مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ: حِمَايَتُهَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَشْبُوهَةِ وَالْهَدَّامَةِ


((مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ:

حِمَايَتُهَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَشْبُوهَةِ وَالْهَدَّامَةِ))

يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا أَدَّى بِنَا إِلَى مَا وَصَلْنَا إِلَيْهِ مِنْ ذُلٍّ وَمَذَلَّةٍ وَاحْتِقَارٍ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ.. مَا أَدَّى بِنَا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْجَمَاعَاتُ، هِيَ مَصْدَرُ مَذَلَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْطِنُ بُؤْسِهَا، وَهِيَ عَامِلُ خَرَابِهَا الْأَوَّلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاضِحًا.

كَثِيرَةٌ هِيَ الْآثَارُ الَّتِي أَنْتَجَتْهَا الْجَمَاعَاتُ، وَالْوَلَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ لِلْحُقُولِ الْإِسْلَامِيَّةِ -وَالْحُقُولُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَعْبِيرٌ يَسْتَحِبُّهُ الْعَامِلُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالدُّعَاةِ الْيَوْمَ فَلَا حَرَجَ-، وَهَذِهِ أَرْبَعَةُ آثَارٍ مِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ لِلْجَمَاعَاتِ وَالْوَلَاءَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِلْحُقُولِ الْإِسْلَامِيَّةِ:

الْأَوَّلُ: مُرَاوَدَةُ الشُّكُوكِ وَالرِّيَبِ قُلُوبَ الْعَامَّةِ، وَهُمْ يُبصِرُونَ بِالنِّزَاعِ الْحَرَكِيِّ يَمْلَأُ السَّاحَاتِ الْعَامَّةَ، وَتُسَوَّدُ بِهِ الصَّحَائِفُ، وَيَمْلَأُ الْأُفُقَ صَخَبًا وَضَجِيجًا، وَيُحَرِّكُ السَّوَاكِنَ الْغَافِلَةَ عَنِ الشَّرِّ بِحَسِيسِ الْبَغْضَاءِ وَالْحِقْدِ، وَيَبْعَثُ الرَّوَاكِدَ مِنْ مَطَارِحِهَا الْآمِنَةِ بِوَسَاوِسِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، وَيُفْشِي سَرِيرَتَهُ الْهَادِرَةَ بِكُلِّ دَوَافِعِ الْأَنَانِيَّةِ وَالْأَثَرَةِ.

يَنْظُرُ الْعَوَامُّ إِلَى هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ لَا يَفْهَمُونَ مَقَاصِدَهَا، وَلَطَالَمَا نَبَشَ النِّزَاعُ الْحَرَكِيُّ جُرُوحًا غَائِرَةً، وَاصْطَلَتْ بِنَارِهِ أَعْرَاضٌ بَرِيئَةٌ، وَمَزَّقَ بِشَفْرَةِ عَدَاوَتِهِ أَبْشَارًا طَاهِرَةً.

وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي وَاقِعِ النَّاسِ لَا يَكَادُ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَاتِ تَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالشَّائِعَاتِ، فَيُشِيعُونَ عَنِ الْمُخَالِفِ كُلَّ نَقِيصَةٍ، وَيُلْصِقُونَ بِهِ كُلَّ تُهْمَةٍ, وَيَجْعَلُونَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ وَذَوِيهِ وَأَهْلِهِ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُوقَعَ عَلَى إِنْسَانٍ مِنْ جَرَائِمَ وَفُحْشٍ, لَا يَتَوَرَّعُونَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهَيْهَاتَ!!

وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْآثَارِ السَّلْبِيَّةِ: فَالِانْتِصَارُ بِالْحَمِيَّةِ الْحِزْبِيَّةِ الْحَرَكِيَّةِ لِلْحِزْبِ أَوِ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَنْتَسِبُ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ مِنْ حِزْبِهِ أَوْ مِنْ جَمَاعَتِهِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ عَلَى خَطَأٍ أَوْ عَلَى خَطِيئَةٍ، لَا يُهِمُّ، هُوَ مَعَنَا وَلَيْسَ عَلَيْنَا، وَالْوَيْلُ أَشَدُّ الْوَيْلِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حِزْبِهِ أَوْ جَمَاعَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ مِنْهُ النُّصْرَةَ حَتَّى فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ, يُلْقِيهِ بَعِيدًا وَيَطْرُدُهُ مَزْجَرَ الْكَلْبِ, وَيَنْبِذُهُ نَبْذَ النَّوَاةِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ لَا شَيْءَ!!

وَلَقَدْ رَأَيْنَا هَذَا يَجْرِي عَلَى سَاحَةِ الْعَمَلِ الْإِسْلَامِيِّ بَيْنَ كُلِّ الْجَمَاعَاتِ وَالْفِرَقِ وَالتَّنْظِيمَاتِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ أَوْ فِرْقَةٍ مِنْهَاجًا وَعَهْدًا وَبَيْعَةً تُلْزِمُ الْفَرْدَ الْوَفَاءَ لِكُلِّ مَا يَصِلُهُ بِسَبَبٍ إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَةِ أَوْ إِلَى تِلْكَ الْفِرْقَةِ، ثُمَّ لَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا أَنْ يُجَهِّلَ كُلَّ مَنْ يُجَاوِزُ حُدُودَ جَمَاعَتِهِ أَوْ فِرْقَتِهِ, هُوَ جَاهِلٌ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ الْأَرْضِ هُوَ جَاهِلٌ، ثُمَّ لَا يَجِدُ لَدَيْهِ سَبَبًا لِنُصْرَتِهِ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)) .

وَالثَّالِثُ مِنَ الْآثَارِ السَّلْبِيَّةِ: مَنْحُ أَعْدَاءِ اللهِ الْعُذْرَ فِي الطَّعْنِ فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَعَلَيْهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَالْعَقِيدَةُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَ كُلِّ عُقَلَاءِ الْأَرْضِ لَا تُفَرِّقُ، الْعَقِيدَةُ الْوَاحِدَةُ حَتَّى عِنْدَ عُبَّادِ الْبَقَرِ لَا تُفَرِّقُ، وَهَؤُلَاءِ يَتَفَرَّقُونَ, فَلِمَاذَا يَتَفَرَّقُونَ؟! أَعَلَى عَقِيدَةٍ وَاحِدَةٍ هُمْ؟!

لَا تَجِدُ وَاحِدًا مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَحَزِّبِينَ نَاحِيَةً، الَّذِينَ يُسْلَكُونَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ وَالتَّنْظِيمَاتِ وَالْفِرَقِ عِنْدَهُ اعْتِقَادٌ يَلْقَى بِهِ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَالِمًا، بَلْ إِنَّ أَكْبَرَ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ لَيْسَ عِنْدَهَا مَنْهَجٌ اعْتِقَادِيٌّ مُنْضَبِطٌ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَنْهَجٌ اعْتِقَادِيٌّ يُدَرَّسُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هَكَذَا فَلْيَأْتِ مَنْ يَأْتِ وَلْيُكَفِّرْ سَوَادَ الْقَوْمِ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ!!

مَنْحُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْعُذْرَ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي عَقِيدَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، الْعَقِيدَةُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَ كُلِّ عُقَلَاءِ الْأَرْضِ لَا تُفَرِّقُ بَلْ تُجَمِّعُ، وَالْأَحْكَامُ وَالْفُرُوعُ الْمُتَفَرِّعَةُ عَنْهَا تُلْزِمُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَهْلَهَا الْعَمَلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِيهَا وَلَا حَرَجٍ مِنْهَا، فَكَيْفَ صَارَ أَهْلُ الْعَقِيدَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمِنْهَاجِ الْوَاحِدِ مُتَفَرِّقِينَ مُتَبَاغِضِينَ مُتَدَابِرِينَ، فِي حِينَ نَرَى أَهْلَ الْعَقَائِدِ وَالنِّحَلِ الْأُخْرَى مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهَا مُتَآلِفِينَ وَلَوْ ظَاهِرًا، حَتَّى عُبَّادَ الْبَقَرِ تَرَاهُمْ مُجْتَمِعِينَ ظَاهِرًا؟!!

وَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي لَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَفِي مِنْهَاجِهِمْ وَفِي حَيَوَاتِهِمْ أَنْ تَكُونَ دَاعِيَةً لَهُمْ لِإِتْلَافِهِمْ وَكَوْنِهِمْ كَمَا أَمَرَ نَبِيُّهُمْ ﷺ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، أَلَا يَصْلُحُ هَذَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عِنْدَ الْخُصُومِ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ بِعَقِيدَتِهِ وَأَحْكَامِهِ لَا يَصْلُحُ لِوَحْدَةِ النَّاسِ جَمِيعًا بِدَعْوَى الْأَحْزَابِ وَالْجَمَاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَوْحِيدِ صَفِّ أَتْبَاعِهِ؟!!

لَمَّا تَمَزَّقُوا وَقَالُوا: نَحْنُ الْإِسْلَامُ، يَقُولُ لَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ: الْإِسْلَامُ يُفَرِّقُكُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ لَجَمَعَكُمْ!!

فَشَيْئَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ إِمَّا أَنْ تَكُونُوا عَلَى الْإِسْلَامِ -بِزَعْمِكُمْ- جَمِيعًا وَأَنْتُمْ عَلَى هَذَا التَّفَرُّقِ فَهَذَا الْإِسْلَامُ لَا شَيْءَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونُوا كَاذِبِينَ.. وَهُمْ كَذَلِكَ.

وَلَعَلَّ هَذَا -أَيْضًا- كَانَ سَبَبًا فِي انْصِرَافِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ الْأَعْظَمِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ الْحَقِّ الَّذِي أَوْرَثَنَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عِنْدَمَا قَالَ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي)) ؛ إِذْ كُلُّ جَمَاعَةٍ -وَكُلُّ حِزْبٍ- تَدَّعِي -وَيَدَّعِي- أَنَّهُ -وَأَنَّهَا- عَلَى الْحَقِّ وَحْدَهُ -وَوَحْدَهَا-؛ لِأَنَّهُ -وَأَنَّهَا- مُتَمَسِّكَةٌ -وَمُتَمَسِّكٌ- بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَصدُقُ فِيهِمْ إِلَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ الْقَدِيمِ:

وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا بِلَيْلَى=وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَ

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- أَرَادَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ وَقِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَدْيٍ وَاحِدٍ وَكَلِمَةٍ سَوَاءٍ وَاحِدَةٍ؛ لِتَكُونَ هِيَ رَائِدَةَ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي قَضَى اللهُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّاسِ بِوَحْيِهِ، وَالشَّاهِدَةَ عَلَيْهِ بِمَا آتَاهَا مِنْ خَصَائِصَ وَمَوَاهِبَ لَمْ يُؤْتِهَا غَيْرَهَا مِنَ الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَيْنَ ذَلِكَ؟!!

مَزَّقُوهُ، وَضَيَّعُوهُ بِاسْمِ الْعَمَلِ الْإِسْلَامِيِّ وَالدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْفِكْرِ الْإِسْلَامِيِّ، بَلْ وَبِالدَّعْوَى بِاسْمِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَمَتَى يُدْرِكُ الْعَامِلُونَ فِي حُقُولِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَوْا إِثْمًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ إِلَّا بِخَلْعِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ قُمُصِ الْحِزْبِيَّةِ وَالْحَرَكِيَّةِ الْبَغِيضَةِ الْمُنْتِنَةِ.

وَأَيْضًا.. مِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ الَّتِي أَنْتَجَتْهَا الْحِزْبِيَّةُ وَالْجَمَاعَاتُ: وُقُوعُ فَرَائِسَ سَهْلَةٍ تَتَنَاوَشُهَا أَلْسِنَةُ الدُّعَاةِ وَالْعَامِلِينَ فِي سَاحَةِ الدَّعْوَةِ تَنَاوُشًا لَا يَرْحَمُهَا وَلَا يُنْجِيهَا مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَتَوَسَّدَ التُّرَابَ، وَلَا وَاللهِ وَبَعْدَ أَنْ تَتَوَسَّدَ التُّرَابَ!!

الْفَرَائِسُ: جَمْعُ فَرِيسَةٍ، هُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ؛ أَنْ رَأَوْا مِنَ الْأَخْطَاءِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِصْلَاحِهِ أَوْ تَقْوِيمِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الْبَقَاءَ تَحْتَ هَذَا الشِّعَارِ أَوْ ذَاكَ, وَتَكُونُ الْفَرِيسَةُ أَشْهَى وَأَطْيَبَ لِتِلْكَ الْأَلْسِنَةِ الَّتِي تَنُوشُهَا بَعْدَ أَنْ يُغَادِرَ الْجَمَاعَةَ وَالتَّنْظِيمَ وَالْفِرْقَةَ.. تَكُونُ الْفَرِيسَةُ أَطْيَبَ لِتِلْكَ الْأَلْسِنَةِ إِنْ كَانَ هَذَا التَّارِكُ مِنَ الرُّءُوسِ، أَوْ مِنَ الرُّمُوزِ حَسَبِ الْمُصْطَلَحِ الدَّعَوِيِّ الْجَدِيدِ، إِذَا كَانَ مِنَ الرُّمُوزِ فَمَا أَطْيَبَ لَحْمَهُ لِلْآكِلِينَ لُحُومَ النَّاسِ!!

وَلَقَدْ شَهِدْنَا أُنَاسًا لَا تَحُومُ حَوْلَهُمْ شُبْهَةٌ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَقَعُوا ضَحَايَا جَرَّاءَ تَرْكِهِمْ صَفَّ الْجَمَاعَةِ، وَكَانُوا وَهُمْ دَاخِلَ الصَّفِّ أَطْهَرَ وَأَنْقَى مِنَ الْمُزْنِ، فَلَمَّا تَرَكُوا صَارُوا فِي رِجْسِ الْعُهْرِ وَنَتْنِ الْفِسْقِ.

وَهَذَا يُفْصِحُ لَنَا عَنْ سَرِيرَةِ التَّجَمُّعِ الْحَرَكِيِّ الظَّامِئَةِ الَّتِي لَا يَرْوِيهَا إِلَّا التَّشَفِّي وَالْحَسَدِ وَالشَّمَاتَةِ، وَهِيَ أَخْلَاقٌ لَا تَنْزِعُ بِصَاحِبِهَا إِلَّا إِلَى الْهَلَكَةِ وَسُوءِ النِّهَايَةِ -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

هَذِهِ الْآثَارُ إِنَّمَا هِيَ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ لِآثَارٍ أُخْرَى جُزْئِيَّةٍ تَتَفَرَّعُ مِنْهَا.

الْآثَارُ السَّلْبِيَّةُ لِلِانْضِمَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ حَدِّثْ عَنْهَا كَمَا تُحَدِّثُ عَنِ الْبَحْرِ وَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّهَا -أَيْ هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ وَهَذِهِ التَّنْظِيمَاتُ وَهَذِهِ الْفِرَقُ، هَذِهِ جَمِيعُهَا- بِدْعَةٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.

هَذِهِ التَّجَمُّعَاتُ الْحَرَكِيَّةُ التَّنْظِيمِيَّةُ، هَذَا الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ التَّنْظِيمِيُّ بِدْعَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعِظِيمِ، بِدْعَةٌ مُنْتِنَةٌ، وَمَنْ تَرَبَّى عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا، أُغْلِقَ عَقْلُهُ، وَأُوصِدَ بَابُ قَلْبِهِ، فَلَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ شُعَاعٌ مِنْ عَقْلٍ وَلَا بَصِيصٌ مِنْ نُورِ تَأَمُّلٍ يَنْحَازُ بِهِ بَعِيدًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَفَكَّرَ, وَإِنَّمَا يَخْبِطُ مَعَ كُلِّ نَاعِقٍ بِكُلِّ سَبِيلٍ، يُلَبِّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَاشًّا لَهُمْ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُحَاسَبٌ عَلَى جَهْلِهِ وَكَلَامِهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِعِلْمٍ.. ((قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، هَلَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ)) .

هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ مَزَّقَتِ الْأُمَّةَ وَأَذْهَبَتْ قُوَّتَهَا، وَإِنْ ظَلَّتْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَفِيءَ إِلَى الرُّشْدِ وَتَعُودَ إِلَى الْحَقِّ فَهُوَ الِانْحِدَارُ إِلَى قَرَارَةِ الْحَضِيضِ وَمُنْتَهَى الْهَاوِيَةِ.

إِنَّ الْجَمِيعَ تَحْتَ لِوَاءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ لِوَاءُ الدِّينِ وَالْوَطَنِ الَّذِي تَنْضَوِي تَحْتَهُ وَفِي ظِلِّهِ كُلُّ الْأَلْوِيَةِ الْأُخْرَى، أَمَّا أَنْ تَحْمِلَ كُلُّ جَمَاعَةٍ أَوْ جِهَةٍ لِوَاءً مُوَازِيًا لِلِوَاءِ الدَّوْلَةِ فَهَذَا خَطَرٌ دَاهِمٌ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُ لَا أَمْرُ الدِّينِ وَلَا أَمْرُ الدَّوْلَةِ؛ لِذَا يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ)) .

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ؛ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ لَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

مُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، وَمُحَاوَلَةُ تَفْرِيقِهَا.. مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَالْجَمَاعَةُ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؛ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَتِ الْجَمَاعَةُ مَا يُرِيدُهُ أُولَئِكَ الضُلَّالُّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يُؤَمِّرُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَيَنْعَزِلُونَ نَاحِيَةً عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِنَّمَا الْجَمَاعَةُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ وَسَوَادُهُمْ، فَمَنْ فَارَقَهُمْ وَحَاوَلَ تَفْرِيقَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَتَى أَمْرًا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

المصدر:الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَعَلَاقَتُهُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ
  الْإِحْسَانُ إِلَى الْأَيْتَامِ وَرِعَايَتُهُمْ
  حُرْمَةُ قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  دِينُ التَّسَامُحِ وَشَرِيعَةُ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  صَفْحَاتٌ مِنْ حَرْبِ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ - السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر
  عَوَامِلُ قُوَّةِ بِنَاءِ الدُّوَلِ فِي نَصَائِحَ جَامِعَةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ​
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مِنَّةُ اللهِ عَلَى كُلِّ الْبَشَرِيَّةِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  الزَّوَاجُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
  حَثُّ دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ
  أَمْثِلَةٌ لِلْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَالْكَلَامِ الْخَبِيثِ
  مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى؟!!
  مِنْ مَعَالِمِ الْبِرِّ بِالْأَوْطَانِ: الدِّفَاعُ عَنْهُ وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ
  حُبُّ الوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان