مَظَاهِرُ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالطُّفُولَةِ

مَظَاهِرُ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالطُّفُولَةِ

((مَظَاهِرُ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالطُّفُولَةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ وَزِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))

فَالْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، وَهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].

وَهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].

وَالذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ سَأَلَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].

وَقَالَ -تَعَالَى- عَلَى لِسَانِ زَكَرِيَّا -أَيْضًا-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5-6].

قَالَ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} يَعْنِي بِهَذَا الْوَلِيِّ: الْوَلَدَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ -تَعَالَى- فِي الْقِصَّةِ نَفْسِهَا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ الْوَلَدُ -أَيْضًا- بِقَوْلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، فَقَوْلُهُ: {لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَيْ: وَاحِدًا بِلَا وَلَدٍ)).

وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] مَا ذَكَرَهُ -سُبْحَانَهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

((الْأَوْلَادُ مِنَ الْبُشْرَيَاتِ فِي الْإِسْلَامِ))

الْإِسْلَامُ يَعُدُّ الْأَوْلَادَ مِنَ الْبُشْرَيَاتِ؛ فَالْأَوْلَادُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُمْسِكُهَا عَمَّنْ يَشَاءُ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ تَسُرُّ الْوَالِدَيْنِ بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِهِمْ رُسُلَ اللهِ مِنَ الْبَشَرِ وَزَوْجَاتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ} [مريم: 7].

وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّتِي تُبَشِّرُ الْآبَاءَ مِنَ الرُّسُلِ بِالْأَبْنَاءِ.

وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِبْشَارُ بِالْوَلَدِ وَالتَّبْشِيرُ بِهِ مِنَ السُّنَنِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللهُ -تَعَالَى- مَنْ تَبَرَّمَ مِنَ الْأُنْثَى وَاسْتَثْقَلَهَا؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي وَهَبَهَا كَمَا وَهَبَ الذَّكَرَ.

وَالْحَيَاةُ لَا تَسْتَمِرُّ إِلَّا بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَعًا، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59].

وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ: ((كَيْفَ أَقُولُ؟)).

قَالَ: قُلْ: ((جَعَلَهُ اللهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ )). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الدُّعَاءِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].

أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ تُفْتَنُونَ بِهَا وَتُخْتَبَرُونَ، فَإِنْ شَكَرْتُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَقُمْتُمْ بِوَاجِبِهَا كُنْتُمْ مِنَ الرَّابِحِينَ، وَإِنْ كَفَرْتُمُوهَا وَلَمْ تَقُومُوا بِوَاجِبِهَا كُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

((نِعْمَةُ الْأَوْلَادِ مِنْحَةٌ أَوْ مِحْنَةٌ))

((اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ فِتْنَةٌ لِلْعَبْدِ وَاخْتِبَارٌ.

- فَإِمَّا مِنْحَةٌ تَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، سُرُورٌ لِلْقَلْبِ، وَانْبِسَاطٌ لِلنَّفْسِ، وَعَوْنٌ عَلَى مَكَابِدِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَصَلَاحٌ يَحْدُوهُمْ إِلَى الْبِرِّ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، اجْتِمَاعٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَاجْتِمَاعٌ فِي الْآخِرَةِ فِي دَارِ كَرَامَةِ اللهِ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

وَإِنَّ مِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الْمِنْحَةِ: أَنْ يَقُومَ الْوَالِدَانِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ وَتَرْبِيَةٍ صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَقُومَ الْأَبُ خَاصَّةً بِذَلِكَ؛ لِيُخَلِّفَ بَعْدَهُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً تَنْفَعُهُ وَتَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَتَى أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَصْلَحَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَمَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَكَثْرَةِ دُعَائِهِ وَلُجُوئِهِ إِلَى اللهِ يَحْصُلُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَالتَّرْبِيَةُ الصَّالِحَةُ.

يَقُولُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

فَوَاللَّهِ مَا سَأَلُوا ذَلِكَ وَقَعَدُوا عَنْ فِعْلِ الْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنَّكَ إِذَا سَأَلْتَ اللهَ شَيْئًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَفْعَلَ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ سَأَلَ اللهَ رِزْقًا لَسَعَى فِي أَسْبَابِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، وَلَوْ سَأَلَ اللهَ ذُرِّيَّةً لَسَعَى فِي حُصُولِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تُنْبِتُ أَوْلَادًا، وَهَكَذَا إِذَا سَأَلَ اللهَ صَلَاحَ ذُرِّيَّتِهِ، وَأَنْ تَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْعَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابٍ؛ ذَلِكَ لِكَيْ تَكُونَ نِعْمَةُ الْأَوْلَادِ مِنْحَةً.

- أَمَّا الشَّطْرُ الثَّانِي مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ؛ فَأَنْ تَكُونَ مِحْنَةً وَعَنَاءً، وَشُؤْمًا وَشَقَاءً عَلَى أَهْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ، وَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ لَهُمْ مِنْ رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ وَتَرْبِيَةٍ صَالِحَةٍ، أَهْمَلَهُمْ فَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، أَكْبَرُ هَمِّهِ نَحْوَهُمْ حِينَ كَانُوا شَهْوَةً قَذْفُهَا فِي رَحِمِ الْأُمِّ، أَضَاعَ حَقَّ اللهِ فِيهِمْ فَأَضَاعُوا حَقَّ اللهِ فِيهِ، لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْهِمْ بِالتَّرْبِيَةِ فَلَمْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ بِالْبِرِّ؛ {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، فَفَاتَهُ نَفْعُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَيَكُونَنَّ مِنَ النَّادِمِينَ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

لَقَدْ ضَلَّ أَقْوَامٌ اعْتَنَوْا بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَرِعَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا، فَأَشْغَلُوا أَفْكَارَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ وَانْشَغَلُوا بِهَا عَنْ رَاحَتِهِمْ وَمَنَامِهِمْ، ثُمَّ نَسُوا أَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَمَا هِيَ قِيمَةُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ؟!!

أَلَيْسَ مِنَ الْأَجْدَرِ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُخَصِّصُوا شَيْئًا مِنْ قُوَاهُمُ الْفِكْرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِتَرْبِيَةِ أَهْلِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ؛ حَتَّى يَكُونُوا بِذَلِكَ شَاكِرِينَ نِعْمَةَ اللهِ، مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِ اللهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمُ الْوِلَايَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَمَّلَكُمْ مَسْؤُولِيَّةَ الْأَهْلِ، أَمَرَكُمْ بِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ تِلْكَ النَّارَ الْمُزْعِجَةَ، لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ فَحَسْبُ، بَلْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ.

وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُضَيِّعِينَ لِأَمْرِ اللهِ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ لَوْ أَصَابَتْ نَارُ الدُّنْيَا طَرَفًا مِنْ وَلَدِهِ أَوْ كَادَتْ؛ لَسَعَى بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ لِدَفْعِهَا، وَهَرَعَ إِلَى كُلِّ طَبِيبٍ لِلشِّفَاءِ مِنْ حَرْقِهَا وَأَلَمِهَا، أَمَّا نَارُ الْآخِرَةِ فَلَا يُحَاوِلُ أَنْ يُخَلِّصَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ مِنْهَا)).

((اهْتِمَامُ الْإِسْلَامِ بِالطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ))

لَقَدِ اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ بِالنَّسْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الزَّوَاجِ اهْتِمَامًا بَالِغًا فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِ حَيَاتِهِ؛ فَأَطْفَالُ الْيَوْمِ هُمْ شَبَابُ الْغَدِ، وَهُمْ قَادَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَقَدْ بَلَغَ مِنَ اهْتِمَامِ الْإِسْلَامِ بِالنَّسْلِ أَنْ جَعَلَ لِلطِّفْلِ حُقُوقًا قَبْلَ مَوْلِدِهِ، بَلْ وَقَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ؛ لِتَتَحَقَّقَ لَهُ حَيَاةٌ طَيِّبَةٌ كَرِيمَةٌ وَفْقَ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَمِنْ دَلَائِلِ اهْتِمَامِ الْإِسْلَامِ بِالطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ؛ حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).

فَمَوْضُوعُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْحَثِّ عَلَى النِّكَاحِ، أَوْ فِي وُجُوبِ النِّكَاحِ لِمَنْ وَجَدَ مَؤُونَتَهُ.

((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ)): الْمُرَادُ بِهَا النِّكَاحُ، أَوْ تَكَالِيفُ النِّكَاحِ، أَوِ اسْتِطَاعَتُهُ اسْتِطَاعَةً ذَاتِيَّةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّارِعَ ﷺ أَمَرَ الشَّبَابَ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مَؤُونَةِ الزَّوَاجِ قُدْرَةً ذَاتِيَّةً وَقُدْرَةً مَالِيَّةً.

وَالشَّبَابُ: جَمْعُ شَابٍّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالنَّشَاطِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ يَكُونُ أَكْثَرَ حَرَكَةً وَنَشَاطًا مِنْهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَالشَّبَابُ مَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْأَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ بَعْدَ مَرِّ الْأَرْبَعِينَ شَبَابٌ.

قَوْلُهُ ﷺ ((فَلْيَتَزَوَّجْ)): هَذَا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُنَا أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا أَمْرُ إِيجَابٍ، وَجَعَلُوا النِّكَاحَ سُنَّةً فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَشِيَ بِتَرْكِ الزَّوَاجِ الزِّنَى؛ فَحِينَئِذٍ يَأْتِي بِالزَّوَاجِ وُجُوبًا، فَيَصِيرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ.

((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ)): يَعُمُّ النَّفْيُ هُنَا الِاسْتِطَاعَةَ الْمَالِيَّةَ وَالِاسْتِطَاعَةَ الْبَدَنِيَّةَ.

((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ)): أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ تَبَعًا لِهَذَا الْأَمْرِ.. أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الصَّوْمِ؛ ((فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)): الْفَاءُ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُخَفِّفُ مِنْ وَطْأَةِ الرَّغْبَةِ الْجَامِحَةِ فِيهِ الَّتِي رُبَّمَا أَدَّتْ بِالْعَبْدِ إِلَى الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ.

فَالصِّيَامُ وِجَاءٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْوِجَاءُ (كَمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ): هُوَ رَضُّ عُرُوقِ الْخُصْيَتَيْنِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْفَحْلِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ يَقَعُ الرَّضُّ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَخِفَّ الشَّهْوَةُ أَوْ تَنْقَطِعَ.

فَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِينَ عِنْدَهُمُ الْقُدْرَةُ الذَّاتِيَّةُ وَالْقُدْرَةُ الْمَالِيَّةُ عَلَى فِعْلِ الزَّوَاجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنَ الصَّوْمِ، وَلْيَلْزَمْ الِاسْتِعْفَافَ، وَلْيَسْأَلْ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَعْصِمَهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي طَائِلَةِ الزِّنَى؛ لِأَنَّ التَّحَصُّنَ وَالتَّعَفُّفَ وَاجِبٌ، وَضِدُّهُمَا حَرَامٌ، وَهُوَ آتٍ مِنْ قِبَلِ شِدَّةِ الشَّهْوَةِ مَعَ ضَعْفِ الْإِيمَانِ.

وَالشَّبَابُ أَشَدُّ شَهْوَةً، فَخَاطَبَهُمُ النَّبِىُّ ﷺ مُرْشِدًا لَهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْعَفَافِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مَؤُونَةَ النِّكَاحِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسَّكَنِ، فَلْيَتْزَوَّجْ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ يَغُضُّ الْبَصَرَ عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَيُحَصِّنُ الْفَرْجَ عَنِ الْفَوَاحِشِ.

وَأَغْرَى النَّبِىُّ ﷺ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُمْ مَؤُونَةَ النِّكَاحِ وَهُوَ تَائِقٌ إِلَيْهِ.. أَغْرَاهُ بِالصَّوْمِ؛ فَفِيهِ الْأَجْرُ، وَفِيهِ قَمْعُ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ وَإِضْعَافُهَا بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَتَضْعُفُ النَّفْسُ، وَتَنْسَدُّ مَجَارِي الدَّمِ الَّتِي يَنْفُذُ مَعَهَا الشَّيْطَانُ، فَالصَّوْمُ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ كَالْوِجَاءِ لِلْخُصْيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُصْلِحَانِ الْمَنِيَّ فَتَهِيجُ الشَّهْوَةُ.

فَأَرْشَدَ النَّبِيُّ ﷺ مَنِ اسْتَطَاعَ الزَّوَاجَ إِلَى الزَّوَاجِ، لِكَيْ يُحَصِّلَ أَسْبَابَ الْخَيْرِ؛ مِنَ اسْتِقْرَارِ النَّفْسِ، وَهَنَاءَةِ الْخَاطِرِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ حَصَلَ عِنْدَهُ الِاسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ، وَيَتِمُّ التَّعَاوُنُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ.

الرَّجُلُ يَكُونُ مَكْفِيًّا فِي بَيْتِهِ بِالزَّوْجَةِ الَّتِي تَعْمَلُ لَهُ مَا يُصْلِحُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَهْيِئَةِ الْمَنَافِعِ فِي الْبَيْتِ.

وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مَكْفِيَّةً بِزَوْجِهَا عَنْ تَحْصِيلِ الرِّزْقِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.

* وَمِنْ دَلَائِلِ اهْتِمَامِ الْإِسْلَامِ بِالْأَوْلَادِ قَبْلَ وِلَادَتِهِمْ: اسْتِحْبَابُ الْبِشَارَةِ بِالْمَوْلُودِ؛ فَهَذَا الدِّينُ فِيهِ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمَشَاعِرِ مَا فِيهِ!!

وَلَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي تَعَالِيمَ.. سَوَاءٌ كَانَتْ فِي دِينٍ قَدْ جَاءَ بِهِ مَنْ جَاءَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ نَبِيِّنَا ﷺ، أَمْ كَانَتْ -وَهُوَ مَعْلُومٌ- فِيمَا أَتَى بِهِ الْبَشَرُ مِنْ قُمَامَاتِ الْأَفْكَارِ وَزِبَالَاتِ الْعُقُولِ؛ فَجَعَلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ دِينًا وَمَنْهَجًا.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ فِيهِ مِنَ الْمَشَاعِرِ مَا فِيهِ.

فِي هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ اسْتِحْبَابُ الْبِشَارَةِ بِالْمَوْلُودِ وَكُلِّ مَا هُوَ خَيْرٌ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} [مريم: 7].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53].

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39].

فَهَذِهِ الْبِشَارَةُ الَّتِي هِيَ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَيُشْرَعُ لِلْمُبَشَّرِ أَنْ يُهْدِيَ لِلْمُبَشِّرِ شَيْئًا كَمَا أَهْدَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لِلرَّجُلِ الَّذِي بَشَّرَهُ بِالتَّوْبَةِ رِدَاءَهُ وَقَمِيصَهُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) -.

فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ الْخَيْرَ لِإِخْوَانِنَا، وَأَنْ نَسْعَى بِالْبِشَارَةِ لِمَنْ رَزَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَيْرٍ، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِزْقًا حَسَنًا.

جُمْلَةٌ مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ:

إِنَّ الْوَلَدَ ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ، وفِلْذَةُ الْكَبِدِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مَا تُنْتِجُهُ الشَّجَرَةُ، وَالْوَلَدُ يُنْتِجُهُ الْأَبُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا: «وَاللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عُمَرَ».

فَلَمَّا خَرَجَ رَجَعَ فَقَالَ: كَيْفَ حَلَفْتُ أَيْ بُنَيَّةُ؟

فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: «أَعَزُّ عَلَيَّ، وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ». الْحَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).

قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: «أَعَزُّ عَلَيَّ»؛ أَيْ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجَلٌ أَعَزُّ عَلَيَّ.

«وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ»؛ أَيْ: أَلْصَقُ بِالْقَلْبِ، وَأَحَبُّ إِلَى النَّفْسِ.

«فَقُلْتُ لَهُ»؛ أَيْ: قُلْتُ لَهُ الَّذِي قَالَهُ.

فَخَرَجَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثُمَّ رَجَعَ، فَسَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَمَّا قَالَ: كَيْفَ حَلَفْتُ أَيْ بُنَيَّةُ؟

فقُلْتُ لَهُ -أَيْ: قُلْتُ لَهُ الَّذِي قَالَ- فقَالَ: «أَعَزُّ عَلَيَّ، وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ تَعَلُّقِ قَلْبِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ؛ مَحَبَّةً، وَتَمَنِّيًا لَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَوْسَعِهِمْ رِزْقًا.

لَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْأَطْفَالِ كَثِيرًا مِنَ الْحُقُوقِ، وَمِنْهَا حُقُوقٌ قَبْلَ وِلَادَتِهِ؛ وَمِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ: الْكِفَايَةُ الْمَادِّيَّةُ؛ فَقَدْ أَلْزَمَ الْإِسْلَامُ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الزَّوَاجِ الْمَادِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَاجِ؛ ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) .

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ الشَّبَابَ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مَؤُونَةِ الزَّوَاجِ قُدْرَةً ذَاتِيَّةً وَقُدْرَةً مَالِيَّةً.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

الرِّجَالُ قَائِمُونَ عَلَى تَوْجِيهِ النِّسَاءِ وَرِعَايَتِهِنَّ وَحِفْظِهِنَّ لِسَبَبَيْنِ:

الْأَوَّلُ: بِسَبَبِ مَا فَضَّلَ اللهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ خَصَائِصَ نَفْسِيَّةٍ وَجَسَدِيَّةٍ.

وَالسَّبَبُ الثَّانِي: بِمَا أَعْطَوْا مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ.

إِنَّ الزَّوَاجَ مَسْئُولِيَّةٌ مَادِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ يَتَحَمَّلُهَا الشَّابُّ؛ فَإِنِ اسْتَعَدَّ لَهَا أَقْدَمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَفَّفَ، وَلَا يُقْحِمْ نَفْسَهُ فِيمَا يَجْلِبُ الضَّرَرَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33].

يَعْنِي: وَلْيَلْزَمْ جَانِبَ الْعِفَّةِ بِضَبْطِ النَّفْسِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي طَرِيقِ الشَّهَوَاتِ، وَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ وَسَائِلَ النِّكَاحِ الْمُوصِلَةَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ إِلَى أَنْ يُوَسِّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ.

فَإِذَا الْتَزَمُوا جَانِبَ الْعِفَّةِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا مَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ؛ أَغْنَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَيَّأَ لَهُمُ الْقُدْرَةَ الْمَالِيَّةَ عَلَى الزَّوَاجِ.

* وَمِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ: إِحْسَانُ اخْتِيَارِ وَالِدَيْهِ، حَتَّى يَنْشَأَ فِي أُسْرَةٍ صَالِحَةٍ تُحْسِنُ تَقْوِيمَهُ وَتَأْدِيبَهُ وَتَرْبِيَتَهُ؛ فَفِي ظِلَالِ الْأُسْرَةِ الْمُتَمَاسِكَةِ تُغْرَسُ الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَتَنْمُو الْخِلَالُ الطَّيِّبَةُ، وَتَنْشَأُ الْخِصَالُ الْكَرِيمَةُ، وَيَعِيشُ النَّشْءُ الصَّالِحُ حَيْثُ تَسُودُ الْمَوَدَّةُ، وَتَنْتَشِرُ الرَّحْمَةُ فِي جَنَبَاتِ هَذَا الْبَيْتِ الْكَرِيمِ، لِذَا حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ.

وَأَسَاسُ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ: التَّقْوَى وَالصَّلَاحُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].

وَزَوِّجُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، وَزَوِّجُوا -أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ- مَنْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ وَخَيْرٌ مِنْ عَبِيدِكُمْ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَرَّرَ الْمَرْأَةَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَقَدْ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْمَرْأَةُ مَظْلُومَةٌ مَهْضُومَةٌ، تُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَقَطُ الْمَتَاعِ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَاللهِ، إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِنَّ مَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ دُرَّةً مَصُونَةً وَجَوْهَرَةً مَكْنُونَةً، حَرَّرَهَا مِنْ ظُلْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَعْطَاهَا حُقُوقَهَا الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تُنَاسِبُ فِطْرَتَهَا وَطَبِيعَتَهَا؛ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ.

كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُونَ الْمَرْأَةَ بِدُونِ عِلْمِهَا وَلَا إِذْنِهَا وَلَا رِضَاهَا؛ فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَأَعْطَتِ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا فِي ذَلِكَ.

فِي الزَّوَاجِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا أَنْ يُزَوِّجَ الْوَلِيُّ وَلِيَّتَهُ إِطْلَاقًا مِنْ غَيْرِ مَا رِضًى مِنْهَا، وَلَوْ حَدَثَ فَهَذَا الزَّوَاجُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً سَوَاءٌ كَانَتْ ثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا، ثَيِّبًا كَانَتْ أَمْ بِكْرًا لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا.

لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ رَاضِيَةً، بِالْإِقْنَاعِ وَبِالْحُسْنَى، وَهِيَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ لَا يَجُوزُ لَهَا مُطْلَقًا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ رِضَى وَلِيِّهَا، «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُهَا الرَّسُولُ ﷺ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ -أَيِ الثَّيِّبُ- حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ حَثَّ الْإِسْلَامُ الرَّجُلَ أَنْ يُحْسِنَ اخْتِيَارَ الزَّوْجَةِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّه كَمَا يَجِبُ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يَبَرَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ -هُوَ أَيْضًا- أَنْ يَبَرَّ ابْنَهُ؛ بِإِحْسَانِ اخْتِيَارِ أُمِّهِ.

وَلَا يَقِفُ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ حُدُودِ النَّظَرِ.

بِمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَمَّلُ فِي الْمَرْأَةِ فَتُعْجِبُهُ؛ فَيُقْبِلُ عَلَيْهَا وَيَتَمَسَّكُ بِهَا, وَتَكُونُ كَخَضْرَاءِ الدِّمَنِ -وَالْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ , وَلَكِنْ أَنَا أَسْتَعْمِلُ الْمُصْطَلَحَ- فَإِنَّهَا -حِينَئِذٍ- لَا تَكُونُ صَالِحَةً, وَسَيَظْهَرُ مِنْهَا بَعْدَ حِيْنٍ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ مَا يَزَالُ دَسِيسَةً فِي قَلْبِهَا حَتَّى يَظْهَرَ فِي لَفْظِهَا وَلِسَانِهَا, وَفِي حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيَانِ صِفَاتِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» , «الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ, وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» , هَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ صِفَاتُ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ.

المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا سَرَّتْهُ, وَلَيْسَ السُّرُورُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا دَلِيلًا عَلَى التَّأنُّقِ في الْمَظْهَرِ مِنَ الْمَلْبَسِ والزِّينَةِ, وَإِنَّمَا أَنْ تَكُونَ طَيِّبَةً, طَيِّبَةً فِي مَلْبَسِهَا, طَيِّبَةً فِي كَلَامِهَا, طَيِّبَةً فِي نَفْسِهَا, طَيِّبَةً فِي حَرَكَتِهَا, طَيِّبَةً فِي سَكَنَاتِهَا, طَيِّبَةً فِي إِشَارَاتِهَا.

إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطِّيبَةَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَنْعَكِسُ بِالسُّرُورِ عَلَى النَّاظِرِ إِلَيْهَا، الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إَلَيْهَا سَرَّتْهُ.

وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ -أَيْضًا- أَنْ تَكُونَ بَارِعَةً فِي جَمَالِهَا, وَلَا فَائِقَةً فِي حُسْنِهَا, وَإِنَّمَا تَكُونُ جَمِيلَةَ الطَّبْعِ, حَسَنَةَ الْبَّاطِنِ, طَيِّبَةَ النَّفْسِ, فَهَذَا هُوَ الْجَمَالُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْكِسُ الْأُمُورَ كَمَا هُوَ فِي الغِنَى, كَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَحسَبُ أنَّ الغِنَى امْتِلَاكُ الأَمْوالِ مَعَ تَحَصِيلِهَا بِكَثْرَتِهَا!! فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ؛ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» .

فَتَكُونُ غَنِيًّا لأَنَّ نَفْسَكَ غَنِيَّةٌ وَلَا تَمْلِكُ شَيْئًا, وَلَكِنْ أَغْنَاكَ اللهُ ربُّ العَالَمِينَ عَنْ خَلْقِهِ, نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دَوَامَ الغِنَى عَنِ النَّاسِ.

فَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَعْكِسُ المَسَائِلَ, وَيَجْعَلُ الحَسَنَ قَبيحًا والقَبِيحَ حَسَنًا!!

كَثِيرٌ مِن النِّسَاءِ تَكُونُ حَسَنَةَ المَظْهَرِ, جَمِيلَةَ الطَّلْعَةِ, بَهِيَّةَ الصُّورَةِ, وَهِيَ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى نَفْسٍ خَبِيثَةٍ!!

فَالطِّيبَةُ لَيْسَتْ بِالظَّاهِرِ، وَإنَّمَا الطِّيبَةُ طِيبَةُ الْبَاطِنِ, فَتَنْعَكِسُ طِيبَةُ الْبَاطِنِ عَلَى الظَّاهِرِ حَتَّى يَصِيرَ طَيِّبًا, فَيَصِيرُ الظَّاهِرُ طَيِّبًا فِي اللَّفْظِ, طَيِّبًا فِي الْإِشَارَةِ, طَيِّبًا فِي الْكَلَامِ, طَيِّبًا فِي الْحَرَكَةِ, طَيِّبًا فِي السُّكُونِ, طَيِّبًا فِي الْقِيَامِ, طَيِّبًا فِي الْقُعُودِ, يَصِيرُ طَيِّبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ, إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ.

وَأَعْظَمُ أُسُسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ: الدِّينُ؛ ((فَيُسَنُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ دَيِّنَةٍ)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعُثَيْمِينُ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((«دَيِّنَةٍ»؛ أَيْ: صَاحِبَةِ دِينٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَدِينِهَا.. فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ  مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

التَّرَبُ: اللَّصَقُ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ هُنَا دُعَاءٌ بِمَعْنَى: أَصَبْتَ خَيْرًا.

فَالدَّيِّنَةُ تُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَتُصْلِحُ مَنْ يَتَرَبَّى عَلَى يَدَيْهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَتَحْفَظُ مَالَهُ، وَتَحْفَظُ بَيْتَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الدَّيِّنَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَضُرُّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ».

فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الدِّينِ جَمَالٌ وَمَالٌ وَحَسَبٌ؛ فَذَلِكَ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَإِلَّا فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَارَ الدَّيِّنَةُ.

فَلَوِ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْمَرْءِ امْرَأَتَانِ: إِحْدَاهُمَا جَمِيلَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا فِسْقٌ أَوْ فُجُورٌ، وَالْأُخْرَى دُونَهَا فِي الْجَمَالِ لَكِنَّهَا أَدْيَنُ مِنْهَا، فَأَيُّهُمَا يَخْتَارُ؟

يَخْتَارُ الْأَدْيَنَ.

لَكِنْ أَحْيَانًا بَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مُولَعًا بِالْجَمَالِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ هُنَاكَ امْرَأَةً جَمِيلَةً لَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِنِكَاحِ مَنْ دُونَهَا فِي الْجَمَالِ، وَلَوْ كَانَتْ أَدْيَنَ، فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّكَ تُكْرِهُ نَفْسَكَ عَلَى هَذِهِ دُونَ هَذِهِ؛ أَيْ عَلَى الْأَدْيَنِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَهَا مِنَ الْجَمَالِ -أَيْ مَبْلَغَ الَّتِي لَيْسَتْ بِدَيِّنَةٍ وَلَكِنْ لَا فِسْقَ فِيهَا وَلَا فُجُورَ، وَلَكِنْ هِيَ أَجْمَلُ مِنَ الَّتِي هِيَ أَدْيَنُ.

فَهَلْ يُقَالُ: يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُكْرِهَ نَفْسَكَ عَلَى هَذِهِ دُونَ هَذِهِ وَإِنْ لَمْ تَرْتَحْ إِلَيْهَا؟ أَوْ نَقُولُ: خُذْ مَنْ تَرْتَاحُ لَهَا مَا دَامَتْ غَيْرَ فَاجِرَةٍ وَلَا فَاسِقَةٍ؟

الظَّاهِرُ الثَّانِي، إِلَّا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْجَمِيلَةُ غَيْرَ دَيِّنَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهَا فَاسِقَةٌ، فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهَا.

وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً غَيْرَ دَيِّنَةٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهَا عَلَى يَدَيَّ!!

وَنَقُولُ لَهُ: نَحْنُ لَا نُكَلَّفُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، فَالْمُسْتَقْبَلُ لَا نَدْرِي عَنْهُ، فَرُبَّمَا تَتَزَوَّجُهَا تُرِيدُ أَنْ يَهْدِيَهَا اللهُ عَلَى يَدِكَ، وَلَكِنَّهَا هِيَ تُحَوِّلُكَ إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَتَشْقَى وَتَضِلَّ أَنْتَ عَلَى يَدَيْهَا.

وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ بَعْضُ النَّاسِ يَخْطُبُ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الْفَاسِقُ، لَكِنْ يَقُولُونَ: لَعَّلَ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعْرَفَ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ، فَيَقُولُونَ: لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُ، فَنَقُولُ: نَحْنُ لَا نُكَلَّفُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، لَكِنْ نُكَلَّفُ بِمَا بَيْنَ أَيْدِينَا- بِالْحَاضِرِ-، فَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي ظَنَنْتَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لَعَلَّهُ يُعَوِّجُ ابْنَتَكُمْ وَيُضِلُّهَا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَهُ سَيْطَرَةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ.

وَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ مُلْتَزِمَةٍ تَزَوَّجَتْ شَخْصًا تَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ دَيِّنٍ، فَتَتْعَبُ مَعَهُ التَّعَبَ الْعَظِيمَ، وَنَحْنُ دَائِمًا يُشْكَى إِلَيْنَا هَذَا الْأَمْرُ مِنَ النِّسَاءِ، حَتَّى تَوَدُّ أَنْ تَفِرَّ بِدِينِهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَوْ بِكُلِّ مَا تَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ، وَلِهَذَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، سَوَاءٌ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ تَتَزَوَّجُ الرَّجُلَ)).

* وَمِنْ أُسُسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا:

((بِكْرٌ)): وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ مِنْ قَبْلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمَّا سَأَلَهُ: ((تَزَوَّجْتَ؟))

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟».

قَالَ: بَلْ ثَيِّبًا.

فَقَالَ: «فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُكَ وَتُلَاعِبُهَا». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

فَالْبِكْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَطْمَحْ إِلَى رِجَالٍ سَابِقِينَ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ قَلْبُهَا بِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يُبَاشِرُهَا مِنَ الرِّجَالِ هَذَا الرَّجُلُ، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَكْثَرَ.

لَكِنْ قَدْ يَخْتَارُ الْإِنْسَانُ الثَّيِّبَ لِأَسْبَابٍ، مِثْلَمَا فَعَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ فَإِنَّهُ اخْتَارَ الثَّيِّبَ لِأَنَّ وَالِدَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ حَرَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اسْتُشْهِدَ فِي أُحُدٍ، وَخَلَّفَ بَنَاتًا يَحْتَجْنَ إِلَى مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ تَزَوَّجَ جَابِرٌ بِكْرًا لَمْ تَقُمْ بِخِدْمَتِهِنَّ وَمَؤُونَتِهِنَّ، فَاخْتَارَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ، وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَإِذَا اخْتَارَ الْإِنْسَانُ ثَيِّبًا لِأَغْرَاضٍ أُخْرَى فَإِنَّهَا تَكُونُ أَفْضَلَ.

* وَمِنْ أُسُسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ وَلُودًا:

«وَلُودٌ»: أَيْ كَثِيرَةُ الْوِلَادَةِ، وَيُمْكِنُ مَعْرِفَةُ هَذَا بِمَعْرِفَةِ قَرِيبَاتِهَا؛ فَإِذَا كَانَتْ مِنْ نِسَاءٍ عُرِفْنَ بِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَكُونُ مِثْلَهُنَّ.

فَيَخْتَارُ الْمَرْأَةَ الَّتِي عُرِفَتْ قَرِيبَاتُهَا بِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْأُمَّةِ عِزٌّ لَهَا.

مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ: حَقُّهُ فِي الْحَيَاةِ:

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَكُمْ فِي كِتَابِهِ أَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَضِيقِكُمْ مِنْ رِزْقِهِمْ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الظَّالِمَةِ.

نَحْنُ تَكَفَّلْنَا بِرِزْقِ الْجَمِيعِ، فَلَسْتُمُ الَّذِينَ تَرْزُقُونَ أَوْلَادَكُمْ، بَلْ وَلَا أَنْفُسَكُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ ضِيقٌ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ تَخَلُّصًا مِنْ أَزْمَةِ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ، فَإِنِّي رَازِقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.

وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ لِتَتَخَلَّصُوا مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ؛ خَوْفَ حُدُوثِ فَقْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، نَحْنُ نَتَكَفَّلُ بِرِزْقِ الْأَوْلَادِ، وَرِزْقِ آبَائِهِمُ الْمُنْفِقِينَ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 32].

وَالْإِنْسَانُ يَرَى الرِّزْقَ يَنْفَتِحُ إِذَا وُلِدَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ ذِي حَيَاةٍ تَمْشِي بِهُدُوءٍ رُوَيْدًا رُوَيْدًا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَكْبَرِ حَيَوَانٍ يَدِبُّ فِيهَا حَتَّى أَصْغَرِ حَيَوانٍ كَالْفَيْرُوسَاتِ؛ إِلَّا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَرْزُقَهَا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِهِ الَّتِي يَخْتَارُهَا.

لَقَدْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْإِجْهَاضَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْـتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: شَهِدْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ؛ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.

فَقَالَ: لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ.

فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ)) .

إِمْلَاصُ الْمَرْأَةِ: أَنْ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيِّتًا.

اسْتَشَارَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- النَّاسَ فِي الْجَنِينِ إِذَا سَقَطَ بِجِنَايَةٍ؛ يَعْنِي: امْرَأَةٌ حَامِلٌ ضَرَبَهَا إِنْسَانٌ فَكَانَ سَبَبًا لِإِمْلَاصِهَا؛ أَيْ لِوَضْعِ جَنِينِهَا مَيِّتًا بِغَيْرِ تَمَامٍ، فَسَقَطَ الْجَنِينُ -حِينَئِذٍ- بِجِنَايَةٍ، فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟

لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَضَعَتْ جَنِينَهَا مَيِّتًا قَبْلَ أَوَانِ الْوِلَادَةِ عَلَى إِثْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ.

وَكَانَ مِنْ عَادَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَسْتَشِيرَ أَصْحَابَهُ وَعُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ فِي الْأُمُورِ وَالْقَضَايَا خَاصَّةً مَا يَسْتَجِدُّ، مَعَ مَا أُوتِيَ مِنْ وَاسِعِ الْعِلْمِ، وَقُوَّةِ الْفِكْرِ، وَقُوَّةِ الْعَقْلِ.

فَلَمَّا أَخَذَ رَأْيَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ حِينَ أَسْقَطَتِ الْمَرْأَةُ جَنِينًا مَيِّتًا لِغَيْرِ تَمَامٍ بِجِنَايَةٍ، فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي دِيَتِهِ، فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ؛ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.

وَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَتَثَبَّتَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ سَيَكُونُ تَشْرِيعًا عَامًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَكَّدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ نَقْلِهِ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَنَهَى الْوَالِدَيْنِ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْذَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَسْقَطِهَا.. قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ؛ خَشْيَةً مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ، فَفِيهِ عِدَّةُ جِنَايَاتٍ:

قَتْلُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ.

وَأَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ هُمْ فِلَذُ الْأَكْبَادِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجَهْلُهُمْ وَضَلَالُهُمُ الْبَلِيغُ؛ إِذْ ظَنُّوا أَنَّ وُجُودَهُمْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، فَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِقِيَامِهِ بِرِزْقِ الْجَمِيعِ.

فَأَيْنَ هَذَا الْخُلُقُ الشَّنِيعُ مِنْ أَخْلَاقِ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْلَادُهُمْ وَعَوَائِلُهُمْ قَوِيَ ظَنُّهُمْ بِاللهِ، وَرَجَوْا زِيَادَةَ فَضْلِهِ، وَقَامُوا بِمَؤُنَتِهِمْ مُطْمِئَنَّةً نُفُوسُهُمْ، حَامِدِينَ رَبَّهُمْ أَنْ جَعَلَ رِزْقَهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمُثْنِينَ عَلَى رَبِّهِمْ؛ إِذْ أَقْدَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَاجِينَ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَمُشَاهِدِينَ لِمِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؟!!

قَالَ ﷺ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: «... بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ» .

* وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ: الْتِزَامُ وَالِدَيْهِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ الْجِمَاعِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ سَبَبٌ فِي حِفْظِ الطِّفْلِ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا قَدَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ هَذَا الْجِمَاعِ وَلَدًا؛ فَالْمُسْلِمُ صَاحِبُ وَظِيفَةٍ فِي كَوْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَتَّى عِنْدَ الشَّهْوَةِ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ.. إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَهْلِهِ فِي حَالَةٍ مِنَ الْحَالَاتِ الَّتِي يُقَدِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا الْوَلَدَ، فَهَذِهِ مَسْئُولِيَّةٌ عُظْمَى، وَلَيْسَتْ شَهْوَةً تُقْضَى.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنْ قَضَى اللهُ بَيْنَهُمَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا)) .

وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ: الْحِفَاظُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَمِنْ سُبُلِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَنْ تُفْطِرَا وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مَرِيضَتَيْنِ، وَهَذَا يَشْمَلُ أَوَّلَ الْحَمْلِ وَآخِرَ الْحَمْلِ وَأَوَّلَ الْإِرْضَاعِ وَآخِرَ الْإِرْضَاعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَامِلَ يَشُقُّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، لَا سِيَّمَا فِي الْأَشْهُرِ الْأَخِيرَةِ، وَلِأَنَّ صِيَامَهَا رُبَّمَا يُؤَثِّرُ عَلَى نُمُوِّ الْجَنِينِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جِسْمِهَا غِذَاءٌ، فَرُبَّمَا يَضْمُرُ الْحَمْلُ وَيَضْعُفُ.

وَكَذَلِكَ فِي الْمُرْضِعِ إِذَا صَامَتْ يَقِلُّ لَبَنُهَا فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَلِيدُهَا وَطِفْلُهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ رَخَّصَ لَهُمَا -يَعْنِي رَخَّصَ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ- فِي الْفِطْرِ، وَإِفْطَارُهُمَا قَدْ يَكُونُ مُرَاعَاةً لِحَالِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْوَلَدِ الْحَمْلِ أَوِ الطِّفْلِ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَاعَاةً لِحَالِهِمَا مَعَ الْوَلَدِ -حَمْلًا أَوْ مَوْلُودًا-.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فَرَضَ الصِّيَامَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مَعَ أَنَّهُمَا مُفْطِرَانِ بِعُذْرٍ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ عَمَّنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، فَعَدَمُ سُقُوطِهِ عَمَّنْ أَفْطَرَتْ لِمُجَرَّدِ الرَّاحَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ:

الِالْتِزَامُ بِسُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ وِلَادَتِهِ))

لَقَدْ سَنَّ النَّبِيُّ ﷺ سُنَنًا بَعْدَ وِلَادَةِ الطِّفْلِ يَنْبَغِي أَنْ نَتَمَسَّكَ بِهَا؛ وَمِنْهَا:

* تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ: فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ، فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ، وَيحَنِّكُهُمْ)) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرٌ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي بِهَا.

وَ((التَّحْنِيكُ)): أَنْ تَمْضُغَ التَّمْرَ حَتَّى يَلِينَ، ثُمَّ تَدْلُكُهُ بِحَنَكِ الصَّبِيِّ.

فَالتَّحْنِيكُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ: هُوَ مَضْغُ الشَّيْءِ، وَوَضْعُهُ فِي فَمِ الصَّبِيِّ، فَيُقَالُ: حَنَّكْتَ الصَّبِيَّ؛ إِذَا مَضَغْتَ التَّمْرَ، ثُمَّ دَلَكْتَهُ بِحَنَكِهِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ بِتَحْنِيكِ الصَّبِيِّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ وَالْعِلْمِ، وَيَدْعُوَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ -أَيْ: يَقُولُ: بَارَكَ اللهُ عَلَيْكَ-.

وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ؛ مِنْهَا: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ، فَسَمَّاهُ: إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالتَ: ((فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ -أَيْ: وَهِيَ مُتِمٌّ أَشْهَرَ الْحَمْلِ-.

قَالَتْ: فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءَ، فَوَلَدْتُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ، فَبَرَّكَ عَلَيْهِ)) .

* وَمِنَ السُّنَنِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ نَحْرِصَ عَلَيْهَا لِلْمَوْلُودِ: سُنَّةُ النَّسِيكَةِ عَنِ الْمَوْلُودِ، وَاسْتِنَانُ تَسْمِيَتِهِ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَحَلْقُ شَعْرِهِ، وَالتَّصَدُّقُ بِوَزْنِهِ فِضَّةً؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّهُ أَمَرَ بِتَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ، وَالْعَقِّ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَحَسَّنَهُ لِشَوَاهِدِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ -أَيْ مِنَ الْوِلَادَةِ-.

وَكَذَلِكَ أَمَرَ ﷺ بِوَضْعِ الْأَذَى عَنْهُ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هُوَ حَلْقُ شَعْرِ الْمَوْلُودِ)) .

وَقِيلَ: ((أَرَادَ بِهِ تَطْهِيرَهُ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَالْأَوْضَارِ الَّتِي تَلَطَّخَ بِهَا فِي حَالِ الْوِلَادَةِ)).

فَحَلْقُ الرَّأْسِ فِي يَوْمِ السَّابِعِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَفُعِلَ بِحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ بِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَهُوَ الَّذِي عَقَّ عَنْهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَالنِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، فَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً؛ فَلَا يَغْلِبَنَّكَ النِّسَاءُ عَلَى الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ تَمَامًا لِلسُّنَّةِ أَنْ تَحْلِقَ شَعْرَ الْجَارِيَةِ كَمَا تَحْلِقَ شَعْرَ الصَّبِيِّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ -عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ- تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسَمَّى)) .

وَ((رَهِينَةٌ)): يَعْنِي هُوَ فِي قَبْضَةِ الشَّيْطَانِ، لَا يَخْلُصُ مِنْ قَبْضَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا إِذَا عُقَّ عَنْهُ.

أَوْ ((رَهِينَةٌ)): بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لِأَبَوَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -لَوْ كَانَ صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الشَّفَاعَةِ- إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ عُقَّ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَا قَدْ نَسِكًا عَنْهُ.

* وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِ الشَّعْرِ فِضَّةً، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا فَاطِمَةُ! احْلِقِي رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً)).

قَالَتْ: ((فَوَزَنَّاهُ؛ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضُ دِرْهَمٍ)).

وَتَصَدَّقَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِوَزْنِ الشَّعْرِ فِضَّةً كَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَأَمَّا ((الْعَقُّ عَنْهُ)): فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعَقِيقَةُ، وَهِيَ الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ.

وَالْعَقُّ: الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، وَقِيلَ لِلذَّبِيحَةِ عَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يُشَقُّ حَلْقُهَا، وَيُقَالُ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى رَأْسِ الْمَوْلُودِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يُحْلَقُ.

وَالْعَقِيقَةُ مَشْرُوعَةٌ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَتُهُ؛ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

يُنْسَكُ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ، وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثٌ؛ مِنْهَا:

((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسِكَ عَنْ وَلَدِهِ؛ فَلْيَنْسِكْ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ)). وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْمُجْتَبَى))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الْإِرْوَاءِ)) وَغَيْرِهِ.

وَيُقَالُ لَهَا: ((نَسِيَكَةٌ))، وَلَا يُقَالَ لَهَا: ((عَقِيقَةٌ))؛ يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ -وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْعَقِيقَةِ- قَالَ: ((لَا يُحِبُّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْعُقُوقَ)) .

فَعَلْيَنَا أَنْ نَأْخُذَ بِالتَّسْمِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ -وَهِيَ النَّسِيكَةُ-، عَلَيْنَا أَنْ نَلْزَمَهَا، وَلَا حَرَجَ أَنْ نَأْخُذَ بِالتَّسْمِيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَتَتْ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ أَحْيَانًا، وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ الصَّحِيحَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ النَّسِيكَةُ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِنَانِ التَّسْمِيَةِ، وَأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُسَمَّى يَوْمَ سَابِعِهِ، فَإِذَا سُمِّيَ يَوْمَ الْوِلَادَةِ جَازَ؛ لِمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ؛ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ)).

فَيُحْمَلُ مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

لَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَأْخِيرِ التَّسْمِيَةِ إِلَى الْيَوْمِ السَّابِعِ هُوَ التَّأَنِّي فِي اخْتِيَارِ الِاسْمِ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ الِاسْمِ مُسْتَحَبٌّ.

* وَمِنَ السُّنَّةِ: اخْتِيَارُ اسْمٍ حَسَنٍ لِلْمَوْلُودِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللهِ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ)).

وَعَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةٌ)).

خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ -دُونَ جُمْلَةِ: ((تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ))- الْأَلْبَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى ((الْكَلِمِ الطَّيِّبِ))، وَفِي ((الْإِرْوَاءِ))، وَفِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الْكَلِمِ الطَّيِّبِ)) : ((وَقَدْ غَيَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَسْمَاءَ الْمَكْرُوهَةَ إِلَى أَسْمَاءَ حَسَنَةٍ، فَكَانَتْ زَيْنَبُ تُسَمَّى بَرَّةَ، فَقِيلَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا، فَسَمَّاهَا زَيْنَبَ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَقَالَ ﷺ لِرَجُلٍ: ((مَا اسْمُكَ؟)).

قَالَ: حَزْنٌ.

قَالَ: ((بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَغَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَة؛ فَسَمَّاهَا جَمِيلَة. كَمَا رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَهْتَمُّ بِالْأَسْمَاءِ اهْتِمَامًا شَدِيدًا، الِاسْمُ عُنْوَانُ الْمُسَمَّى، وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَضَرُورَةٌ لِلتَّفَاهُمِ مَعَهُ وَمِنْهُ وَإِلَيْهِ.

وَهُوَ لِلْمَوْلُودِ زِينَةٌ، وَوِعَاءٌ، وَشِعَارٌ يُدْعَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَتَنْوِيهٌ بِالدِّينِ، وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَانْظُرْ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي دِينِ اللهِ -فِي الْإِسْلَامِ- كَيْفَ يُغَيِّرُ اسْمَهُ إِلَى اسْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَهُ شِعَارٌ.

ثُمَّ هُوَ رَمْزٌ يُعَبِّرُ عَنْ هِوَيَّةِ وَالِدِهِ، وَمِعْيَارٌ دَقِيقٌ لِدِيَانَتِهِ، وَهُوَ فِي طَبَائِعِ النَّاسِ لَهُ اعْتِبَارَاتهُ وَدَلَالَاتُهُ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَالثَّوْبِ، إِنْ قَصُرَ شَانَ، وَإِنْ طَالَ شَانَ.

وَلِهَذَا صَارَ مَنْ يَمْلِكُ حَقَّ التَّسْمِيَةِ الْأَبُ، مَأْسُورًا فِي قَالَبِ الشَّرِيعَةِ وَلِسَانِهَا الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ؛ حَتَّى لَا يَجْنِيَ عَلَى مَوْلُودِهِ بِاسْمِهِ يَشِينُهُ.

وَمِنْ أَبْرَزِ سِمَاتِهِ: أَلَّا يَكُونَ فِي الِاسْمِ تَشَبُّهٌ بِأَعْدَاءِ اللهِ.

وَالْأَمْرُ فِي التَّسْمِيَةِ سَهْلٌ مَيْسُورٌ -وَللهِ الْحَمْدُ-، فَمَا عَلَى الْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ يُعَبِّدَ اسْمَ مَوْلُودِهِ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ يُدِيرَ فِكْرَهُ وَنَظَرَهُ فِي مُحِيطِ أَسْمَاءِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي عَلَى سَنَنِ لِسَانِ الْعَرَبِ، فَيَخْتَارُ مَا لَا يَأْبَاهُ الشَّرْعُ.

وَإِنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدَّائِرَةُ؛ فَلْيَسْتَرْشِدْ بِعَالِمٍ يَعْرِفُ جَوْدَةَ رَأْيِهِ، وَصَفَاءَ اعْتِقَادِهِ، وَسَلَامَةِ ذَوْقِهِ وَحِسِّهِ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعْرِضُونَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَيُسَمِّيهِمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَشُورَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَطَلَبَتِهِ فِي ذَلِكَ.

* وَأَمَّا التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ؛ فَلَمْ يَرِدْ فِيهَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَيْسَ هُنَاكَ سِوَى آثَارٍ تُرْوَى عَنِ التَّابِعِينَ؛ مِنْهَا:

عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ التَّهْنِئَةِ؛ كَيْفَ أَقُولُ؟

قَالَ: ((قُلْ: جَعَلَهُ اللهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ ((الدُّعَاءِ)).

وَكَذَلِكَ الْأَثَرُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: ((كَانَ أَيُّوبُ إِذَا هَنَّأَ رَجُلًا بِمَوْلُودٍ قَالَ: ((جَعَلَهُ اللهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَمِثْلُ هَذَا الْآثَارِ خَيْرٌ بِكَثِيرٍ مِمَّا نَسْمَعُهُ الْيَوْمَ؛ مِنَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَرَعَةِ الَّتِي لَمْ يُجْزِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا نَلْتَزِمُ بِهَذِهِ التَّهْنِئَةِ، كَمَا لَوْ أَنَّ حَدِيثًا جَاءَ فِيهَا، وَلَا نَجْعَلُهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ الثَّابِتَاتِ فِي السُّنَّةِ، فَمَنْ قَالَ بِهَا أَحْيَانًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ.

وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ أَذَّنَ أَوْ أَقَامَ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا إِمَّا مَوْضُوعَةٌ، وَإِمَّا شَدِيدَةُ الضَّعْفِ، وَإِمَّا ضَعِيفَةٌ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَوِّيهَا، فَتَبْقَى عَلَى ضَعْفِهَا.

فَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ سُنَّةٍ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ بِدْعَةً، وَاللهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ.

مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: الرَّضَاعَةُ:

لَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى الْوَالِدَاتِ: أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ سَنَتَانِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.

وَهَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَقَرِّرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ بِأَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْكَامِلِ وَعَلَى مُعْظَمِ الْحَوْلِ، قَالَ: كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.

فَإِذَا تَمَّ لِلرَّضِيعِ حَوْلَانِ؛ فَقَدْ تَمَّ رَضَاعُهُ، وَصَارَ اللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَغْذِيَةِ، فَلِهَذَا كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، لَا يُحَرِّمُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ أَكُنَّ أَزْوَاجًا لِآبَاءِ الْأَوْلَادِ، أَوْ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ مِنْهُنَّ، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَ.

فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْوَالِدَاتِ ذَوَاتِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى أَطْفَالِهِنَّ، وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِرَبِّهِنَّ أَنْ يَتْرُكْنَ إِرْضَاعَ أَوْلَادِهِنَّ دُونَ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6].

أَسْكِنُوا الْمُطَلَّقَاتِ مِنْ نِسَائِكُمْ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهِنَّ مَكَانًا مِنْ مَسْكَنِكُمْ عَلَى قَدْرِ سَعَتِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ، وَلَا تُؤْذُوهُنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ فَيَخْرُجْنَ، وَإِنْ كَانَتْ نِسَاؤُكُمْ الْمُطَلَّقَاتُ ذَوَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَيَخْرُجْنَ مِنْ عِدَّتِهِنَّ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أَوْلَادَكُمْ بَعْدَ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى إِرْضَاعِهِنَّ.

وَلْيَأْتَمِرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَا تُعُورِفَ عَلَيْهِ مِنْ سَمَاحَةٍ وَطِيبِ نَفْسٍ، فَلَا يُقَصِّرُ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَنَفَقَتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَرَضَاعِهِ.

((مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ:

رِعَايَتُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ.. } الْآيَةَ. [البقرة: 215].

يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا رَسُولَ اللهِ! مَاذَا يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟

قُلْ لَهُمْ: مَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ فَأَنْفِقُوهُ فِي هَذِهِ؛ وَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْهَا:

* الْوَالِدَانِ؛ لِمَا لَهُمَا مِنْ فَضْلِ الْوِلَادَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّرْبِيَةِ.

* وَالْأَقْرَبُونَ مِنْ أَهْلِكُمْ وَذَوِي أَرْحَامِكُمْ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِزَوْرِكَ-أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).

فَاعْلَمْ أَنَّ إِطْعَامَكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.

إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.

وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.

وَهَكَذَا إِذَا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فِيهِ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا أَجْرَ إِلَّا عَن حِسْبَةٍ)) -صَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))-؛ أَيْ: لِمَنْ يَحْتَسِبُ.

وَهُوَ بِمَعْنَى حَدِيثِ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))؛ أَيْ: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِنْ حَلَالٍ أَنْ تَنْوِيَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ بِهِ إِلَى نَفْسِكَ، وَتَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ الْمُبَاحَةِ وَالشَّرْعِيَّةِ؛ فَيَكُونُ لَكَ فِي هَذَا الطَّعَامِ أَجْرٌ.

وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَنْ شَرِبَ مِمَّا كَسَبَتْ يَدُكَ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ.

وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى لَا يَضِيعُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا، حَتَّى هَذَا الشَّيْءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، وَيَحْفَظُ وَلَدَهُ لَهُ فِيهِ الْأُجُورُ الْمُضَاعَفَةُ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ.

وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي مَطْعَمِهِ، وَفِي مَشْرَبِهِ، وَفِي مَلْبَسِهِ، وَفِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِزْوْجِهِ، وَليَكُنْ ذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ.

فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- سَوَّى بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرِ بِمَا الْمَرْءُ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأَحْزَاب: 1].

لَقَدْ كانَتِ الْوَاحِدَةُ مِنْ نِسَاءِ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يَخْرُجَ طَالِبًا الرِّزْقَ؛ تَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ تَقُولُ لَهُ:

اتَّقِ اللهَ فِينَا وَلَا تُطعِمْنَا إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ؛ فَإِنَّنَا نَحْثُو التُّرَابَ -نَسْتَفُّهُ- وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، فَضْلًا عَنَ أنْ يَكُونَ مِنْ حَرامٍ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَتَى بِالْحَرَامِ فَأَكَلَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ ثُمَّ تَخَلَّقَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا، فَهَذَا الْجَنِينُ إِنَّمَا يُغَذَّى مِنْ هَذَا الْغِذَاءِ الَّذِي تَنَاوَلَتْهُ، وَهَذَا الْغِذَاءُ حَرَامٌ! فَهَذَا وَلَدُ حَرَامٍ، تَوَلَّدَ مِنْ حَرَامٍ، وَنَمَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنَ الْحَرَامِ، فَأَنَّى يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا؟!!

((التَّرْبِيَةُ الرَّشِيدَةُ أَكْبَرُ أَسْبَابِ صَلَاحِ الْأَوْلَادِ))

إِنَّ صَلَاحَ أَوْلَادِكُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ وَأَكْبَرِ مُوجِبَاتِهِ: تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَاتَّقُوا اللهَ، وَقُومُوا بِرِعَايَةِ أَوْلَادِكُمْ وَمُرَاقَبَتِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَبِإِلْزَامِهِمْ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ، وَعَلِّمُوهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالْأَذْكَارِ، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَدَارِسَ وَدُورًا لِتَقْوِيمِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ.

((الْحَثُّ عَلَى تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَبَيَانُ أَهَمِّيَّتِهَا))

 ((مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ الْجَسِيمَةِ وَالْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: أَبْنَاؤُهُ؛ مِنْ حَيْثُ تَرْبِيَتُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ، وَنُصْحُهُمْ وَتَوْجِيهُهُمْ؛ فَإِنَّ الْأَبْنَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِرِعَايَتِهَا وَحِفْظِهَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عِنْدَ ذِكْرِهِ لِأَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

وَاللهُ -تَعَالَى- كَمَا أَنَّهُ وَهَبَ الْآبَاءَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]؛ فَإِنَّهُ قَدِ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حُقُوقًا وَوَاجِبَاتٍ، وَجَعَلَهَا امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا لِلْآبَاءِ، فَإِنْ قَامُوا بِهَا تِجَاهَ أَبْنَائِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، وَإِنْ فَرَّطُوا فِيهَا فَقَدْ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعُقُوبَةِ بِحَسَبِ تَفْرِيطِهِمْ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6].

وَالْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَوْلَادِ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِأَحْوَالِهِمْ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ)))).

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قَالَ: ((عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ، وَعَلِّمُوا أَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ، وَأَدِّبُوهُمْ)).

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَا هَذَا! أَحْسِنْ أَدَبَ ابْنِكَ؛ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- تَفْسِيرًا لِآيَةِ التَّحْرِيمِ السَّابِقَةِ: ((أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ)).

وَإِنَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّكَ إِنْ غَرَسْتَ خَيْرًا حَصَدْتَ خَيْرًا، وَإِنْ غَرَسْتَ شَرًّا وَجَدْتَ شَرًّا وَلَا بُدَّ.

فَسُوءُ التَّرْبِيَةِ لَهُ آثَارٌ مُدَمِّرَةٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ، بَلْ وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، فَكَمَا أَنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ فَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ، فَتَعْلِيمُ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ؛ مِنَ الْعِفَّةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْبِرِّ، وَحِفْظِ اللِّسَانِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالنَّافِعِ الْمُفِيدِ يُجَنِّبُ -بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى- الْوُقُوعَ فِي الْأَخْطَارِ وَالْمَكَارِهِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا   = عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تَأْكِيدُ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيَانُ تَحَتُّمِهِ عَلَى الْآبَاءِ فِي قَوْلِهِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُهُ ﷺ: ((مَسْؤُولٌ)): تَذْكِيرٌ بِسُؤَالِ اللهِ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ عَنْ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بَلْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ حَقًّا فَلِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ حَقٌّ.

وَكَمَا أَوْصَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْأَبْنَاءَ بِبِرِّ آبَائِهِمْ، وَوُجُوبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]؛ فَقَدْ أَوْصَى الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ -أَيْضًا-؛ لِتَرْبِيَتِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11].

فَوَصِيَّةُ اللهِ لِلْآبَاءِ بِأَوْلَادِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى وَصِيَّةِ الْأَوْلَادِ بِآبَائِهِمْ.

وَقَدْ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ تَأْثِيرًا بَلِيغًا عَلَى أَبْنَائِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ؛ فَضْلًا عَنْ أَخْلَاقِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ؛ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَىَ فِيهَا جَدْعَاءَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا مَثَلٌ بَلِيغٌ مَحْسُوسٌ؛ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تُنْتَجُ فِي الْعَادَةِ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، فَلَيْسَ فِيهَا جَدْعٌ، أَوْ قَطْعٌ فِي يَدِهَا أَوْ أُذُنِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ رَاعِيهَا؛ إِمَّا بِإِهْمَالِهِ، وَإِمَّا بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً.

فَهَكَذَا الْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَإِذَا تَعَلَّمَ الْكَذِبَ وَالْغِشَّ، أَوِ الْفَسَادَ وَالِانْحِرَافَ، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ فِطْرَتِهِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ، أَوِ الْإِهْمَالِ فِيهَا، أَوْ بِمُؤَثِّرٍ خَارِجِيٍّ مِنْ أَصْحَابِ السُّوءِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخُلَطَاءِ)).

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الطِّفْلُ غَايَةَ الِاحْتِيَاجِ: الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ خُلُقِهِ؛ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَلَى مَا عَوَّدَهُ الْمُرَبِّي فِي صِغَرِهِ؛ مِنْ حَرَدٍ وَغَضَبٍ، وَلَجَاجٍ وَعَجَلَةٍ، وَخِفَّةٍ مَعَ هَوَاهُ، وَطَيْشٍ وَحِدَّةٍ وَجَشَعٍ، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ فِي كِبَرِهِ تَلَافِي ذَلِكَ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ صِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ رَاسِخَةً لَهُ، فَلَوْ تَحَرَّزَ مِنْهَا غَايَةَ التَّحَرُّزِ فَضَحَتْهُ -وَلَا بُدَّ- يَوْمًا مَا.

وَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُنْحَرِفَةً أَخْلَاقُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَغْلُظَ أَعْوَادُهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قِبَلِ التَّرْبِيَةِ الَّتِي نَشَأَ عَلَيْهَا.

وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُجَنَّبَ الصَّبِيُّ إِذَا عَقَلَ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ، وَالْغِنَاءَ، وَسَمَاعَ الْفُحْشِ، وَالْبِدَعَ، وَمَنْطِقَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِقَ بِسَمْعِهِ عَسُرَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ فِي الْكِبَرِ، وَعَزَّ عَلَى وَلِيِّهِ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْهُ، فَتَغْيِيرُ الْعَوَائِدِ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ، يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى اسْتِجْدَادِ طَبِيعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَالْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ الطَّبِيعَةِ عَسِرٌ جِدًّا.

وَيُجَنِّبُهُ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ أَعْظَمَ مِمَّا يُجَنِّبُهُ السُّمَّ النَّاقِعَ؛ فَإِنَّهُ مَتَى سَهَّلَ لَهُ سَبِيلَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ أَفْسَدَ عَلَيْهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَرَمَهُ كُلَّ خَيْرٍ.

وَيُجَنِّبُهُ الْكَسَلَ وَالْبَطَالَةَ وَالدَّعَةَ وَالرَّاحَةَ، بَلْ يَأْخُذُهُ بِأَضْدَادِهَا.

وَيُعَوِّدُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ وَقْتُ قَسْمِ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقِ الْجَوَائِزِ؛ فَمُسْتَقِلٌّ، وَمُسْتَكْثِرٌ، وَمَحْرُومٌ، فَمَتَى اعْتَادَ ذَلِكَ صَغِيرًا سَهُلَ عَلَيْهِ كَبِيرًا)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّكَ وَأَحَقُّهُمْ بِمَعْرُوفِكَ: أَوْلَادُكَ؛ فَإِنَّهُمْ أَمَانَاتٌ جَعَلَهُمُ اللهُ عِنْدَكَ، وَوَصَّاكَ بِتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً لِأَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَكُلُّ مَا فَعَلْتَهُ مَعَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا فَإِنَّهُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَسِبْهُ عِنْدَ اللهِ، فَكَمَا أَنَّكَ إِذَا أَطْعَمْتَهُمْ وَكَسَوْتَهُمْ وَقُمْتَ بِتَرْبِيَةِ أَبْدَانِهِمْ فَأَنْتَ قَائِمٌ بِالْحَقِّ مَأْجُورٌ؛ فَكَذَلِكَ -بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ- إِذَا قُمْتَ بِتَرْبِيَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْمَعَارِفِ الصَّادِقَةِ، وَالتَّوْجِيهِ لِلْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدِّهَا.

فَالْآدَابُ الْحَسَنَةُ خَيْرٌ لِلْأَوْلَادِ حَالًا وَمَآلًا مِنْ إِعْطَائِهِمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَأَنْوَاعَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ؛ لِأَنَّ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ يَرْتَفِعُونَ، وَبِهَا يَسْعَدُونَ، وَبِهَا يُؤَدُّونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَبِهَا يَجْتَنِبُونَ أَنْوَاعَ الْمَضَارِّ، وَبِهَا يَتِمُّ بِرُّهُمْ لِوَالِدِيهِمْ)).

((مِنْ مَظَاهِرِ إِهْمَالِ الْأَوْلَادِ وَخَطَرُهُ))

((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُرَاقِبَ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ، فِي أَصْحَابِهِمْ وَأَخِلَّائِهِمْ؛ حَتَّي يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَيَقِينٍ فِي اتِّجَاهَاتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ، فَيُقِرَّ مَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَالِحًا، وَيُنْكِرَ مَا يَرَاهُ فَاسِدًا، وَيُكَلِّمَهُمْ صَرَاحَةً، وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ وَيَرُدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَغْضَبُ فَيَجْفُوهُمْ وَيُعْرِضُ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفَسَادِ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى مُرَاقَبَةِ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً فَمَنِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا؟!!

هَلْ يَقُومُ عَلَيْهَا أَبَاعِدُ النَّاسِ وَمَنْ لَا صِلَةَ لَهُ فِيهِمْ؟!!

أَمْ يُتْرَكُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ وَالْأَغْصَانُ الْغَضَّةُ تَعْصِفُ بِهَا رِيَاحُ الْأَفْكَارِ الْمُضِلَّةِ، وَالِاتِّجَاهَاتِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْهَدَّامَةِ، فَيَنْشَأُ مِنْ هَؤُلَاءِ جِيلٌ فَاسِدٌ لَا يَرْعَى للهِ وَلَا لِلنَّاسِ حُرْمَةً وَلَا حُقُوقًا، جِيلٌ فَوْضَوِيٌّ مُتَهَوِّرٌ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، مُتَحَرِّرٌ مِنْ كُلِّ رِقٍّ إِلَّا مِنْ رِقِّ الشَّيْطَانِ، مُنْطَلِقٌ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ إِلَّا مِنْ قَيْدِ الشَّهْوَةِ وَالطُّغْيَانِ!

نَعَمْ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ النَّتِيجَةَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ.

إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ مُعْتَذِرًا: أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِي، إِنَّهُمْ كَبِرُوا وَتَمَرَّدُوا عَلَيَّ.

وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ: لَوْ سَلَّمْنَا هَذَا الْعُذْرَ جَدَلًا أَوْ حَقِيقَةً وَاقِعَةً، ثُمَّ فَكَّرْنَا؛ لَوَجَدْنَا أَنَّكَ أَنْتَ السَّبَبُ فِي سُقُوطِ هَيْبَتِكَ مِنْ نُفُوسِهِمْ؛ لِأَنَّكَ أَضَعْتَ أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ، فَتَرَكْتَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ كَمَا يَشَاؤُونَ، لَا تَسْأَلُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا تَأَنْسُ بِالِاجْتِمَاعِ إِلَيْهِمْ، لَا تَجْتَمِعُ مَعَهُمْ عَلَى غَدَاءٍ وَلَا عَلَى عَشَاءٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، فَوَقَعَتِ الْجَفْوَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَوْلَادِكَ، فَنَفَرُوا مِنْكَ وَنَفَرْتَ مِنْهُمْ؛ فَكَيْفَ تَطْمَعُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْقَادُوا لَكَ، أَوْ يَأْخُذُوا بِتَوْجِيهَاتِكَ؟!!

وَلَوْ أَنَّكَ اتَّقَيْتَ اللهَ فِي أَوَّلِ أَمْرِكَ، وَقُمْتَ بِتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرْتَ؛ لَأَصْلَحَ لَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَبُّكَ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71])).

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ؛ أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّي يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ :((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَمْ مِمَّنْ أَشْقَى وَلَدَهُ وَفِلْذَةَ كَبِدِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِهْمَالِهِ، وَتَرْكِ تَأْدِيبِهِ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى شَهَوَاتِه، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُكْرِمُهُ وَقَدْ أَهَانَهُ، وَأَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَقَدْ ظَلَمَهُ، فَفَاتَهُ انْتِفَاعُهُ بِوَلَدِهِ، وَفَوَّتَ عَلَيْهِ حَظَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ الْفَسَادَ فِي الْأَوْلَادِ رَأَيْتَ عَامَّتَهُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَكْثَرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَإِهْمَالِهِمْ لَهُمْ، وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ فَرَائِضَ الدِّينِ وَسُنَنَهُ، فَأَضَاعُوهُمْ صِغَارًا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ كِبَارًا، كَمَا عَاتَبَ بَعْضُهُمْ وَلَدَهُ عَلَى الْعُقُوقِ فَقَالَ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ! إِنَّكَ عَقَقْتَنِي صَغِيرًا فَعَقَقْتُكَ كَبِيرًا، وَأَضَعْتَنِي وَلِيدًا فَأَضَعْتُكَ شَيْخًا كَبِيرًا)).

إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتْرُكُونَ أَوْلَادَهُمْ هَمَلًا، لَا يَسْأَلُونَهُمْ مَاذَا فَعَلُوا، وَلَا مَاذَا تَرَكُوا، رُبَّمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ، ثُمَّ لَا يَأْمُرُونَهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَلَا يَضْرِبُونَهُمْ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا يَمُرُّونَ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ وَلَا يَأْخُذُونَهُمْ مَعَهُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ، يَغِيبُونَ مُعْظَمَ النَّهَارِ وَكَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَسْأَلُونَهُمْ أَيْنَ كَانُوا.

سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَدْرِي مَاذَا يُجِيبُ هَؤُلَاءِ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا وَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَأَلَهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ عَلَيْهِ!!

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا؛ وَلَكِنْ مَا هِيَ أَسْبَابُهُ لِنَعْرِفَ عِلَاجَهُ؟

إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِهِ: أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يُهْمِلُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ، وَلَا يُهَيِّبُونَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّأْدِيبِ؛ فَتُنْزَعَ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ الْأَوْلَادِ، وَيَشِبُّونَ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأَوْلِيَائِهِمْ، فَلَا يَنْصَاعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَوَامِرِهِمْ.

وَمِنْ أَسْبَابِ تَمَرُّدِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ: أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ رُبَّمَا لَا يُحْسِنُونَ مُعَامَلَتَهُمْ فِي التَّأْدِيبِ، وَلَا يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُرَاعَاةَ حَالِ الْمُؤَدَّبِ وَانْطِبَاعَاتِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ عِلَاجِهِ.

فَمِنَ الْأَبْنَاءِ مَنْ يَكُونُ عَزِيزَ النَّفْسِ، عَالِيَ الْهِمَّةِ، يَقْتَنِعُ بِالْقَوْلِ النَّيِّرِ الْبَيِّنِ، وَيَنْفِرُ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّفْشِيلِ أَمَامَ أَقْرِبَائِهِ، فَمِثْلُ هَذَا يُعَامَلُ بِأُسْلُوبٍ هَادِئٍ مُقْنِعٍ يَسِيرٍ.

وَمِنَ الْأَوْلَادِ مَنْ يَكُونُ بَلِيدًا، لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الضَّرْبُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّهْدِيدُ.

وَالْحِكْمَةُ أَنْ تُنْزِلَ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْزِلَتَهُ، وَتُعَامِلَ كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ.

إِنَّ مِنَ الْمُشَاهَدِ أَنَّ مَنْ ضَيَّعَ وَاجِبَ اللهِ فِي أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَهْمَلَ تَرْبِيَتَهُمْ؛ مِنَ الْمُشَاهَدِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهِمْ بِإِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَعَدَمِ بِرِّهِ، وَبِالتَّمَرُّدِ عَلَيْهِ؛ فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ-، وَتَفَقَّدُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ.

وَالْأَمْرُ جِدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ.

قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)).

وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْبَرَ خَسَارَةٍ يَخْسَرُهَا الْمَرْءُ هِيَ أَنْ يَخْسَرَ نَفْسَهُ، وَيَخْسَرَ أَهْلَهُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

وَسُوءُ التَّرْبِيَةِ لَهُ أَثَرٌ مُدَمِّرٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ؛ بَلْ وَعَلَى الْأَوْطَانِ.

((أَمَّا إِهْمَالُ الْأَوْلَادِ: فَضَرَرُهُ كَبِيرٌ، وَخَطَرُهُ خَطِيرٌ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ بُسْتَانٌ فَنَمَّيْتَهُ حَتَّى اسْتَتَمَّتْ أَشْجَارُهُ، وَحَتَّى أَيْنَعَتْ ثِمَارُهُ، وَتَزَخْرَفَتْ زُرُوعُهُ وَأَزْهَارُهُ، ثُمَّ أَهْمَلْتَهُ فَلَمْ تُحَافِظْ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَحْفَظْهُ، وَلَمْ تَسْقِهِ، وَلَمْ تُنَقِّهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَتُعِدَّهُ لِلنُّمُوِّ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؛ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ وَأَكْبَرِ الْجَهْلِ؟! فَكَيْفَ تُهْمِلُ أَوْلَادَكَ الَّذِينَ هُمْ فِلْذَةُ كَبِدِكَ، وَثَمَرَةُ فُؤَادِكَ، وَنُسْخَةُ رُوحِكَ، وَالْقَائِمُونَ مَقَامَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا الَّذِينَ بِسَعَادَتِهِمْ تَتِمُّ سَعَادَتُكَ، وَبِفَلَاحِهِمْ وَنَجَاحِهِمْ تُدْرِكُ خَيْرًا كَثِيرًا، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269])).

((وُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِالْأَبْنَاءِ وَهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ))

وَتَجِبُ الْعِنَايَةُ بِالِابْنِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؛ فَلَا يَجُوزُ إِيذَاؤُهُ، أَوِ التَّسَبُّبُ فِي ذَلِكَ، أَوِ التَّعَدِّي عَلَيْهِ بِإِسْقَاطٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَيُرَاعَى، وَيُتَّقَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ، وَيَسْعَى الْعَبْدُ سَعْيًا حَثِيثًا فِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْوَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُضْعِفَ نَفْسَهَا، أَوْ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُفِيدِ لِطِفْلِهَا رَغْبَةً فِي إِضْعَافِهِ وَإِمَاتَتِهِ، وَهَذَا خُسْرَانٌ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، وَافْتِيَاتٌ وَتَعَدٍّ، وَإِضَاعَةٌ لِحَقٍّ، وَإِسَاءَةٌ.

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: غَرْسُ الْعَقِيدَةِ فِيهِمْ))

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: غَرْسُ الْعَقِيدَةِ وَالْإِيمَانِ فِيهِمْ؛ فَالْعَقِيدَةُ وَالْإِيمَانُ هُمَا الْأَسَاسُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا صَلَحَ الْأَسَاسُ صَلَحَتِ الْآثَارُ النَّاتِجَةُ عَنْهُ، وَأَثْمَرَتِ الثِّمَارَ الطَّيِّبَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 24-26].

فَالشَّجَرَةُ إِذَا قُطِعَ أَصْلُهَا مَاتَتْ؛ فَكَذَلِكَ الدِّينُ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ؛ فَمَنْزِلَةُ التَّوْحِيدِ مِنَ الدِّينِ مَنْزِلَةُ الْأُصُولِ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَالْقَوَاعِدِ مِنَ الْبُنْيَانِ؛ وَلِهَذَا تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ فِي الْوَحْيَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ تَرْسِيخِ الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ مُنْذُ الصِّغَرِ، كَمَا جَاءَ فِي وَصَايَا لُقْمَانَ الْحَكِيمِ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ تَأْكِيدُهُ عَلَى هَذِهِ الرَّكِيزَةِ؛ بَلْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا قَالَ لَهُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

فَبَدَأَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ بِنَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَتَحْذِيرِهِ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَخْطَرُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ مُبْطِلٌ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ.

وَالشِّرْكُ هُوَ: تَسْوِيَةُ غَيْرِ اللهِ بِاللهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98].

وَكَانَ مِمَّا وَصَّى بِهِ لُقْمَانُ ابْنَهُ: تَذْكِيرُهُ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِلْأَبَوَيْنِ أَنْ يُعْنَوْا بِتَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِمْ.

فَغَرْسُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ هُوَ تَعْزِيزٌ لِمَرْتَبَةِ الْإِحْسَانِ لَدَيْهِمْ، وَتَهْيِئَتُهُمْ لِمُرَاقَبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ؛ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي انْتَشَرَتْ فِيهِ الْأَجْهِزَةُ وَمَا قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ السُّمُومِ وَالْبَلَايَا الْجَسِيمَةِ.

وَقَدْ حَرِصَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى بَيَانِ هَذِهِ الْعَقَائِدِ، وَغَرْسِهَا فِي نُفُوسِ النَّاشِئَةِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ)).

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: كَثْرَةُ الدُّعَاءِ))

((وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: كَثْرَةُ الدُّعَاءِ؛ فَالدُّعَاءُ لِلْأَبْنَاءِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَهَمِّ الرَّكَائِزِ فِي صَلَاحِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يَكُونُ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ وَبَعْدَهُ، فَيَدْعُو الْوَالِدَانِ أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللهُ -تَعَالَى- الذُّرِّيَّةَ الصَّالِحَةَ، وَيَدْعُوَانِ -أَيْضًا- لِلْأَوْلَادِ بَعْدَ أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللهُ -تَعَالَى- بِهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالصَّلَاحِ، وَالِاسْتِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّيَانَةِ؛ أُسْوَةً بِالْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَخْبَرَنَا عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -أَيْضًا-: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

وَقَالَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].

وَمِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ امْتَدَحَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ: قَوْلُهُمْ: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

وَمِنْ نِعْمَةِ اللهِ وَكَرَمِهِ: أَنْ جَعَلَ دَعْوَةَ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ مُسْتَجَابَةً لَا تُرَدُّ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ -أَيْضًا-: أَنَّهُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يَحْذَرَا مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا بِالشَّرِّ؛ لَا سِيَّمَا فِي حَالِ الْغَضَبِ، فَلَا يَتَعَجَّلَا بِالدُّعَاءِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا فَيُسْتَجَابَ لَهُمَا فِي أَبْنَائِهِمْ، ثُمَّ يَنْدَمَا بَعْدَ ذَلِكَ النَّدَامَةَ الشَّدِيدَةَ.

وَقَدْ حَذَّرَنَا رَسُولُنَا ﷺ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].

قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَدْعُو عَلَى مَالِهِ، فَيَلْعَنُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَوِ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ لَأَهْلَكَهُ)).

قَالَ السَّعْدِيُّ: ((وَهَذَا مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَعَجَلَتِهِ؛ حَيْثُ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَالِهِ بِالشَّرِّ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَيُبَادِرُ بِذَلِكَ الدُّعَاءِ كَمَا يُبَادِرُ بِالدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ)) )).

قَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو لِلْأَبْنَاءِ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، لَمَّا أَرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ مَا أَرَادُوا بِرَسُولِ اللهِ، وَرَدُّوا دَعْوَتَهُ ﷺ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَآذَوْهُ، وَبِالْحِجَارَةِ رَمَوْهُ؛ عَرَضَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْجِبَالِ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -جَبَلَانِ بِمَكَّةَ-، عِنْدَهَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُشْفِقُ الرَّحِيمُ: ((أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ -تَعَالَى- رَجَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بِإِسْلَامِ أَبْنَائِهِمْ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُرْشِدُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الِابْنِ مُسْتَقْبَلًا، فَيَقُولُ لِلْمُسْلِمِينَ: ((لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللهم جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بِيْنَهُمَا وَلَدٌ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا)).

وَفِي هَذَا تَوْجِيهٌ إِلَى أَنْ تَكُونَ الْبِدَايَةُ رَبَّانِيَّةً لَا شَيْطَانِيَّةً، فَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ -تَعَالَى- فِي بِدَايَةِ الْجِمَاعِ أُسِّسَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى التَّقْوَى، فَلَا يَضُرُّهُ الشَّيْطَانُ -بِإِذْنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا--.

وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو لَهُمْ وَهُمْ نُطَفٌ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ؛ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَارِجَ بَيْتِهِ، وَكَانَ ابْنُهُ مَرِيضًا فَمَاتَ، فَلَمْ تُخْبِرْهُ زَوْجَتُهُ أُمُّ سُلَيْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ عَوْدَتِهِ، وَلَمْ تُبْدِ أَيَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْحُزْنِ لَهُ، بَلْ تَزَيَّنَتْ وَتَجَهَّزَتْ، وَجَهَّزَتْ لَهُ عَشَاءَهُ فَتَعَشَّى، ثُمَّ قَارَفَهَا، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَخْبَرَتْهُ بِوَفَاةِ وَلَدِهِ بِطَرِيقَةٍ إِيمَانِيَّةٍ ذَكِيَّةٍ، فَقَامَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِمَا كَانَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَمِنْهُ، فَدَعَا لَهُمَا ﷺ بِالْبَرَكَةِ فِي لَيْلَتِهِمَا، فَوَلَدَتْ بَعْدُ غُلَامًا سَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللهِ، وَمِنْ بَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ: أَنَّهُ كَبُرَ، وَتَزَوَّجَ، وَرَزَقَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنَ الْأَوْلَادِ تِسْعَةً، كُلُّهُمْ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، وَالْقِصَّةُ بِطُولِهَا فِي ((الْبُخَارِيِّ)).

((مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: كَوْنُ الْوَالِدِ قُدْوَةً لِأَبْنَائِهِ))

((مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: أَنْ يَكُونَ الْوَالِدُ قُدْوَةً لِأَبْنَائِهِ، فَإِنْ أَمَرَهُمْ بِالْخَيْرِ حَرِصَ أَنْ يَكُونَ الْمُبَادِرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ نَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ؛ فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ فِي وَادٍ وَفِعْلُهُ فِي وَادٍ آخَرَ، فَيُنْشِئُ عِنْدَ الْأَبْنَاءِ تَنَاقُضًا وَتَبَايُنًا وَاضْطِرَابًا عَظِيمًا؛ مِمَّا يَؤُولُ بِالْأَبْنَاءِ لِتَرْكِ التَّوْجِيهِ وَالتَّأْدِيبِ مِنَ الْآبَاءِ، وَتَجَاهُلِهِ، وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِنُصْحِ الْوَالِدِ وَتَوْجِيهِهِ؛ ((لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَصِفُ لَهُ الطَّبِيبُ دَوَاءً لِمَرَضٍ بِالطَّبِيبِ مِثْلُهُ، وَالطَّبِيبُ مُعْرِضٌ عَنِ الدَّوَاءِ الَّذِي وَصَفَهُ، غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ؛ بَلِ الطَّبِيبُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَذَا الْوَاعِظِ الْمُخَالِفِ لِمَا يَعِظُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ دَوَاءٌ آخَرُ عِنْدَهُ مَقَامَ هَذَا الدَّوَاءِ الْمَتْرُوكِ، وَقَدْ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى تَرْكِ التَّدَاوِي، وَقَدْ يَقْنَعُ بِعَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ هَذَا الْوَاعِظِ؛ فَإِنَّ مَا يَعِظُ بِهِ طَرِيقٌ مُعَيَّنٌ لِلنَّجَاةِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْهَا.

وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّفْرَةِ قَالَ شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ فَإِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْفَاعِلِينَ لَهُ، الْمُؤْتَمِرِينَ بِهِ، وَإِذَا نَهَيْتَ عَنْ شَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْمُنْتَهِينَ عَنْهُ)).

وَعَنِ الْفُضَيْلِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((رَأَى مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ رَجُلًا يُسِيءُ صَلَاتَهُ، فَقَالَ: مَا أَرْحَمَنِي بِعِيَالِهِ!

فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا يَحْيَى! يُسِيءُ هَذَا صَلَاتَهُ وَتَرْحَمُ عِيَالَهُ؟!

قَالَ: إِنَّهُ كَبِيرُهُمْ وَمِنْهُ يَتَعَلَّمُونَ)).

فَمَا أَعْظَمَ جِنَايَةَ الْوَالِدِ عَلَى وُلْدِهِ عِنْدَمَا يَكُونُ قُدْوَةً لَهُمْ فِي تَرْكِ الْفَرَائِضِ أَوْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ إِذِ الْأَبْنَاءُ فِي الْغَالِبِ يَنْشَؤُونَ مُتَأَثِّرِينَ بِسُلُوكِيَّاتِ وَالِدِهِمْ؛ فَهُوَ كَبِيرُهُمْ وَمِنْهُ يَتَعَلَّمُونَ.

وَلْنَسْتَحْضِرْ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي تَوْبِيخِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3])).

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْجَلِيسُ الصَّالِحُ))

((وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْجَلِيسُ الصَّالِحُ، وَتَعَاهُدُ الْأَبْنَاءِ فِي بَابِ الْجَلِيسِ وَالصَّاحِبِ مِنْ أَعْظَمِ الرَّكَائِزِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِي التَّرْبِيَةِ؛ فَإِنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي جَلِيسِهِ، وَقَدْ ضَرَبَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ مَثَلًا فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الصَّاحِبِ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَقَالَ: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)).

فَعَلَى الْآبَاءِ مُتَابَعَةُ أَبْنَائِهِمْ فِيمَنْ يَصْحَبُونَ وَيُجَالِسُونَ فِي الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَفَقَّدُوهُمْ فِي ذَلِكَ.

وَقَدِ اسْتَجَدَّ نَوْعٌ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْجُلَسَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ فِي زَمَانٍ سَابِقٍ، وَهُوَ لَا يَقِلُّ فِي تَأْثِيرِهِ عَلَى صَاحِبِهِ عَنْ سَابِقِهِ؛ أَلَا وَهُوَ: الْقَنَوَاتُ الْفَضَائِيَّةُ، وَمَوَاقِعُ الْإِنْتَرْنِت، وَوَسَائِلُ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ عَبْرَ الْأَجْهِزَةِ الْمَحْمُولَةِ وَنَحْوِهَا، وَالَّتِي يَحْمِلُهَا الْأَبْنَاءُ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا؛ فِي بُيُوتِهِمْ وَعِنْدَ خُرُوجِهِمْ، وَهَذِهِ الْأَجْهِزَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَ مُتَابَعَةِ الْآبَاءِ وَرِقَابَتِهِمْ فَإِنَّ خَطَرَهَا عَظِيمٌ عَلَى الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، فَكَمْ قَدْ تَاهَ وَانْحَرَفَ مِنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ بِسَبَبِهَا، وَآلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى مُنْكَرَاتٍ عَظِيمَةٍ وَبَلَايَا جَسِيمَةٍ لَا يَعْلَمُ خَطَرَهَا إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- )).

((مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى النُّصْحِ))

((وَمِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى النُّصْحِ وَالتَّوْجِيهِ؛ لَا سِيَّمَا إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ بَدْءًا بِتَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَفَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِهِ، وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ يَبْدَأُ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَسَائِرِ الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا النَّصِيبُ الْأَكْبَرُ مِنَ التَّوْجِيهِ وَالنُّصْحِ، وَبَعْدَهَا يَلْتَفِتُ الْوَالِدُ وَالْوَالِدَةُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا حَالُ أَبْنَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا.

وَمِنَ الْوَصَايَا الْبَلِيغَةِ النَّافِعَةِ الْمُسَدَّدَةِ: مَا ذَكَرَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ حِينَمَا وَعَظَ ابْنَهُ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ؛ حَيْثُ بَدَأَ مَعَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَثَنَّى بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبَعْدَهَا نَبَّهَهُ عَلَى إِحَاطَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِخَلْقِهِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ لِضَرُورَةِ مُرَاقَبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَخَتَمَ وَصِيَّتَهُ بِتَنْبِيهِهِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ رَفِيعِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ.

وَقَدِ انْتَهَجَ هَذَا الْمَسْلَكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ كَمَا فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، وَذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيَّيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- قَالَ: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132-133].

وَأَثْنَى رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِكَوْنِهِ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55].

وَأَمَرَ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَأَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِهَا -أَيْضًا-، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

وَيَدْخُلُ فِي تَوْجِيهِ الْأَبْنَاءِ وَنُصْحِهِمْ -أَيْضًا- أَنْ يُجَنِّبَ الْوَالِدُ أَبْنَاءَهُ كُلَّ مَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَهُمْ وَدِينَهُمْ؛ كَسَمَاعِ الْأَغَانِي، وَالْقَنَوَاتِ الضَّارَّةِ، وَالْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَكَذَا يَحْذَرُ مِنَ الذَّهَابِ بِأَبْنَائِهِ لِأَمَاكِنِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ)).

((حِمَايَةُ الْأَطْفَالِ مِنْ مَرْضَى الشُّذُوذِ الْجِنْسِيِّ))

((وَفِي مُقْتَبَلِ عُمُرِ الطِّفْلِ يَجِبُ أَنْ يَحْرِصَ الْأَبُ عَلَى حِمَايَةِ وَلَدِهِ مِنَ الشَّاذِّينَ، وَيَحْذَرَ إِهْمَالَ ذَلِكَ؛ فَقَدِ اعْتَرَفَ أَحَدُ الشَّاذِّينَ الْعَرَبِ، وَبَاحَ بِسَبَبِ انْحِرَافِهِ وَشُذُوذِهِ؛ حَيْثُ كَانَ أَبَوَاهُ يُهْمِلَانِهِ بِانْشِغَالِهِمَا خَارِجَ الْبَيْتِ وَهُوَ فِي سِنِّ الطُّفُولَةِ؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى وُقُوعِهِ ضَحِيَّةً لِأَحَدِ رُفَقَاءِ السُّوءِ؛ حَيْثُ كَانَ يَجْهَلُ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ.

وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ أَنْ يَحْذَرَ -أَيْضًا- كُلَّ مَنْ لَا يَخَافُ اللهَ مِنَ الْفُسَّاقِ وَنَحْوِهِمْ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، أَوِ الْجِيرَانِ، أَوِ الْأَسَاتِذَةِ؛ فَإِنَّ الْإِحْصَاءَاتِ فِي أَمريكَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ الِاعْتِدَاءَاتِ الْجِنْسِيَّةِ عَلَى الْأَطْفَالِ تَقَعُ مِنْ أَفْرَادٍ يَعْرِفُونَهُمْ؛ كَأُسْتَاذِ الْمَدْرَسَةِ، أَوْ طَبِيبِ الْعَائِلَةِ، أَوْ مُسْتَشَارِ الْمُخَيَّمِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْتَهِدَ الْأَبُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَرِعَايَتِهِ، فَلَا يَتْرُكُ مَجَالًا لِخَلْوَةِ الْوَلَدِ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوفُ.

وَرُبَّمَا يَحْدُثُ الِاعْتِدَاءُ الْجِنْسِيُّ مِنْ قِبَلِ طِفْلٍ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَطْفَالِ يَنْضُجُونَ جِنْسِيًّا فِي مَرْحَلَةٍ مُبَكِّرَةٍ، كَمَا أَنَّهُ بِالْإِمْكَانِ قِيَامُ عَلَاقَاتٍ جِنْسِيَّةٍ بَيْنَ الْأَوْلَادِ قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ لِأَصْدِقَاءِ الْوَلَدِ مِمَّنْ هُمْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَصْغَرُ سِنًّا يُعَدُّ اخْتِيَارًا حَسَنًا مَأْمُونًا؛ فَلَا يَتْرُكُهُ يُصَاحِبُ الْكِبَارَ مِنَ الصِّبْيَانِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ وَيَتَأَكَّدَ مِنِ اسْتِقَامَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ.

وَيَتَنَبَّهُ الْأَبُ لِلتَّقْلِيلِ مِنْ خَلْوَةِ الْوَلَدِ قَبْلَ سِنِّ الْبُلُوغِ بِغَيْرِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ يَزِيدُونَ؛ لِلتَّقْلِيلِ مِنِ احْتِمَالِ غِوَايَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ؛ فَالشَّيْطَانُ أَقْرَبُ لِلِاثْنَيْنِ مِنْهُ إِلَى الثَّلَاثَةِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ انْتِشَارِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَجُرْأَةِ أَهْلِهَا: الْمُيُوعَةُ، وَالتَّخَنُّثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الصِّبْيَانِ.

فَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا التَّمَيُّعِ وَالِانْحِلَالِ: إِطَالَةُ الْوَلَدِ لِشَعْرِهِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ، وَلُبْسُ الْبَنْطَلُونِ الضَّيِّقِ الْوَاصِفِ لِلْبَدَنِ، أَوْ لُبْسُ بَعْضِ الْمَلَابِسِ الْخَاصَّةِ بِالشَّاذِّينَ، وَجَرُّ الذُّيُولِ، وَالتَّكَسُّرُ فِي الْمِشْيَةِ، وَالْخُضُوعُ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّرَدُّدُ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمَشْبُوهَةِ.

فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْوَلَدِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ الْمُنْحَرِفَةِ؛ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ الْحَذَرُ مِنِ احْتِمَالِ انْحِرَافِ وَلَدِهِ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ يَجْهَلُ قُبْحَ هَذِهِ الْقَضَايَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ يَنْتَظِرُونَ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ لِيَنْقَضُّوا عَلَى فَرِيسَتِهِمْ بِشَتَّى الْوَسَائِلِ وَالْحِيَلِ الْمَاكِرَةِ.

وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ مِنْ تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ عَلَى الرُّجُولَةِ وَالْخُشُونَةِ؛ خَاصَّةً إِنْ كَانَ الْوَلَدُ جَمِيلَ الْمَطْلَعِ، فَيُعَوِّدُهُ الْخُشُونَةَ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ، وَيُعَوِّدُهُ الرِّيَاضَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي تَبْنِي جِسْمَهُ وَتُخَشِّنُ جِلْدَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَوِّدَهُ حِلَاقَةَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ شَعْرُهُ سَبَبَ جَمَالِهِ؛ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي التَّعَامُلِ مَعَ الرَّجُلِ الْجَمِيلِ الَّذِي افْتُتِنَ بِهِ النِّسَاءُ.

وَيُعَوِّدُ وَلَدَهُ لُبْسَ الْمَلَابِسِ وَالثِّيَابِ الْفَضْفَاضَةِ، وَتَغْطِيَةَ رَأْسِهِ تَشَبُّهًا بِالْكِبَارِ الْبَالِغِينَ، وَيُحَذِّرُهُ مِنْ إِسْبَالِ الثَّوْبِ كَالنِّسَاءِ، وَلُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ؛ فَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ التَّخَنُّثِ وَالْمُيُوعَةِ، إِلَى جَانِبِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الرِّجَالِ.

وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِ وَالْغِنَى فَإِنَّ وَاجِبَهُ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ آكَدُ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْعَادَةِ مُرَفَّهُونَ، وَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ أَثَرُ النِّعْمَةِ؛ مِنْ نُعُومَةِ الْبَدَنِ، وَصَفَاءِ اللَّوْنِ، وَطِيبِ الرَّائِحَةِ، وَحُسْنِ ارْتِدَاءِ الثِّيَابِ، فَيَكُونُونَ بِذَلِكَ أَرْغَبَ وَأَدْعَى لِوُقُوعِهِمْ تَحْتَ أَيْدِي الْمُنْحَرِفِينَ؛ لِهَذَا فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُحَذِّرُ مِنْ مُجَالَسَةِ أَبْنَاءِ الْأُسَرِ الْمُتْرَفَةِ.

يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ: ((وَلَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ، وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنَ الْعَذَارَى)).

كَمَا أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ الْوَلَدِ فَرِيسَةً لِأَحَدِ الشَّاذِّينَ فِي الْأُسَرِ الْغَنِيَّةِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الْأُسَرِ الْمُتَوَسِّطَةِ الْحَالِ أَوِ الْفَقِيرَةِ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأُسَرَ الْغَنِيَّةَ فِي الْعَادَةِ يُشَارِكُهَا فِي الْمَسْكَنِ خَدَمٌ وَعُمَّالٌ وَأَفْرَادٌ مِنْ غَيْرِ الْأُسْرَةِ يُقَدِّمُونَ الْخِدْمَةَ لِلْأُسْرَةِ، وَيَقُومُونَ عَلَى رِعَايَةِ شُؤُونِهَا، وَعَادَةً يَنْتَمِي هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ إِلَى ثَقَافَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ الْجَهْلُ وَقِلَّةُ الدِّينِ، فَنَادِرًا مَا يَكُونُ مِنْ بَيْنِهِمُ الصَّالِحُ الْمُسْتَقِيمُ، إِلَى جَانِبِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مِنَ الْعُزَّابِ، أَوِ الْمُغْترِبِينَ عَنْ أَهْلِيهِمْ، وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى الْأَوْلَادِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانُوا مُؤْتَمَنِينَ حَتَّى عَلَى النِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ، فَلَا يَجِدُ الْأَبُ غَضَاضَةً عِنْدَمَا يَجِدُ وَلَدَهُ جَالِسًا يَتَحَدَّثُ فِي غُرْفَةِ الْخَادِمِ، وَلَا يَأْبَهُ إِذَا خَلَا الْبَيْتُ لِلْخَدَمِ وَالْأَوْلَادِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِهْمَالِ وَالتَّقْصِيرِ مِنَ الْأَبِ يُعَدُّ مَدْعَاةً لِوُقُوعِ الْفَاحِشَةِ بِالْوَلَدِ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْأَبِ، وَرُبَّمَا اسْتَمَرَّ وُقُوعُ الْفَاحِشَةِ بِالْوَلَدِ فَتْرَةً طَوِيلَةً تَحْتَ طَائِلَةِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْإِقْنَاعِ، أَوْ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مَاكِرَةٍ خَبِيثَةٍ؛ خَاصَّةً وَأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي لَمْ يُعْنَ وَالِدُهُ بِتَرْبِيَتِهِ يَقِلُّ فَهْمُهُ لِلْأُمُورِ، فَلَا يُدْرِكُ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ)).

كَمَا حَدَثَ مَعَ ذَلِكَ الشَّابِّ الَّذِي تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ، وَالَّذِي كَانَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ كَانَ فَرِيسَةً لِأَحَدِ الْمُنْحَرِفِينَ بِسَبَبِ إِهْمَالِ وَالِدَيْهِ، وَجَهْلِهِ بِمَبَادِئِ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ.

وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَرِعَايَتُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِالذَّاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا الشُّذُوذَ صَارَتْ مُؤَسَّسَاتٌ وَدُوَلٌ.. وَصَارَتْ جَمْعِيَّاتٌ وَمَرَاكِزُ تَدْعُو إِلَيْهِ وَتُزَيِّنُهُ، وَتَبُثُّهُ بَيْنَ النَّاسِ يَسْرِي فِي جَسَدِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ سَرَيَانَ الْمَرَضِ الْخَبِيثِ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ.

فَعَلَى كُلِّ أَبٍ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُلَاحِظَ وَلَدَهُ، وَأَنْ يَقُومَ عَلَى حِيَاطَتِهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.

((مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْأَطْفَالِ))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ رَحِيمًا شَفِيقًا بِالْأَطْفَالِ؛ وَمِنْ تَوَاضُعِهِ ﷺ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْأَطْفَالِ؛ أَنَّهُ كَانَ يُضَاحِكُهُمْ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ.

فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ.

ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.

قَالَ الْقَاضِي: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ.

«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.

فِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.

«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فِي الْحَدِيثِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصِّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.

فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!-؛ لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ -فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ-.

* وَمِنَ الرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ: تَقْبِيلُهُمْ، وَمُدَاعَبَتُهُمْ؛ فَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«أَوَأَمْلِكُ لَكَ»: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَجْعَلَ الرَّحْمَةَ فِي قَلْبِكَ، وَاللَّهُ نَزَعَهَا مِنْكَ، هَذَا عَلَى رِوَايَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ»، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْكَسْرِ، فَمَعْنَاهُ: إِنْ نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ فَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَضَعَهَا فِيهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.

فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَالْحَسَنُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ، إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«الْعَاتِقُ»: مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ، فَحَمَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَسَنَ عَلَى عَاتِقِهِ.

فِي الْحَدِيثِ: مُلَاطَفَةُ الصِّبْيَانِ وَالرَّحْمَةُ وَالرَّأْفَةُ بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرْحَمُ الْخَلْقَ؛ لِأَنَّهُ مَرْحُومٌ يَرْحَمُهُ اللهُ «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَهَشُّ وَيَبَشُّ لِلصِّبْيَانِ، وَيُقَرِّبُهُمْ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ.

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ يُضَافُ إِلَى أَدِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَى اتِّسَاعِ أُفُقِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، وَمَا مَنَحَهُ اللهُ مِنَ الرَّحْمَةِ بِالْخَلْقِ، لَاسِيَّمَا الضَّعِيفُ مِنْهُمْ، وَهُوَ ﷺ أُسْوَةُ أَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

أَلَا وَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ الَّتِي يَتَحَلَّى بِهَا الْمُسْلِمُ أَدَبَ التَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَالرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ؛ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الْغُلَامِ، فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَحَمَلَهُ، وَزَوَّدَهُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُسْتَجَابَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ».

وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَحَبَّهُ رَسُولُهُ ﷺ فَقَدْ سَعِدَ، وَأَحْيَاهُ اللهُ حَيَاةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً.

فَيَجِبُ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ بِالْأَوْلَادِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَى مَا يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَيَمْنَحُهُمُ الْأَدَبَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الصَّغِيرُ مِنْ خُلُقِ الْكَبِيرِ.

وَهَذَا مَنْهَجُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، أَيْ أَنَّهُمْ أَهْلُ رِفْقٍ وَرَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ وَتَرْبِيَةٍ وَمَحَبَّةٍ لِمُسْتَحِقِّيهَا، لَاسِيَّمَا الضَّعِيفُ كَالصِّغَارِ وَنَحْوِهِمْ.

إِنَّ تَقْبِيلَ الْوَلَدِ مِنْ أَهْلِهِ -مِنَ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَجَانِبِ- إِنَّمَا يَكُونُ لِلشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، لَا لِلَّذَّةِ وَلَا لِلشَّهْوَةِ.

وَمَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ لَا يُثَابُ بِالرَّحْمَةِ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

إِنَّ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ: الرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ يَعْمَلُ بِهِ، فَالْخَيْرُ عِنْدَهُ أَكْثَرُ.

فَمِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ: وُجُودُ الرَّحْمَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.

وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ: الرِّفْقُ بِالصِّبْيَانِ، وَالْعَطْفُ عَلَيْهِمْ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَتَقْبِيلُهُمْ؛ لِيَعْرِفَ الِابْنُ مَدَى مَحَبَّةِ وَالِدِهِ لَهُ، وَيَكُونَ أَلْصَقَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ.

وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ هِيَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي مَنَحَهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ لِذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلَّذِي قَالَ: إِنَّ لَهُ عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلَ أَحَدًا مِنْهُمْ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»، يَعْنِي أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْحَمَ غَيْرَهُ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ.

وَأَوْلَى النَّاسِ بِالرَّحْمَةِ: الضَّعِيفُ، وَالصِّبْيَانُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَمَنْ أَلْصَقُ النَّاسِ بِالْآخَرِينَ، كَآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ؛ حَتَّى يَحْصُلَ التَّمَاسُكُ فِي الْأُسْرَةِ، وَالْمَحَبَّةُ وَالِاحْتِرَامُ وَالْبِرُّ بِسَبَبِ مَا يُقَدّمُهُ الْأَبَوَانِ لِأَبْنَائِهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا.

وَالْحَذَرُ مِنْ إِيثَارِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ مِمَّا لَا يُجِيزُهُ الشَّرْعُ، سَوَاءٌ فِي التَّقْبِيلِ وَالتَّحِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُوَاسَاةِ بِالْمَالِ أَوِ التَّعْلِيمِ، يَجِبُ الْعَدْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ».

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي -وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا--، فَأَخَذَ بِيَدِ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَّهُ هِيَ الَّتِي أَخَذَتْ ِبيَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ.

قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَ اللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟!)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ فِي الْعَاشِرَةِ، أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَقُلْ لَهُ لِشَيْءٍ صَنَعَهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا.

عَشْرُ سِنِينَ لَمْ يَقُلْ لَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ذَلِكَ!!

وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ الرَّسُولِ ﷺ.

((مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا))؛ أَيْ: لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِي فِعْلٍ وَلَا تَرْكٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ اعْتِرَاضِهِ ﷺ عَلَى أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْآدَابِ، لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ فِيهَا.

يَعْنِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخِدْمَتِهِ ﷺ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ ﷺ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَلَّا يَقُولَ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَ سِنِينَ، أَلَّا يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ؟!!

فَأَنَسٌ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَهَذَا أَدْعَى لِأَنْ يُعَامِلَهُ بِمَا لَمْ يُعَامِلْ بِهِ وَلَدَهُ، وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((أُفٍّ)) كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ.

لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُ قَطُّ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَسٌ كَانَ صَبِيًّا بَعْدُ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ.

فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: ((يَا أُنَيْسُ -وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّدْلِيلِ- أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!)).

قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟! رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي ((شَرْحِ مُسْلِمٍ)) فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((قَوْلُهُ: ((تِسْعَ سِنِينَ))، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ ((عَشْرَ سِنِينَ)) مَعْنَاهُ أَنَّهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ تَحْدِيدًا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، وَخَدَمَهُ أَنَسٌ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى، فَفِي رِوَايَةِ التِّسْعِ لَمْ يَحْسِبِ الْكَسْرَ، بَلِ اعْتَبَرَ السِّنِينَ الْكَوَامِلَ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَشْرِ حَسَبَهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ)). بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.

لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.

وَمِنْ دَلَائِلِ رِعَايَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِلْأَطْفَالِ، وَحُبِّهِ لَهُمْ، وَرِفْقِهِ بِهِمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لَهُمْ ﷺ: اهْتِمَامُهُ ﷺ بِتَعْلِيمِهِمْ دِينَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَغَرْسِ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ فِي نُفُوسِهِمْ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ أَدَاءَ الْعِبَادَاتِ، وَالْآدَابَ الْإِسْلَامِيَّةَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ آدَابٍ: أَمْرُهُمْ بِهَا -أَيْ: بِالصَّلَاةِ-، وَضَرْبُهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((وَالصَّبِيُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَوَلِيُّهُ مُكَلَّفٌ، لَا يَحِلُّ لَهُ تَمْكِينُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ؛ فَإِنَّهُ يَعْتَادُهُ، وَيَعْسُرُ فِطَامُهُ عَنْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يُحَرِّمْ لُبْسَهُ لِلْحَرِيرِ كَالدَّابَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّكْلِيفِ، وَلِهَذَا لَا يُمَكَّنُ مِنَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَلَا مِنَ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا وَنَجِسًا، وَلَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَعِبِ الْقِمَارِ، وَاللِّوَاطِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((وَإِذَا صَارَ ابْنَ عَشْرٍ ازْدَادَ قُوَّةً وَعَقْلًا وَاحْتِمَالًا لِلْعِبَادَاتِ، فَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَهَذَا ضَرْبُ تَأْدِيبٍ وَتَمْرِينٍ، وَعِنْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ يَتَجَدَّدُ لَهُ حَالٌ أُخْرَى يَقْوَى فِيهَا تَمْيِيزُهُ وَمَعْرِفَتُهُ؛ وَلِذَلِكَ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ قَوِيٌّ جِدًّا، وَإِنْ رُفِعَ عَنْهُ قَلَمُ التَّكْلِيفِ بِالْفُرُوعِ فَإِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ آلَةَ مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ، وَالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ نَظَرِ مِثْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ كَمَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَهْمِ الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، مَعَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ يَتَعَلَّمُهَا)).

 فَيَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي قَلْبِ الصَّبِيِّ الْإِيمَانُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذَا الْإِيمَانُ أَطْيَبُ وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا يَغْرِسُهُ الْأَبُ وَتَغْرِسُهُ الْأُمُّ فِي قَلْبِ الْوَلَدِ، وَهُوَ فَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَسَاسُ كُلِّ طَاعَةٍ وَبِرٍّ، هُوَ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي اسْتِقَامَةِ الْمَرْءِ، وَاسْتِقَامَةِ الِابْنِ أَوِ الْبِنْتِ.

وَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يُبَيِّنُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ يُرْدِفُهُ خَلْفَهُ قَالَ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: ((وَمَنْ حَفِظَ اللهَ فِي صِبَاهُ وَقُوَّتِهِ حَفِظَهُ اللهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَعَقْلِهِ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)).

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا جَمِيعًا بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ، وَأَنْ يَحْفَظَ أَوْلَادَنَا وَأَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

((حِمَايَةُ الْأَطْفَالِ مِنَ الْأَلْعَابِ الْإِلِكْتُرُونِيَّةِ))

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((إِدْمَانُ الْأَلْعَابِ الْإِلِكْتُرُونِيَّةِ))

فَإِنَّ الْأَلْعَابَ الْإِلِكْتُرُونِيَّةَ لَمْ تَعُدْ مُجَرَّدَ وَسِيلَةِ تَرْفِيهٍ عَابِرَةٍ، بَلْ تَحَوَّلَتْ -خَاصَّةً عِنْدَ الْأَطْفَالِ- إِلَى إِدْمَانٍ حَقِيقِيٍّ يُهَدِّدُ التَّرْبِيَةَ، وَيُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْأَطْفَالِ وَسُلُوكِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَرُبَّمَا تُدَمِّرُ طَرِيقَةَ تَفْكِيرِهِمْ، وَتُصِيبُهُمْ بِسَطْحِيَّةِ الْفِكْرِ، وَتَغْرِسُ بُذُورَ الْعُنْفِ فِي نُفُوسِهِمْ.

الْإِدْمَانُ هُوَ اعْتِيَادٌ مَرَضِيٌّ لِلْإِنْسَانِ عَلَى سُلُوكٍ، أَوْ عَقَارٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مَادَّةٍ مُخَدِّرَةٍ إِلَى دَرَجَةِ وُصُولِ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الِاعْتِيَادِ إِلَى كُلِّ سُلُوكِيَّاتِهِ الْيَوْمِيَّةِ، مَعَ الشُّعُورِ بِالْعَوَزِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ، وَحِينَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُدْمِنِ مُمَارَسَةُ مَا أَدْمَنَ عَلَيْهِ لِأَيِّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ يَشْعُرُ بِتَعَكُّرِ الْمِزَاجِ، وَيُصْبِحُ هَمُّهُ الْوُصُولَ إِلَى مَا أَدْمَنَ عَلَيْهِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَضْرَارِ وَالسَّلْبِيَّاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ.

إِذَنْ؛ نَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ نَوْعَيْنِ مِنَ الْإِدْمَانِ:

- الْأَوَّلُ: إِدْمَانُ تَنَاوُلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ كَالْمَوَادِّ الْمُخَدِّرَةِ.

- وَإِدْمَانُ سُلُوكٍ وَفِعْلٍ لِشَيْءٍ مَا؛ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي، وَإِلَى هَذَا الْأَخِيرِ يَعُودُ إِدْمَانُ اسْتِخْدَامِ الْهَوَاتِفِ وَالْأَلْعَابِ الْإِلِكْتِرُونِيَّةِ، وَالدُّخُولِ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.

وَفِي زَمَنٍ تَشَابَكَتْ فِيهِ الشَّاشَاتُ مَعَ الْأَرْوَاحِ، وَتَدَاخَلَ فِيهِ الْعَالَمَانِ: الِافْتِرَاضِيُّ مَعَ الْوَاقِعِيِّ؛ وَجَدَتِ الْأُسْرَةُ الْمُسْلِمَةُ نَفْسَهَا فِي مُوَاجَهَةٍ غَيْرِ مَسْبُوقَةٍ مَعَ تَيَّارَاتٍ إِعْلَامِيَّةٍ لَا تَهْدَأُ، وَرَسَائِلَ خَفِيَّةٍ وَظَاهِرَةٍ تُعِيدُ تَشْكِيلَ الْوَعْيِ وَالْقِيَمِ وَالهُوِيَّةِ، وَتَنْمِيطِ الْبَشَرِ وَفْقَ ثَقَافَةِ الْوَافِدِ الْعَاتِي.

لَمْ يَعُدِ الْإِعْلَامُ الْجَدِيدُ مُجَرَّدَ وَسِيلَةٍ، بَلْ صَارَتْ قُوَّةً تَغْيِيرِيَّةً جَبَّارَةً تُسْهِمُ فِي صِنَاعَةِ الْأَنْمَاطِ السُّلُوكِيَّةِ، وَتَوْجِيهِ الْعُقُولِ؛ بَلْ وَإِعَادَةِ تَعْرِيفِ مَفْهُومِ الْأُسْرَةِ ذَاتِهِ.

وَفِي خِضَمِّ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ الْمُتَسَارِعَةِ تَخُوضُ مُؤَسَّسَةُ الْأُسْرَةِ مَعَارِكَ يَوْمِيَّةً بَلْ لَحْظِيَّةً قَدْ لَا تُرَى؛ لَكِنَّهَا تُضْعِفُ الْبُنْيَانَ، وَتُنْهِكُ الْقُوَى إِذَا لَمْ تُعَزَّزْ، وَتَهُزُّ الْقِيَمَ إِذَا لَمْ تُحْمَ، وَتُفَتِّتُ الرَّوَابِطَ إِذَا لَمْ تُرَاعَ، إِنَّهَا اخْتِرَاقَاتٌ وَمَعَارِكُ عَلَى الْهُوِيَّةِ، وَالثَّوَابِتِ، وَالْقِيَمِ، وَالتَّقَالِيدِ، وَالْأَعْرَافِ، وَالْأُصُولِ الْمَرْعِيَّةِ، وَعَلَى الْمَرْجِعِيَّةِ التَّرْبَوِيَّةِ، وَعَلَى اللُّغَةِ، وَالذَّوْقِ، وَالْفِكْرِ، وَالْعَقِيدَةِ.

وَبَاتَ الصُّمُودُ فِي وَجْهِ هَذِهِ الْعَوَاصِفِ وَاجِبًا دِينِيًّا حَضَارِيًّا، وَتَرْبَوِيًّا أَخْلَاقِيًّا، لَا تَتَحَقَّقُ مَعَالِمُهُ إِلَّا بِتَشْخِيصِ التَّحَدِّيَاتِ، وَرَسْمِ سُبُلِ الْمُوَاجَهَةِ، وَبِنَاءِ الْوَعْيِ دَاخِلَ الْبُيُوتِ، وَتَمْكِينِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَدَاءِ دَوْرِهِمَا فِي زَمَنِ السُّرْعَةِ وَالتَّشَظِّي وَالِانْشِغَالِ.

وَلَا بُدَّ مِنَ الْوَعْيِ بِتَحَدِّيَاتِ الْهُوِيَّةِ، وَتَأْثِيرِهَا عَلَى الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ بِفِعْلِ الْإِعْلَامِ الْجَدِيدِ، فَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ الْبَالِغَةِ لِشَبَكَاتِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَوَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْجَدِيدِ؛ فَإِنَّهَا قَدْ خَلَّفَتْ سَلْبِيَّاتٍ كَثِيرَةً مَا كُنَّا فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا بِحَالٍ.

فَتُوَاجِهُ الْأُسْرَةُ الْمُسْلِمَةُ سَيْلًا عَارِمًا مِنَ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي أَتَتْ مَعَ الْوَافِدِ الْعَاتِي عَبْرَ الْفَضَاءَاتِ الْإِلِكْتُرُونِيَّةِ، وَعَبْرَ مَنْظُومَةِ الْإِعْلَامِ الْجَدِيدِ، وَوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَبِأَسَالِيبَ مُتَنَوِّعَةٍ؛ حَتَّى أَمْسَى النَّشْءُ وَالشَّبَابُ بَلْ وَجُلُّ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْفَكَاكَ مِنْ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْجَدِيدِ!

وَالْآنَ وَبَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ الْإِعْلَامُ الْجَدِيدُ بِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ قِيَمٍ غَرِيبَةٍ؛ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الشَّبَابِ أَمْسَى كِيَانُ الْأُسْرَةِ فِي وَضْعٍ خَطِيرٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَدَخُّلٍ عَاجِلٍ، يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجَاتٍ جِذْرِيَّةٍ سَرِيعَةٍ وَمُكَثَّفَةٍ، الْوَضْعُ يَحْتَاجُ إِلَى تَكَاتُفِ شَتَّى عَنَاصِرِ الْمُجْتَمَعِ وَمُكَوِّنَاتِهِ؛ لِدِرَاسَةِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْخَطِيرَةِ؛ فَأَفْرَادُ الْأُسْرَةِ لَا يَجْتَمِعُونَ، وَإِذَا اجْتَمَعُوا اجْتَمَعُوا بِأَجْسَادِهِمْ، وَتَاهَتْ عُقُولُهُمْ، وَقُلُوبُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ، وَأَبْصَارُهُمْ وَبَصَائِرُهُمْ فِي غَيَاهِبِ التِّيهِ وَالتَّفَاهَةِ، وَتَاهَ فِكْرُهُمْ، وَضَاعَ وَقْتُهُمْ وَجُهْدُهُمْ وَأَجْمَلُ سَنَوَاتِ عُمُرِهِمْ أَمَامَ شَاشَاتِ الْجَوَّالَاتِ عَبْرَ وَسَائِلِ التَّقَاطُعِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَلَيْسَ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ!

تَأَثَّرَتْ هُوِيَّتُهُمْ، وَتَبَدَّلَتْ قِيَمُهُمْ فِي دَيَاجِيرِ الْأَلْعَابِ الْإِلِكْتُرونِيَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تَجُرُّهُمْ جَرًّا إِلَى سَوَاحِلِ الْمَجْهُولِ، وَإِلَى مَتَاهَاتِ الضَّيَاعِ، فَأَمْسَى شَبَابُنَا فِي وَضْعٍ خَطِيرٍ، أَمْسَى حَيْثُ لَا هَدَفَ، انْحَرَفَتْ أَهْدَافُهُمْ، وَانْجَرَفَتْ قِيَمُهُمْ.

((مَخَاطِرُ إِدْمَانِ الْأَلْعَابِ الْإِلِكْتُرُونِيَّةِ عَلَى الْأَطْفَالِ))

إِنَّ بَعْضَ الْأَلْعَابِ الْإِلِكْتُرُونِيَّةِ يُؤَدِّي إِدْمَانُهَا وَالتَّفَاعُلُ مَعَهَا إِلَى مَخَاطِرَ جَسِيمَةٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُسَبِّبُ الِانْتِحَارَ، أَوْ تَدْعُو إِلَى الْإِلْحَادِ، أَوْ تُشَجِّعُ عَلَى الْإِبَاحِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالشُّذُوذِ الْجِنْسِيِّ؛ لِذَلِكَ يَجِبُ الْإِلْمَامُ التَّامُّ بِالْمَوَاقِعِ وَالْمَوَادِّ الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا الْأَطْفَالُ؛ لِحِمَايَتِهِمْ مِنْ أَضْرَارِهَا.

مِنْ أَخْطَرِ الْقَضَايَا التَّرْبَوِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا: انْغِمَاسُ الْأَطْفَالِ فِي مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ؛ حَتَّى أَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَطْفَالِ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِرَاقَ الْهَاتِفِ وَلَوْ لِدَقَائِقَ، وَهَذِهِ الظَّاهِرَةُ لَمْ تَعُدْ مُجَرَّدَ تَسْلِيَةٍ أَوْ تَرْفِيهٍ، بَلْ تَحَوَّلَتْ لَدَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ إِلَى إِدْمَانٍ حَقِيقِيٍّ يَضُرُّ بِالدِّينِ، وَالْعَقْلِ، وَالْجَسَدِ، وَالسُّلُوكِ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.

* وَمِنْ هَذِهِ الْمَخَاطِرِ: فِقْدَانُ شُعُورِ الْأَطْفَالِ بِالْأَمَانِ، وَالدِّفْءِ الْأُسَرِيِّ، وَافْتِقَارُ الْمَهَارَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ فَإِدْمَانُ الْأَطْفَالِ تَصَفُّحَ تِلْكَ الْمَوَاضِيعِ، وَالدُّخُولَ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ يَتَسَبَّبُ فِي افْتِقَارِهِمْ فِي الْمَهَارَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يَكْتَسِبُونَهَا مِنْ خِلَالِ تَفَاعُلِهِمْ مَعَ الْآخَرِينَ، مِمَّا يَفْقِدُونَ مَعَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّوَاصُلِ الْحَقِيقِيِّ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُحِيطِينَ بِهِمْ؛ وَبِالتَّالِي عِنْدَمَا يُوضَعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي تَوَاصُلٍ حَقِيقِيٍّ مَعَ غَيْرِهِ يُصْبِحُ شَخْصِيَّةً مُنْطَوِيَةً اعْتِزَالِيَّةً انْعِزَالِيَّةً مُكْتَئِبَةً؛ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ بِكَيْفِيَّةِ التَّوَاصُلِ مَعَ النَّاسِ.

أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِغْرَاقَ فِي التَّسْلِيَةِ يَتَقَلَّصُ مَعَهُ التَّوَاصُلُ الْأُسَرِيُّ، وَالْحَدُّ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالْعَاطِفَةِ لَدَى الْأَطْفَالِ، مِمَّا يُحْدِثُ حَالَةً مِنَ التَّفَسُّخِ الْأُسَرِيِّ، وَقُوَّةِ التَّمَاسُكِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَزِيَادَةِ الْفَجْوَةِ بَيْنَ الْأَجْيَالِ نَتِيجَةَ اخْتِلَافِ نَمَطِ الِاسْتِخْدَامِ وَالتَّفْضِيلَاتِ.

* وَمِنَ الْمَخَاطِرِ: تَعَرُّضُ الْأَطْفَالِ لِعَمَلِيَّاتِ التَّنَمُّرِ الْإِلِكْتِرُونِيِّ؛ نَتِيجَةً لِلْمُحْتَوَى السَّيِّئِ الَّذِي اعْتَادَ الْأَطْفَالُ عَلَى مُشَاهَدَتِهِ أَوْ سَمَاعِهِ، فَيَتَوَلَّدُ لَدَيْهِمُ الْمَيْلُ إِلَى الْعُدْوَانِيَّةِ، وَاسْتِخْدَامِ الْعُنْفِ وَالْقُوَّةِ؛ سَوَاءٌ بِغَرَضِ التَّقْلِيدِ، أَوْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مَشَاعِرَ مُخْتَزَنَةٍ دَاخِلِيَّةٍ نَتِيجَةَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ؛ لِذَلِكَ يَجِبُ تَشْجِيعُ الْأَطْفَالِ عَلَى عَدَمِ الصَّمْتِ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِأَيِّ ضَغْطٍ أَوْ أَذًى يَلْحَقُ بِهِمْ عِنْدَ اسْتِخْدَامِهِمْ لِهَذِهِ التِّقْنِيَاتِ.

* وَمِنَ الْمَخَاطِرِ: الْمُشْكِلَاتُ الصِّحِّيَّةُ، وَشُعُورُ الْأَطْفَالِ بِالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ وَقِلَّةِ النَّوْمِ؛ مِمَّا يُؤَثِّرُ عَلَى تَحْصِيلِهِمُ الدِّرَاسِيِّ، وَضَيَاعِ مُسْتَقْبَلِهِمْ؛ لِأَنَّ إِدْمَانَ (السُّوشْيَالْ مِيديَا) يُؤَثِّرُ عَلَى ذَاكِرَةِ الطِّفْلِ، وَيُصِيبُهُ بِحَالَةٍ مِنْ تَشَتُّتِ الِانْتِبَاهِ، وَفَرْطِ الْحَرَكَةِ، وَالنِّسْيَانِ لِكُلِّ مَا يَتَعَلَّمُهُ بِسُهُولَةٍ، وَيُصَعِّبُ عَلَيْهِمُ التَّحَلِّيَ بِالْهُدُوءِ.

كَمَا أَنَّ الْأَطْفَالَ يُصْبِحُ لَدَيْهِمْ حَالَةٌ مِنَ الْكَسَلِ، فَيَصِيرُونَ غَيْرَ قَابِلِينَ لِلْحَرَكَةِ مِمَّا يُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ عَلَى صِحَّتِهِمْ وَلِيَاقَتِهِمْ حَتَّى يُصَابُوا بِزِيَادَةِ الْوَزْنِ وَالْبَدَانَةِ، وَقَدْ يَتَسَبَّبُ الْجُلُوسُ الدَّائِمُ فِي تَلَفِ خَلَايَا الْمُخِّ، وَتَحْدُثُ تَوَتُّرَاتٌ عَصَبِيَّةٌ بِالْإِفْرَازِ الْمُفْرِطِ وَالْمُتَزَايِدِ لِـ(هُرْمُونِ الْكُورْتِيزُولِ)، وَهُوَ هُرْمُونُ الْإِجْهَادِ وَالتَّعَبِ، وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ إِفْرَازِ (هُرْمُونِ الْأَدْرِينَالينِ)، وَ(النُّورَادْرِينَالَيْنْ)، فَيُوَلِّدُ ذَلِكَ سُرْعَةَ الْغَضَبِ؛ حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ ((الْهَوَسِ النَّفْسِيِّ))، كَمَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى مَا يُسَمَّى بِالْإِصَابَةِ بِالتَّعَبِ الْمُتَكَرِّرِ.

وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَعْفِ الْجِهَازِ الْمَنَاعِيِّ، وَالْإِرْهَاقِ الْبَصَرِيِّ، وَآلَامِ الظَّهْرِ وَالرَّقَبَةِ، وَإِعَاقَةِ عَمَلِيَّاتِ نُضْجِ الدِّمَاغِ، وَقَدْ تُسْهِمُ فِي ضَعْفِ الذَّكَاءِ اللَّفْظِيِّ لَدَى هَؤُلَاءِ الْأَطْفَالِ، وَمِنَ الْإِصَابَةِ بِالصُّدَاعِ الْمُسْتَمِرِّ، وَرُكُودِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ مِمَّا يُسَبِّبُ حُدُوثَ جَلْطَاتٍ دِمَاغِيَّةٍ وَقَلْبِيَّةٍ، وَضَعْفٍ فِي أَدَاءِ الْأَجْهِزَةِ الْحَيَوِيَّةِ بِالْجِسْمِ.

* وَمِنَ الْمَخَاطِرِ: الْمُشْكِلَاتُ الِاقْتِصَادِيَّةُ وَالْأَخْلَاقِيَّةُ بِإِضَاعَةِ الْمَالِ، مِمَّا يُؤَثِّرُ عَلَى مِيزَانِيَّةِ الْأُسْرَةِ، وَيُحْدِثُ خَلَلًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَدْ يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْإِفْلَاسِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِنْ كَانَ الْإِدْمَانُ عَلَى مَوَاقِعِ التَّسَوُّقِ، وَالْمُقَامَرَةِ، وَالْأَلْعَابِ.

* كَمَا أَنَّ إِدْمَانَ (السُّوشْيَالْ مِيديَا) يُعَرِّضُ الْأَطْفَالَ لِمُحْتَوَيَاتٍ غَيْرِ أَخْلَاقِيَّةٍ، أَوْ مُنَافِيَةٍ لِلتَّعَالِيمِ الدِّينِيَّةِ، وَغَالِبًا مَا يَلْجَئُونَ إِلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى لِكَثِيرٍ مِنَ السُّلُوكِيَّاتِ غَيْرِ اللَّائِقَةِ دِينِيًّا وَمُجْتَمَعِيًّا، وَيُنَمِّي -أَيْضًا- فِي الْأَطْفَالِ التَّهَرُّبَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالطَّاعَاتِ نَتِيجَةَ الِانْشِغَالِ الْمُسْتَمِرِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَرْسِ رُوحِ الْمَسْؤُولِيَّةِ فِي الطِّفْلِ.

* وَمِنَ الْمَخَاطِرِ: ضَيَاعُ الْهُوِيَّةِ الثَّقَافِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَاسْتِبْدَالُهَا بِالْهُوِيَّةِ الْعَالَمِيَّةِ، فَمَعَ ظُهُورِ الْعَوْلَمَةِ الثَّقَافِيَّةِ تَرَاجَعَ اسْتِخْدَامُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى لِصَالِحِ الْعَامِّيَّةِ؛ حَيْثُ أَضْحَى اسْتِخْدَامُ مَزِيدٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَرْقَامِ اللَّاتِينِيَّةِ بَدَلَ الْحُرُوفِ الْعَرَبِيَّةِ؛ خَاصَّةً عَلَى شَبَكَاتِ (السُّوشْيَالْ مِيديَا)، فَتَحَوَّلَتْ حُرُوفُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَى رُمُوزٍ وَأَرْقَامٍ، فَصَارَتِ الْحَاءُ رَقْمَ سَبْعَةٍ، وَالْعَيْنُ رَقْمَ ثَلَاثَةٍ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ عَلَى الِانْتِمَاءِ الْأُسَرِيِّ، ثُمَّ الِانْتِمَاءِ الْعَرَبِيِّ.

 

((وَسَائِلُ عِلَاجِ إِدْمَانِ الْأَطْفَالِ

لِلْأَلْعَابِ الْإِلِكْتُرُونِيَّةِ وَالسُّوشْيَال مِيديَا))

إِنَّ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْآبَاءِ أَنْ يُرَبُّوا أَطْفَالَهُمْ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، وَالِابْتِعَادِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْعَابِ، وَشَغْلِ أَوْقَاتِهِمْ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ.

إِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى صِحَّةِ الْأَطْفَالِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ هَذَا الْإِدْمَانِ يَكُونُ بِالْوَعْيِ، وَبِإِدْرَاكِ مَقَاصِدِ هَذَا الْإِدْمَانِ، وَبِالضَّبْطِ الذَّاتِيِّ، وَكُلَّمَا زَادَ وَعْيُ الْآبَاءِ زَادَتْ قُدْرَتُهُمْ عَلَى الصُّمُودِ، وَالتَّصَدِّي لِلْمَخَاطِرِ الْفِكْرِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ (السُّوشْيَالْ مِيديَا) لَيْسَتْ عَدُوًّا، إِنَّمَا هِيَ سِلَاحٌ ذُو حَدَّيْنِ يَنْبَغِي اسْتِخْدَامُهَا فِيمَا يَنْفَعُ، وَإِلَّا سَيُضَيعُ أَطْفَالُنَا فِي غِيَابَاتِ الْمَتَاهَاتِ، وَيُصْبِحُونَ عَبِيدًا لَهَا تَتَحَكَّمُ فِيهِمْ بَدَلَ أَنْ يَتَحَكَّمُوا فِيهَا.

إِنَّ طَرِيقَ الْعَافِيَةِ مِنْ هَذَا الْإِدْمَانِ لِلْأَطْفَالِ يَبْدَأُ مِنَ الْوَعْيِ؛ حَيْثُ يُعِيدُ لِلْإِنْسَانِ ذَاتَهُ، وَيُرَبِّي أَطْفَالَهُ عَلَى التَّوْعِيَةِ بِمَخَاطِرِ اسْتِخْدَامِ (السُّوشْيَالْ مِيديَا) بِشَكْلٍ مُفْرِطٍ، وَبِهَذَا نَنْتَقِلُ مِنْ مُسْتَنْقَعِ الْإِدْمَانِ إِلَى حَالَةٍ مِنَ الْهُدُوءِ وَالسَّكِينَةِ، وَنُحْكِمُ السَّيْطَرَةَ عَلَى وَسَائِلِ التِّكْنُولُوجْيَا الْحَدِيثَةِ.

قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ((أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ؟)).

قَالَ: ((اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

* بَلْ مِنْ وَسَائِلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَبْنَائِنَا وَأَطْفَالِنَا مِنْ هَذِهِ الْمَخَاطِرِ مِنْ ذَلِكَ: الِاسْتِعَانَةُ بِالْأَطِبَّاءِ النَّفْسِيِّينَ، انْظُرْ إِلَى أَيِّ دَرَجَةٍ وَصَلْنَا!! إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ السَّيْطَرَةَ عَلَى اسْتِخْدَامِ (السُّوشْيَالْ مِيديَا) كَمَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَالْأَلْعَابِ الْإِلِكْتِرُونِيَّةِ مَعَ ظُهُورِ عَلَامَاتٍ خَطِيرَةٍ عَلَى الطِّفْلِ؛ كَتَشَتُّتِ الِانْتِبَاهِ، وَصُعُوبَاتِ التَّعَلُّمِ؛ حِينَئِذٍ يَجِبُ الذَّهَابُ لِلطَّبِيبِ النَّفْسِيِّ لِإِبْدَاءِ النَّصَائِحِ، وَتَقْدِيمِ يَدِ الْعَوْنِ، وَالْبَدْءِ فِي عِلَاجِ هَذَا الْمَرَضِ بِشَكْلٍ عَمَلِيٍّ وَعِلْمِيٍّ، قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}؛ وَإِلَّا فَالتَّقَاعُسُ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْإِثْمَ عَلَى الْآبَاءِ، وَيَجْنُونَ مِنْ وَرَائِهِ الْخَيْبَةَ وَالتَّعَاسَةَ، وَمِنْ ثَمَّ النَّدَمَ عَلَى مَا فَرَّطُوا.

* مِنَ الْمُهِمِّ وَضْعُ بَرَامِجَ مُحَدَّدَةٍ حَوْلَ اسْتِخْدَامِ (السُّوشْيَالْ مِيديَا) بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ عُمْرَ وَوَعْيِ الْأَطْفَالِ، وَالطِّفْلُ الَّذِي يُنَظِّمُ وَقْتَهُ، وَيُحَدِّدُ هَدَفَهُ، وَيُرَتِّبُ أَوْلَوِيَّاتِهِ يُصْبِحُ أَكْثَرَ إِنْجَازًا مِنْ غَيْرِهِ، وَيُصْبِحُ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْفِيقِ وَالسَّدَادِ.

* يَجِبُ تَشْجِيعُ الْأَطْفَالِ عَلَى الِانْخِرَاطِ فِي الْمُسَابَقَاتِ وَالْفَعَالِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمُمَارَسَةِ الْأَنْشِطَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ؛ كَمُمَارَسَةِ الرِّيَاضَةِ، أَوْ تَعَلُّمِ مَهَارَاتٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ تَخْصِيصِ وَقْتٍ لِلْقِرَاءَةِ فِي أُمُورٍ نَافِعَةٍ.

هَذِهِ الْأَنْشِطَةُ الْبَدِيلَةُ تُسَاعِدُهُمْ فِي تَوْجِيهِ طَاقَاتِهِمْ نَحْوَ مَا يَنْفَعُهُمْ عِوَضًا عَنِ السَّاعَاتِ الطَّوِيلَةِ الْمُهْدَرَةِ الَّتِي يَقْضُونَهَا عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِعِ.

* مَعَ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْحِوَارِ الْمُسْتَمِرِّ مَعَ الْأَطْفَالِ؛ فَمِنْ وَسَائِلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَطْفَالَهُمْ يُرَاقِبُونَ سُلُوكَهُمْ دُونَ أَنْ يَشْعُرُوا؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ مِثَالًا يُحْتَذَى بِهِ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ تِلْكَ الْوَسَائِلِ بِشَكْلٍ آمِنٍ مُعْتَدِلٍ، مَعَ تَجَنُّبِ اسْتِخْدَامِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْعَائِلِيَّةِ الَّتِي يَجْلِسُونَ فِيهَا سَوِيًّا.

* كَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْكَامُ الْمُرَاقَبَةِ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ الْأَطْفَالُ؛ حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ عَلَى شَخْصِيَّتِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ، مَعَ الْإِنْصَاتِ الْجَيِّدِ وَالْحِوَارِ الدَّائِمِ مَعَهُمْ حَوْلَ مَا يُشَاهِدُونَهُ وَمَا يَدُورُ فِي أَذْهَانِهِمْ؛ لِاكْتِشَافِ أَيِّ خَلَلٍ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّرَ، وَيَصْعُبَ السَّيْطَرَةُ عَلَيْهِ، وَالْحِوَارُ الْمَفْتُوحُ مَعَ طِفْلِكَ يُسَاعِدُهُ عَلَى تَقْوِيَةِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَيَشْعُرُ حِينَئِذٍ بِالْأَمَانِ، وَيُحَصِّلُ الِاسْتِقْرَارَ النَّفْسِيَّ.

أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحْفَظَنَا، وَأَنْ يَحْفَظَ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَ الْمُسْلِمِينَ.

وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: مَظَاهِرُ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالطُّفُولَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ
  عيد الفطر لعام 1436هـ .. خوارج العصر
  الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة
  الْقُوَّةُ وَالثَّبَاتُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ
  الْقُدْسُ عَرَبِيَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَسَتَظَلُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى...
  الْأَمَلُ حَيَاةٌ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ
  مظاهر التوحيد في عبادة الحج
  عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالزَّمَنِ وَحَدِيثُهُ عَنِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان