مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ: ذِكْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-


((مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ:

ذِكْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))

إِنَّ ذِكْرَ اللهِ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالذِّكْرُ سَبَبٌ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوْنِي أَذْكُرْكُمْ}؛ يَعْنِي: اذْكُرُوْنِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.

لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَمْرًا.. صَحِيحٌ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَصَابَهُ -لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ دُونَ بَقِيَّةِ أَيَّامِ الْعَامِ- كَانَ حَسَنًا جِدًّا، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ -كَمَا أَخْبَرَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ، قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا)) ؛ أَيْ: طُلُوْعًا حَسَنًا.

فَأَخْبَرَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ ظَلَّ فِي الْمُصَلَّى الَّذِي صَلَّى الصُّبْحَ فِيهِ، يَذْكُرُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

ثُمَّ أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مِنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَ لَهُ أَجْرُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ)) .

فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَظِيمِ هَذَا الْفَضْلِ الْكَبِيرِ وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ مَعَ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي يَبْدُو أَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ، وَلَكِنْ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَجْرَ الْكَبِيرَ، وَلَا يُطِيقُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؟!!

وَالْمِثَالُ الْمَضْرُوبُ: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لِمَّا شَكَا لَهُ الْفُقَرَاءُ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يُصَلُّونَ كَمَا يُصَلِّي الْفُقَرَاءُ، وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَ كَمَا يَصُومُ الفُقَرَاءُ، وَلَكِنْ لَهُمْ فَضْلُ مَالٍ يَحُجُّونَ مِنْهُ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيُجَهِّزُونَ الْغُزَاةَ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَفْعَلُونَ الْخَيْرِ.

قَالُوا: يَفْعَلُونَ مِنَ الْخَيْرِ مَا نَفْعَلُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ -أَيْ زِيَادَةُ مَالٍ- آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِيَّاهُ، يَفْعَلُونَ بِهِ مَا لَا نَفْعَلُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا إِنْ عَمِلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِكُمْ مَنْ خَلْفَكُمْ، أَلَا أَدُلُّكُمْ؟)).

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ: ((تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ))؛ أَيْ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلٍّ، وَالتَّنْوِينُ فِي ((كُلٍّ)) عِوَضٌ عَنِ الْجُمْلَةِ مِنْ كُلٍّ؛ يَعْنِي مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ أَدْرَكْتُمْ -لَحِقْتُمْ- مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يَلْحَقْكُمْ مَنْ خَلْفَكُمْ.

فَذَهَبُوا بِهَا، تَكَادُ الْقُلُوبُ تَطِيرُ مِنَ الْحُبُورِ وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ طَيَرَانًا!

وَلَكِنْ.. وَاأَسَفَاهُ!

سَمِعَ أَهْلُ الدُّثُورِ -أَهْلُ الْمَالِ، أَهْلُ الْغِنَى- بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِلْفُقَرَاءِ فَعْمِلُوهُ.

فَجَاءَ الْفُقَرَاءُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الدُّثُورِ -أَيْ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى، وَالِامْتِلَاكِ، وَالْمَالِ- سَمِعُوا مَا قُلْتَ لَنَا، فَهُمْ يَقُولُونَهُ.

قَالَ: ((وَمَا أَصْنَعُ؟ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)) .

لَهَا وَجْهٌ آخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى بِهِ؛ تَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُسْتَقِيمَةٌ فِي أَصْلِهَا، حَتَّى لَا يَفْزَعَ فَقِيرٌ، وَلَا يُحْبَطَ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَحَتَّى لَا يَحْزَنَ مُقِلٌّ، وَإِنَّمَا لَهَا مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ الْآنَ بِمَقَامٍ، الْمُهِمُّ أَنَّكَ تَجِدُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَبْدُو يَسِيرًا جِدًّا.

مَاذَا فِي أَنْ تَصْبِرَ دَقَائِقَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْكَ اللهُ؛ لِتُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ؟!!

قَلِيلٌ جِدًّا مَنْ يَأْتِي بِهَذَا، وَهُوَ -كَمَا تَرَى- مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ ظَاهِرًا، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَعْسَرِ مَا يَكُونُ حَقِيقَةً عِنْدَ فُقْدَانِ التَّوْفِيقِ، فَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْمُوَفَّقُ.

فَدَلَّنَا الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، فَإِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، فَظَلِلْتَ فِي الْمُصَلَّى الَّذِي صَلَّيْتَ فِيهِ، تَذْكُرُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ تَسْتَقِلَّ طَالِعَةً؛ يَعْنِي عِنْدَ حِلِّ النَّافِلَةِ -بَعْدَ الشُّرُوقِ بِحَوَالَيْ ثُلُثِ سَاعَةٍ-، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْإِشْرَاقِ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ .

مَا الَّذِي يَتَحَصَّلُ الْآتِي بِهَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ؟!!

مَا الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ الْآتِي بِهَا؟!!

يَتَحَصَّلُ عَلَى أَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، وَلَا تَسْتَكْثِرْ هَذَا فَرَبُّكَ هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، وَأَيْضًا إِنَّمَا يَكُونُ الْعَطَاءُ عَلَى قَدْرِ مَا فِي الْقُلُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إِنَّمَا يَتَفَاوَتُ عَلَى مَا تَشَابَهَ وَتَمَاثَلَ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَادَاتِ عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ يَقُومَانِ فِي الصَّلَاةِ، يُصَلِّيَانِ خَلْفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يُكَبِّرَانِ تَحْرِيمًا بِتَكْبِيرِهِ، وَيُسَلِّمَانِ تَحْلِيلًا بِتَسْلِيمِهِ، وَيَرْكَعَانِ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدَانِ بِسُجُودِهِ، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، بَلْ قُلْ -إِنَ شِئْتَ صَادِقًا، غَيْرَ مُكَذَّبٍ-: كَمَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.. وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا بَلْ كَمَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُمَا يَأْتِيَانِ بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَاحِدًا مُتَمَاثِلًا.

وَلَكِنَّ حَقَائِقَ الْأَعْمَالِ تَتَفَاضَلُ -عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- بِهَا الْأُجُورُ عَطَاءً وَمَنْعًا عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَبَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ، فَاحْرِصْ عَلَيْهِ.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مَظَاهِرُ الِابْتِلَاءِ
  فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
  لِمَاذَا يُدَمِّرُونَ دِمَشْقَ الْخِلَافَةَ؟!!
  مَظَاهِرُ خُطُورَةِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  مِنْ سُبُلِ الْقَضَاءِ عَلَى إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: الْعِلَاجُ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ
  فَلْنَتَّقِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلْنُحَقِّقْ مَقْصُودَ الصِّيَامِ -التَّقْوَى-
  أَكْلُ الْحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاطِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ
  مَعَانِي الْأَمَلِ
  احْذَرُوا أَنْ تُؤْتَوْا مِنْ ثُغْرِ الْعُقُوقِ!!
  تَمْكِينُ اللهِ لِلْأَنْبِيَاءِ بِتَحْقِيقِهِمُ التَّوْحِيدَ
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ الْمُسْلِمِ: حَقُّهُ فِي الْحَيَاةِ
  تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ
  المَوْعِظَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : ((الْقُرْآنُ سَبِيلُ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرِ لِلْأُمَّةِ))
  ثَمَرَاتُ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّسَامُحِ
  الْإِسْلَامُ العَظِيمَ لَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أَحَدٍ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان