مَنَاسِكُ الْحَجِّ كَأَنَّكَ تَرَاهَا


((مَنَاسِكُ الْحَجِّ كَأَنَّكَ تَرَاهَا))

وَإِذَا كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْكَ أَنْ تَتَعَلَّمَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، فَهَا هِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ، فَتَعَلَّمْهَا، وَأَتْقِنْهَا؛ فَهِيَ مُنْذُ بِدَايَةِ التَّفْكِيرِ فِيهِ حَتَّى نِهَايَتِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ:

*دُعَاءُ السَّفَرِ:

وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ النَّفَقَةِ وَمَتَاعِ السَّفَرِ، وَيَسْتَصْحِبَ فَوْقَ حَاجَتِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ احْتِيَاطًا لِمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْحَاجَاتِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ عِنْدَ سَفَرِهِ، وَفِي سَفَرِهِ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّﷺ، وَمِنْ ذَلِكَ:

إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى مَرْكُوبِهِ قَالَ: ((بِسْمِ اللهِ)).

فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فَلْيَذْكُرْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ بِتَيْسِيرِ الْمَرْكُوبَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَإِذَا نَزَلَ الْعَبْدُ مُنْخَفَضًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَبِّحَ، وَإِذَا عَلَا شَرَفًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا)).

وَإِذَا نَزَل الْمُسَافِرُ مَنْزِلًّا فَلْيَقُلْ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّ مَنْ قَالَهَا لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ الَّذِي قَالَهَا فِيهِ)) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

*عَدَمُ جَوَازِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ:

وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ لِلْحَجِّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ؛ سَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَمْ قَصِيرًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ شَابَّةً أَمْ عَجُوزًا؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ)).

وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْمَرْأَةِ مِنَ السَّفَرِ بِلَا مَحْرَمٍ: قُصُورُ الْمَرْأَةِ فِي عَقْلِهَا، وَقُصُورُهَا فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا، وَهِيَ مَطْمَعُ الرِّجَالِ، فَرُبَّمَا تُخْدَعُ أَوْ تُقْهَرُ، أَوْ تَكُونُ ضَعِيفَةَ الدِّينِ فَتَنْدَفِعُ وَرَاءَ شَهَوَاتِهَا، وَيَكُونُ فِيهَا مَطْمَعٌ لِلطَّامِعِينَ، وَالْمَحْرَمُ يَحْمِيهَا، وَيَصُونُ عِرْضَهَا، وَيُدَافِعُ عَنْهَا، وَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَلَا يَكْفِي الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، وَلَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ.

وَالمَحْرَمُ: زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا دَائِمًا مُؤَبَّدًا بِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرةٍ.

فَالْمَحَارِمُ مِنَ الْقَرَابَةِ سَبْعَةٌ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْآبَاءُ، وَالْأَجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا؛ سَوَاءٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْأَبْنَاءُ، وَأَبْنَاءُ الْأَبْنَاءِ، وَأَبْنَاءُ الْبَنَاتِ وَإِنْ نَزَلُوا.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَحَارِمِ: الْإِخْوَةُ؛ سَوَاءٌ كَانُوا إِخْوَةً أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ؛ سَوَاءٌ كَانُوا أَبْنَاءَ إِخْوَةٍ أَشِقَّاءَ، أَوْ أَبْنَاءَ إِخْوَةٍ مِنَ الْأَبِ، أَوْ أَبْنَاءَ إِخْوَةٍ مِنَ الْأُمِّ.

الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَبْنَاءُ الَأَخَوَاتِ؛ سَوَاءٌ كَانُوا أَبْنَاءَ أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، أَوْ مِنَ الْأُمِّ.

الْقِسْمُ السَّادِسُ: الْأَعْمَامُ؛ سَوَاءٌ كَانُوا أَعْمَامًا أَشِقَّاءَ، أَوْ أَعْمَامًا مِنَ الْأَبِ، أَوْ أَعْمَامًا مِنَ الْأُمِّ.

الْقِسْمُ السَّابِعُ: الْأَخْوَالُ؛ سَوَاءٌ كَانُوا أَخْوَالًا أَشِقَّاءَ، أَوْ مِنَ الْأَبِ، أَوْ مِنَ الْأُمِّ.

وَالْمَحَارِمُ مِنَ الرَّضَاعِ نَظِيرُ الْمَحَارِمِ مِنَ الْقَرَابَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْمَحَارِمُ بِالْمُصَاهَرَةِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَأَبْنَاءُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ، وَأَبْنَاءُ أَبْنَائِهِ، وَأَبْنَاءُ بَنَاتِهِ وَإِنْ نَزَلُوا؛ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ زَوْجَةٍ قَبْلَهَا أَوْ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمَحَارِمِ بِالْمُصَاهَرَةِ: آبَاءُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ، وَأَجْدَادُهُ وَإِنْ عَلَوْا؛ سَوَاءٌ أَجْدَادُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ، وَأَزْوَاجُ بَنَاتِ الْأَبْنَاءِ، وَأَزْوَاجُ بَنَاتِ الْبَنَاتِ وَإِنْ نَزَلْنَ.

وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ فِيهِمْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، حَتَّى وَلَوُ فَارَقَهَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ، فَإِنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تَبْقَى لِهَؤُلَاءِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْمَحَارِمِ بِالْمُصَاهَرَةِ: فَأَزْوَاجُ الْأُمَّهَاتِ، وَأْزَوْاجُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ؛ لَكِنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يَصِيرُونَ مَحَارِمَ لِبَنَاتِ زَوْجَاتِهِمْ، أَوْ بَنَاتِ أَبْنَاءِ زَوْجَاتِهِمْ، أَوْ بَنَاتِ بَنَاتِ زَوْجَاتِهِمْ حَتَّى يَطَؤُوا الزَّوْجَاتِ، فَإِذَا حَصَلَ الْوَطْءُ صَارَ الزَّوْجُ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ زَوْجَتِهِ، وَوَاضِحٌ أَنَّ بَنَاتِ زَوْجَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا حَصَلَ الْوَطْءُ صَارَ الزَّوْجُ مَحْرَمًا لِبَنَاتِ زَوْجَتِهِ مِنْ زَوْجٍ قَبْلَهُ، أَوْ زَوْجٍ بَعْدَهُ، وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا، وَبَنَاتِ بَنَاتِهَا وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدُ.

أَمَّا إِذَا عَقَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَحْرَمًا لِبَنَاتِهَا، وَلَا لِبَنَاتِ أَبْنَائِهَا، وَلَا لِبَنَاتِ بَنَاتِهَا.

فَإِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُسَافِرَ فَيَنْبَغِي عَلَيْهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَ مَحْرَمٍ، فَهَذَا مِنْ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا مَحْرَمَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةَ الْبَدَنِ، وَإِنْ كَانَتْ مَالِكَةً لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا؛ فَإِنَّهَا إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَحْرَمَ لَا تَكُونُ مُسْتَطِيعَةً حَتَّى تَجِدَهُ.

*مَوَاقِيتُ الْحَجِّ الْمَكَانِيَّةُ:

وَأَمَّا مَوَاقِيتُ الْحَجِّ الْمَكَانِيَّةُ: فَإِنَّ الْحَجَّ؛ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ نِظَامًا مُعَيَّنًا، وَهَذَا النِّظَامُ يَشْمَلُ الزَّمَانَ، وَيَشْمَلُ الْمَكَانَ.

فَأَمَّا الزَّمَانُ فَمَعْلُومٌ، فَالْحَجُّ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي أَشْهُرِهِ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ، وَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَهَذِهِ أَشْهُرُ الْحَجِّ.

وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ الْمَكَانِيَّةُ؛ فَقَدْ بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

لَا يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ النُّسُكَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ، فَإِنْ جَاوَزَ فَعَلَيْهِ دَمٌ. 

فَإِذَا سَافَرَ الْحَاجُّ قَاصِدًا بِلَادَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يَمُرُّ وَلَا بُدَّ بِوَاحِدٍ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، وَهِيَ مَوَاقِيتُ الْإِحْرَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ، أَنْ يَمُرَّ بِهَا أَوْ أَنْ يُحَاذِيَهَا إِذَا كَانَ مُسَافِرًا بِالطَّائِرَةِ مَثَلًا، وَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يُحْرِمَ عِنْدَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا مِنْ دُونِ إِحْرَامٍ، وَهَذِهِ الْمَوَاقِيتُ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا.

وَهِيَ -أَيْ: الْمَوَاقِيتُ الْمَكَانِيَّةُ-:

ذُو الْحُلَيْفَةِ: وَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ كَانَتْ طَرِيقُهُمْ -أَيْ كَانَتِ الْمَدِينَةُ طَرِيقَهُمْ-، وَقَدِ اشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْمَنْطِقَةُ -الَّتِي هِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ- عِنْدَ الْعَامَّةِ بِاسْمٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ (أَبْيَارُ عَلِيٍّ)، وَهِيَ تَبْعُدُ خَمْسِينَ وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَنْ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ.

وَأَمَّا الْجُحْفَةُ: فَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَالْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَمَنْ وَرَدَ طَرِيقَهُمْ، وَهِيَ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ رَابِغَ، وَهِيَ تَبْعُدُ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ وَمِائَةَ كِيلُو مِتْرًا عَنْ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ.

وَأَمَّا قَرْنُ الْمَنَازِلِ: فَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ وَمَنْ وَرَدَ طَرِيقَهُمْ، وَاسْمُهَا الْيَوْمَ (السَّيْلُ الْكَبِيرُ)، وَهِيَ تَبْعُدُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ كِيلُو مِتْرًا عَنْ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ.

وَأَمَّا يَلَمْلَمُ: فَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمَنْ وَرَدَ طَرِيقَهُمْ، وَهِيَ الْيَوْمَ تُسَمَّى (السَّعْدِيَّةَ)، وَهِيَ تَبْعُدُ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ كِيلُو مِتْرًا عَنْ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ.

وَأَمَّا ذَاتُ عِرْقٍ: فَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ وَرَدَ طَرِيقَهُمْ، وَهِيَ الْيَوْمَ تُسَمَّى (الضَّرْيبَةَ)، وَهِيَ تَبْعُدُ أَرْبَعَةً وَتِسْعِينَ كِيلُو مِتْرًا عَنْ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إِلَّا مُحْرِمًا، فَإِذَا كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَاصِدًا النُّسُكَ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إِلَّا مُحْرِمًا.

وَهَذَا يُخَالِفُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ بِنِيَّةِ النُّسُكِ؛ وَلَكِنَّهُ يَمُرُّ بِالْمِيقَاتِ -مِنْ أَهْلِ مِصْرَ مَثَلًا- أَوْ يُحَاذِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُحْرِمُ لِيَذْهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْرِمُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةَ، مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَاصِدًا النُّسُكَ.

كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: ((لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ مَا دَامَ قَدْ خَرَجَ بِنِيَّةِ النُّسُكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ)).

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَخْرُجُ لِلْحَجِّ أَوْ لِلْعُمْرَةِ، فَيَخْرُجُ مِنْ بَلَدِهِ قَاصِدًا هَذَيْنِ النُّسُكَيْنِ، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوَّلًا، يَكُونُ قَدْ حَاذَى الْمِيقَاتَ -مِيقَاتَ أَهْلِ مِصْرَ: وَهُوَ رَابِغُ كَمَا مَرَّ ذِكْرُ ذَلِكَ- فَيُجَاوِزُهُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ، وَيَذْهَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْرِمُ مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ لَزِمَهُ دَمٌ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ، غَشَّهَ مَنْ ذَهَبَ بِهِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا أَجْمَعِينَ.

*أَنْوَاعُ الْحَجِّ الثَّلَاثَةُ:

وَأَمَّا أَنْوَاعُ الْحَجِّ فَثَلَاثَةٌ:

حَجُّ الْقِرَانِ: وَهُوَ لِمَنْ سَاقَ هَدْيَهُ مَعَهُ.

وَالْهَدْيُ: مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ فِي حَجِّهِ مِنْ ذَبِيحَةِ الْأَنْعَامِ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.

فَيَكُونُ قَدْ سَاقَ هَدْيَهُ مَعَهُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، قَائِلًا عِنْدَ التَّلْبِيَةِ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً وَحَجًّا لَا رِيَاءَ فِيهِمَا وَلَا سُمْعَةَ)).

فَإِذَا وَصَلَ مَكَّةَ طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ، ثَّمَ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ سَعْيًا وَاحِدًا، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى إِحْرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُ يَوْمَ الْعِيدِ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي:فَحَجُّ الْإِفْرَادِ: وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا دُونَ عُمْرَةٍ، قَائِلًا عِنْدَ التَّلْبِيَةِ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا لِا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ)).

فَإِذَا وَصَلَ مَكَّةَ طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَسَعَى سَعْيَ الْحَجِّ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُ يَوْمَ الْعِيدِ.

وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ الْمُفْرِدِ هَدْيٌ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَ السَّعْيَ إِذَا كَانَ قَارِنًا أَوْ كَانَ مُفْرِدًا إِلَى مَا بَعْدَ طَوَافِ الْحَجِّ.

فَعَمَلُ الْحَاجِّ الْمُفْرِدِ وَالْحَاجِّ الْقَارِنِ سَوَاءٌ، إِلَّا أَنَّ الْقَارِنَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ؛ لِقِيَامِهِ بِالنُّسُكَيْنِ -بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ- دُونَ الْمُفْرِدِ.

وَأَمَّا حَجُّ التَّمَتُّعِ: فَهُوَ الْقِيَامُ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ -وَهِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ-، ثُمَّ يَتَحَلَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِحْرَامِهِ، يَتَمَّتَعُ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ -وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-، قَائِلًا عِنْدَ التَّلْبِيَةِ بِهَا: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً مُتَمَتِّعًا بِهَا إِلَى الْحَجِّ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ)).

وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ هُوَ الْأَيْسَرُ عَلَى النَّفْسِ، وَالْأَفْضَلُ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِ أَصْحَابَهُ بِقَوْلِهِ: ((مَنْ حَجَّ مِنْكُمْ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَعَلَى الْحَاجِّ الْمُتَمَتِّعِ هَدْيٌ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْهَدْيَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ مِنْ وَقْتِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ -أَعْنِي الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ-، وَسَبْعَةٍ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ-كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))-:((دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ))، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ﷺ.

وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ ﷺ قَارِنًا، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ مِنْهُمْ أَنْ يَتَحَلَّلَ بَعْدَ الْعُمْرَةِ، وَأَنْ يَتَمَتَّعَ، وَقَالَ ﷺ: ((لَولَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَتَمَتَّعْتُ)).

فَأَمَرَ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَيْسَرُ مَا يَكُونُ عَلَيْهَا، يُهِلُّ الرَّجُلُ بِالْعُمْرَةِ مُتَمَتِّعًا بِهَا إِلَى الْحَجِّ، فَإِذَا مَا أَتَى بِالْعُمْرَةِ تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ، فَيَتَمَتَّعُ إِلَى الْيَوْمِ الثَّامِنِ -وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ-، ثُمَّ يُهِلُّ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَذْبَحَ, وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَصُومُ مَعَ أَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا وَلَا يَذْبَحُ؛ ضَنًّا بِمَالِهِ، وَبُخْلًا بِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَشْيَاءَ لَا قِيمَةَ لَهَا -وَحَتَّى لَوْ كَانَتْ لَهَا قِيمَةٌ- يِأَتْي بِهَا لِمَنْ خَلْفَهُ، وَمَا يَعْلَمُ هَذَا الْمِسْكِينُ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَجَّةَ قَدْ تَكُونُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَأْتِي فِيهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ!!

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى إِرْضَائِهِ (سبح)، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا بَاذِلًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا أَفَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ بِهِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِالْمُوَاتَرَةِ -أَيْ: الْمُتَابَعَةِ- بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيَقُولُ: ((إِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)). فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ.

((أَوَّلُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ:الْإِحْرَامُ (مَحْظُورَاتُهُ وَسُنَنُهُ) )):

إِذَا دَخَلَ الْإِنْسَانُ فِي الْإِحْرَامِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ -سَوَاءٌ كَانَ مُعْتَمِرًا أَمْ كَانَ حَاجًّا- أَنْ يَلْتِزَمَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِ دِينِهِ؛ كَالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا جَمَاعَةً، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنَ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَنْ يَتَحَاشَى إِيذَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.

وَمَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ هِيَ:

أَلَّا يَأْخُذَ مِنْ شَعَرِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا، وَإِنْ سَقَطَ مِنْ ذَلِكَ شْيْءٌ بِدُونِ قَصْدٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ.

وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، وَلَا بَأْسَ بِمَا بَقِيَ مِنْ أَثَرِ الطِّيبِ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ.

وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلصَّيْدِ الْبَرِّيِّ بِقَتْلٍ أَوْ تَنْفِيرٍ أَوْ إِعَانَةٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحْرِمًا.

وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ -وَلَا لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ- أَنْ يَقْطَعَ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَنَبَاتِهِ -لَا يَجُوزُ لَهُ- أَنْ يَقْطَعَ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَلَا مِنْ نَبَاتِهِ الْأَخْضَر، وَلَا يَلْتَقِطَ لُقَطَةً إِلَّا لِيُعَرِّفَهَا، فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَقِطَهُ.

فَاللُّقَطَةُ فِي الْحَرَمِ لَا تُلْتَقَطُ إِلَّا لِلتَّعْرِيفِ، أَنْ يُعَرِّفَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إِلَى الْمَسْئُولِينَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِكَيْ يَذْهَبَ مَنْ فَقَدَ الشَّيْءَ إِلَيْهِمْ؛ حَتَّى يَتَعَرَّفَ عَلَيْهِ.

وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطِبَ النِّسَاءَ، وَلَا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ، لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ.

وَلَيْسَ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ، فَضْلًا عَنِ الْجِمَاعِ.

وَهَذِهِ الْمَحْظُورَاتُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

وَأَمَّا الذَّكَرُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَا يَلِي:

 لَا يُغَطِّي رَأْسَهُ بِمُلَاصِقٍ، وَأَمَّا تَظْلِيلُهُ بِالْمِظَلَّةِ، أَوْ بِسَقْفِ السَّيَّارَةِ، أَوْ بِوَضْعِ الْمَتَاعِ عَلَيْهِ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ.

وَعَلَيْهِ أَلْا يَلْبَسَ الْقَمِيصَ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ مَخِيطٍ لِلْجِسْمِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَلَا يَلْبَسُ الْبَرَانِسَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلَبْسِ السَّرَاوِيلَ، أَوْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلَا حَرَجَ.

وَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقْتَ الْإِحْرَامِ أَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ فِي يَدَيْهَا، وَأَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا بِالنِّقَابِ أَوِ الْبُرْقُعِ، لَكِنْ إِذَا كَانَتْ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ عَنْهَا؛ وَجَبَ عَلَيْهَا سَتْرُ وَجْهِهَا بِالْخُمَارِ وَنَحْوِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُحْرِمَةً.

إِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ مَخِيطًا، أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ، أَوْ تَطَيَّبَ، أَوْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ شَيْئًا، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَيُزِيلُ مَا تَجِبُ إِزَالَتُهُ مَتَى ذَكَرَ ذَلِكَ أَوْ عَلِمَهُ.

وَيَجُوزُ لُبْسُ النَّعْلَيْنِ وَالْخَاتَمِ, وَسَمَّاعَةِ الْأُذُنِ، وَسَاعَةِ الْيَدِ، وَالْحِزَامِ, وَالْمِنْطَقَةِ الَّتِي يُحْفَظُ بِهَا الْمَالُ وَالْأَوْرَاقُ.

وَيَجُوزُ تَغْيِيرُ الثِّيَابِ، وَتَنْظِيفُهَا، وَغَسْلُ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَإِنْ سَقَطَ بِذَلِكَ شَعَرٌ بِدُونِ قَصْدٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا شَيْءَ فِي الْجُرْحِ يُصِيبُهُ.

إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فَالْمَشْرُوعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، وَيَغْتَسِلَ كَمَا يَغْتَسِلُ لِلْجَنَابَةِ، وَيتَطَيَّبُ بَأَطْيَبِ مَا يَجِدُهُ مِنْ دُهْنِ عُودٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ بَقَاءُ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا الطِّيبَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ تَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ المِسْكِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ))، أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِحْرَامِ ﷺ.

الِاغْتِسَالُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى النُّفَسَاءِ، وَحَتَّى الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ أَسْمَاءَ بِنْت عُمَيْسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حِينَ نَفِسَتْ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ إِحْرَامِهَا، وَتَسْتَثْفِرَ بِثَوْبٍ وَتُحْرِمَ.

ثُمَّ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ وَالتَّطَيُّبِ يَلْبَسُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ يُصَلِّي-غَيْرَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ- الْفَرِيضَةَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتِ فَرِيضَةٍ، وَإِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بِهِمَا سُنَّةَ الْوُضُوءِ, -لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ سُنَّةُ الْإِحْرَامِ-وَإِنَّمَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، وَبَعْدَ أَنْ يَلْبَسَ مَلَابِسَ الْإِحْرَامِ، وَبَعْدَ أَنْ يَتَطَيَّبَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ.

فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ أَحْرَمَ قَائِلًا: ((لَبَّيْكَ عُمْرَةً، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ)).

يَرْفَعُ الرَّجُلُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ, وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَقُولُهُ بِقَدْرِ مَا يَسْمَعُ مَنْ بِجَنْبِهَا، وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا.

وَإِذَا كَانَ مَنْ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ خَائِفًا مَنْ عَائِقٍ يَعُوقُهُ عَنْ إِتْمَامِ نُسُكِهِ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَيَقُولُ عِنْدَ عَقْدِ الْإِحْرَامِ: ((إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي)).

أَيْ: مَنَعَنِي مَانِعٌ مِنْ إِتْمَامِ نُسُكِي مِنْ مَرَضٍ أَوْ تَأَخُّرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَإِنِّي أَحِلُّ مِنْ إِحْرَامِي؛ لِأَنَّ النَّبِيَّﷺ أَمَرَ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ حِينَ أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ-وَهِيَ مَرِيضَةٌ- أَنْ تَشْتَرِطَ، وَقَالَ: ((إِنَّ لَكِ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ)).

 فَمَتَى اشْتَرَطَ وَحَصَلَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ إِتْمَامِ نُسُكِهِ؛ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا مَنْ لَا يَخَافُ مِنْ عَائِقٍ يَعُوقُهُ عَنْ إِتْمَامِ نُسُكِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالِاشْتِرَاطِ كُلَّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ؛ لِوُجُودِ الْمَرَضِ بِهَا. 

فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا يَخْشَى أَلَّا يُتِمَّ، أَوْ خَافَ أَنْ يَعُوقَهُ عَائِقٌ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ: ((فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي))، وَحِينَئِذٍ يَحِلُّ مِنْ إِحْرَامِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَيَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، خُصُوصًا عِنْدَ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ؛ كَأَنْ يَعْلُوَ مُرْتَفَعًا، أَوْ يَنْزِلَ مُنْخَفَضًا، أَوْ يُقْبِلَ اللَّيْلُ أَوِ النَّهَارُ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللهَ بَعْدَهَا رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى مِنَ النَّارِ.

*التَّلْبِيَةُ وَوَقْتُهَا فِي الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ:

وَالتَّلْبِيَةُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْعُمْرَةِ مِنَ الْإِحْرَامِ -مُنْذُ يُحْرِمُ- إِلَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِالطَّوَافِ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِالطَّوَافِ انْقَطَعَتِ التَّلْبِيَةُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُحْرِمًا مُهِلًّا بِالْعُمْرَةِ.

وَأَمَّا فِي الْحَجِّ: فَإِنَّهُ مِنَ الْإِحْرَامِ يُلَبِّي إِلَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَإِذَا ابْتَدَأَ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ -جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ- يَوْمَ الْعِيدِ؛ انْقَطَعَتِ التَّلْبِيَةُ، فَمُنْذُ يُحْرِمُ إِلَى أَنْ يَبْدَأَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَكُونُ فِي التَّلْبِيَةِ، وَيَكُونُ مُكْثِرًا مِنْهَا.

*السُّنَّةُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:

وَيَنْبَغِي إِذَا قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اغْتَسَلَ عِنْدَ دُخُولِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَقَالَ: ((بِسْمِ اللهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَبسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)).

((فِقْهُ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ: الطَّوَافُ)):

ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ؛ لِيَبْتَدِئَ الطَّوَافَ، فَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيُقَبِّلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَّسَرْ تَقْبِيلُهُ قَبَّلَ يَدَهُ إِنِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرِ اسْتِلَامُهُ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْحَجَرَ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ إِشَارَةً وَلَا يُقَبِّلُ يَدَهُ.

وَالْأَفْضَلُ أَلَّا يُزَاحِمَ فَيُؤْذِي النَّاسَ وَيَتَأَذَّى بِهِمْ؛ لِمَا فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي قَالَ فِيهِ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَا عُمَرَ، إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ)).

وَيَقُولُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ-إِنِ اسْتَطَاعَ-: ((بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ﷺ )).

ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ اسْتَلَمَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَلَا يُزَاحِمْ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ -أَيْ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ- يَقُولُ: ((رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)). 

وَكُلَّمَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي طَوَافِهِ كَبَّرَ، وَيَقُولُ فِي بَقِيَّةِ طَوَافِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةِ قُرْآنٍ، فَإِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ بَينَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ؛ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَفِي هَذَا الطَّوَافِ -أَعْنِي الطَّوَافَ أَوَّلَ مَا يَقْدُمُ- يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الِاضْطِبَاعُ مِنَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ إِلَى انْتِهَائِهِ.

وَصِفَةُ الِاضْطِبَاعِ: أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ دَاخِلَ إِبِطِهِ الْأَيْمَنِ، وَطَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أَعَادَ رِدَاءَهُ إِلَى حَالَتِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الِاضْطِبَاعَ مَحَلُّهُ الطَّوَافُ فَقَطْ.

وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْحُجَّاجِ مُضْطَبِعِينَ فِي عَرَفَاتٍ، وَفِي مِنَى، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ!!

وَالِاضْطِبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ ابْتِدَاءِ طَوَافِ الْقُدُومِ إِلَى انْتِهَائِهِ، فَإِذَا مَا انْتَهَى مِنَ الطَّوَافِ أَعَادَ رِدَاءَهُ إِلَى حَالَتِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ، فَالِاضْطِبَاعُ مَحَلُّهُ الطَّوَافُ فَقَطْ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَهُوَ الرَّمَلُ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى.

وَالرَّمَلُ: إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ مُقَارَبَةِ الْخُطُوَاتِ.

وَأَمَّا الْأَشْوَاطُ الْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ؛ فَلَيْسَ فِيهَا رَمَلٌ، وَإِنَّمَا يَمْشِي كَعَادَتِهِ.

*سُنَّةُ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ لِمَنِ اسْتَطَاعَ:

فَإِذَا أَتَمَّ الطَّوَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بَعْدَ الْفَاتِحَةِ إِنْ تَيَسَّرَ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ.

وَقَدْ صَارَ الْمَقَامُ الْيَوْمَ فِي وَسَطِ الْمَطَافِ، فَالصَّلَاةُ وَرَاءَهُ مِنْ أَعْسَرِ مَا يَكُونُ، ثُمَّ إِنَّهَا تَعْتَرِضُ مَسَارَ الطَّائِفِينَ، فَلْيُصَلِّ بِإِزَائِهِ بَعِيدًا، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَلْيُصَلِّ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

((فِقْهُ الرُّكْنِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ: السَّعْيُ)):

فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ رَجَعَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْعَى، فَإِذَا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}.

ثُمَّ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى يَرَى الْكَعْبَةَ -وَمَا زَالَ إِلَى الْيَوْمِ إِذَا رَقِيَ الصَّفَا وَإِذَا اعْتَلَاهَا؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ أَنْ يَرَى الْكَعْبَةَ- حَتَّى يَرَى الْكَعْبَةَ فَيَسْتَقْبِلُهَا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَامِدًا رَبَّهُ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، دَاعِيًا بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ، وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ))، يُكَرِّرُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَدْعُو بَيْنَ ذَلِكَ.

ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ مَاشِيًا، فَإِذَا بَلَغَ الْعَلَمَ الْأَخْضَرَ رَكَضَ رَكْضًا شَدِيدًا بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ، وَلَا يُؤْذِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ((أَنَّهُ كَانَ يَسْعَى حَتَّى تُرَى رُكْبَتَاهُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ، يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ)).

وَفِي لَفْظٍ: ((وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ)).

فَإِذَا بَلَغَ الْعَلَمَ الْأَخْضَرَ الثَّانِيَ؛ مَشَى كَعَادَتِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، فَيَرْقَى عَلَيْهَا، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُولُ مَا قَالَهُ عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ يَنْزِلُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا، فَيَمْشِي فِي الْمَوْضِعِ مَشْيَهُ، وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ سَعْيَهُ، فَإِذَا وَصَلَ الصَّفَا فَعَلَ كَمَا فَعَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا الْمَرْوَةُ حَتَّى يُكْمِلَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ.

فِي ذَهَابِهِ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ شَوْطٌ، وَرُجُوعُهُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا شَوْطٌ، وَيَقُولُ فِي سَعْيِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ.

*الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ بَعْدَ إِتْمَامِ السَّعْيِ:

فَإِذَا أَتَمَّ سَعْيَهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ؛ حَلَقَ رَأْسَهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُقَصِّرُ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ -أَيْ ضَفِيرَةٍ - أُنْمُلَةً.

وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الحَلقُ للرِّجَالِ شَامِلًا لِجَمِيعِ الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ التَّقْصِيرُ يَعُمُّ بِهِ جَمِيعَ جِهَاتِ الرَّأْسِ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْحَجِّ قَرِيبًا بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ لِنَبَاتِ شَعْرِ الرَّأْسِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ التَّقْصِيرُ؛ لِيَبْقَى الرَّأْسُ لِلْحَلْقِ فِي الْحَجِّ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُقَصِّرُوا لِلْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ قُدُومَهُمْ كَانَ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَكَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا بَيْنَ عُمْرَتِهِمْ وَحَجَّتِهِمْ، فَإِذَا حَلَقُوا لَمْ يَنْبُتِ الشَّعْرُ؛ فَمَاذَا يَأْخُذُونَ إِذَا تَحَلَّلُوا مِنَ الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ؟!

فَإِذَنْ؛ يُقَصِّرُونَ شُعُورَهُمْ، ثُمَّ يَحْلِقُونَ مَعَ الْحَجِّ.

وَبِهَذِهِ الْأَعْمَالِ تَمَّتِ الْعُمْرَةُ؛ فَتَكُونُ الْعُمْرَةُ هِيَ: الْإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَحِلُّ مِنْهَا إِحْلَالًا كَامِلًا، وَيَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحِلُّونَ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَالْأَمْرُ يَسِيرٌ كَمَا تَرَى؛ وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يُمَارِسِ الْعَمَلَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ مُشْفِقًا، يَكُونُ مِنْ إِتْيَانِهِ خَائِفًا؛ وَلَكِنَّهُ إِذَا مَا حَصَّلَ الْأَمْرَ النَّظَرِيَّ، وَكَانَ مَعَهُ مَنْ يَدُلُّهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْأَمْرِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَحْمِلَنَا جَمِيعًا إِلَى بَلَدِهِ الْحَرَامِ، وَبَيْتِهِ الْحَرَامِ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَينِ مُتَلَازِمَينِ إِلَى يَومِ الدِينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَعْمَالُ الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ -يَوْمُ التَّرْوِيَةِ-)):

فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ -وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-؛ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ضُحًى مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي أَرَادَ الْحَجَّ مِنْهُ، وَيَفْعَلُ عِنْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ كَمَا فَعَلَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْغُسْلِ وَالطِّيبِ وَالصَّلَاةِ، فَيَنْوِي الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَيُلَبِّي.

وَصِفَةُ التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ كَصِفَةِ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ هُنَا: ((لَبَّيْكَ حَجًّا))، بَدَلَ قَوْلِهِ: ((لَبَّيْكَ عُمْرَةً)).

وَإِنْ كَانَ خَائِفًا مِنْ عَائِقٍ يَمْنَعُهُ مِنْ إِتْمَامِ حَجِّهِ؛ اشْتَرَطَ فَقَالَ: ((وَإِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي))، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَائِفًا فَلَا يَشْتَرِطُ.

ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى (مِنًى) فِي يَوْمِ الثَّامِنِ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، يُهِلُّ بِالْحَجِّ مُحْرِمًا، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى (مِنًى)، فَيُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ قَصْرًا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ، فَيَقْصِرُ الرُّبَاعِيَّةَ، لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، يَقْصِرُ وَلَا يَجْمَعُ فِي مِنًى فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّﷺ كَانَ يَقْصِرُ بِـ(مِنًى) وَلَا يَجْمَعُ. 

القَصْرُ كَمَا -هُوَ مَعْلُومٌ-: جَعْلُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ.

وَيَقْصِرُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَغَيْرُهُمْ بِـ(مِنًى) وَبِـ(عَرَفَةَ) وَ(مُزْدَلِفَةَ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّﷺ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِتْمَامِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لَأَمَرَهُمْ بِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ عَامَ الْفَتْحِ.

((مَا يُفْعَلُ يَوْمَ عَرَفَةَ)):

يَبِيتُ بِـ(مِنًى)، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ سَارَ مِنْ(مِنًى) إِلَى (عَرَفَةَ)، فَنَزَلَ بِـ(نَمِرَةَ) إِلَى الزَّوَالِ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ بـ(نَمِرَةَ) سُنَّةٌ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا جَمْعَ تَقْدِيمٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِيَطُولَ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ بِـ(عَرَفَةَ).

ثُمَّ يَتَفَرَّغُ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ، وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ، رَافِعًا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ، وَلَوْ كَانَ الْجَبَلُ خَلْفَهُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لَا الْجَبَلَ، وَقَدْ وَقَفَ النَّبِيُّﷺ عِنْدَ الْجَبَلِ وَقَالَ: ((وَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ, وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ)).

*أَفْضَلُ الدُّعُاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ:

وَكَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ -فِي يَوْمِ عَرَفَةَ-: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).

فَإِنْ حَصَلَ لَهُ مَلَلٌ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَجِمَّ بِالتَّحَدُّثِ مَعَ أَصْحَابِهِ بِالْأَحَادِيثِ النَّافِعَةِ، أَوْ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ، خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكَرَمِ اللهِ وَجَزِيلِ هِبَاتِهِ لِكَيْ يَقْوَى فِيهِ جَانِبُ الرَّجَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى التَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ وَدُعَائِهِ، وَيَحْرِصُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ النَّهَارِ بِالدُّعَاءِ، فَإْنَّ خَيْرَ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.

لَمَّا ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- سَاعَةَ الْإِجَابَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِ تِلْكَ السَّاعَةِ فَقَالَ:

((وَمَا عَلَى الْمَرْءِ إِذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ يَسْتَجِيبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ فِي قَضَائِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ, أَنْ يَظَلَّ النَّهَارَ كُلَّهُ دَاعِيًا رَبَّهُ)).

فَكَذَلِكَ إِذَا ذَهَبَ الْمَرْءُ إِلَى الْحَجِّ، وَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ قَصْرًا وَجَمْعًا، يَتَفَرَّغُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَلَا يَدْرِي: أَيَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَعُودُ؟

وَقَدْ تَكُونُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَأْذَنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمُعَاوَدَةِ، فَلَا يُفَوِّتَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْخَيْرَ فِي الدُّعَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الشَّرِيفِ؛ انْشِغَالًا بِالْأَحَادِيثِ، وَأَكْثَرُهَا فِي الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ، وَيَظَلُّ الْمَرْءُ مُتَلَدِّدًا عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَنْتَظِرُ الْغُرُوبَ، وَيُنَقِّلُ الْبَصَرَ هَاهُنَا وَهُنَالِكَ فِي النِّسَاءِ!! وَمِنهُنَّ مَنْ لَا تَتَّقِي اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَكْشِفُ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهَا كَشْفُهُ، وَقَدْ تُخَالِطُ الرِّجَالَ، وَتُكَلِّمُ الرِّجَالَ، وَتَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَتَقَعُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ!!

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اغْتِنَامِ تِلْكَ السُّوَيْعَةِ، ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَدْرِي أَيَعُودُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا يَعُودُ!!

 وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَغْفِرُ لِلْجَمِّ الْكَثِيرِ وَالْعَدَدِ الْغَفِيرِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ لْلْمُذْنِبِينَ كَيَوْمِ عَرَفَةَ.

نَسْأَلُ اللهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْمَعَنَا جَمِيعًا عَلَى صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، وَأَنْ يَجَعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الْمَقْبُولِينَ، إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

*السَّيْرُ إِلَى (مُزْدَلِفَةَ) بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ:

إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ سَارَ إِلَى (مُزْدَلِفَةَ)، فَإِذَا وَصَلَهَا صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا، إِلَّا أَنْ يَصِلَ (مُزْدَلِفَةَ) قَبْلَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؛ لِيُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِهَا.

فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الْأَذَانِ بِالعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَصَلَّى الصَّلاتَيْنِ كُلَّ صَلاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالعَشَاءُ كَانَ بَيْنَهُمَا))، أَيْ: بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، هَذَا إِنْ تَحَرَّكَ مِنْ (عَرَفَةَ) إِلَى (مُزْدَلِفَةَ)، فَكَانَ فِي (مُزْدَلِفَةَ) قَبْلَ أَذَانِ الْعِشَاءِ، وَهَذَا لَا يَحْدُثُ غَالِبًا.

إِذَا وَصَلَ (مُزْدَلِفَةَ) قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ؛ مِنْ شِدَّةِ الزِّحَامِ.

إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْجَمْعِ؛ لِتَعَبٍ أَوْ قِلَّةِ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَفِي الْغَالِبِ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى الْجَمْعِ، فَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ -بَلْ وَلَا جُلُّهُمْ- يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِقَ الْأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُنَعَّمًا فِي حَجِّهِ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُنْفِقُ الْأُلُوفَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحُجَّ حَجًّا سِيَاحِيًّا، كَأَنَّهُ فِي نُزْهَةٍ!!

لَا تَعَبَ وَلَا مَشَقَّةَ، وَلَا مُخَالَطَةَ لِلنَّاسِ، وَلَا قِيَامَ بِمَا يَلْزَمُ!!

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ.

وَأَمَّا إِنْ دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ فَلَا بَأْسَ، فَفَضْلُ اللهِ رَبِّ الَعْالَمِينَ لَا يُحَدُّ.

إِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَخْشَى أَلَّا يَصِلَ(مُزْدَلِفَةَ) إِلَّا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَلَوْ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى (مُزْدَلِفَةَ)، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ إِلَى مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، لَيْسَ إِلَى الْفَجْرِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ إِلَى مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ؛ فَصَلَاتُكَ الْعِشَاءَ تَكُونُ قَضَاءً لَا أَدَاءً, فَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ.

فَإِذَا دَفَعَ مِنْ (عَرَفَاتٍ) إِلَى (مُزْدَلِفَةَ)، فَخَشِيَ أَلَّا يَصِلَ إِلَى (مُزْدَلِفَةَ) إِلَّا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ؛ صَلَّى الْعِشَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ(الْمُزْدَلِفَةَ).

*أَعْمَالُ يَوْمِ النَّحْرِ:

وَإِذَا بَلَغَهَا بَاتَ بِهَا، فَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ مُبَكِّرًا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ قَصَدَ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَدَعَا بِمَا أَحَبَّ حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ الذَّهَابُ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ دَعَا فِي مَكَانِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَقَفْتُ هَاهُنَا وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)).

وَيَكُونُ حَالَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ، رَافِعًا يَدَيْهِ.

فَإِذَا أَسْفَرَ جِدًّا دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ إِلَى (مِنَى)، وَيُسْرِعُ فِي (وَادِي مُحَسِّرٍ)، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى (مِنًى) رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ -وَهِيَ الْأَخِيرَةُ مِمَّا يَلِي مَكَّةَ- بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مُتَعَاقِبَاتٍ، وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى، كُلُّ وَاحِدَةٍ بِقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرِ تَقْرِيبًا أَوْ أَقَلَّ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ.

فَإِذَا فَرَغَ؛ ذَبَحَ هَدْيَهُ، ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَحَقُّهَا التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ، ثُمَّ يَنْزِلُ مَكَّةَ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ.

وَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَطَيَّبَ إِذَا أَرَادَ النُّزُولَ إِلَى مَكَّةَ لِلطَّوَافِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ ﷺ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ الْبَيْتِ)).

*الرُّجُوعُ إِلَى (مِنًى)؛ لِيَبِيتَ بِهَا الْحَجِيجُ لَيْلَتَيِ الْيَوْمِ الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ:

ثُمَّ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ يَرْجِعُ إِلَى (مِنًى)، فَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَتَيِ الْيَوْمِ الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ، وَيَرْمِي الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فِي الْيَوْمَيْنِ.

 وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْهَبَ لِلرَّمْيِ مَاشِيًا، وَإِنْ رَكِبَ فَلَا بَأْسَ، فَيَرْمِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى -وَهِيَ أَبْعَدُ الْجَمْرَاتِ عَنْ مَكَّةَ، وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ- بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مُتَعَاقِبَاتٍ، وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ قَلِيلًا، وَيَدْعُو دُعَاءً طَوِيلًا بِمَا أَحَبَّ، مُسْتَقْبِلًا مَكَّةَ -مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ- فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ طُولُ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ؛ دَعَا بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ وَلَوْ قَلِيلًا؛ لِيُحَصِّلَ السُّنَّةَ.

ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مُتَعَاقِبَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ، رَافِعًا يَدَيْهِ، وَيَدْعُو دُعَاءً طَوِيلًا إِنْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا وَقَفَ بِقَدْرِ مَا يَتَيَسَّرُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُهْمِلُهُ، إِمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا تَهَاوُنًا، وَكُلَّمَا أُضِيعَتِ السُّنَّةُ كَانَ فِعْلُهَا وَنَشْرُهَا بَيْنَ النَّاسِ أَوْكَدَ؛ لِئَلَّا تُتْرَكَ وَتَمُوتَ.

ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مُتَعَاقِبَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلَا يَدْعُو بَعْدَهَا.

فَإِذَا أَتَمَّ رَمْيَ الْجِمَارِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ؛ فَإِنْ شَاءَ تَعَجَّلَ وَنَزَلَ مِنْ(مِنًى)، وَإِنْ شَاءَ تَأَخَّرَ فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الثَّالِثِ عَشَرَ، وَرَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا مَرَّ، وَالتَّأَخُّرُ أَفْضَلُ مِنَ التَّعَجُّلِ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ وَكَانَ بِـ(مِنًى)، فَإِذَا بَقِيَ بِـ(مِنًى) فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَيْهِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى وَأَلَّا يَتَعَجَّلَ، وَيَلْزَمُهُ التَّأَخُّرُ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ.

لَكِنْ لَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي (مِنًى) فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ؛ كَأَنْ يَكُونَ قَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ، لَكِنْ تَأَخَّرَ بِسَبَبِ زِحَامِ السَّيَّارَاتِ وَالْمَرْكَبَاتِ مَثَلًا- وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّأَخُّرُ؛ لِأَنَّ تَأَخُّرَهُ إِلَى الْغُرُوبِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِنْ بَقِيَ بِـ(مِنًى) فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ بِاخْتِيَارِهِ؛ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَعَجَلَّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى؛ لِيَرْمِيَ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَشَرَ.

*طَوَافُ الْوَدَاعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ:

فَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَلَدِهِ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَطُوفَ لِلْوَدَاعِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِر عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ))، يَعْنِي: أَنْ يَطُوفَ بَالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ -أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِالْبَيْتِ، أَيْ: أَنْ يَطُوفُوا ثُمَّ يَرْتَحِلُوا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ- إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ)).

فَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لَيْسَ عَلَيْهِمَا وَدَاعٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلْوَدَاعِ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

يَجْعَلُ طَوَافَ الْوَدَاعِ آخِرَ عَهْدِهِ بَالْبَيْتِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ لِلسَّفَرِ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الْوَدَاعِ لِانْتِظَارِ رُفْقَتِهِ، أَوْ تَحْمِيلِ رَحْلِهِ، أَوِ اشْتَرَى حَاجَةً فِي طَرِيقِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَ، وَلَا يُعِيدُ الطَّوَافَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ تَأْجِيلَ سَفَرِهِ؛ كَأَنْ يُرِيدَ السَّفَرَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَيَطُوفُ لِلْوَدَاعِ، ثُمَّ يُؤَخِّرُ السَّفَرَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ مَثَلًا، فَيَلْزَمُهُ إِعَادَةُ طَوَافِ الْوَدَاعِ؛ لِيَكُونَ الطَّوَافُ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، سَائِلًا رَبَّهُ أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا أَتَى بِهِ.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَحْمِلَنَا إِلَى بَلَدِهِ الْحَرَامِ، وَبَيْتِهِ الْحَرَامِ حُجَّاجًا وَمُعْتَمِرِينَ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا أَجْمَعِينَ، إِنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أَجْمَعِينَ، وَالتَّوْبَةَ النَّصُوحَ، وَمُنَّ عَلَيْنَا بِزِيَارَةِ مَسْجِدِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ تَقْبِضَنَا فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ ﷺ، وَبِالدَّفْنِ فِي الْبَقِيعِ، فَإِنَّا نَطْمَعُ فِي رَحْمَتِكَ، وَنَرْجُو بِرَّكَ، وَأَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: الْحَجُّ بَيْنَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَفِقْهِ الْمَنَاسِكِ

 

 

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ لَمْ يَقَعَا فِي شَهْرِ رَجَبٍ
  وَطَنُنَا إِسْلَامِيٌّ، وَحُبُّهُ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ
  عَاقِبَةُ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ
  أَثَرُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي تَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي شَهْرِ الْحَصَادِ
  نَمَاذِجُ مِنْ مِحَنِ وَابْتِلَاءَاتِ خَيْرِ الْبَشَرِ
  مَعْرَكَةُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ ضِدَّ الْإِرْهَابِ
  جُمْلَةُ حِكَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ -الزَّوَاجُ- فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ
  الْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ!!
  انْتِصَارُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر
  الْوَعْيُ بِخَطَرِ الِانْحِرَافِ الْفِكْرِيِّ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهِ
  حَقِيقَةُ الصِّيَامِ
  الدرس الأول : «رَمَضاَنُ شَهْرُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ»
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان