ مَحَاسِنِ الْغَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مُجَرَّدًا مِنْ حُبٍّ وَإِرَادَةٍ، أَوْ مَقْرُونًا بِحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمَدْحُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْحَمْدُ)).

فَالْحَمْدُ: إِخْبَارٌ عَنْ مَحَاسِنِ الْمَمْدُوحِ مَعَ حُبِّهِ، وَإِجْلَالِهِ، وَتَعْظِيمِهِ.

إِنَّ حَمْدَ اللهِ، وَالثَّنَاءَ عَلَى اللهِ بِذِكْرِ صِفَاتِهِ الْعَظِيمَةِ وَنِعَمِهِ الْعَمِيمَةِ، مَعَ حُبِّهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَإِجْلَالِهِ -وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ -سُبْحَانَهُ- لَا يَكُونُ إِلَّا لَهُ؛ فَالْحَمْدُ كُلُّهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

لِذَلِكَ قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {الْحَمْدُ للهِ} [الفاتحة: 2] بِـ(لَامِ الْجِنْسِ) الْمُفِيدَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَالْحَمْدُ كُلُّهُ لَهُ؛ إِمَّا مِلْكًا، وَإِمَّا اسْتِحْقَاقًا، فَحَمْدُهُ لِنَفْسِهِ اسْتِحْقَاقٌ، وَحَمْدُ الْعِبَادِ لَهُ، وَحَمْدُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِلْكٌ لَهُ، فَالْقَائِلُ إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للهِ؛ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ الْخَبَرَ عَنْ كُلِّ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ -تَعَالَى- بِاسْمٍ جَامِعٍ مُحِيطٍ مُتَضَمِّنٍ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحَمْدِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ كُلِّ كَلَامٍ يُحْمَدُ عَلَيْهِ الرَّبُّ -تَعَالَى-؛ وَلِهَذَا لَا تَصْلُحُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ؛ وَهُوَ الْحَمِيدُ الْمَجِيدُ.

وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى: الْحَمِيدُ؛ فَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].

وَالْحَمِيدُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، وَالْحَمْدُ نَقِيضُ الذَّمِّ، وَهُوَ أَعَمُّ وَأَصْدَقُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمَحْمُودِ مِنَ الْمَدْحِ وَمِنَ الشُّكْرِ، وَهُوَ أَوْسَعُ الصِّفَاتِ وَأَعَمُّ الْمَدَائِحِ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى: فَاعِلٍ -أَيْ: حَامِدٍ-، وَبِمَعْنَى: مَفْعُولٍ -أَيْ: مَحْمُودٍ-؛ فَهُوَ -تَعَالَى- حَامِدٌ وَمَحْمُودٌ.

وَأَمَّا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ لِلْحَمِيدِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْحَمِيدُ، لَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَهُوَ الْحَمِيدُ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ وَالْمَدَائِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي ذَاتِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، فَلَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ أَحْسَنُهَا، وَمِنَ الصِّفَاتِ أَكْمَلُهَا، وَمِنَ الْأَفْعَالِ أَتَمُّهَا وَأَحْسَنُهَا؛ فَإِنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالْعَدْلِ، لَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ خَالٍ عَنِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَلَا يَجْرِي فِي أَفْعَالِهِ الْغَلَطُ، وَلَا يَعْتَرِضُهُ الْخَطَأُ.

وَهُوَ -تَعَالَى- الْمَحْمُودُ فِي شَرْعِهِ؛ فَإِنَّهُ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ وَأَنْفَعُهَا لِكُلِّ الْخَلَائِقِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَالرَّحْمَةِ الَّتِي لَا نَظِيرَ لَهَا.

وَهُوَ -تَعَالَى- الْمَحْمُودُ فِي قَضَائِهِ، وَعَلَى أَحْكَامِهِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَزَائِيَّةِ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، يُحْمَدُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ وَعَدْلٌ، وَهُدًى وَرُشْدٌ، مُنَزَّهَةٌ عَنِ الشَّرِّ، وَالْعَبَثِ، وَالظُّلْمِ، وَالنَّقْصِ.

وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَعَالِيهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ، وَالْوَلِيُّ مِنَ الذُّلِّ.

وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مَحْمُودًا، فَيَهَبُهُ حَمْدًا مِنْ عِنْدِهِ، فَيَحْمَدُهُ الْخَلْقُ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، فَمِنْ كَمَالِ حَمْدِهِ يَجِبُ أَلَّا يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَرٌّ وَلَا سُوءٌ وَلَا نَقْصٌ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي أَسْمَائِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ.

وَهُوَ الَّذِي يَحْمَدُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ، فَهُوَ يَصِفُ مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْ عِبَادِهِ الصِّفَاتِ الْكَامِلَةَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ؛ وَلِهَذَا أَثْنَى عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَوْلِيَائِهِ.

وَهُوَ الْمَحْمُودُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ نَاطِقَةٌ بِحَمْدِهِ -مِنَ الْجَمَادَاتِ وَالنَّاطِقَاتِ- فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى آلَائِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَعَلَى كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.

((الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ وَرَدَ الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ مَوْضِعًا، جُمِعَ فِي بَعْضِهَا أَسْبَابُ الْحَمْدِ، وَفِي بَعْضِهَا ذُكِرَتْ أَسْبَابُهُ مُفَصَّلَةً.

فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا أَسْبَابُ الْحَمْدِ: قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].

(({الْحَمْدُ لِلَّهِ}: هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَبِأَفْعَالِهِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالْعَدْلِ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ الْكَامِلُ بِجَمِيعِ الْوُجُوهِ.

{رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرَّبُّ: هُوَ الْمُرَبِّي جَمِيعَ الْعَالَمِينَ -وَهُمْ مَنْ سِوَى اللَّهِ- بِخَلْقِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِعْدَادِهِ لَهُمُ الْآلَاتِ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَوْ فَقَدُوهَا لَمْ يُمْكِنْ لَهُمُ الْبَقَاءُ؛ فَمَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ -تَعَالَى-)).

وَقَوْلُهُ: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70].

((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ الْمَعْبُودُ الْمَحْمُودُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى مَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَعَلَى مَا أَسْدَاهُ إِلَى خَلْقِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ)).

وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَسْبَابُ الْحَمْدِ مُفَصَّلَةً؛ فَمِنْهَا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

فَفِيهَا حَمْدُهُ عَلَى نِعْمَةِ دُخُولِ الْجَنَّةِ.

((نِعْمَ الرَّبُّ الْكَرِيمُ الَّذِي ابْتَدَأْنَا بِالنِّعَمِ، وَأَسْدَى مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مَا لَا يُحْصِيهِ الْمُحْصُونَ وَلَا يَعُدُّهُ الْعَادُّونَ، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} أَيْ: لَيْسَ فِي نُفُوسِنَا قَابِلِيَّةٌ لِلْهُدَى لَوْلَا أَنَّهُ -تَعَالَى- مَنَّ بِهِدَايَتِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ)).

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28].

فَفِيهَا حَمْدُهُ عَلَى النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ شَرِّهِمْ.

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].

فَفِيهَا حَمْدُهُ عَلَى نِعْمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

(({فَادْعُوهُ}: وَهَذَا شَامِلٌ لِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ، وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أَيِ: اقْصُدُوا بِكُلِّ عِبَادَةٍ وَدُعَاءٍ وَعَمَلٍ وَجْهَ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: جَمِيعُ الْمَحَامِدِ وَالْمَدَائِحِ وَالثَّنَاءِ بِالْقَوْلِ -كَنُطْقِ الْخَلْقِ بِذِكْرِهِ-، وَالْفِعْلِ -كَعِبَادَتِهِمْ لَهُ-؛ كُلُّ ذَلِكَ لِلَّهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لِكَمَالِهِ فِي أَوْصَافِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَتَمَامِ نِعَمِهِ)).

فَهَذِهِ بَعْضُ الْأَسْبَابِ الْمُفَصَّلَةِ.

وَقَدِ افْتَتَحَ -سُبْحَانَهُ- كِتَابَهُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ بِالْحَمْدِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].

وَافْتَتَحَ بَعْضَ السُّوَرِ فِيهِ بِالْحَمْدِ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].

وَقَالَ فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا} [الكهف: 1].

وَقَالَ فِي أَوَّلِ سَبَأٍ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].

وَقَالَ فِي أَوَّلِ فَاطِرٍ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1].

وَافْتَتَحَ خَلْقَهُ بِالْحَمْدِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1].

وَاخْتَتَمَ الْخَلْقَ بِالْحَمْدِ فَقَالَ بَعْدَمَا ذَكَرَ مَآلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 9-10].

فَالْحَمْدُ لَهُ -سُبْحَانَهُ- أَوَّلُّهُ وَآخِرُهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ -أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا هُوَ خَالِقٌ-، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].

وَهُوَ-سُبْحَانَهُ-الْمَحْمُودُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا يَقُولُ الْمُصَلِّي: ((اللهم رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)).

فَهَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى شُمُولِ حَمْدِهِ -سُبْحَانَهُ- لِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- حَمِدَ نَفْسَهُ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ وَآخِرِهِ، وَعِنْدَ الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى حَيَاتِهِ.

وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى امْتِنَاعِ اتِّصَافِهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ؛ مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ، وَمُوَالَاةِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].

وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَلِلهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36-37].

(({فَلِلهِ الْحَمْدُ} كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: لَهُ الْحَمْدُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ لِسَائِرِ الْخَلَائِقِ؛ حَيْثُ خَلَقَهُمْ، وَرَبَّاهُمْ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أَيْ: لَهُ الْجَلَالُ وَالْعَظَمَةُ وَالْمَجْدُ.

فَالْحَمْدُ فِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَمَحَبَّتُهُ -تَعَالَى-، وَإِكْرَامُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ فِيهَا عَظَمَتُهُ وَجَلَالُهُ، وَالْعِبَادَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رُكْنَيْنِ: مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَالذُّلِّ لَهُ، وَهُمَا نَاشِئَانِ عَنِ الْعِلْمِ بِمَحَامِدِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ} الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، {الْحَكِيمُ} الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَلَا يُشَرِّعُ مَا يُشَرِّعُهُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَلَا يَخْلُقُ مَا يَخْلُقُهُ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَمَنْفَعَةٍ)).

وَحَمِدَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَفْسَهُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَأَخْبَرَ عَنْ سَرَيَانِ حَمْدِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَنَبَّهَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَنَوُّعِ حَمْدِهِ -سُبْحَانَهُ-، وَتَعَدُّدِ أَسْبَابِ حَمْدِهِ، وَقَدْ جَمَعَهَا اللهُ فِي مَوَاطِنَ مِنْ كِتَابِهِ، وَفَرَّقَهَا فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى؛ لِيَتَعَرَّفَ إِلَيْهِ عِبَادُهُ، وَلِيَعْرِفُوا كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ، وَكَيْفَ يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَلِيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَيُحِبَّهُمْ إِذَا عَرَفُوهُ، وَأَحَبُّوهُ، وَحَمِدُوهُ.

وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَمْدٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ؛ عَلَى خَلْقِهِ، وَعَلَى قَدَرِهِ، وَعَلَى أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ.

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَعْظَمَ لَنَا الْمِنَّةَ، وَأَجْزَلَ لَنَا الْعَطِيَّةَ عِنْدَمَا عَلَّمَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ، وَلَوْلَا أَنْ عَلَّمَنَا مَا عَلِمْنَا، وَلَوْلَا أَنْ هَدَانَا مَا اهْتَدَيْنَا، وَعَلِمَ عَجْزَنَا وَقُصُورَنَا عَنْ إِيفَائِهِ حَقَّهُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].

وَأَمَّا سُنَّةُ نَبِيِّنَا ﷺ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ، وَهِىَ مَفْخَرَةٌ عُظْمَى وَمَكَانَةٌ جُلَّى حَظِيَ بِهَا -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-.

فِي ((التِّرْمِذِيِّ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ)).

لَمَّا كَانَ أَحْمَدَ الْخَلَائِقِ للهِ، وَأَكْمَلَهُمْ قِيَامًا بِحَمْدِهِ؛ أُعْطِيَ لِوَاءَ الْحَمْدِ؛ لِيَأْوِيَ إِلَى لِوَائِهِ الْحَامِدُونَ الْحَمَّادُونَ للهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ﷺ كَمَا قَالَ: ((وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي)).

وَهُوَ لِوَاءٌ حَقِيقِيٌّ يَحْمِلُهُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَدِهِ، يَنْضَوِي تَحْتَهُ وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْحَمَّادِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَأَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى لِوَائِهِ أَكْثَرُهُمْ حَمْدًا للهِ، وَذِكْرًا لَهُ، وَقِيَامًا بِأَمْرِهِ، وَأُمَّتُهُ ﷺ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَهُمُ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى السَّرَّاءِ وَعَلَى الضَّرَّاءِ.

وَجَاءَ فِي أَثَرٍ يُرْوَى عَنْ كَعْبٍ قَالَ: ((نَجِدُهُ مَكْتُوبًا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، لَكِنَّهُ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَأُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ،  يُكَبِّرُونَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، ويَحْمَدُونَه فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ)). رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي ((الْمُقَدِّمَةِ)).

وَفِي الْجَنَّةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ ((بَيْتُ الْحَمْدِ))، خُصَّ بِالَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى مُرِّ الْقَضَاءِ.

رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟

فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.

فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟

فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.

فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟

فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ.

فَيَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ)).

فَهَذَا حَمْدٌ للهِ عَلَى الضَّرَّاءِ، لَمَّا أَتَوْا بِهِ نَالُوا بِحَمْدِهِمُ الرُّتْبَةَ الْعَالِيَةَ.

((وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -عَزَّ وَجَلَّ- -وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ-: ((مَا يَقُولُ عِبَادِي؟)).

قَالَ: تَقُولُ: ((يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ)).

قَالَ: فَيَقُولُ: ((هَلْ رَأَوْنِي؟)).

قَالَ: فَيَقُولُونَ: ((لَا وَاللهِ! مَا رَأَوْكَ)).

قَالَ: فَيَقُولُ: ((كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟)).

قَالَ: يَقُولُونَ: ((لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا)).

قَالَ: يَقُولُ: ((فَمَا يَسْأَلُونِي؟)).

قَالَ: يَقُولُونَ: ((يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ)).

قَالَ: يَقُولُ: ((وَهَلْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: يَقُولُونَ: ((لَا وَاللهِ! يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا)).

قَالَ: فَيَقُولُ: ((فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: يَقُولُونَ: ((لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً)).

قَالَ: ((فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟)).

قَالَ: يَقُولُونَ: ((مِنَ النَّارِ)).

قَالَ: يَقُولُ: ((وَهَلْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: فَيَقُولُونَ: ((لَا وَاللهِ! يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا)).

قَالَ: يَقُولُ: ((فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟)).

قَالَ: يَقُولُونَ: ((لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً)).

قَالَ: فَيَقُولُ: ((فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)).

قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: ((فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ)).

قَالَ: ((هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

 وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ)).

قَالُوا: ((فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟)).

قَالَ: ((جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى فِي يَدِهَا، وَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ، وَلَقِيَتْ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا.

فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((عَلَى مَكَانِكُمَا))، فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا: أَنْ تُكَبِّرَا اللهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ؟».

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ)).

فَقَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: ((بِسْمِ اللهِ ثَلَاثًا، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ للهِ، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ ثَلَاثًا، وَاللهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، سُبْحَانَكَ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ))، ثُمَّ ضَحِكَ.

قُلْتُ: ((مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟)).

قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي؛ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

 وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ)).

قَالَ: «قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

قَالَ: ((فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي؛ فَمَا لِي؟)).

قَالَ: ((قُلْ: اللهم اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنَّ فِي صَلَاتِي)).

قَالَ: «سَبِّحِي اللهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشْرًا، وَكَبِّرِيهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالُوا: ((ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلُ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ)).

قَالَ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِمَا إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ)).

فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((تَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَصَبَرَ، الْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِهِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ جَالِسًا، -يَعْنِي: وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي-، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: ((اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟)).

 قَالُوا: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).

قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَقْرِأْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ؛ إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ للهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللهم اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا؛ اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ صَلَاتُهُ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ؛ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مِرَارٍ؛ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ؛ كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «اللهم لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، اللهم طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ، اللهم طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي رِوَايَةِ مُعَاذٍ: ((كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّرَنِ)).

وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ: ((مِنَ الدَّنَسِ)).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا؛ فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَامَ يَتَهَجَّدُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالْبَعْثُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌّ ﷺ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ؛ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحِ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ.

فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟».

قَالَتْ: ((نَعَمْ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمَ لَوَزَنَتْهُنَّ؛ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)).

  ((الْحَمْدُ أَوْسَعُ الصِّفَاتِ وَأَعَمُّ الْمَدَائِحِ))

الْحَمْدُ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى.

((وَالْحَمْدُ أَوْسَعُ الصِّفَاتِ وَأَعَمُّ الْمَدَائِحِ، وَالطُّرُقُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالسَّبِيلُ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي ذَرَّاتِ الْعَالَمِ وَجُزْئِيَّاتِهِ، وَتَفَاصِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاسِعَةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ -تَعَالَى- حَمْدٌ، وَجَمِيعَ صِفَاتِهِ حَمْدٌ، كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُ حَمْدٌ، وَأَحْكَامَهُ حَمْدٌ، وَعَدْلَهُ حَمْدٌ، وَانْتِقَامَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ حَمْدٌ، وَفَضْلَهُ فِي إِحْسَانِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ حَمْدٌ، فَكَمَا أَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ إِنَّمَا قَامَ بِحَمْدِهِ، وَوُجِدَ بِحَمْدِهِ، وَظَهَرَ بِحَمْدِهِ، وَكَانَتِ الْغَايَةُ هِيَ حَمْدَهُ؛ فَحَمْدُهُ سَبَبُ ذَلِكَ، وَغَايَتُهُ، وَمَظْهَرُهُ، وَحَامِلُهُ؛ فَحَمْدُهُ -تَعَالَى- رُوحُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَمْدِهِ، وَسَرَيَانُ حَمْدِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ وَظُهُورُ آثَارِهِ فِيهَا أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ.

فَمِنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى شُمُولِ مَعْنَى الْحَمْدِ وَانْبِسَاطِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ: مَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا حَيًّا جَامِعًا لِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَاسْمٍ حَسَنٍ، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ، وَفِعْلٍ كَرِيمٍ، وَأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ، وَالْمَشِيئَةُ النَّافِذَةُ، وَالْعِلْمُ الْمُحِيطُ، وَالسَّمْعُ الَّذِي وَسِعَ الْأَصْوَاتَ، وَالْبَصَرُ الَّذِي أَحَاطَ بِجَمِيعِ الْمُبْصَرَاتِ، وَالرَّحْمَةُ الَّتِي وَسِعَتْ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْمُلْكُ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْهُ ذَرَّةٌ مِنَ الذَّرَّاتِ، وَالْغِنَى التَّامُّ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْمَشْهُودُ آثَارُهَا فِي الْكَائِنَاتِ، وَالْعِزَّةُ الْغَالِبَةُ بِجَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، وَالْكَلِمَاتُ التَّامَّاتُ النَّافِذَاتُ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ جَمِيعِ الْبَرِيَّاتِ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَلَا شَبِيهَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَشْرَكُهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ مُلْكِهِ، أَوْ يَخْلُفُهُ فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ، أَوْ يَحْجُبُهُ عَنْ دَاعِيهِ وَمُؤَمِّلِيهِ وَسَائِلِيهِ، أَوْ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِتَلْبِيسٍ أَوْ فِرْيَةٍ أَوْ كَذِبٍ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّعَايَا وَبَيْنَ الْمُلُوكِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَفَسَدَ نِظَامُ الْوُجُودِ، وَفَسَدَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

فَلَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ أُخْرَى كَمَا يَقُولُ أَعْدَاؤُهُ الْمُبْطِلُونَ؛ لَوَقَعَ مِنَ النَّقْصِ فِي التَّدْبِيرِ وَفَسَادِ الْأَمْرِ كُلِّهِ مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهُ حَالٌ، وَلَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ وُجُودٌ.

وَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْنَا، وَمَا اسْتَوْجَبَ حَمْدَ عِبَادِهِ لَهُ: أَنْ جَعَلَنَا عَبِيدًا لَهُ خَاصَّةً، وَلَمْ يَجْعَلْنَا رَبُّنَا مُنْقَسِمِينَ بَيْنَ شُرَكَاءَ مُتَشَاكِسِينَ.

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- لِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ، مَنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، لَهُ كُلُّ ثَنَاءٍ حَسَنٍ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا كُلُّ فِعْلٍ جَمِيلٍ، وَلَا يُسَمَّى إِلَّا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ، وَلَا يُثْنَى عَلَيْهِ إِلَّا بِأَكْمَلِ الثَّنَاءِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ الْمَحْبُوبُ الْمُعَظَّمُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ عَلَى كُلِّ مَا قَدَّرَهُ وَخَلَقَهُ، وَعَلَى كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ.

وَمَنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَاسْتِقْرَارِ آثَارِهَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ؛ رَأَى الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ مُنْتَظِمَيْنِ بِهَا أَكْمَلَ انْتِظَامٍ، وَرَأَى سَرَيَانَ آثَارِهَا فِيهِمَا، وَعَلِمَ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَمَا لَا يَلِيقُ، فَاسْتَدَلَّ بِأَسْمَائِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ خِلَافَ مُوجَبِ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ.

وَكَذَلِكَ يَعْلَمُ مَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ وَيُشَرِّعَهُ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِخِلَافِ مُوجَبِ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِذَا رَأَى بَعْضَ الْأَحْكَامِ جَوْرًا وَظُلْمًا، أَوْ سَفَهًا وَعَبَثًا وَمَفْسَدَةً، أَوْ مَا لَا يُوجِبُ حَمْدًا وَثَنَاءً؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَلَا دِينِهِ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ وَرَسُولَهُ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْعَدْلِ لَا بِالظُّلْمِ، وَبِالْمَصْلَحَةِ لَا بِالْمَفْسَدَةِ، وَبِالْحِكْمَةِ لَا بِالْعَبَثِ وَالسَّفَهِ، وَإِنَّمَا بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، لَا بِالْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ، وَبَعَثَهُ بِالرَّحْمَةِ لَا بِالْقَسْوَةِ؛ فَإِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَرَسُولُهُ رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ إِلَى الْعَالَمِينَ، وَدِينُهُ كُلُّهُ رَحْمَةٌ، وَهُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَأُمَّتُهُ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُوجَبُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَأَفْعَالِهِ الْحَمِيدَةِ، فَلَا يُخْبَرُ عَنْهُ إِلَّا بِحَمْدِهِ، وَلَا يُثْنَى عَلَيْهِ إِلَّا بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ، كَمَا لَا يُسَمَّى إِلَّا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ.

وَقَدْ نَبَّهَ -سُبْحَانَهُ- عَلَى شُمُولِ حَمْدِهِ لِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ؛ بِأَنْ حَمِدَ نَفْسَهُ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ وَآخِرِهِ، وَعِنْدَ الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى حَيَاتِهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى امْتِنَاعِ اتِّصَافِهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ؛ مِنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ، وَالشَّرِيكِ، وَمُوَالَاةِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى عُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَأَخْبَرَ عَنْ سَرَيَانِ حَمْدِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ.

وَنَبَّهَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي كِتَابِهِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَنَوَّعَ حَمْدَهُ وَأَسْبَابَ حَمْدِهِ، وَجَمَعَهَا تَارَةً، وَفَرَّقَهَا أُخْرَى؛ لِيَتَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ، وَلِيُعَرِّفَهُمْ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ، وَكَيْفَ يُثْنُونَ عَلَيْه، وَلِيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَيُحِبَّهُمْ إِذَا عَرَفُوهُ، وَأَحَبُّوهُ، وَحَمِدُوهُ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2-4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 1-2].

وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17-18].

وَأَخْبَرَ عَنْ حَمْدِ خَلْقِهِ لَهُ بَعْدَ فَصْلِهِ بَيْنَهُمْ، وَبَعْدَ الْحُكْمِ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ بِثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَالْحُكْمِ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِعِقَابِهِ وَإِهَانَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].

وَأَخْبَرَ عَنْ حَمْدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا بِحَمْدِهِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَمْ يَدْخُلُوا النَّارَ إِلَّا بِحَمْدِهِ، فَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

وَ {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص: 74-75].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [المُلك: 11].

وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَبِالظُّلْمِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي الدُّنْيَا، مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، مُشْرِكينَ بِهِ، جَاحِدِينَ لِإِلَهِيَّتِهِ، مُفْتَرِينَ عَلَيْهِ، وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِعَدْلِهِ فِيهِمْ، وَأَخْذِهِمْ بِبَعْضِ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا النَّارَ بِعَدْلهِ وَحَمْدِهِ، وَإِنَّمَا عُوقِبُوا بِأَفْعَالِهِمْ، وَبِمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، لَا كَمَا تَقُولُ الْجَبْرِيَّةُ.

وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهِ، وَلَا إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَلَكِنْ بِالْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ صِفَةٍ عُلْيَا، وَاسْمٍ حَسَنٍ، وَثَنَاءٍ جَمِيلٍ، وَكُلُّ حَمْدٍ وَمَدْحٍ، وَتَسْبِيحٍ وَتَنْزِيهٍ وَتَقْدِيسٍ، وَجَلَالٍ وَإِكْرَامٍ فَهُوَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا وَأَدْوَمِهَا، وَجَمِيعُ مَا يُوصَفُ بِهِ، وَيُذْكَرُ بِهِ، وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِهِ فَهُوَ مَحَامِدُ لَهُ وَثَنَاءٌ، وَتَسْبِيحٌ وَتَقْدِيسٌ؛ فَسُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَفَوْقَ مَا يُثْنِي بِهِ عَلَيْهِ خَلْقُهُ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ أَوَّلًا وَآخِرًا، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ، وَعِزِّ جَلَالِهِ، وَرَفِيعِ مَجْدِهِ، وَعُلُوِّ جَدِّهِ.

فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَحَدِ نَوْعَيْ حَمْدِهِ، وَهُوَ: ((حَمْدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ)).

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: ((حَمْدُ النِّعَمِ وَالْآلَاءِ)): وَهَذَا مَشْهُودٌ لِلْخَلِيقَةِ؛ بَرِّهَا وَفَاجِرِهَا، مُؤْمِنِهَا وَكَافِرِهَا؛ مِنْ جَزِيلِ مَوَاهِبِهِ، وَسَعَةِ عَطَايَاهُ، وَكَرِيمِ أَيَادِيهِ، وَجَمِيلِ صَنَائِعِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِعِبَادِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَبِرِّهِ وَلُطْفِهِ وَحَنَانِهِ، وَإِجَابَتِهِ لِدَعَوَاتِ الْمُضْطَرِّينَ، وَكَشْفِ كُرُبَاتِ الْمَكْرُوبِينَ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِينَ، وَرَحْمَتِهِ لِلْعَالَمِينَ، وَابْتِدَائِهِ بِالنِّعَمِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَمِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ؛ بَلِ ابْتِدَاءً مِنْهُ بِمُجَرَّدِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَدَفْعِ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا بَعْدَ انْعِقَادِ أَسْبَابِهَا، وَصَرْفِهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا، وَلُطْفِهِ -تَعَالَى- فِي ذَلِكَ بِإِيصَالِهِ إِلَى مَنْ أَرَادَهُ بِأَحْسَنِ الْأَلْطَافِ، وَتَبْلِيغِهِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا تَبْلُغُهُ الْآمَالُ، وَهِدَايَتِهِ خَاصَّتَهُ وَعِبَادَهُ إِلَى سُبُلِ دَارِ السَّلَامِ، وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُمْ أَحْسَنَ الدِّفَاعِ، وَحِمَايَتِهِمْ عَنْ مَرَاتِعِ الْآثَامِ.

وَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُمْ مِنَ الرَّاشِدِينَ، وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَسَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَذَكَرَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوهُ، وَأَعْطَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ، وَتَبَغُّضِهِمْ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي، وَفَقْرِهِمْ إِلَيْهِ.

وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَاتَّخَذَ لَهُمْ دَارًا، وَأَعَدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَمَلَأَهَا مِنْ جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ، وَأَوْدَعَهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالْحَبْرَةِ، وَالسُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهَا، ثُمَّ يَسَّرَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا، وَرَضِيَ مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ جِدًّا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَقَاءِ دَارِ النَّعِيمِ.

وَضَمِنَ لَهُمْ إِنْ أَحْسَنُوا أَنْ يُثِيبَهُمْ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا، وَإِنْ أَسَاؤُوا وَاسْتَغْفَرُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُمْ مَا جَنَوْهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَذَكَّرَهُمْ بِآلَائِهِ، وَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِ.

وَأَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ؛ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ وَإِحْسَانًا، لَا حَاجَةً مِنْهُ إِلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ؛ حِمَايَةً وَصِيَانَةً لهم، لَا بُخْلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَخَاطَبَهُمْ بِأَلْطَفِ الْخِطَابِ وَأَحْلَاهُ، وَنَصَحَهُمْ بِأَحْسَنِ النَّصَائِحِ، وَوَصَّاهُمْ بِأَكْمَلِ الْوَصَايَا، وَأَمَرَهُمْ بِأَشْرَفِ الْخِصَالِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَقْبَحِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَصَرَّفَ لَهُمُ الْآيَاتِ، وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَوَسَّعَ لَهُمْ طُرُقَ الْعِلْمِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ الْهِدَايَةِ، وَعَرَّفَهُمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُدْنِيهِمْ مِنْ رِضَاهُ، وَتُبَاعِدُهُمْ عَنْ غَضَبِهِ.

وَيُخَاطِبُهُمْ بِأَلْطَفِ الْخِطَابِ، وَيُسَمِّيهِمْ بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ؛ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.

{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53].

{وَقُل لِّعِبَادِي} [ابراهيم: 31].

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة: 186].

فَيُخَاطِبُهُمْ بِخِطَابِ الْوِدَادِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّلَطُّفِ؛ كَقَوْلِهِ:  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].

{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 6- 7].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102- 103].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 24- 26].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73- 74].

وَتَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَبُّنَا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]؛ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ: إِنِّي عَادَيْتُ إِبْلِيسَ، وَطَرَدْتُهُ مِنْ سَمَائِي، وَبَاعَدْتُهُ مِنْ قُرْبِي؛ إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لِأَبِيكُمْ آدَمَ، ثُمَّ أَنْتُمْ يَا بَنِي آدَمَ تُوَالُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنْ دُونِي وَهُمْ أَعْدَاءٌ لَكُمْ!!

فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ مَوَاقِعَ هَذَا الْخِطَابِ، وَشِدَّةَ لُصُوقِهِ بِالْقُلُوبِ، وَالْتِبَاسِهِ بِالْأَرْوَاحِ، وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ جَاءَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ؛ مِنْ خِطَابِهِ لِعِبَادِهِ بِالتَّوَدُّدِ وَالتَّحَنُّنِ وَاللُّطْفِ، وَالنَّصِيحَةِ الْبَالِغَةِ.

وَأَعْلَمَ -سُبْحَانَهُ- عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى لَهُمْ إِلَّا أَكْرَمَ الْوَسَائِلِ، وَأَفْضَلَ الْمَنَازِلِ، وَأَجَلَّ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ.

{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- يَتَنَزَّهُ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ مَوَاضِعِ الظِّنَّةِ وَالتُّهمَةِ الَّتِي نَسَبَهَا إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ؛ مِنْ تَكْلِيفِ عِبَادِهِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا طَاقَةَ لَهُمْ بِفِعْلِهِ الْبَتَّةَ، وَتَعْذِيبِهِمْ إِنْ شَكَرُوهُ وَآمَنُوا بِهِ، وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا لَا لِحِكْمَةٍ وَلَا لِغَايَةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِمْ، وَلَا لِيَتَكَثَّرَ بِهِمْ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَا لِيَتَعَزَّزَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56].

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِمْ، وَلَا لِيَرْبَحَ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ خَلَقَهُمْ جُودًا وَإِحْسَانًا؛ لِيَعْبُدُوهُ فَيَرْبَحُوا هُمْ عَلَيْهِ كُلَّ الْأَرْبَاحِ.

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7].

{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].

وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ الَّذِي يَحُطُّ عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ، وَيَدْخُلُونَ بِهِ عَلَيْهِ، وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَاتِهِمْ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

وَقَالَ فِي الْأَضَاحِيِّ وَالْهَدَايَا: {لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].

وَقَالَ عَقِيبَ أَمْرِهِمْ بِالصَّدَقَةِ، وَنَهْيِهِمْ عَنْ إِخْرَاجِ الرَّدِيءِ مِنَ الْمَالِ: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [القرة: 267].

يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: إِنِّي غَنِيٌّ عَمَّا تُنْفِقُونَ أَنْ يَنَالَنِي مِنْهُ شَيْءٌ، حَمِيدٌ مُسْتَحِقُّ الْمَحَامِدَ كُلَّهَا، فَإِنْفَاقُكُمْ لَا يَسُدُّ مِنْهُ حَاجَةً، وَلَا يُوجِبُ لَهُ حَمْدًا، بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ، الْحَمِيدُ بِنَفْسِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِنْفَاقُكُمْ إِنَّمَا نَفْعُهُ لَكُمْ، وَعَائِدَتُهُ عَلَيْكُمْ.

وَمِنَ الْمُتَعَيِّنِ عَلَى مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ حَلَاوَةُ هَذَا الْخِطَابِ، وَجَلَالَتُهُ، وَلُطْفُ مَوْقِعِهِ، وَجَذْبُهُ لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَمُخَالَطَتُهُ لَهَا؛ مِنَ الْمُتَعَيِّنِ عَلَيْهِ أَنْ يُعَالِجَ قَلْبَهُ بِالتَّقْوَى، وَأَنْ يَسْتَفْرِغَ مِنْهُ الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ الَّتِي حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَظِّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يَتَعَرَّضَ إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُهُ بِهَا؛ مِنْ صِدْقِ الرَّغْبَةِ وَاللَّجْأِ إِلَى اللهِ أَنْ يُحْيِىَ قَلْبَهُ وَيُزَكِّيَهُ، وَيَجْعَلَ فِيهِ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ؛ فَالْقَلْبُ الْمَيِّتُ لَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ، وَلَا يَتَمَتَّعُ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.

مَنِ اسْتَقْرَأَ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَجَدَهَا مَدَائِحَ وَثَنَاءَاتٍ تَقْصُرُ بَلَاغَاتُ الْوَاصِفِينَ عَنْ بُلُوغِ كُنْهِهَا، وَتَعْجِزُ الْأَوْهَامُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِالْوَاحِدِ مِنْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَللهِ -سُبْحَانَهُ- مَحَامِدُ وَمَدَائِحُ وَأَنْوَاعٌ مِنَ الثَّنَاءِ لَمْ تَتَحَرَّكْ بِهَا الْخَوَاطِرُ، وَلَا هَجَسَتْ بِهَا الضَّمَائِرُ، وَلَا لَاحَتْ لِمُتَوَسِّمٍ، وَلَا سَنَحَتْ فِي الْفِكْرِ.

فَفِي دُعَاءِ أَعْرَفِ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ -تَعَالَى-، وَأَعْلَمِهِمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَحَامِدِهِ: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ؛ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّى)).

وَفِى ((الصَّحِيحِ)) عَنْهُ ﷺ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ لَمَّا يَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ قَالَ: ((فَيَفْتَحُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ بِشَيْءٍ لَا أُحْسِنُهُ الْآنَ)).

وَكَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: ((أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).

فَاللهُ لَهُ الْمُلْكُ التَّامُّ، مَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ؛ أَعْيَانِهَا وَأَفْعَالِهَا، وَلَهُ الْحَمْدُ التَّامُّ الَّذِي وَسِعَ كُلَّ مَعْلُومٍ، وَشَمِلَ كُلَّ مَقْدُورٍ)).

((مَوَاطِنُ الْحَمْدِ))

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ -تَعَالَى- مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَهُنَاكَ أَوْقَاتٌ مُعَيَّنَةٌ وَأَحْوَالٌ مَخْصُوصَةٌ تَمُرُّ بِالْعَبْدِ يَكُونُ فِيهَا الْحَمْدُ أَكْثَرَ تَأْكِيدًا.

مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ: حَمْدٌ للهِ فِي الْخُطْبَةِ، وَفِي اسْتِفْتَاحِ الْأُمُورِ، وَفِي الصَّلَاةِ، وَعَقِبَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَاللِّبَاسِ، وَالْعُطَاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَخْصِيصُهَا بِتَأَكُّدِ الْحَمْدِ فِيهَا.

مِنْ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ: حَمْدُ اللهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: ١٧٢].

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا)).

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: ((الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا)).

وَعَنْ نَوْفلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَشْرَبُ بِثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ، يُسَمِّي اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَوَّلِهِ، وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ)). رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي ((عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَيَتَأَكَّدُ الْحَمْدُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا: اللِّبَاسُ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ، إِمَّا قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً، ثُمَّ يَقُولُ: ((اللهم لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَمِنْ مَوَاطِنِ الْحَمْدِ: حَمْدُ اللهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)).

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ؛ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللهم لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ)) أَيْ: هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِأَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ، مُسْتَحِقٌّ لِأَنْ يُمَجِّدَ نَفْسَهُ، وَأَنْ تُمَجَّدَ نَفْسُهُ، وَالْعِبَادُ لَا يُحْصُونَ ثَنَاءً عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا أَثْنَى -سُبْحَانَهُ- عَلَى نَفْسِهِ.

((أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ)): يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَمْدُ اللهِ أَحَقَّ الْأَقْوَالِ بِأَنْ يَقُولَهُ الْعَبْدُ، وَمَا كَانَ أَحَقَّ الْأَقْوَالِ كَانَ أَفْضَلَهَا، وَأَوْجَبَهَا عَلَى الْإِنْسَانِ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْخَيْرَ وَالْإِحْسَانَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَيْهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ لَا يَعْلَمُونَ.

وَقَوْلُهُ: ((لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ)) اعْتِرَافٌ بِتَوْحِيدِهِ، وَأَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْهُ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أُمُورًا:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ؛ فَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أَعْطَى لَمْ يُطِقْ أَحَدٌ مَنْعَ مَنْ أَعْطَاهُ، وَإِذَا مَنَعَ لَمْ يُطِقْ أَحَدٌ إِعْطَاءَ مَنْ مَنَعَهُ، فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الَّذِي يُجْزِلُ وَيَمْنَحُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الَّذِي يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ، وَلَا يُخَلِّصُ مِنْ عَذَابِهِ، وَلَا يُدْنِي مِنْ كَرَامَتِهِ جُدُودُ بَنِي آدَمَ، وَحُظُوظُهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ، وَالْغِنَى، وَطِيبِ الْعَيْشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَهُ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ.

وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحَمْدُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ قَالَ رَجُلٌ فِي الْقَوْمِ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟)).

قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((عَجِبْتُ لَهَا! فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ)).

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ((فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ ذَلِكَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: ((الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ)).

فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلَاتَهُ قَالَ: ((أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟)).

فَأَرَمَّ الْقَوْمُ -أَيْ: سَكَتُوا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ-، فَقَالَ: ((أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا)).

فَقَالَ رَجُلٌ: ((جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا)).

فَقَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

((وَحَفَزَهُ النَّفَسُ)) أَيْ: ضَغَطَهُ النَّفَسُ وَجَهَدَهُ؛ لِسُرْعَةِ الْمَجِيءِ.

((وَيَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا)) أَيْ: يَسْبِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِرَفْعِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِلَى الْعَلِيِّ الْأَعْلَى الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ؛ لِعِظَمِهَا وَعِظَمِ قَدْرِهَا.

وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحَمْدُ عِنْدَ السَّحَرِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ: ((سَمَّعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا، وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذًا بِاللهِ مِنَ النَّارِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

((سَمَّعَ سَامِعٌ)) أَيْ: شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى حَمْدِنَا للهِ -تَعَالَى- عَلَى نِعَمِهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، أَرَادَ بِالْبَلَاءِ النِّعْمَةَ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- يَبْلُو عِبَادَهُ تَارَةً بِالْمَضَارِّ لِيَصْبِرُوا، وَطَوْرًا بِالْمَسَارِّ لِيَشْكُرُوا، فَصَارَتِ الْمِحْنَةُ وَالْمِنْحَةُ جَمِيعًا بَلَاءً لِمَوْقِعِ الِاخْتِبَارِ، وَالْمِنْحَةُ أَعْظَمُ الْبَلَائَيْنِ؛ لَا سِيَّمَا لِذَوِي النُّفُوسِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِ الشُّكْرِ، وَالْقِيَامُ بِهَا أَتَمُّ وَأَصْعَبُ وَأَعْلَى وَأَفْضَلُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الصَّبْرِ.

وَالْتَفَتَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي قَوْلِهِ: ((ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

((رَبَّنَا صَاحِبْنَا)): أَرَادَ بِهِ الْمُصَاحَبَةَ بِالْعِنَايَةِ وَالْكَلَاءَةِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى حُسْنِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَكَمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ عَنْ كُلِّ صَاحِبٍ سِوَاهُ.

((وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا)) أَيْ: أَحْسِنْ إِلَيْنَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ مَزِيدِ نِعَمِ اللهِ بِحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ فَضْلِهِ؛ بَلْ هُوَ أَشَدُّ النَّاسِ افْتِقَارًا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ اسْتِغْنَاؤُهُ بِاللهِ أَكْثَرَ كَانَ افْتِقَارُهُ إِلَيْهِ أَشَدَّ.

((عَائِذًا بِاللهِ مِنَ النَّارِ)) وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنَا عَائِذٌ بِاللهِ وَمُتَعَوِّذٌ بِهِ.

وَمِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ فِيهَا الْحَمْدُ للهِ: فِي ابْتِدَاءِ الْخُطَبِ وَالدُّرُوسِ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: الْحَمْدُ للهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهِدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ)).

وَيُسْتَحَبُّ الْحَمْدُ عِنْدَ حُصُولِ نِعْمَةٍ، أَوِ انْدِفَاعِ مَكْرُوهٍ؛ سَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ لِلْحَامِدِ نَفْسِهِ، أَوْ لِقَرِيبِهِ، أَوْ لِصَاحِبِهِ، أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ (سلم): ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ)).

وَيَتَأَكَّدُ الْحَمْدُ إِذَا عَطَسَ الْعَبْدُ، وَالْعُطَاسُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ للهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ؛ فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ)).

وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ إِذَا رَأَى مُبْتَلًى بِعَاهَةٍ أَوْ نَحْوِهَا؛ فَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا؛ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ)).

فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ حَامِدًا للهِ فِي سَرَّائِهِ وَضَرَّائِهِ، وَفِي شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَفِي سَائِرِ شُؤُونِهِ وَأَحْوَالِهِ.

رَوَى ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ))، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّهُ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ)).

وَكَذَلِكَ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَعَافَانِي فِي جَسَدِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي ((عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ))، وَكَذَا ابْنُ السُّنِّيِّ فِي ((عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ)) وَاللَّفْظُ لَهُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَكَذَلِكَ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْتُ أُثْنِي عَلَيْكَ حَمْدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ثَلَاثًا-، وَإِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي ((عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ))، وَحَسَّنَهُ مُقْبِلٌ فِي ((الصَّحِيحِ الْمُسْنَدِ مِمَّا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِرَجُلٍ: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا فُلَانُ؟)).

قَالَ: ((أَحْمَدُ اللهَ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَذَا الَّذِي أَرَدْتُ مِنْكَ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِشَوَاهِدِهِ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ الْمَعْمُولَ بِهَا فِي الْمُحَاوَرَةِ لِلسَّائِلِ عَنِ الْحَالِ: حَمْدُ اللهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمَسْؤُولَ عَنْ حَالِهِ لَا يَنْفَكُّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ؛ مِنْ صِحَّةِ جِسْمٍ، وَصَرْفِ بَلَاءٍ، وَكَشْفِ كُرْبَةٍ، وَتَفْرِيجِ غَمٍّ، وَرِزْقٍ يُرْزَقُهُ، وَخَيْرٍ يُمْنَحُهُ؛ ذَكَرَ ذَلِكَ أَوْ نَسِيَهُ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَحْمَدْ رَبَّهُ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالُ)).

وَالْحَمْدُ يَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِلَّا سَبَّحَ اللهَ وَحَمِدَهُ؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَأَعْتَى بَنِي آدَمَ)).

فَسَأَلْتُ عَنْ أَعْتَى بَنِي آدَمَ، فَقَالَ: ((شِرَارُ الْخَلْقِ، أَوْ قَالَ: شِرَارُ خَلْقِ اللهِ)). رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي ((عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

بَلْ يَكُونُ الْحَمْدُ عِنْدَ فَقْدِ الْوَلَدِ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟

فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.

فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟

فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.

فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟

فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ.

فَيَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ)).  الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

هَذَا هُوَ حَالُ الْمُؤْمِنِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: إِنَّ عَبْدِي الْمُؤْمِنَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ كُلِّ خَيْرٍ، يَحْمَدُنِي وَأَنَا أَنْزِعُ نَفْسَهُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَالْحَمْدُ يَكُونُ عِنْدَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَفِي دُبُرِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.

فَلَا تَخْلُو حَالٌ مِنْ حَمْدٍ؛ عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ.

فَهَذِهِ بَعْضُ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ فِيهَا الْحَمْدُ مِمَّا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ.

  ((فَضَائِلُ الْحَمْدِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي بَيَانِ فَضْلِ الْحَمْدِ، وَبَيَانِ عَظِيمِ شَأْنِهِ؛ فَقَدِ افْتَتَحَ اللهُ -تَعَالَى- الْكِتَابَ الْمَجِيدَ بِالْحَمْدِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 1-3].

وَالسُّنَّةُ مَلِيئَةٌ بِذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى فَضْلِ الْحَمْدِ وَعِظَمِ شَأْنِهِ؛ فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ، الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)).

وَمِمَّا ثَبَتَ فِي فَضْلِ الْحَمْدِ، وَعِظَمِ ثَوَابِهِ عِنْدَ اللهِ: مَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)).

فَالْحَمْدُ شَأْنُهُ عَظِيمٌ، وَثَوَابُهُ جَزِيلٌ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.

فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)).

وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ شَاعِرًا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي مَدَحْتُ رَبِّي بِمَحَامِدَ)).

قَالَ: ((أَمَا إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حَمِيدٌ يُحِبُّ الْحَمْدَ، وَيُحِبُّ مَنْ يَحْمَدُهُ، وَحَمْدُهُ لِنَفْسِهِ أَعْظَمُ مِنْ حَمْدِ الْعِبَادِ لَهُ، وَيُحِبُّ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَثَنَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَعْظَمُ مِنْ ثَنَاءِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ.

وَالْحَمْدُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَحَاسِنِ الْمَحْمُودِ عَلَى وَجْهِ الْمُحِبِّ لَهُ.

وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا تَصْلُحُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ، وَهُوَ الْحَمِيدُ الْمَجِيدُ.

وَمَحَاسِنُ الْمَحْمُودِ -تَعَالَى- إِمَّا قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَإِمَّا ظَاهِرَةٌ فِي مَخْلُوقَاتِهِ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: حَمْدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ حَمْدٌ يَتَضَمَّنُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ، وَعَلَى مَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفاتِ الْكَامِلَةِ الْعُلْيَا، وَالْمَدَائِحِ وَالْمَحَامِدِ، وَالنُّعُوتِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ.

وَالنَّوْعُ الثَّاني: حَمْدُ النِّعَمِ والْآلَاءِ، وَهَذَا مَشْهُودٌ لِلْخَلِيقَةِ بَرِّهَا وَفَاجِرِهَا، مُؤْمِنِهَا وَكَافِرِهَا؛ مِنْ جَزِيلِ مَوَاهِبِهِ، وَسَعَةِ عَطَايَاهُ، وَكَرِيمِ أَيَادِيهِ، وَجَمِيلِ صَنَائِعِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِعِبَادِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَبِرِّهِ وَلُطْفِهِ وَحَنَانِهِ.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنَ الْحَمْدِ)). رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَحَسَنَّهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَحَمْدُهُ يَتَضَمَّنُ أَصْلَيْنِ: الْإِخْبَارَ بِمَحَامِدِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُ عَلَيْهِ.

وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ يُحِبُّ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحْمَدَ، وَأَنْ يُذْكَرَ بِأَوْصَافِهِ الْعُلَى وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى.

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ للهِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَسَمَّى الْحَمْدَ للَّهِ دُعَاءً، وَهُوَ ثَنَاءٌ مَحْضُ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ مُتَضَمِّنٌ الْحُبَّ وَالثَّنَاءَ، وَالْحُبُّ أَعْلَى أَنْوَاعِ الطَّلَبِ، فَالْحَامِدُ طَالِبٌ لِلْمَحْبُوبِ، فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُسَمَّى دَاعِيًا مِنَ السَّائِلِ الطَّالِبِ، فَنَفْسُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ مُتَضَمِّنٌ لِأَعْظَمِ الطَّلَبِ، فَهُوَ دُعَاءٌ حَقِيقَةً؛ بَلْ أَحَقُّ أَنْ يُسَمَّى دُعَاءً مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ)).

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ؛ إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَإِنَّ حَمْدَهُ لِوَلِيِّ النِّعْمَةِ نِعْمَةٌ أُخْرَى هِيَ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ لَهُ، وَأَجْدَى عَائِدَةً مِنَ النِّعْمَةِ الْعَاجِلَةِ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ النِّعَمِ وَأَجَلَّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ نِعْمَةُ مَعْرِفَتِهِ -تَعَالَى-، وَحَمْدِهِ وَطَاعَتِهِ.

يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَتَّشَ فِي نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ؛ قَدْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ إِلَى حَدِّ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ بَعْدُ رَبَّهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَصٌّ عَلَى آثَارِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْآبَاءِ وَالسَّالِفِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّرَ ذَلِكَ تَحْرِيرًا صَحِيحًا، وَإِنَّمَا صُبِغَ فِي مُجْتَمَعٍ جَاهِلٍ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ بِصِبْغَتِهِ، فَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْ شَوَائِبِهِ وَأَكْدَارِهِ، فَمَا تَزَالُ مُحِيطَةً بِقَلْبِهِ غِشَاوَاتُهَا، وَمَا تَزَالُ مُلْقِيَةً عَلَى عَيْنِ بَصِيرَتِهِ بِحُجُبِهَا.

فَالْمَرْءُ إِذَا مَا تَأَمَّلَ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ يَكَادُ يَصِلُ إِلَى حَدِّ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ بَعْدُ رَبَّهُ مَعْرِفَةً تَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، مَعْرِفَةً بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُعْرَفَ.

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ: الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنْ حَمْدِ اللهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.

((احْمَدُوا اللهَ عَلَى نِعَمِهِ الْكَثِيرَةِ!))

عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا آتَاهُ اللهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، لَا إِلَى مَا آتَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْرَهُ مِمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ ابْتِلَاءً لَهُ وَاخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا، وَكُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَحِمَهُ اللهُ- يَشْكُو ضِيقَ الْحَالِ وَالْفَقْر، فَقَالَ لَهُ يُونُسُ: ((أَيَسُرُّكَ بِبَصَرِكَ هَذَا مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟)).

قَالَ الرَّجُلُ: ((لَا)).

قَالَ: ((فَبِيَدَيْكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟)).

قَالَ: ((لَا)).

قَالَ: ((فَبِرِجْلَيْكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟)).

قَالَ: ((لَا)).

قَالَ: ((فَذَكَّرَهُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)).

فَقَالَ يُونُسُ: ((أَرَى عِنْدَكَ مِئِينَ الأُلُوفِ وَأَنْتَ تَشْكُو الْحَاجَةَ)).

وَعَنْ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ رَجُلًا بُسِطَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، فَانْتُزِعَ مَا فِي يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ؛ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ فِرَاشٌ إِلا بَارِيَّةٌ -وَهِيَ الْبِسَاطُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَيْتِ يُدَاسُ عَلَيْهِ-.

قَالَ: فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ.

وَبُسِطَ لِآخَرَ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْبَارِيَّةِ: أَرَأَيْتَكَ أَنْتَ؛ عَلَامَ تَحْمَدُ اللَّهَ؟!

قَالَ: أَحْمَدُهُ عَلَى مَا لَوْ أُعْطِيتُ بِهِ مَا أُعْطِيَ الْخَلْقُ لَمْ أُعْطِهِمْ إِيَّاهُ.

قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟

قَالَ: أَرَأَيْتَ كَبَصَرِكَ؟ أَرَأَيْتَ كَلِسَانِكَ؟ أَرَأَيْتَ كيَدَيْكَ؟ أَرَأَيْتَ كرِجْلَيْكَ؟)).

انْظُرْ إِلَى مَا آتَاكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَا أَعْطَى غَيْرَكَ، وَقَدْ حَرَمَهُ -أَيْضًا- مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا آتَاكَ.

وَإِذَا آتَاكَ الْإِيمَانَ، وَالْحَمْدَ، وَالشُّكْرَ، وَالذِّكْرَ؛ فَمَا الَّذِي تُرِيدُ بَعْدُ؟!!

وَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُعَرِّفَنَا بِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى، وَأَنْ يُسْكِنَ قُلُوبَنَا الْحَمْدَ لَهُ، وَالشُّكْرَ لَهُ، وَالْإِيمَانَ بِهِ، وَالْيَقِينَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُقَنِّعَنَا بِمَا رَزَقَنَا، وَأَنْ يُوزِعَنَا شُكْرَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْحَمَّادِينَ، وَأَنْ يُحْيِيَنَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يَقْبِضَنَا عَلَيْهِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

المصدر:الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  مَظَاهِرُ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  بل انتصر الإسلام على السيف
  التكفير .. أصوله وضوابطه
  بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ
  الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَنْزِلَةُ الْمَسَاجِدِ وَوُجُوبُ حِمَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ
  الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ
  أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ
  مظاهر التوحيد في عبادة الحج
  وَمَاذَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان