أَكْلُ الْحَلَالِ

أَكْلُ الْحَلَالِ

((أَكْلُ الْحَلَالِ))

تأليف فضيلة الشيخ:

أبي عبد الله محمد بن سعيد رسلان -حفظه الله-

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَكْلُ الْحَلَالِ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْإِسْلَامِ))

فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!!)).

هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ الصَّحِيحُ يُرَكِّزُ عَلَى أَصْلٍ خَطِيرٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ ((أَكْلُ الْحَلَالِ))، وَيُحَذِّرُ مِنْ خُطُورَةِ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَيَجْعَلُ الرَّبْطَ مُبَاشِرًا بَيْنَ أَكْلِ الْحَلالِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ أَعْظَمَ قَوَاطِعِ الدُّعَاءِ وَمَوَانِعِهِ هُوَ: أَكْلُ الْحَرَامِ.

فِي الْأَثَرِ: ((أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَرَّ بِرَجُلٍ قَائِمٍ يَدْعُو اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، يَمُدُّ يَدَيْهِ، يُلْحِفُ فِي الدُّعَاءِ وَيُلِحُّ فِيهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ زَمَانًا طَوِيلًا، فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ: أَمَا اسْتَجَبْتَ لَهُ يَا رَبِّ؟)).

فَأَوْحَى اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «إِنَّ هَذَا لَوْ تَلَفَتْ نَفْسُهُ فِي الدُّعَاءِ، وَمَدَّ يَدَيْهِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ».

فَقَالَ: ((وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَبِّ؟!!)).

قَالَ: «إِنَّ فِي بَطْنِهِ الْحَرَامَ، وَعَلَى ظَهْرِهِ وَفِي بَيْتِهِ الحَرَامُ».

يَقُولُ النَّبِيُّ : «أَيُّهَا النَّاسُ!».

فَهِيَ قَضِيَّةُ عَامَّةٌ لَا تَتَوقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ قَوْمٍ يَدِينُونَ بِدِينٍ بِذَاتِهِ، فَلَمْ يَتَوجَّهِ الْخِطَابُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا جَاءَ عَلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا»، طَيِّبٌ فِي ذَاتِهِ، طَيِّبٌ فِي صِفَاتِهِ، طَيِّبٌ فِي أَفْعَالِهِ، لا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، طَيِّبًا فِي وَصْفِهِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ طَيِّبٌ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، مَوصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ؛ «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا».

قَسَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْبِلَادَ إِلَى طَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، وَلَا ثَالِثَ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]؛ فَالْبِلَادُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ.

وَالنَّاسُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} {النور: 26].

فَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى قِسْمَينِ: طَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، طَيِّبُونَ وَطَيِّبَاتٌ، وَخَبِيثُونَ وَخَبِيثَاتٌ.

وَقَسَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْكَلَامَ قِسْمَيْنِ؛ فَطَيِّبٌ وَخَبِيثٌ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 24-27].

فَالْكَلَامُ قِسْمَانِ: طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ، كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ، وَكَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ.

وَالرَّسُولُ ﷺ فِي وَصْفِهِ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

فَالنَّبِيُّ ﷺ: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ..}.

وَالمُؤْمِنُونَ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ طَيِّبُونَ؛ فَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ طَيِّبُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلَ السَّلَامَ عَلَيهِمْ بِالطَّيِّبِ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73].

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الرُّوحَ الَّتِي تُكْتَبُ لَهَا الجَنَّةُ، وَتُنَجَّى مِنَ النَّارِ مَوْصُوفَةً بِالطَّيِّبِ أَيْضًا، تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَهَا: «أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ! كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ».

وَالْعَبْدُ إِذَا زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللهِ؛ قَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: «طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا».

«إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ»؛ فَلَا فَارِقَ.

فَهَذَا الْأَمْرُ عَامٌّ شَامِلٌ بِلَا فَوَارِقَ، أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}.

وَانْظُرْ إِلَى التَّتَابُعِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي نَظْمِ الْآيَةِ؛ إِذْ رَتَّبَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ؛ فَلَا يُعِينُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِثْلُ أَكْلِ الْحَلَالِ، {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}.

وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّبِيُّ : «الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ!».

فأَتَى بِأُمُورٍ هِيَ مِنْ دَوَاعِي الْإِجَابَةِ -إِجَابَةِ الدُّعَاءِ-؛ بِحَيْثُ إِذَا مَا اسْتَكْمَلَهَا الْمَرْءُ اسْتَجَابَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دُعَاءَهُ.

((يُطِيلُ السَّفَرَ))؛ وَمِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ أَنَّهُمْ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْمُسَافِرُ حَتَّى يَؤُوبَ، الْمُسَافِرُ حَتَّى يَعُودَ.

فَهَذَا: «يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ»؛ عَلَى هَيْئَةٍ فِيهَا اتِّضَاعٌ لِعِزَّةِ اللهِ، وَفِيهَا مَذَلَّةٌ لِجَنَابِ اللهِ.

وَفِي حَدِيثِ مُبَاهَاةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْحَجِيجِ عَلَى صَعِيدِ عَرَفَاتٍ؛ إِذْ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: «انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ شُعْثًا غُبْرًا».

«أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ»، وَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ».

فَهَذَا «يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ!»، وَهُوَ أَمْرٌ مِنْ دَوَاعِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ إِذْ يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، «يَا رَبِّ، يَا رَبِّ!»، يُكَرِّرُهَا، يَتَذَلَّلُ بِهَا إِلَى اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ وَلَكِنْ يَأْتِي قَاطِعٌ عَظِيمٌ مِنْ قَوَاطِعِ الدُّعَاءِ، يَقُولُ النَّبِيُّ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ مِنْ إِتْيَانِهِ بِدَوَاعِي الْإِجَابَةِ -إِجَابَةِ الدُّعَاءِ- بِمَا أَتَى بِهِ مِمَّا يَفْتَحُ لَهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِلَا إِغْلَاقٍ وَلَا مُوَارَبَةٍ، وَبِلَا تَرَيُّثٍ وَلَا بُطْءٍ، وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ الرَّسُولُ فِي وَصْفِهِ: «وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى -فَكَيْفَ- يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!!».

أَكْلُ الْحَرَامِ يُثْمِرُ هَذَا الثَّمَرَ الْخَبِيثَ؛ وَهُوَ قَطْعُ الدُّعَاءِ، فَلَا اسْتِجَابَةَ، وَلَوْ ظَلَّ يَدْعُو حَتَّى تَفْنَى نَفْسُهُ فِي الدُّعَاءِ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَلَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى السَّحَابِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ وَهُوَ يَأْكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، فِي بَطْنِهِ الْحَرَامُ، وَعَلى ظَهْرِهِ الْحَرَامُ، يُكْسَى مِنَ الْحَرَامِ، وَفِي بَيْتِهِ الْحَرَامُ؛ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ.

أَكْلُ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا آخَرَ خَبِيثًا مُرًّا؛ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ))، «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

وَإِذَا الْتَفَتَّ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ فِي آخِرِ مَا وَصَفَ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ بِصِفَتِهِ: «مَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ»، «غُذِيَ»: مَبْنِيٌّ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ؛ فَهُوَ يُغَذَّى، يَقُومُ غَيْرُهُ بِتَغْذِيَتِهِ.

إِذَنْ؛ هُوَ كَانَ يَرْضَعُ لَبَنًا حَرَامًا، وَيَأْكُلُ  فِي بَدْءِ أَمْرِهِ طَعَامًا حَرَامًا!

وَأَزِيدُكَ مِنْ مَعِينِ قَوْلِ نَبِيِّكَ فِي خُطُورَةِ أَكْلِ الْحَرَامِ؛ تَتَخَلَّقُ النُّطْفَةُ فِي الرَّجُلِ مِنَ الْحَرَامِ، يَأْكُلُ الرَّجُلُ الْحَرَامَ، وَيَدْفَعُ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، فَتَصِيرُ بَعْدُ غِذَاءً فِي دَمِهِ، وَتَصِلُ إِلَى خَلَايَاهُ، وَتَتَخَلَّقُ النُّطْفَةُ مِنْ أَصْلٍ حَرَامٍ.

وَفِي الْمَرْأَةِ تَتَخَلَّقُ الْبُوَيْضَةُ مِنْ أَصْلٍ حَرَامٍ، فَإِذَا مَا الْتَقَتِ النُّطْفَةُ بِالْبُوَيْضَةِ كَانَ الْخَلْقُ مَبْنِيًّا عَلَى حَرَامٍ فِي حَرَامٍ، فَإِذَا مَا زُرِعَتْ فِي الرَّحِمِ غُذِّيَتْ بِالْحَرَامِ، فَإِذَا مَا اسْتَتَمَّ الْحَمْلُ فَوَضَعَتْ غُذِّيَ الْمَوْلُودُ بِاللَّبَنِ الْحَرَامِ، فَإِذَا مَا فُطِمَ غُذِيَ بِالْغِذَاءِ الْحَرَامِ؛ ((فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ .

فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((تُلِيَ عِنْدَ النَّبِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ)).

فَقَالَ: «يَا سَعْدُ! أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ وَالرِّبَى فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

فِي قَوْلِ الرَّسُولِ : «وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ» دَلَالَةٌ عَلَى مَسْؤُولِيَّةِ الْمَرْأَةِ فِي أَكْلِهَا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ، وَحِيَاطَتِهَا لِزَوْجِهَا فِي طَلَبِ الْكَسْبِ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشُّبُهَاتِ.

وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ إِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يَخْرُجَ لِكَسْبِ الرِّزْقِ فِي الصَّبَاحِ تَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ فَقَالَتْ لَهُ: ((اتَّقِ اللهَ فِينَا، وَلَا تُطْعِمْنَا إِلَّا مِنْ حَلَالٍ؛ فَإِنَّا نَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا نَصْبِرُ عَلَى حَرِّ النَّارِ)).

((الرِّزْقُ الْحَلَالُ مَكْفُولٌ وَالتَّقْوَى أَعْظَمُ سُبُلِهِ))

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُسْلِمِ حَرَجًا وَلَا ضِيقًا فِي شَيْءٍ، بَلْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّزْقَ مَكْفُولًا مُحَدَّدًا كَالْأَجَلِ، لَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْهُ نُقْصَانًا، وَلَا يَتَوَقَّعُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ زِيَادَةً إِلَّا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ؛ فَفِي «الْحِلْيَةِ» بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ -جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- نَفَثَ فِي رُوعِي)).

وَالنَّفْثُ: شَيْءٌ فَوْقَ النَّفْخِ وَدُونَ التَّفْلِ، ((إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي» يَعْنِي: فِي نَفْسِي وَفُؤَادِي وَخَاطِرِي.

«إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».

«فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»: وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ فِي الْبَلَاغِ -فِي بَلَاغِ جِبْرِيلَ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا))، لَمْ يَقُلْ: وَتَرَفَّقُوا، وَلَمْ يَقُلْ: وَتَرَيَّثُوا، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذَا اللَّفْظِ الْبَلِيغِ الْعَذْبِ الْجَمِيلِ: ((وَأَجْمِلُوا)): وَتَجَمَّلُوا، وَأْتُوا بِالْأَمْرِ لَا عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ الْمُنْضَبِطَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَمِيلٍ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الْمَرْءُ بِالْأَمْرِ فِي الطَّلَبِ عَلَى نَحْوٍ مُنْضَبِطٍ وَنَحْوٍ جَمِيلٍ مِنْ غَيْرِ مَا عَجَلَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا انْدِفَاعٍ.

«فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ أَزَلًا، كَمَا حَدَّدَ الْآجَالَ سَلَفًا، فَلَا الْأَجَلُ يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا الرِّزْقُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ حَدَّدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَلَفًا.

ثُمَّ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّقْوَى أَعْظَمَ سَبِيلٍ لِتَحْصِيلِ الْأَرْزَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَا كَانَ مَعَ الصَّالِحِينَ -رَحْمَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ وَرِضْوَانُهُ أَجْمَعِينَ-؛ فَهَذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي كَرَامَةٍ أَجْرَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ، وَفِي كَرَامَةٍ أَقَامَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ كَالْمُعْجِزَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ-.

أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ ثُوَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ كُمَّلِ وَسَادَاتِ التَّابِعِينَ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ يَوْمًا: ((يَا أَبَا مُسْلِمٍ! مَا عِنْدَنَا دَقِيقٌ -نَفَدَ الدَّقِيقُ فَلَا دَقِيقَ-؛ فَاشْتَرِ لَنَا دَقِيقًا، وَالْتَمِسْ لَنَا الدَّقِيقَ)).

فَقَالَ: ((هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟)).

فَقَالَتْ: ((نَعَمْ، هَذَا دِينَارٌ)).

فَقَالَ: ((ابْغِنِيهِ وَهَاتِ الْجِرَابَ)).

((ابْغِنِيهِ)): هَاتِيهِ، ((وَهَاتِ الْجِرَابَ)) يَعْنِي: الْإِنَاءَ الَّذِي سَيَأْتِي فِيهِ بِالدَّقِيقِ، وَخَرَجَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَذَهَبَ إِلَى بَائِعِ الدَّقِيقِ لِيَشْتَرِيَ بِالدِّينَارِ دَقِيقًا لِحَاجَةِ أَهْلِهِ وَبَيْتِهِ، فَرَآهُ مِسْكِينٌ فَتَبِعَهُ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا مُسْلِمٍ! تَصَدَّقْ عَلَيَّ))، وَذَهَبَ إِلَى حَانُوتٍ آخَرَ فَتَبِعَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا مُسْلِمٍ! تَصَدَّقْ عَلَيَّ))، فَأَخَذَ يَهْرَبُ مِنْهُ هَاهُنَا وَهُنَالِكَ حَتَّى أَمَلَّهُ الرَّجُلُ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالدِّينَارِ، وَحَمَلَ الْجِرَابَ فَارِغًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَعَادَ إِلَى الْبَيْتِ بَعْدَمَا مَرَّ عَلَى النَّجَّارِينَ فَمَلَأَ الْجِرَابَ نِشَارَةً، وَمَلَأَ الْجِرَابَ مِنْ نِجَارَةِ النَّجَّارِينَ مَعَ التُّرَابِ!

وَحَمَلَ الْجِرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ وَدَقَّ الْبَابَ، فَفَتَحَتْ أَهْلُهُ، فَأَلْقَى الْجِرَابَ هُنَالِكَ وَهُوَ مَرْعُوبٌ، ثُمَّ مَضَى مُوَلِّيًا لَا يَلْتَفِتُ، فَلَمَّا مَضَى هُوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَذْهَبُ هَاهُنَا وَهُنَالِكَ؛ عَسَى الْمَرْأَةُ أَنْ يُدْرِكَهَا بَعْضُ الْغُمْضِ، وَعَسَى أَنْ يَأْتِيَ لِلْمَرْأَةِ نُعَاسٌ فَيَأْتِي، فَإِذَا هِيَ قَدِ اكْتَحَلَتْ عَيْنَاهَا بِلَذِيذِ الْغُمْضِ فَلَا تُؤَاخِذُهُ، فَلَمَّا مَضَى هُوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ جَاءَ فَدَخَلَ فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مُتَهَلِّلَةً، فَوَضَعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ خُوَانًا عَلَيْهِ أَرْغِفَةٌ، فَقَالَ: ((مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟)).

قَالَتْ: ((هُوَ مِنَ الدَّقِيقِ الْحُوَّارَى -الَّذِي هُوَ لُبُّ الدَّقِيقِ وَفَحْوَاهُ-، هُوَ مِنَ الدَّقِيقِ الْحُوَّارَى الَّذِي جِئْتَ بِهِ فِي الْجِرَابِ)).

فَأَخَذَ يَأْكُلُ وَيَبْكِي -رَحِمَهُ اللهُ- )).

((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))

النَّبِيُّ ﷺ أَوْضَحَ بِأَجْلَى بَيَانٍ كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).

((يُوشِكُ)) أَيِ: اقْتَرَبَ ((أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ)): الْغَنَمُ: اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَعًا، وَيَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَحْدَهَا، وَعَلَى الْإِنَاثِ وَحْدَهَا.

((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ)) يَعْنِي: يَتْبَعُ بِغَنَمِهِ رُؤُوسِ الْجِبَالِ، ((وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)) يَعْنِي: مَوَاقِعَ الْمَطَرِ، بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ؛ ((يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قُرُونٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَهُوَ يَقُولُ ﷺ: ((يُوشِكُ)) يَعْنِي: اقْتَرَبَ، فَاقْتَرَبَ ذَلِكَ مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ.

النَّاسُ لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي الْحَلَالِ أَكْلًا وَفِي الْحَرَامِ تَحْصِيلًا مِنْ أَجْلِ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِصُعُوبَةِ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ، فَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ تَحْصِيلَ الْحَلَالِ أَمْرٌ عَسِيرٌ، وَأَنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَأَنَّ الْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا.

وَالنَّاسُ لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْحَدِيثَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ لِصُعُوبَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ غَرِيزَةٌ أَوْدَعَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْفِطْرَةَ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ قَائِمًا فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ إِذَا مَا عَادَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ فَاسْتَفْتَاهَا وَاسْتَفْتَى قَلْبَهُ عَلِمَ عِلْمَ الْبِرَّ وَالْإِثْمَ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

فَلَا صُعُوبَةَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ فِي فِطَرِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَالْقِطَّةُ إِذَا جَاءَتْ إِلَيْكَ وَأَنْتَ تَأْكُلُ فَأَعْطَيْتَهَا بِيَدِكَ قِطْعَةً مِنَ اللَّحْمِ أَكَلَتْهَا بِجِوَارِكَ شَاكِرَةً مُقَوَّسَةَ الظَّهْرِ تَتَمَسَّحُ بِكَ وَتَهِرُّ شَاكِرَةً.

وَإِذَا خَطَفَتْ ذَاتَ الْقِطْعَةِ مِنْ أَمَامِكَ فَإِنَّهَا لَا تَأْكُلُهَا بِجِوَارِكَ، وَإِنَّمَا تَأْخُذُهَا وَهِيَ تَجْرِي لَا تَلْوِي عَلَى شَيْءٍ وَلَا تَلْتَفِتُ.

فَكَأَنَّهَا تَعْلَمُ فِطْرَةً وَغَرِيزَةً أَنَّ مَا صَنَعَتْ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخَطَأِ وَمِنْ بَابِ مَا لَا يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ، وَهِيَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.

التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَا صُعُوبَةَ فِيهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ- يَقُولُ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)).

((وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ -أَيْ: تَرَدَّدَ- فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)).

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ.. أَخْرَجَاهُ فِي ((مُسْنَدْيِهِمَا))، وَلَهُ شَوَاهِدُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ((الْمُسْنَدِ)) -أَيْضًا-، يَرْتَقِي الْحَدِيثُ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةِ الْحُسْنِ، فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، حَدِيثُ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَأَنَا أُرِيدُ لَا أَدَعُ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ)).

هَذَا أَمْرٌ بَيَّتَهُ فِي نَفْسِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ.

قَالَ: ((جَعَلْتُ أَتَخَطَّى)).

فَقَالُوا: ((إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ)).

فَقُلْتُ: ((دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ)).

فَقَالَ: ((ادْنُ يَا وَابِصَةُ)).

((فَدَنَوْتُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتِهِ)).

فَقَالَ: ((يَا وَابِصَةُ! أُخْبِرُكَ عَمَّا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ؟)).

فَقُلْتُ: ((أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ)).

قَالَ: ((جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي وَيَقُولُ: ((يَا وَابِصَةُ! اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)).

((الْبِرُّ مَا اطْمَئَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا تَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)).

النَّبِيُّ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ- يَقُولُ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ)).

((بَيِّنٌ)) يَعْنِي: وَاضِحٌ بِذَاتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لِحُرْمَةِ عَيْنِهِ أَمْ كَانَ لِحُرْمَةِ صِفَتِهِ.. سَوَاءٌ كَانَ لِحُرْمَةِ ذَاتِهِ؛ كَالْبَوْلِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَكَالْخَمْرِ، أَمْ كَانَ حَرَامًا لِصِفَةٍ تَلْحَقُ بِهِ؛ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَأَكْلِ الرِّبَى، وَالرِّشَى وَمَا أَشْبَهَ.

((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).

حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) يُبَيِّنُ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ أَلَّا صُعُوبَةَ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ الْمُطْلَقِ وَالْحَرَامِ الْمُطْلَقِ.

وَأَمَّا مَا وَقَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَنْطِقَتَيْنِ فَأَمْرٌ آخَرُ، الْمُشْتَبِهَاتُ الَّتِي تَأْتِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرًا بَعْدَ حِينٍ -بِحَوْلِ اللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَبِمَشِيئَتِهِ- هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتُ أَمْرٌ آخَرُ، وَمَعَ ذَلِكَ وَضَعَ لَهَا الرَّسُولُ ﷺ ضَابِطًا فِي التَّعَامُلِ مَعَهَا، وَفِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا.

الْحَاصِلُ؛ أَنَّ الْحَلَالَ لَا صُعُوبَةَ فِي تَمْيِيزِهِ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَنَّ النَّفْسَ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ الَّذِي مَرَّ، ((فَاسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ)) يَعْنِي: لَوْ أَنَّكَ أَتَيْتَ بِصِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ اسْتِفْتَاءً، فَعَرَضْتَ عَلَى الْمُفْتِي أَوْ عَرَضْتَ عَلَى الْعَالِمِ أَمْرًا وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا وَرَاءَ هَذَا الْأَمْرِ مِنَ الْخِدَاعِ فِيهِ وَالتَّدْلِيسِ، فَقَالَ: حَلَالٌ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَطْمَئِنُّ لِذَلِكَ وَالنَّفْسُ لَا تَطْمَئِنُّ بِهِ، وَلَا يَجْعَلُهُ هَذَا الْإِفْتَاءُ الَّذِي مَرَّ وَهَذِهِ الْفَتْوَى الَّتِي سَلَفَتْ.. لَا يَجْعَلُهُ ذَلِكَ حَلَالًا وَأَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ.

النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ.

النَّاسُ لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ لِصُعُوبَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ، وَلَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّرْعُ الْحَكِيمُ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ الْمَمَاتِ، وَفِي الْقِيَامَةِ مِنْ بَعْدِ الْبَعْثِ، وَفِي النَّارِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحِسَابِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، فَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- تَوَعَّدَ مَنْ يَأْكُلُونَ الرِّبَى أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعَاتٍ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278-279].

فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} مَذْهَبَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ:

يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ قَرْيَةً مِنَ الْقُرَى أَصَرَّتْ عَلَى أَكْلِ الرِّبَى، وَنَهَاهَا الْإِمَامُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ تَنْتَهِي فَإِنَّ الْإِمَامَ يُحَارِبُ تِلْكَ الْقَرْيَةَ حَرْبًا حَقِيقِيَّةً حَتَّى يَحْمِلَهَا عَلَى أَمْرِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.

وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ فِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا الَّذِي مَرَّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرْبَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى آكِلِ الرِّبَى تَكُونُ حَرْبًا بِنَزْعِ الْبَرَكَةِ، وَتَكُونُ حَرْبًا بِوَضْعِ الْمُشَاحَنَاتِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَتَكُونُ حَرْبًا بِالْقَلَقِ وَالْمَخَافَةِ وَالِاضْطِرَابِ، تَكُونُ حَرْبًا بِالْعُسْرِ وَفَقْدِ الْيُسْرِ، وَتَكُونُ حَرْبًا بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَنَتِ وَكَثِيرٍ مِنَ الشِّقَاقِ وَضَرْبِ وُجُوهِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمُخَالَفَةِ وُجُوهِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، كُلُّ ذَلِكَ أَعَمُّ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}.

هَذَا فِي الدُّنْيَا.

وَأَمَّا فِي الْقَبْرِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ: ((رَأَى الرَّجُلَ السَّابِحَ فِي نَهْرِ الدَّمِ، وَرَأَى رَجُلًا وَاقِفًا عَلَى شَاطِئِ هَذَا النَّهْرِ بِيَدِهِ حِجَارَةٌ، فَيَسْبَحُ السَّابِحُ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَأْتِي فَاغِرًا فَاهُ -فَاتِحًا فَمَهُ- فَيُلْقِمُهُ الْوَاقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ حَجَرًا، فَيَدُورُ فِي نَهْرِ الدَّمِ مَا شَاءَ أَنْ يَدُورَ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْوَاقِفِ فَيُلْقِمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَرًا)).

فَهَذَا عَذَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ آكِلَ الرِّبَى يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ)).

مَصْرُوعًا يُصْرَعُ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَابٌ فِي النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَأَيْضًا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ رَأَى رَجُلًا يَدُورُ فِي نَهْرٍ ثُمَّ يَأْتِي إِلَى رَجُلٍ يُلْقِمُهُ حَجَرًا مِنْ نَارٍ، فَيَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ، ثُمَّ يَذْهَبُ ثُمَّ يَجِيءُ فَيُلْقَمُ حَجَرًا آخَرَ، فَلَمَّا سَأَلَ: مَا هَذَا؟

قَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ((إِنَّهُ الَّذِي يَأْكُلُ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)).

فَهَذَا عِقَابُهُ.

وَأَمَّا الَّذِي يَغْتَصِبُ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

إِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِطِينِ مَا أَخَذَ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ فَيُجْعَلَ حَوْلَ عُنُقِهِ طَوْقًا -كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ-، وَإِمَّا بِأَنْ يُخْسَفَ بِهِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ طَوْقًا لِعُنُقِهِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَأَيْضًا الَّذِي يَغُلُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ، وَالَّذِي يَأْخُذُ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، الَّذِي يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مَالٌ عَامٌّ، مَنْ أَخَذَ مِنْهُ كَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ؛ فَهُوَ غَالٌّ يَأْتِي بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

الَّذِي غَلَّ الشَّمْلَةَ -كَالتَّلْفِيعَةِ- كَأَنَّمَا أَخَذَ عَبَاءَةً مِمَّا يُلْتَحَفُ بِهِ، هَذَا الَّذِي أَخَذَ الشَّمْلَةَ مِمَّا يُشْتَمَلُ بِهِ يَقُولُ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ -وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ-: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا)).

فَهَذَا عَذَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ.

وَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْتِي بِمَا غَلَّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ غَلَّ شَاةً فَيَأْتِي بِشَاتِهِ عَلَى رَأْسِهِ عَلَى كَتِفِهِ لَهَا ثُغَاءٌ فِي الْمَوْقِفِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ غَلَّ جَمَلًا أَتَى بِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ لَهُ رُغَاءٌ فِي الْمَوْقِفِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ غَلَّ شَيْئًا مِنَ الْخَيْلِ أَتَى بِهَا عَلَى كَتِفَيْهِ وَلَهَا صَهِيلٌ فِي الْمَوْقِفِ.

كُلُّ ذَلِكَ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

النَّاسُ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي مَوْضُوعِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ، لَا لِصُعُوبَةِ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ مَعْرِفَةً لَدَيْهِمْ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ صُعُوبَةَ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ، وَلَا لِصُعُوبَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ، جَعَلَهُ اللهُ فِطْرَةً فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَغَرِيزَةً جُبِلَ عَلَيْهَا الْبَشَرُ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؛ سَوَاءٌ لِلنَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ أَمْ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

وَالنَّاسُ لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَكْلًا وَتَحْصِيلًا، وَالْكَلَامَ حَوْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ عُقُوبَةَ مَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ عُقُوبَةً مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا.

إذن؛ مَا الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْحَدِيثَ فِي أَمْرِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؟!!

الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))، يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي فِيهِ الْمَرْءُ أَمِنْ حَلَالٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)).

إِذَنِ؛ السَّبَبُ هُوَ الِاسْتِهْتَارُ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ.

فَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ، وَعَدَمُ أَخْذِ الْأَمْرِ بِجِدٍّ كَمَا هُوَ شَأْنُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَأْنُ الصَّالِحِينَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.. هَذِهِ اللَّامُبَالَاةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَفِتِينَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ كَأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.

النَّبِيُّ ﷺ وَضَّحَ لَنَا أَقْسَامَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَالَ -كَمَّا مَرَّ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ-: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ -وَاضِحٌ بِذَاتِهِ لَا يَشْتَبِهُ-، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ -وَاضِحٌ بِذَاتِهِ لَا يَشْتَبِهُ-، وَبَيْنَهُمَا -أَيْ: بَيْنَ الْحَرَامِ الْمُطْلَقِ وَالْحَلَالِ الْمُطْلَقِ- أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ))؛ لَيْسَتْ بِمُشْتَبِهَاتٍ فِي ذَاتِهَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا أَخْبَرَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَقَدْ تَرَكَ لَنَا مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ عِلْمًا)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ نَزَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَدَعْ أَمْرًا مُلْتَبِسًا بِذَاتِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا مُشْتَبِهٌ هَذَا الْأَمْرُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْحَلَالِ الْمُطْلَقِ وَالْحَرَامِ الْمُطْلَقِ.. هُوَ مُشْتَبِهٌ لَا بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَبِهٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْتَ بِهِ عِلْمًا، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمَهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))، وَلَكِنْ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُهَا.

هَذِهِ الْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ يَعْلَمُهَا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، هَذَا مَفْهُومُ هَذَا الْمَنْطُوقِ، ((وَبَيْنَهُمَا)) أَيْ: بَيْنَ الْحَلَالِ الْمُطْلَقِ الْبَيِّنِ وَالْحَرَامِ الْمُطْلَقِ الْبَيِّنِ، بَيْنَ الْحَلَالِ الْمُطْلَقِ وَالْحَرَامِ الْمُطْلَقِ أُمُورٌ وَقَعَتْ فِي مَنْطَقَةِ الظِّلِّ، فَهِيَ لَا إِلَى الْحَلَالِ، وَلَا إِلَى الْحَرَامِ، كَمَا يَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-: ((اخْتَلَطَ فِيهَا الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ)).

فَهَذَا قَوْلٌ مِنْ قَوْلَيْهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي تَفْسِيرِ وَشَرْحِ الْمُتَشَابِهِ، الْأَمْرُ الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَى الْإِنْسَانِ فَاخْتَلَطَ لَا يُمَيِّزُهُ، أَوِ الْأَمْرُ الَّذِي اخْتَلَطَ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ تَمْيِيزَهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُشْتَبِهُ الَّذِي ذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ، يَقُولُ: ((وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))، وَلَكِنْ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُهُنَّ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ.

وَإِذَنْ؛ فَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً بِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْتَ بِهَا عِلْمًا، وَأَمَّا مَنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عِلْمًا فَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً عَلَيْهِ.

فَعَلَى مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرٌ أَنْ يَكِلَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْعِلْمِ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ إِمَّا إِلَى الْحَلَالِ، وَإِمَّا إِلَى الْحَرَامِ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ -إِنَّ مَنْ تَرَكَ هَذَا الْمُتَشَابِهَ، مَنِ اجْتَنَبَ هَذَا الْمُتَشَابِهَ، مَنْ بَعُدَ عَنْ هَذَا الْمُتَشَابِهِ-؛ اسْتَبْرَأَ -أَيْ: طَلَبَ الْبَرَاءَةَ- لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)).

الْعِرْضُ: هُوَ مَوْطِنُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ مَالَهُ وَأَنْ يُضَحِّيَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَظَلَّ عِرْضُهُ مَوْفُورًا، بِحَيْثُ لَا يَقْدَحُ فِيهِ قَادِحٌ، وَلَا يَذُمُّ فِي عِرْضِهِ ذَامٌ؛ لِأَنَّ الْعِرْضَ هُوَ مَوْطِنُ الْمَدْحِ والذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ -مَنِ ابْتَعَدَ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَحَادَ عَنْهَا-؛ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)).

فَجَعَلَ الْبَرَاءَةَ بِطَلَبِهَا لِلْعِرْضِ كَالْبَرَاءَةِ بِطَلَبِهَا لِلدِّينِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ((فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)).

إِذَنْ؛ مَنْ وَاقَعَ هَذِهِ الْمِنْطَقَةَ الَّتِي تَكُونُ فِي الظِّلِّ بَيْنَ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ وَالْحَرَامِ الْبَيِّنِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ لَا مَحَالَةَ.

ثُمَّ ضَرَبَ لَنَا مِثَالًا ﷺ؛ لِلْمَلِكَ أَنْ يَحْمِيَ أَرْضًا بِحَيْثُ لَا يَطَؤُهَا أَحَدٌ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ، لِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلدَّوْلَةِ، فَيَجْعَلُ هَذَا الْحِمَى الْمَحْمِيَّ قَائِمًا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَعُودُ عَائِدَتُهَا بِفَائِدَتِهَا عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا هُوَ الْحِمَى، مَا يَحْمِيهِ الرَّجُلُ بِسُلْطَانِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا بِفَائِدَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَضْرِبُ النَّبِيُّ ﷺ الْمِثَالَ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى))؛ حَوْلَ الْمَنْطَقَةِ الْمَحْمِيَّةِ، كَثِيرٌ عُشْبُهَا، عَظِيمٌ كَلَأُهَا، وَالنَّاسُ -كَمَا تَعْلَمُونَ- فِي حَدِيثِ الْمَأْمُونِ ﷺ شُرَكَاءُ فِي الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ، النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي النَّارِ وَالْمَاءِ وَالْكَلَأِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ كَلَأً إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا بِفَائِدَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِصُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى -مَعَهُ إِبِلُهُ، وَمَعَهُ غَنَمُهُ، وَمَعَهُ مَا شِئْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ هُوَ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى- يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، -لَا بُدَّ مَعَ عَظِيمِ التَّحَرِّي، وَمَعَ عَظِيمِ التَّحَوُّطِ أَنْ يَنِدَّ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْبَهَائِمِ الَّتِي يَرْعَى حَتَّى تَقَعَ فِي الْحِمَى الْمَحْمِيِّ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاقِعَهُ لَا مَحَالَةً، كَذَلِكَ الشَّأْنُ فِيمَنْ يَتَوَرَّطُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ هُوَ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ لَنَا حِمًى يَحْمِي بِهِ الْمَحَارِمَ- أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)).

جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْمَحَارِمِ حِمًى مَحْمِيًّا، وَلِذَلِكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَجِدُ الْأَمْرَ فِيهَا بِالْبُعْدِ عَنِ الْفَاحِشَةِ مُبَاشِرًا فِي مُنْتَهَاهُ فِي قِمَّتِهِ: ((لَا تَزْنِ))، هَكَذَا فِي النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي مُنْتَهَاهُ، وَأَمَّا عِنْدَنَا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، فَحَرَّمَ النَّظْرَةَ، وَحَرَّمَ اللَّمْسَةَ، وَحَرَّمَ الْمُخَالَطَةَ، وَحَرَّمَ اخْتِلَاطَ الْأَنْفَاسِ، وَحَرَّمَ الْخَلْوَةَ، وَحَرَّمَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، كَمَا حَرَّمَ الْقُبْلَةَ عَلَى الشَّابِّ الْعَظِيمِ الشَّهْوَةِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَفْسَدَ صَوْمُهُ، وَأَبَاحَ ذَلِكَ لِلشَّيْخِ الَّذِي لَا يُخْشَى عَلَيْهِ، وَكَمَا مَنَعَ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ لِمَنْ تَعْظُمُ شَهْوَتُهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ يُخْشَى عَلَى صَوْمِهِ مِنْ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ فَلَا -يَعْنِي: فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ-.

وَلِذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَحْمَةً بِنَا، وَلَا يَدَعُنَا مُقْتَرِبِينَ مِنَ الْمَنْطَقَةِ الَّتِي لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعُودَ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الَّذِي يَرُوحُ وَلَا يَعُودُ، لَا يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَقْدَامَنَا مُنْزَلِقَةً -هَكَذَا- إِلَى الْمُنْحَدَرِ بِحَيْثُ لَا نَعُودُ.

ثُمَّ يَأْمُرُنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَنْ نَبْتَعِدَ عَمَّا أَصْبَحْنَا مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، بِحَيْثُ لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعُودَ، وَإِنَّمَا يَحْمِي رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هَذِهِ الْمَحَارِمَ بِسِيَاجِهَا {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}، {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}.

فَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حُدُودًا لِمَحَارِمِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ -هَكَذَا- صَرِيحًا بِعَدَمِ الْقُرْبَانِ مِنْ تِلْكَ الْحُدُودِ، لَمْ يَأْمُرِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَاهُنَا بِعَدَمِ مُوَاقَعَةِ وَغِشْيَانِ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّ، وَإِنَّمَا جَعَلَ حُدُودًا نَهَى عَنِ الْقُرْبِ مِنْهَا، وَنَهَى عَنِ التَّعَدِّي بِالْوُقُوعِ إِلَيْهَا مُقْتَرِبِينَ، {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}، {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}.

الرَّسُولُ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ الَّذِي مَرَّ- يُخْبِرُ: ((أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)).

ثُمَّ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ بِبَيَانِ الْأَصْلِ الَّذِي يَعُودُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ: ((أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ)).

فَبَيَّنَ الْمَأْمُونُ ﷺ هَاهُنَا أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، بَيَّنَ أَنَّ صَلَاحَ الظَّاهِرِ إِنَّمَا هُوَ فَرْعٌ عَنْ صَلَاحِ الْبَاطِنِ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ فَيَصْلُحُ الْجَسَدُ إِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ، فَصَلَاحُ الظَّاهِرِ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْعًا عَنْ صَلَاحِ الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الْأَصْلُ، وَمَا يَتَأَتَّى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحٍ عَلَى الظَّاهِرِ عَلَى الْجَوَارِحِ إِنَّمَا هُوَ كَالظِّلِّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ، لَا يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ، فَإِذَا اسْتَقَامَ الْقَلْبُ اسْتَقَامَتِ الْجَوَارِحُ، وَإِذَا اعْوَجَّ الْقَلْبُ اعْوَجَّتِ الْجَوَارِحُ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً))؛ قِطْعَةً مِنَ اللَّحْمِ مِثْلَ مَا يَجْعَلُهَا الْمَرْءُ فِي فَمِهِ لَهَا مَاضِغًا، قِطْعَةُ لَحْمٍ، الْقَلْبُ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ)).

فَصَلَاحُ الظَّاهِرِ فَرْعٌ عَنْ صَلَاحِ الْبَاطِنِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4].

الْأَصْلُ فِي الْخَشَبَةِ أَنْ تَكُونَ سَانِدَةً لَا مَسْنُودَةً، الْأَصْلُ فِي الْخَشَبَةِ أَنْ تَكُونَ دَاعِمَةً لَا مَدْعُومَةً، الْأَصْلُ فِي الْخَشَبَةِ أَنْ تَسْنُدَ لَا أَنْ تُسْنَدَ، وَلَكِنَّ التَّعْبِيرَ الْقُرْآنِيَّ هَاهُنَا فِي وَصْفِ حَالِ هَؤُلَاءِ، مَعَ مَا يُعْجِبُكَ مِنْ ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ، عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ فَسَادِ بَوَاطِنِهِمْ، يَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}، وَإِذَا مَا سَمِعْتَ لِقَوْلِهِمْ سَمِعْتَ قَوْلًا مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ -نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا-.

{وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، لَمْ يَقُلْ: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مَسْنُودَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}.

فَعِنْدَنَا ثَلَاثُ مَرَاحِلَ:

-أَنَّ الْخَشَبَةَ دَاعِمَةٌ لَا مَدْعُومَةٌ، سَانِدَةٌ لَا مَسْنُودَةٌ، فَنَحَّى عَنْهَا ذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا مَا أَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ سَانِدَةٌ -هَكَذَا- فَقَدْ أَتَى بِالْأَصْلِ.

-وَلَكِنَّهُ عَدَلَ حَتَّى عَنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مَسْنُودَةٌ).

-وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}؛ فَلَا حَقِيقَةَ لِهَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

وَإِذَنْ؛ فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَتِ الْجَوَارِحُ كُلُّهَا، وَإِذَا صَلَحَ الْبَاطِنُ صَلَحَ الظَّاهِرُ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ.

((نَمَاذِجُ مِنْ وَرَعِ الصَّالِحِينَ))

دَأْبُ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ يَتَوَرَّعُونَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَم يَقْبَلِ الرَّدِيءَ مِنَ الْحَلَالِ، {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267].

ثُمَّ قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: إِنَّكُمْ لَا تَقْبَلُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ؛ يَعْنِي: هَذَا الْخَبِيثُ إِذَا مَا أُعْطِيتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْإِغْمَاضِ، {وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يَعْنِي: إِذَا أُعْطِيتُمْ هَذَا الرَّدِيءَ مِنَ الْحَلَالِ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْإِغْمَاضِ.

وَتَأَمَّلْ وَتَلَذَّذْ سَمْعًا وَفَهْمًا وَعَقْلًا وَوَعْيًا وَبَصَرًا وَبَصِيرَةً بِكَلَامِ رَبِّكَ، انْظُرْ إِلَى هَذَا اللَّفْظِ الْمُشْرِقِ الْمُبِينِ، لَهُ لَذَّةٌ يُحِسُّهَا الْمَرْءُ فِي فَمِهِ وَلَا كَمِثْلِهَا الشَّهْدُ، وَيَجِدُ لَهَا فِي أُذُنَيْهِ لَذَّةً وَلَا كَمِثْلِهَا صَوْتُ الْبَلَابِلِ الصَّادِحَاتِ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}: إِلَّا بِلَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْإِغْمَاضِ كَأَنَّمَا يُغْمِضُ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ عَيْنَيْهِ؛ حَتَّى لَا يَرَى مَا يَأْخُذُهُ مِمَّا هُوَ رَدِيءٌ، فَأَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَهُ؛ فَكَيْفَ تُحِبُّونَ أَنْ يَقَعَ فِي يَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا مَا تَصَدَّقَ بِهَا الْمُتَصَدِّقُ فَإِنَّهَا لَا تَقَعُ فِي يَدِ الْآخِذِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ فِي يَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَكَانَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا تَصَدَّقَتْ بِصَدَقَةٍ طَيَّبَتْ مَا يَقْبَلُ الطَّيِّبَ مِنَ الصَّدَقَةِ.

فَلَمَّا رُوجِعَتْ فِي ذَلِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((إِنَّ الصَّدَقَةَ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْآخِذِ تَقَعُ فِي يَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقَعَ صَدَقَتِي فِي يَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُعَطَّرَةً)).

النَّبِيُّ يَقُولُ: «فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ».

((فَضْلُ الْعِلْمِ -يَعْنِي: مَا كَانَ نَفْلًا مِنَ الْعِلْمِ زَائِدًا عَلَى مَا هُوَ مَفْرُوضٌ عَلَى الْعَبْدِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ- خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ)).

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَالِكًا -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَمَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ ابْنُ وَهْبٍ لِيَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-: ((مَا الَّذِي قُمْتَ إِلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِيهِ لَوْ حَسُنَتِ النِّيَّةُ)).

«فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ».

وَيَقُولُ الرَّسُولُ : «كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ» يَعْنِي: تَنَزَّهْ عَمَّا فِيهِ الشُّبْهَةُ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ، لَا تَأْكُلْ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَم يَقْبَلِ الرَّدِيءَ مِنَ الْحَلَالِ، {وَلَا تَيَمَّمُوا}: وَلَا تَقْصِدُوا، {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267].

فَإِذَا كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مَا كَانَ رَدِيئًا مِنَ الْحَلَالِ فَكَيْفَ بِالْحَرَامِ؟!!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا أَجْمَعِينَ.

«كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ».

الرَّسُولُ عَلَّمَ الْأُمَّةَ كَيْفَ تَتَوَقَّى فِي أَكْلِ الْحَلَالِ، وَفِي دَفْعِ اللُّقْمَةِ الْحَلَالِ فِي الْجَوْفِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.

فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا».

النَّبِيُّ حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الصَّدَقَةِ، ((الصَّدَقَةُ أَوْسَاخُ النَّاسِ))، وَالصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ بَيْتِهِ وَ-رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ-.

وَالنَّبِيُّ يَنْقَلِبُ إِلَى بَيْتِهِ فَيَجِدُ التَّمْرَةَ مَسْقُوطَةً -يَعْنِي: سَاقِطَةً- عَلَى فِرَاشِهِ؛ مَا الَّذِي يَأْتِي بِالتَّمْرَةِ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ إِلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ ﷺ؟!!

هَذَا أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا؛ وَلَكِنْ بَابُ الِاحْتِمَالَاتِ إِذَا فُتِحَ لَا يُسَدُّ إِلَّا بِيَقِينٍ جَازِمٍ، وَالْيَقِينُ الْجَازِمُ أَعَزُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، أَعَزُّ مِنْ عَنْقَاءِ مَغْرِبٍ.

وَإِذَنْ؛ فَمَا دَامَ بَابُ الِاحْتِمَالَاتِ قَدْ فُتِحَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْوَرَعِ، وَمُحَمَّدٌ مُعَلِّمُ الْعَالَمِ جَمِيعِهِ .

يَدْخُلُ جَائِعًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَظَلُّ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ طَاوِيًا، لَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ شَيْءٌ يُقِيتُ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ ، ((وَيَمْكُثُ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ لَا تُوقَدُ فِي أَبْيَاتِهِ نَارٌ ، عَيْشُهُ عَلَى الْأَسْوَدَيْنِ؛ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَاءِ)).

وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ مِنَ الْجِيرَانِ رُبَّمَا -وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ؛ وَهِيَ الْإِبِلُ الَّتِي تُحْلَبُ-؛ رُبَّمَا أَهْدَوْا إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى آلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- شَيْئًا مِنْ لَبَنٍ، فَذَلِكَ ذَلِكَ.

هَذَا طَعَامُ مُحَمَّدٍ .

فَيَدْخُلُ النَّبِيُّ بَيْتَهُ فَيَجِدُ التَّمْرَةَ مَسْقُوطَةً عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا؛ وَلَكِنَّ الِاحْتِمَالَ وَارِدٌ، وَعَلَيْهِ؛ يَرْفَعُهَا إِلَى فَمِهِ وَهُوَ جَائِعٌ، ثُمَّ يَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَيَرُدُّهَا .

هَذَا الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَجْعَلُ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، هَذَا الرَّجُلُ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ الَّذِي قَالَ فِي وَصْفِ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهِ مَعَ نَبِيِّنَا ﷺ هِيَ أَعْجَبُ مِنَ الْعَجَبِ، قَالَ: ((أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَوَجَدْتُ وَجْهَهُ مُتَغَيِّرًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! بِأَبِي أَنْتَ، مَا لِي أَرَاكَ مُتَغَيِّرًا؟)).

فَقَالَ: ((مَا دَخَلَ جَوْفِي شَيْءٌ مِمَّا يَدْخُلُ جَوْفَ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ)).

الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ -وَقَدْ رَاوَدَتْهُ الْجِبَالُ أَنْ تَكُونَ ذَهَبًا وَفِضَّةً، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ ﷺ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا ﷺ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَالْمُسْتَنْصِحِ الْمُسْتَرْشِدِ فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعَ، فَقَالَ: ((بَلْ عَبْدًا رَسُولًا)) ﷺ.

ظَلَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ شَيْءٌ مِمَّا يَدْخُلُ جَوْفَ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، قَالَ كَعْبٌ: ((فَانْصَرَفْتُ، فَرَأَيْتُ يَهُودِيًّا يَسْقِي إِبِلًا لَهُ، فَسَاوَمَهُ كَعْبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: فَسَقَيْتُ لَهُ الْإِبِلَ كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ -يُخْرِجُ مِنَ الْبِئْرِ دَلْوًا بِهِ مَاءٌ، يُخْرِجُ دَلْوًا بِتَمْرَةٍ، كُلَّمَا أَخْرَجَ دَلْوًا أَعْطَاهُ الْيَهُودِيُّ تَمْرَةً-.

قَالَ: ((فَحَصَّلْتُ قَدْرًا مِنَ التَّمْرِ فَعُدْتُ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، فَأَعْطَيْتُهُ)).

فَقَالَ: ((مِنْ أَيْنَ يَا كَعْبُ؟)).

فَأَخْبَرْتُهُ.

فَقَالَ: ((أَتُحِبُّنِي يَا كَعْبُ؟)).

فَقَالَ: قُلْتُ: ((بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ! نَعَمْ)) يَعْنِي: أُحِبُّكَ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ الْفَقْرَ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّيْلِ إِلَى مَعَادِنِهِ، وَإِنَّهُ سَيُصِيبُكَ بَلَاءٌ فَأَعِدَّ لَهُ تَجْفَافًا)).

وَالتَّجْفَافُ: مَا يَكُونُ عَلَى الدَّابَّةِ بَيْنَ جَسَدِهَا بَيْنَ ظَهْرِهَا وَسَرْجِهَا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِكَعْبٍ: ((إِنَّ الْفَقْرَ أَسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنَ السَّيْلِ إِلَى مَعَادِنِهِ، وَإِنَّهُ سَيُصِيبُكَ بَلَاءٌ فَأَعِدَّ لَهْ تَجْفَافًا)).

انْصَرَفَ كَعْبٌ ثُمَّ غَابَ، فَافْتَقَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: ((مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟)).

فَقَالُوا: ((مَرِيضٌ)).

فَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَيْهِ يَعُودُهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: ((أَبْشِرْ يَا كَعْبُ!)).

فَقَالَتْ أُمُّ كَعْبٍ: ((هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ يَا كَعْبُ)).

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنْ هَذِهِ الْمُتَأَلِّيَةُ عَلَى اللهِ؟)).

فَقَالَ كَعْبٌ: ((هِيَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ: ((وَمَا يُدْرِيكِ يَا أُمَّ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبًا لَمْ يَقُلْ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مَا لَا يُغْنِيهِ)).

وَمَا يُدْرِيكِ؟!!

هَذَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ؛ أَنْ تَقُولَ مَا لَا يَعْنِيكَ، وَأَنْ تَمْنَعَ مَا لَا يُغْنِيكَ.

فَالرَّسُولُ ﷺ لَمَّا اعْتَرَضَ عَلَى تَقْرِيرِهَا دُخُولَ كَعْبٍ الْجَنَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ مَا مَثْنَوِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِثْنَاءٍ؛ رَاجَعَهَا النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: ((وَمَا يُدْرِيكِ يَا أُمَّ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبًا لَمْ يَقُلْ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مَا لَا يُغْنِيهِ)).

((النَّبِيُّ ﷺ كَانَتْ أَبْيَاتُهُ تَظَلُّ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ لَا يُوقَدُ فِيهَا نَارٌ)).

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعِيشُ هَكَذَا، يَظَلُّ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ -كَمَا تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -ابْنِ أُخْتِهَا -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، تَقُولُ: ((كُنَّا نَظَلُّ نَمْكَثُ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ لَا يُوقَدُ فِي أَبْيَاتِ النَّبِيِّ ﷺ نَارٌ)).

قَالَ: ((فَمَا كَانَ يُقِيتُكُمْ يَا خَالَةُ -فَمَا كَانَ قُوتُكُمْ إِذَنْ-؟!!)).

فَقَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((قُوتُنَا الْأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ)).

وَلَكِنْ كَانَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُهْدُونَ النَّبِيَّ ﷺ بَعْضَ اللَّبَنِ، فَهَذَا أَعْلَى مَا يَصِلُ بَيْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!

لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ ضِيقِ ذَاتِ يَدٍ؛ وَإِنَّمَا كَانَ تَعَفُّفًا وَضَرْبًا لِلْمِثَالِ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ﷺ-.

النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَرَ بِعَيْنَيْهِ شَاةً سَمِيطًا قَطُّ، وَلَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ ﷺ خُبْزًا مُرَقَّقًا أَبَدًا، وَهُوَ الَّذِي يَطْعَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ جَعَلُوهُ طَعَامًا رُبَّمَا لِكِلَابِهِمْ!!

وَأَمَّا الْمُخْتَارُ ﷺ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَيْرُ الْخَلْقِ جَمِيعًا ﷺ فَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّعِيرُ يُجْعَلُ بَيْنَ شِقِّيِ الرَّحَى، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ فَوْقِ الثِّفَالِ -وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّحَى وَالْأَرْضِ؛ حَتَّى لَا يُصِيبَ الْمَطْحُونَ شَيْءٌ مِنْ تُرَابٍ-.

تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كُنَّا نَأْخُذُ الشَّعِيرَ بَعْدَ طَحْنِهِ -لِأَنَّهُ كَانَ يُطْحَنُ بِقِشْرِهِ-، فَتَقُولُ: فَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مِنْ قِشْرِهِ مَا يَطِيرُ، وَيَبْقَى مِنْ قِشْرِهِ مَا يَبْقَى، ثُمَّ نَأْخُذُ مَا تَبَقَّى فَنُثَرِّيهِ بِالْمَاءِ -نَجْعَلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ- ثُمَّ نَعْجِنُهُ، فَنَخْبِزُهُ، فَهَذَا طَعَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الْأُمَّةَ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ، وَهَا هُوَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ))- يَقُولُ: ((إِنِّي لَأَجِدُ التَّمْرَةَ عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا إِلَى فِي -إِلَى فَمِي، وَرُبَّمَا أَدْخَلَهَا فِي فَمِهِ ﷺ- ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَأَطْرَحُهَا -فَأُلْقِيهَا-)).

مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا بَعِيدٌ الْوُقُوعُ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا الَّذِي يَأْتِي بِتَمْرَةٍ مِنْ تَمْرٍ الصَّدَقَةِ إِلَى فِرَاشِ الرَّسُولِ ﷺ، لَا إِلَى مُطْلَقِ الْبَيْتِ؟!!

وَإِنَّمَا مَا تَزَالُ التَّمْرَةُ تَنْحَدِرُ حَتَّى تَكُونَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!

وَلَكِنْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بَابَ الِاحْتِمَالَاتِ إِذَا فُتِحَ فَلَا يُسَدُّ إِلَّا بِيَقِينٍ قَاطِعٍ، وَالْيَقِينُ الْقَاطِعُ أَنْدَرُ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ أَخَذَ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ؛ فَهَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ تَزَوَّجَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: ((أَرْضَعْتُكَ وَأَرْضَعْتُ زَوْجَكَ -أَيِ: امْرَأَتَكَ-)).

قَالَ: ((مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلَا أخْبَرْتِنِي)).

قَالَتْ: ((بَلْ فَعَلْتُ)).

بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا بَيِّنَةٍ إِلَّا دَعْوَاهَا.

((فَرَكِبَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ)).

يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ وَقَدْ تَزَوَّجْتُ قَدْ أَخْبَرَتْنِي بِأَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْنِي وَزَوْجِي، وَلَا هِيَ بِالَّتِي أَخْبَرَتْنِي وَلَا هِيَ بِالَّتِي أَعْلَمَتْنِي وَلَا عَلِمْتُ يَعْنِي: لَمْ يُخْبِرْنِي بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِي وَلَا مِنْ أَقْرِبَائِي وَلَا مِنْ جِيرَتِي، وَلَا عَلِمْتُ.

فَمَاذَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ؟

لِأَنَّ بَابَ الِاحْتِمَالَاتِ إِذَا فُتِحَ لَا يُسَدُّ إِلَّا بِيَقِينٍ قَاطِعٍ، وَهَذَا الْيَقِينُ الْقَاطِعُ أَنْدَرُ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟)).

يَقُولُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّهَا إِنَّمَا تَدَّعِي دَعْوَى)).

قَالَ: ((كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟)).

فَفَارَقَهَا ونَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ- كَانَ نَائِمًا عَلَى فِرَاشِهِ فِي بَيْتِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِنَّ- فَأَرِقَ، فَقَالَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَرِقْتَ الْبَارِحَةَ؟)).

فَقَالَ: ((إِنِّي وَجَدْتُ تَحْتَ جَنْبِي تَمْرَةً، فَأَكَلْتُهَا، وَكَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ)) ﷺ.

الرَّسُولُ ﷺ يَتَحَرَّى الْحَلَالَ هَذَا التَّحَرِّيَ، وَأَصْحَابُهُ كَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَتَابِعُو التَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، وَتَبَعُ الْأَتْبَاعِ، وَالْفُقَهَاءُ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

وَعَلى دَرْبِهِ يَسِيرُ الصَّالِحُونَ؛ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ -وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يَفْرِضُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ، يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، أَوْ فِي كُلِّ شَهْرٍ؛ كَمِثْلِ الْمُكَاتَبَةِ، ثُمَّ هُوَ يَخْرُجُ إِنْ كَانَ صَنَاعَ الْيَدِ ذَا حِرْفَةٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيُحَصِّلُ مِنَ الْمَالِ مَا يُرِيدُهُ اللهُ؛ وَلَكِنْ يُؤَدِّي جُزْءًا مَعْلُومًا وَقِسْطًا مَفْرُوضًا إِلَى سَيِّدِهِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَلَهُ-، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: ((تَدْرِي مَا هَذَا؟)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((وَمَا هُوَ؟)).

قَالَ: ((كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ؛ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ)).

فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ)).

أُسْقِطَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخَذَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَوْفِهِ يُرِيدُ أَنْ يَطْرَحَ اللُّقْمَةَ، فَلَمْ تَخْرُجْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِالْمَاءِ، فَدَعَا بِطَسْتٍ فِيهِ مَاءٌ فَأَخَذَ يَشْرَبُ الْمَاءَ، وَيَجْعَلُ أَصَابِعَهُ فِي فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يَطْرَحَهَا، وَيَجِدُ الْمَشَقَّةَ وَالْعَنَتَ الْعَانِتَ حَتَّى طَرَحَهَا، فَلَمَّا طَرَحَهَا قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إِلَّا بِخُرُوجِ رُوحِي لَأَخْرَجْتُهَا؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْبُتَ شَيْءٌ مِنْ لَحْمِي مِنْ هَذَا فَيَدْخُلَ النَّارَ))، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِشَيْءٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَلَى دَرْبِ الرَّسُولِ ﷺ سَارَ الصَّالِحُونَ؛ فَهَذَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا أَخْبَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((جِيءَ إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ مَنْ أَتَى بِهِ: ((تَدْرِي مَا هَذَا اللَّبَنُ؟)).

قَالَ: ((لَا)).

قَالَ: ((إِنِّي كُنْتُ عَلَى مَاءِ كَذَا -لِمَاءٍ عَيَّنَهُ-، وَكَانَ هُنَالِكَ مَنْ يَسْقِي إِبِلَ الصَّدَقَةِ، فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُ ذَلِكَ فِي سِقَاءٍ مَعِي؛ فَهَذَا هُوَ اللَّبَنُ الَّذِي شَرِبْتَهُ)).

فَجَعَلَ عُمَرُ يَسْتَقِيأُ حَتَّى اسْتَقَاءَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا ذَهَبَ إِلَى الْعِرَاقِ يُحْمَلُ إِلَيْهِ خُبْزُهُ فِي جِرَابٍ، وَلَا يَطْعَمُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ.

وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا تَحْكِي فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلِكِ زَوْجُهُ تَقُولُ: ((اشْتَهَى عُمَرُ يَوْمًا عَسَلًا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا؛ إِذِ الْتَمَسْنَاهُ فَمَا وَجَدْنَاهُ، فَأَرْسَلْتُ بِدِينَارٍ مَعَ خَادِمٍ عَلَى فَرَسٍ مِنَ الْبَرِيدِ -فَرَسٍ مِنْ فُرُسِ الْبُرُدِ مِنْ أَمْلَاكِ الدَّوْلَةِ، فَهَذَا مَالٌ عَامٌّ، لَيْسَ لِعُمَرَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ-، فَذَهَبَ الْغُلَامُ عَلَى جَوَادٍ مِنْ هَذَا الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي نَقْلِ الْبَرِيدِ فِي أَرْجَاءِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-، ذَهَبَ إِلَى (بَعْلَبَكَّ) فَأَتَى بِالْعَسَلِ، فَشَرِبَ مِنْهُ عُمَرُ -رَحِمَهُ اللهُ-، ثُمَّ قَالَ لِفَاطِمَةَ -لِزَوْجِهِ-: ((مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا الْعَسَلُ؟)).

قَالَتْ: ((أَرْسَلْتُ غُلَامًا عَلَى فَرَسٍ مِنْ أَفْرَاسِ الْبَرِيدِ وَمَعَهُ دِينَارٌ إِلَى (بَعْلَبَكَّ)، فَأَتَى بِهَذَا الْعَسَلِ)).

فَدَعَا الْغُلَامَ فَقَالَ: ((خُذْ هَذَا الْعَسَلَ الْمُتَبَقِّيَ بَعْدَ شُرْبِهِ فَبِعْهُ -وَهُوَ عَزِيزٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَهُوَ يُبَاعُ هَاهُنَا بِأَغْلَى مِمَّا اشْتَرَاهُ بِهِ هُنَالِكَ فِي (بَعْلَبَكَّ)-، فَقَالَ: خُذْ هَذَا الْعَسَلَ فَبِعْهُ، وَانْظُرْ إِلَى فَضْلِ مَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ -يَعْنِي: انْظُرْ إِلَى الزِّيَادَةِ- فَاجْعَلْهُ عَلَفًا لِدَوَابِّ الْبَرِيدِ، وَلَوْ كَانَ يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ قَيْئِي لَتَقَيَّأْتُ)) -رَحِمَهُ اللهُ-.

هَذَا الَّذِي نَقُولُ لَيْسَ وَهْمَ وَاهِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِعْلُ نَبِيِّنَا ، وَفِعْلُ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِي التَّابِعِينَ، وَتَبَعِ الْأَتْبَاعِ، وَالْأَئِمَّةِ الصَّالِحِينَ.

فَهَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- لَا يَقْبَلُ خُبْزًا أَتَى دَقِيقُهُ -بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْجُوعِ لَمْ يَدْخُلْ جَوْفَهُ فِيهِنَّ -فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ- شَيْءٌ يُقِيتُ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، وَهُوَ قَدْ تَعَدَّى السَّبْعِينَ مِنْ عُمُرِهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- وَكَانَ مَرِيضًا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ-، فَأَتَى مَنْ ذَهَبَ بِبَعْضِ دَقِيقٍ عَلَى سَبِيلِ السَّلَفِ حَتَّى يُرَدَّ إِلَى مَنْ أَسْلَمَهُ وَمَنْ أَسْلَفَهُ بَعْدَ حِينٍ عِنْدَمَا يُوَسِّعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

وَكَانَ النِّسْوَةُ فِي الْبَيْتِ يَعْلَمْنَ أَمْرَ الْإِمَامِ فِي جُوعِهِ، وَفِي عُلُوِّ سِنِّهِ، فَخَبَزْنَ بِالْعَجَلَةِ -بِسُرْعَةٍ-، ثُمَّ أَتَيْنَ بِالْخُبْزِ إِلَى الْإِمَامِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَارْتَابَ فِي الْأَمْرِ فَقَالَ: ((كَيْفَ خَبَزْتُمْ بِالْعَجَلَةِ -يَعْنِي: بِهَذِهِ السُّرْعَةِ-؟!)).

فَقُلْنَ: ((إِنَّ التَّنُّورَ -أَيِ: الْفُرْنَ- فِي بَيْتِ صَالِحٍ مَسْجُورٌ)) يَعْنِي: إِنَّ الْفُرْنَ فِي بَيْتِ صَالِحٍ يَعْمَلُ، فَأَدْخَلْنَ الْخُبْزَ بَعْدَمَا عَجَنَّهُ سَرِيعًا إِلَى الْفُرْنِ، ثُمَّ أَخَذْنَ الْخُبْزَ سَرِيعًا إِلَى الْإِمَامِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

وَكَانَ صَالِحٌ وَلَدُ الْإِمَامِ قَدْ وَصَلَتْهُ عَطَايَا السَّلَاطِينِ، وَكَانَ الْإِمَامُ لَا يَقْبَلُهَا، فَقَالَ: ((ارْفَعُوا الْخُبْزَ))، فَلَمْ يَطْعَمْ مِنْهُ شَيْئًا، لَمْ يَشْفَعْ لَهُ جُوعُهُ، وَلَمْ يَشْفَعْ لَهُ سِنُّهُ، وَلَكِنْ قَالَ: ((ارْفَعُوا الْخُبْزَ))، وَأَمَرَ بِالْبَابِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَالِحٍ -بَابِ الدَّارِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَالِحٍ-، أَمَرَ بِالْبَابِ فَأُغْلِقَ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ صَالِحٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

هَذَا الْإِمَامُ لَا يَقْبَلُ هَذَا الْخُبْزَ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ مِنْ وُجْهَةِ نَظَرِهِ هُوَ؛ لِأَنَّ صَالِحًا قَالَ لِأَبِيهِ يَوْمًا: ((حَرَامٌ هَذَا الَّذِي يَأْتِينِي مِنَ السُّلْطَانِ يَا أَبِي؟)).

قَالَ: ((لَا؛ وَلَكِنِّي لَا أَقْبَلُهُ لِنَفْسِي)).

يَتَوَرَّعُ عَنْهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَأَجَلُّ؛ لَا يَقْبَلُ الْإِمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ- لَا خُبْزًا، وَلَا مَاءً، وَلَا مَادَّةً، وَلَا أَمْرًا مَحْسُوسًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُلْمَسَ، أَوْ يُؤْكَلَ، أَوْ يُشْرَبَ، وَإِنَّمَا يَرْفُضُ نَسْمَةَ الْهَوَاءِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ عِنْدَهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ غُلَامٌ لِعَمِّهِ إِسْحَاقَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ قَدْ وَصَلَتْهُ -أَيْضًا- عَطَايَا الْوُلَاةِ، فَاشْتَرَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا غُلَامًا؛ لِكَيْ يَكُونَ عِنْدَهُ خَادِمًا، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ مَا جَاءَ إِلَى الْإِمَامِ مِنْ أَمْرِ الْإِغْمَاءِ وَالْغَشْيَةِ؛ جَاءَ غُلَامُ عَمِّهِ إِسْحَاقَ وَمَعَهُ مِرْوَحَةٌ أَخَذَ يُرَوِّحُ بِهَا عَلَى الْإِمَامِ فِي إِغْمَائِهِ وَفِي غَشْيَتِهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: ((مَنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: ((هُوَ غُلَامُ عَمِّكِ إِسْحَاقَ)).

قَالَ: ((قُمْ عَنِّي فَانْصَرِفِ الْآنَ)) -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

هَؤُلَاءِ مَا وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ إِلَّا بِالْوَرَعِ، وَإِلَّا بِالتَّوَقِّي مِنَ الْحَرَامِ.

وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَعْجِنُ عَجِينَهَا، فِيَأْتِي نَعْيُ زَوْجِهَا، فَتُخْرِجُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ وَتَقُولُ: ((هَذَا طَعَامٌ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءُ، هَذَا طَعَامٌ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ وَرَثَةٌ مُشَارِكُونَ!!)).

بَلْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَتِ الْوَاحِدَةُ تَجْلِسُ فِي ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ، فَإِذَا جَاءَ نَعْيُ وَلِيِّهَا -نَعْيُ زَوْجِهَا- قَامَتْ فَأَطْفَأَتِ الْمِصْبَاحَ، تَقُولُ: ((هَذَا زَيْتٌ -زَيْتُ الْمِصْبَاحِ- أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءُ!!)).

وَكَانَ مِنَ النِّسَاءِ فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ مَنْ هِيَ أَشَدُّ وَرَعًا مِنَ الرِّجَالِ؛ مِثْلُ أُخْتِ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا-، ذَهَبَتْ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، فَدَخَلَتْ بَعْدَمَا أَذِنَ لَهَا، فَسَأَلَتْ فَقَالَتْ: ((يَا إِمَامُ! رَأْسُ مَالِي دَانِقٌ، أَشْتَرِي بِهِ صُوفًا خَامًا فَأَغْزِلُهُ، فَإِذَا مَا دَارَ الْأُسْبُوعُ فَجَاءَ السُّوقُ ذَهَبْتُ إِلَى السُّوقِ فَبِعْتُ الْغَزْلَ، فَكَانَ فَارِقُ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مَا أَعِيشُ بِهِ أُسْبُوعِي، وَأَشْتَرِي بِرَأْسِ الْمَالِ صُوفًا خَامًا، ثُمَّ أَقُومُ بِغَزْلِهِ، فَهَذَا شَأْنِي فِي كَسْبِي؛ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يَتَيَسَّرُ لِي أَنْ أَغْزِلَ فِي ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ، وَرُبَّمَا غَزَلْتُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُقْمِرَةِ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ طَاقَةً مِنَ الْغَزْلِ أَوْ طَاقَتَيْنِ؛ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أُعْلِمَ الْمُشْتَرِيَ -الْمُشْتَرِيَ الْغَزْلَ- أَنَّ هَذَا قَدْ غَزَلْتُهُ فِي ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ، وَأَنَّ هَذَا قَدْ غَزَلْتُهُ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ؟)).

فَقَالَ الْإِمَامُ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-: ((إِنْ كَانَ هُنَاكَ فَارِقٌ بَيْنَ الْغَزْلَيْنِ فَقَدْ وَجَبَ الْإِعْلَامُ)).

قَالَتْ: ((فَهُنَاكَ أَمْرٌ أُرِيدُ أَنْ تُخْرِجَنِي مِنْهُ -أَخْرَجَكَ اللهُ مِنْ كُلِّ ضَائِقَةٍ-)).

قَالَ: ((وَمَا ذَلِكَ؟)).

قَالَتْ: ((كُنْتُ لَيْلَةً أَجْلِسُ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ أَغْزِلُ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ وَقَدِ اسْتَتَمَّ بَدْرًا، فَمَرَّ ابْنُ طَاهِرٍ يَعُسُّ لَيْلًا مَعَ الْعَسَسِ وَمَعَهُ الْمَصَابِيحُ، فَوَقَعَ ضَوْءُ الْمَصَابِيحِ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ، فَغَزَلْتُ فِي ضَوْءِ الْمَصَابِيحِ طَاقَةً أَوْ طَاقَتَيْنِ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ؛ فَهَلْ هَذَا حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟)).

فَقَالَ: ((مِنْ أَيِّ آلِ بَيْتٍ أَنْتِ؟)).

قَالَتْ: ((أَنَا أُخْتُ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي)).

فَقَالَ: ((هُوَ حَلَالٌ لِكُلِّ النَّاسِ، حَرَامٌ عَلَى آلِ بِشْرٍ)).

وَهَذَا رَجُلٌ جَاءَ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، كَانَ يَتَوَرَّعُ، فَسَأَلَ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، فَدُلَّ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- أَبِي سَعِيدٍ الْإِمَامِ، الْوَرِعِ الزَّاهِدِ، الْعَفِيفِ الْمُتَعَفِّفِ.

فَقَالَ: ((يَا إِمَامُ! جِئْتُكَ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ أَسْأَلُ عَنِ الْحَلَالِ الصِّرْفِ -عَنِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ-)).

فَقَالَ: ((يَا هَذَا! أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْوُعَّاظِ آكُلُ مِنْ هَدَايَا الْأَصْحَابِ، وَآخُذُ مِنْ عَطَايَا الْأَحِبَّاءِ، فَلَسْتُ هُنَالِكَ؛ وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ بِـ(طَرَسُوسَ).

فَهَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ مَزْرَعَةٌ إِذَا مَا جِئْتَهُ وَجَدْتَهُ قَائِمًا فِيهَا، وَعِنْدَهُ بَقَرَةٌ جَعَلَهَا تَمُرُّ بِطَرِيقٍ فِيهِ تِبْنٌ وَشَعِيرٌ، وَطَرِيقٌ بِهِ مَاءٌ، فَإِذَا مَرَّتْ بِالتِّبْنِ وَالشَّعِيرِ عَرَضَهُمَا عَلَى الْبَقَرَةِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ يَعْرِضُهَا عَلَى الْمَاءِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْلَمُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ فَائْتِهِ)).

فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَقَالَ: ((جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ الْحَسَنِ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا، وَوَصَفَ لِي مِنَ الْأَمْرِ كَيْتَ وَكَيْتَ)).

فَبَكَى الرَّجُلُ، وَقَالَ: ((إِنَّ الْأَمْرَ لَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سَعِيدٍ -رَحِمَهُ اللهُ، وَحَفِظَ عُلَمَاءَنَا أَجْمَعِينَ مِنَ الْمُتَوَرِّعِينَ-؛ وَلَكِنْ شُغِلْتُ يَوْمًا بِصَلَاتِي عَنِ الْبَقَرَةِ، فَذَهَبَتْ إِلَى أَرْضِ جَارِي، فَاخْتَلَطَ بِقَوَائِمِهَا طِينٌ مِنْ أَرْضِ جَارِي، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَلَطَ طِينُ أَرْضِ جَارِي بِأَرْضِي، فَصَارَتْ شُبْهَةً، فَلَمْ أَعُدْ ذَلِكَ الَّذِي وَصَفَ لَكَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ؛ فَعُدْ إِلَيْهِ حَتَّى يَدُلَّكَ عَلَى غَيْرِي!!)).

لَا تَحْسَبَنَّ هَذَا خَيَالًا، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ؛ وَإِلَّا لَمَا صَارُوا أَئِمَّةً، تَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ هَيِّنًا؟!! هُوَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَظِيمٌ.

هَذَا الْبُخَارِيُّ الْإِمَامُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي وَرَعِهِ -رَحِمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- يَقُولُ لِأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ- يَوْمًا -وَهُوَ مَنْ هُوَ، هُوَ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَمِنْ أَقْرَانِهِ فِي آنٍ، وَهُوَ مِنَ الشُّيُوخِ الْأَشْيَاخِ الْمَشَائِخِ الشِّيخَةِ الْأَكَابِرِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلى مَشَائِخِنَا أَجْمَعِينَ-، يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَوْمًا: ((يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ! اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ)).

قَالَ: ((وَمَا ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ -رَحِمَكَ اللهُ-؟! أَنْتَ فِي حِلٍّ)).

يَعْنِي: مَا الَّذِي أَسْلَفْتَ إِلَيَّ مِنْ جَرِيرَةٍ؟!! وَمَا الَّذِي وَقَعْتَ فِي حَقِّي بِهِ مِنْ أَمْرٍ يَسُوءُ حَتَّى أَجْعَلَكَ فِي حِلٍّ؟!! أَنْتَ فِي حِلٍّ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؛ وَلَكِنْ مَا الْأَمْرُ؟!!

قَالَ: ((كُنْتُ يَوْمًا فِي مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ أُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ فَأَعْجَبَكَ -وَهُوَ ضَرِيرٌ لَا يُبْصِرُ-، وَأَنْتَ عِنْدَمَا أَعْجَبَكَ الْحَدِيثُ أَخَذْتَ تُحَرِّكُ رَأْسَكَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إِعْجَابًا وَتَعَجُّبًا، فَتَبَسَّمْتُ؛ فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ)).

فَقَالَ: ((رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! أَنْتَ فِي حِلٍّ)).

لَا تَحْسَبَنَّ هَذَا خَيَالَ شَاعِرٍ وَلَا وَهْمَ وَاهِمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا أَمْتَ، هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ لِتَحْصِيلِ الْخَيْرِ دُنْيَا وَآخِرَةً!

لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُوَصِّلُ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّبْهَةِ يُوَصِّلُ إِلَى شَيْءٍ، الْأَخْذُ بِالشُّبْهَةِ يُوقِعُ فِي الْحَرَامِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ : «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ»، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْهُمَامُ .

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الدِّينِ، وَجَعَلَ قَاعِدَتَهُ وَصُلْبَهُ وَأَسَاسَهُ: أَنْ يَكُونَ الْإنْسَانُ آخِذًا بِالْحَلَالِ الصِّرْفِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، هُوَ ابْنُ سِنَانٍ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، أَرْسَلَ إِلَيْهِ غُلَامُهُ مِنَ (الْأَهْوَازِ) مِنَ الشَّمَالِ خِطَابًا، يَقُولُ: ((إِنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ قَدْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ هَذَا الْعَامَ؛ فَاجْتَهِدْ فِي شِرَاءِ السُّكَّرِ))؛ لِأَنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ قَدْ أَخَذَتْ فِيهِ الْآفَةُ؛ وَعَلَيْهِ فَسَوْفَ يَشِحُّ السُّكَّرُ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ السُّكَّرَ مِنَ السُّوقِ مَا اسْتَطَعْتَ بِثَمَنٍ زَهِيدٍ الْآنَ؛ حَتَّى إِذَا مَا شَحَّ السُّكَّرُ مُسْتَقْبَلًا فَعَلَى الثَّمَنُ؛ كَانَ الْفَضْلُ وَالزِّيَادَةُ هُنَالِكَ عَظِيمًا جِدًّا.

فَاشْتَرَى ابْنُ سِنَانٍ كَثِيرًا مِنَ السُّكَّرِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَلَمَّا غَلَى كَانَ الْفَارِقُ بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا؛ وَلَكِنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ، فَذَهَبَ إِلَى الْبَائِعِ فَقَالَ: ((إِنَّ غُلَامِي كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ فَلَمْ أُعْلِمْكَ؛ فَمَا الْحَلُّ؟)).

قَالَ: ((قَدْ أَعْلَمْتَنِي الْآنَ، وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ؛ فَاذْهَبْ)).

فَذَهَبَ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: ((إِنِّي لَمْ آتِي هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ))، فَمَا زَالَ يُرَاجِعُهُ حَتَّى أَقَالَهُ، فَرَدَّ الْبَيْعَ عَلَيْهِ، وَتَنَازَلَ عَنْ هَذِهِ الْبَيْعَةِ وَعَنْ هَذَا الْبَيْعِ بِكُلِّ مَا حَمَلَ مِنَ الْمَكْسَبِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَأْكُلَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ بِحَالٍ أَبَدًا.

وَهذَا أَبُو حَنِيفَةَ كَانَ يَعْمَلُ خَزَّازًا، يَبِيعُ الْخَزَّ، وَهُوَ الْفَقِيهُ الْعَلَمُ، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَوَاضُعًا كَبِيرًا، مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ، وَمَعَ أَنَّهُ عِنْدَمَا زَارَ مَالِكًا -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، قِيلَ لِمَالِكٍ: ((كَيْفَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ؟)).

هَذَا إِمَامُ مَدْرَسَةِ الرَّأْيِ -كَمَا يَقُولُونَ-، وَمَالِكٌ هُوَ إِمَامُ مَدْرَسَةِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ، فَقِيلَ لِمَالِكٍ: ((كَيْفَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ؟)).

قَالَ: ((رَأَيْتُ رَجُلًا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُقْنِعَكَ بِأَنَّ هَذِهِ الِاسْطُوَانَةَ مِنْ اسْطُوَانَاتِ الْمَسْجِدِ قَدْ صِيغَتْ مِنْ ذَهَبٍ لَفَعَلَ)).

أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ، وَوُفُورِ عَقْلِهِ، وَعَظِيمِ فِطْنَتِهِ، كَانَتْ أُمُّهُ -كَمَا هُوَ الشَّأْنُ دَائِمًا مَعَ كُلِّ أَصْحَابِ الْعِلْمِ فِي كُلِّ جِيلٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ- كَانَتْ أُمُّهُ لَا تَقْتَنِعُ بِعِلْمِهِ، فَإِذَا عَرَضَتْ لَهَا مَسْأَلَةٌ تَقُولُ لَهُ: ((يَا وَلَدِي! احْمِلْنِي إِلَى فُلَانٍ -مِنْ ضِعَافِ تَلَامِيذِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مِنْ تَلَامِيذِ تَلَامِيذِهِ- تَقُولُ: احْمِلْنِي إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَسْأَلَهُ، وَأَنْ أَسْتَفْتِيهِ فَقَدْ عَرَضَتْ لِي مَسَأَلَةٌ)).

لَا يُرَاجِعُهَا، يَأْتِي بِالْحِمَارِ فَيَحْمِلُهَا عَلَى الْحِمَارِ، ثُمَّ يَقُومُ سَانِدًا لَهَا، آخِذًا بِزِمَامِ الْحِمَارِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى هَذَا التِّلْمِيذِ.

مَا الَّذِي أَتَى بِالْإِمَامِ، هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟

يَقُولُ لَهُ: ((نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَأْتِيَ إِلَيْكَ، إِنَّ لِأُمِّي مَسْأَلَةً، وَقَدْ أَمَرَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْأَلَكَ)).

يُقْبِلُ الرَّجُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ مُتَعَجِّبًا يَقُولُ: ((سُبْحَانَ اللهِ! مَعَكِ إِمَامُ الدُّنْيَا ثُمَّ تَأْتِينَ إِلَيَّ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْأَلِينِي، سُبْحَانَ اللهِ!)).

يَقِفُ أَبُو حَنِيفَةَ وَرَاءَ أُمِّهِ بِحَيْثُ لَا تَرَاهُ وَيَقُولُ لِهَذَا التِّلْمِيذِ: ((بَلْ أَجِبْهَا))، وَيَقِفُ وَرَاءَ أُمِّهِ يُلَقِّنُهُ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ، وَالتِّلْمِيذُ يَقُولُ مَا يُلَقِّنُهُ إِيَّاهُ الْإِمَامُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- حَتَّى يَقْضِيَ نُهْمَةَ أُمِّهِ مِنَ السُّؤَالِ وَالْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ يَعُودُ بِهَا مَوْفُورَةً شَاكِرَةً -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

أَبُو حَنِيفَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- كَانَ يَعْمَلُ خَزَّازًا، وَقَدْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَسْطَةً فِي الرِّزْقِ، فَكَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ جِدًّا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، أَمَّا شَرِيكُهُ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا مَوْفُورَ الْعَقْلِ، عَظِيمَ الْحِلْمِ، ثَابِتَ الْأَمَانَة ذَا عِلْمٍ، كَانَ شَرِيكًا لِأَبِي حَنِيفَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ جَاءَتْ تِجَارَةٌ -تِجَارَةُ خَزٍّ-، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ((إِنَّ فِيهَا ثَوْبًا مَعِيبًا، فَحَذَارِ أَنْ تَبِيعَهُ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ عَيْبِهِ لِلْمُشْتَرِي)).

وَلُبِّسَ الْأَمْرُ عَلَى الرَّجُلِ، وَطَالَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ، فَبَاعَهُ صَحِيحًا، وَهُوَ مَعِيبٌ، وَفِيهِ مِنَ الْعَيْبِ مَا فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَعَلِمَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- أَبَى إِلَّا أَنْ يَفُضَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا، وَصَنَعَ الْحَصْرَ وَالْجَرْدَ، ثُمَّ جَعَلَ لِلرَّجُلِ مَا جَعَلَ، وَأَبَى إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ ذَلِكَ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي نَظَرِهِ وَفِكْرِهِ مَا دَخَلَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

هَذَا الْإِمَامُ الْعَظِيمُ كَانَ يَتَحَرَّى فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَحَرِّيًا عَظِيمًا جِدًّا، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمًا إِلَيْهِ فِي دُكَّانِهِ، جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يَشْتَرِي ثَوْبًا مِنْ خَزٍّ، فَقَالَ: ((يَا حَمَّادُ! -وَهُوَ وَلَدُهُ- يَا حَمَّادُ! ائْتِ بِالثَّوْبِ)).

فَجَاءَ بِالثَّوْبِ فَنَشَرَهُ حَمَّادُ وَهُوَ يَقُولُ: ((صَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ)).

فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ((لَقَدْ مَدَحْتَهُ، لَا نَبِيعُهُ))، لَقَدْ مَدَحْتَ الثَّوْبَ، لَا نَبِيعُهُ.

الرَّجُلُ يَقُولُ: ((وَلَكِنِّي أُرِيدُهُ)).

يَقُولُ: ((لَقَدْ مَدَحَهُ، لَا نَبِيعُهُ، اطْوِ الثَّوْبَ وَأَرْجِعْهُ مَكَانَهُ))، فَطَوَاهُ ثُمَّ أَرْجَعَهُ.

يَقُولُ الرَّجُلُ: ((وَلَكِنِّي أُرِيدُهُ)).

يَقُولُ: ((وَلَكِنَّهُ مَدَحَهُ)).

فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاطَّرَدَ فِي السُّوقِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَطَّرِدَ، فَلَمْ يَجِدْ حَاجَتَهُ، فَعَادَ وَهُوَ عَلَى أُهْبَةِ الِاسْتِعْدَادِ لِأَنْ يَدْفَعَ فِيهِ مَا شَاءَ الْإِمَامُ، وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا أَنْ يَرُدَّهُ مُتَفَضِّلًا شَاكِرًا، وَأَنْ يَرُدَّهُ مِنْ غَيْرِ مَا إِيحَاشٍ، وَمِنْ غَيْرِ غِلْظَةٍ وَلَا عُنْفٍ، يَرُدُّ الرَّجُلَ لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَنَّ وَلَدَهُ مَدَحَ الثَّوْبَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْدَحَ الثَّوْبَ.

رَحْمَةُ اللهِ عَلَى هَذِهِ الْأَنْفُسِ، تَحَرَّتِ الْحَلَال فِي مَطْعَمِهَا وَفِي مَشْرَبِهَا وَفِي مَلْبَسِهَا فَاسْتَجَابَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دُعَاءَهَا، وَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي سَعْيِهَا.

((مِنْ ثَمَرَاتِ أَكْلِ الْحَلَالِ صَلَاحُ الْأَوْلَادِ))

إِنْ أَرَدْتَ نَجَابَةَ الْوَلَدِ فَأَطِبِ الْمَطْعَمَ؛ فَهَذَا الْإِمَامُ الْعَظِيمُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، مَاتَ أَبُوهُ، وَكَانَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْكَمَلَةِ؛ وَلَكِنَّهُ مَاتَ فِي شَبَابِهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، وَتَرَكَ أُمَّ الْبُخَارِيِّ، وَتَرَكَ لَهَا أَخًا لِلْبُخَارِيِّ؛ هُوَ أَحْمَدُ، كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَتَرَكَ جُمْلَةً صَالِحَةً مِنْ آلَافٍ عِدَّةٍ مِنْ مَالٍ صَالِحٍ، يَقُولُ الْبُخَارِيُّ: ((لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ)).

لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْ شُبْهَةٍ؛ وَلِذَلِكَ حَفِظَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تِلْكَ الذُّرِّيَّةَ حِفْظًا عَجِيبًا؛ فَهَذَا الْبُخَارِيُّ فِي الثَّامِنَةِ مِنْ عُمُرِهِ يُصَابُ بِالْعَمَى -سَلَّمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَسُوءٍ-، الْبُخَارِيُّ الْعَظِيمُ أُصِيبَ بِالْعَمَى وَهُوَ فِي الثَّامِنَةِ مِنَ الْعُمُرِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ امْرَأَةً صَالِحَةً، فَكَانَتْ تَبِيتُ بَاكِيَةً ضَارِعَةً، تَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَصْبَاحِ وَالْأَمْسَاءِ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي، وَفِي سُجُودِهَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ؛ تَسْأَلُ اللهَ رَبَّهَا صَاحِبَ الْقُوَى وَالْقُدَرِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى ابْنِهَا بَصَرَهُ، فَنَامَتْ لَيْلَةً وَدَمْعُهَا عَلَى خَدِّهَا، فَأَتَاهَا فِي الْمَنَامِ آتٍ فَقَالَ: ((يَا هَذِهِ! لَا تَحْزَنِي فَإِنَّ اللهَ رَادٌّ بَصَرَ وَلَدِكِ عَلَيْهِ؛ فَلَا تَحْزَنِي!)).

قَالَتْ: ((مَنْ أَنْتَ؟)).

قَالَ: ((أَنَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ)) -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ-.

فَقَامَتْ مُنْتَبِهَةً، فَوَجَدَتْ رَبَّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ أَعَادَ الْبَصَرَ إِلَى وَلَدِهَا!

النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا جَاءَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ دَلَّنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي مَوَاضِعَ عَلَى أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتًا جَيِّدًا؛ النَّاسُ يُحَصِّلُونَ الدُّنْيَا لِأَبْنَائِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، يُؤَسِّسُونَ وَيُرَتِّبُونَ، وَيَجْعَلُونَ الْأَمْرَ كَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى حِسَابَاتٍ مَدْرُوسَةٍ لَا تَخْتَلُّ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ مَوَازِينُهَا، مَعَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَحْدَهُ، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُجْرِي عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا ﷺ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوَانِينَ، فَيَذْكُرُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي وَلَدَيْنِ في غُلَامَيْنِ لَهُمَا كَنْزٌ تَحْتَ حَائِطٍ.. تَحْتَ بِنَاءٍ مُتَدَاعٍ قَدْ شَارَفَ الْهَدْمَ وَقَارَبَهُ فِي قَرْيَةٍ فَاسِدَةٍ بَخِيلَةٍ تَشِحُّ، وَلَا تَبْذُلُ وَلَا تُعْطِي، وَإِنَّمَا تَمْنَعُ، فَهَذِهِ الْبِيئَةُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ مُمَهَّدَةٌ مُهَيَّئَةٌ مَتَى مَا سَقَطَ الْجِدَارُ فَبَدَا الْكَنْزُ وَظَهَرَ؛ مُمَهَّدَةٌ صَالِحَةٌ -صَالِحَةٌ يَعْنِي: فَاعِلَةٌ- لِهَذَا الْأَمْرِ الشَّنِيعِ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى كَنْزِ هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ؛ فَمَاذَا كَانَ؟!

لِصَلَاحٍ كَانَ فِي الْآبَاءِ؛ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَانَ الْجَدَّ السَّابِعَ لَهُمَا؛ {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.

يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يَكُنْ أَبَاهُمَا الْمُبَاشِرَ، وَإِنَّمَا كَانَ جَدًّا لَهُمَا سَابِعًا؛ فَمَاذَا كَانَ؟

أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَلِيمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ -مَنْ خَاطَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ-، أَرْسَلَ أَفْضَلَ أَهْلِ الْأَرْضِ، أَرْسَلَ مُوسَى الْكَلِيمَ، وَهُوَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، الَّذِي كَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَكَلَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ مَنْ ذَهَبَ مُوسَى يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، مَنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حِكْمَةً، وَعَلَّمَهُ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا، أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَيْرَ نَفْسَيْنِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ؛ لِكَيْ يَقُومَ قَائِمُهُمْ فِي الطِّينِ مُنَاوِلًا، وَيَقُومَ الْآخَرُ عَلَى الْجِدَارِ بَانِيًا؛ لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.

فَمَنْ خَافَ عَلَى ذُرِّيَّةٍ مِنَ الضِّعَافِ حَقًّا فَلْيَقُلْ قَوْلًا سَدِيدًا -كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، وَلْيَأْتِ السَّدِيدَ مِنَ الْأَعْمَالِ بِفِقْهِ الْعَمَلِ قَبْلَ فَصَاحَةِ الْقَلْبِ، وَلْيَكُنْ بَلِيغَ الْعَمَلِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَلِيغَ اللِّسَانِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، فَمَنْ أَرَادَ فَصَاحَةً وَنَجَابَةً فِي الْوَلَدِ، وَحِفْظًا مِنْ بَعْدِ الرَّحِيلِ؛ فَهَذَا قَانُونٌ؛ فَلْيَقُلِ الْقَوْلَ السَّدِيدَ، وَلْيَعْمَلِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي صَلَاحِ الْحَالِ لِأَجْلِ صَلَاحِ الْمَآلِ.

((خُطُورَةُ أَكْلِ الْحَرَامِ وَعَوَاقِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))

إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا لِعِبَادَتِهِ، وَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ مِنْهَاجًا مُسْتَقِيمًا، وَصِرَاطًا لَاحِبًا، وَنُورًا مُبِينًا؛ فَلَا يَزِيغُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا هَالِكٌ.

وَمَا أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا لِيُطَاعُوا؛ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا الرُّسُلَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا شَرٌّ قَطُّ؛ وَلَكِنْ عَلَى حَسَبِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى حَسَبِ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ تَكُونُ حَيَاةُ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاءُ، وَمِنْ حَيْثُ الْبَلَاءُ وَالْهَنَاءُ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاعَتِهِمْ لِلرُّسُلِ.

وَقَدْ خَتَمَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَهُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا مُبِينًا، وَأَعْطَاهُ سِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَقَامَهُ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.

وَأَمَرَ اللهُ الْخَلْقَ بِطَاعَتِهِ، وَتَوْقِيرِهِ، وَتَعْزِيرِهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَالِاقْتِفَاءِ بِآثَارِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالسَّيْرِ عَلَى خُطَاهُ ﷺ؛ إِذِ السُّبُلُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ إِلَى اللهِ إِلَّا سَبِيلًا جَاءَ فِيهَا الْخَلْقُ خَلْفَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَحَذَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، وَوَضَّحَ لَنَا بِالْأَمْثَالِ الَّتِي ضُرِبَتْ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِمَّنْ خُسِفَ بِهِمْ، وَمِمَّنْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَمِمَّنْ سُلِّطَ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانُ حَتَّى غَرِقُوا، وَمِمَّنْ أَخَذَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ؛ ضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْثَالَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ ﷺ.

وَلِلْمَعْصِيَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا فِي حَالِ الْإِنْسَانِ، وَفِي كَوْنِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَفِي بَرْزَخِهِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ قِيَامَتُهُ، وَفِي الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِهَا عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

لَوْ أَخَذْتَ عَلَى ذَلِكَ مِثَالًا؛ مَا ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَثَرِ مَعْصِيَةِ الرِّبَى، وَالِاجْتِرَاءِ عَلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الْعَظِيمِ، وَأَثَرِهِ الْفَاعِلِ الْفَعَّالِ فِي الْخَلْقِ مِمَّنْ تَوَرَّطُوا فِيهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ؛ لَكَفَاكَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البَقَرَة: 279].

وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ إِنْسَانًا دَخَلَ حَرْبًا مَعَ مَالِكِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، مَعَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: (كُنْ) فَيَكُونُ، مَعَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَمْرُهُ بَعْدَ الْكَافِ وَالنُّونِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ أَثَرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَثَرَهَا فِي الْفَرْدِ وَفِي الْمُجْتَمَعِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَفِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].

وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحَرْبِ مَعَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَمَعَ رَسُولِهِ ﷺ؛ لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اضْطِرَابَ نَفْسِهِ، وَقَلَقَ قَلْبِهِ، وَعَدَمَ اسْتِقْرَارِ حَيَاتِهِ!

وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اخْتِلَافَ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، وَتَمَرُّدَ ذَاتِهِ عَلَى وُجُودِهِ!

لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ كَيْفَ يَكُونُ كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ اسْتِقْرَارٍ وَلَا قَرَارٍ يَقَرُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ اطْمِئْنَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَرْبٍ مَعَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، هَذَا فِي الدُّنْيَا.

وَأَمَّا فِي الْبَرْزَخِ: فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ الرَّسُولِ ﷺ -وَهُوَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -رَحِمَهُ اللهُ-: ((رَأَى النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَمَا أَتَاهُ آتِيَانِ فَأَخَذَا بِيَدَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَرَأَى رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ مِنْ دَمٍ، وَرَأَى رَجُلًا يَقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ وَعِنْدَهُ حِجَارَةٌ، فَيَسْبَحُ السَّابِحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَعْنِي: يَفْتَحُ فَمَهُ إِلَى آخِرِهِ- عِنْدَ ذَلِكَ الْوَاقِفِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الدِّمَاءِ هَذَا، فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الْوَاقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ حَجَرًا مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، فَيَجْعَلُهَا فِي فَمِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا -يَأْخُذُ هَذَا الْحَجَرَ فِي فَمِهِ-، ثُمَّ يَسْبَحُ فِي نَهْرِ الدَّمِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْبَحَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَفْتَحُ فَمَهُ-، فَيُلْقَمُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَرًا، يَظَلُّ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ)).

فَهَذَا عِقَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ.

وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ: فَإِنَّهُ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ يُوفِضُونَ -يَنْطَلِقُونَ مُسْرِعِينَ-، وَأَمَّا هَذَا -أَيْ: آكِلُ الرِّبَى-؛ فَلَا يَقُومُ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.

يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ آكِلَ الرِّبَى يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ)).

{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحَديد: 20]. -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

لَوْ أَخَذْتَ مَعْصِيَةً أُخْرَى؛ لِكَيْ تَنْظُرَ فِي عُقُوبَتِهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ الْوَفَاةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، ثُمَّ فِي الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ؛ لَاخْتَرْتُ لَكَ الْغُلُولَ.

وَلِلْمَعَاصِي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآثَارِ الْعَظِيمَةِ الشَّيْءُ الْكَبِيرُ، مِنْهَا:

*أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَكِسُ يَرْتَكِسُ قَلْبُهُ، فَلَا يَقُومُ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا؛ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّفّ: 5].

*ثُمَّ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعَاقِبُ صَاحِبَ الْمَعْصِيَةِ بِنِسْيَانِ نَفْسِهِ؛ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحَشْر: 19].

*وَيُعَاقِبُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِنِسْيَانِهِمْ -يَعْنِي: بِتَرْكِهِمْ-؛ فَإِنَّ رَبَّكَ لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}.

*ثُمَّ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنَ اجْتِرَاءِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَبْلُ، يَقُولُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ: ((إِنِّي لَأَعْصِي اللهَ فَأَجِدُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي وَامْرَأَتِي)).

فَيَجْتَرِئُ عَلَى الْعَاصِي مَا لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَبْلُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ قَبْلُ؛ إِذْ يَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حِجَابَ الْهَيْبَةِ عَنْهُ بِمَعْصِيَتِهِ وَقَدْ هَتَكَهُ، وَيُخَلِّي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ؛ فَهُوَ الْعَنَاءُ الدَّائِمُ وَالنَّصَبُ الْمُقِيمُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

ومَا مِنْ هَمٍّ، وَلَا غَمٍّ، وَلَا أَلَمٍ، وَلَا نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ يُصِيبُ الْعَبْدَ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا بِذَنْبٍ أَذْنَبَهُ، وَبِمَعْصِيَةٍ أَسْلَفَهَا.

لَوْ أَخَذْتَ الْغُلُولَ مِثَالًا؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى- الَّذِي رَوَيَاهُ بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَامَ فِينَا النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا فَذَكَرَ الْغُلُولَ)).

وَالْغُلُولُ فِي الْأَصْلِ: هُوَ الْخِيَانَةُ، وَأَصْلُهُ: هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ.

وَهُوَ فِي زَمَانِنَا -كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا-: الْمَالُ الْعَامُّ.

فَالْمَالُ الْعَامُّ مَا أُخِذَ مِنْهُ فَهُوَ غُلُولٌ، وَالَّذِي يَتَنَزَّلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنَ الْغُلُولِ -وَهُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَغَانِمِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ- هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يَتَنَزَّلُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ كَالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ، وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ تَتَعَلَّقُ ذِمَّتُهُمْ بِهَذَا الْمَالِ، لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ.

وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا يَخُصُّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ.

فَالتَّوَرُّطُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ بِأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ، أَوْ إِتْلَافِ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُتْلَفَ كَالْأَخْذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ، هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَالِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْخَاصَّ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ فَرْدٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الْمَالُ الْعَامُّ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ فَهُوَ أَمْرٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا أُلْفِيَنَّ -يَعْنِي: لَا أَجِدَنَّ- أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ -وَالرُّغَاءُ: هُوَ صَوْتُ الْبَعِيرِ-، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ -وَالْحَمْحَمَةُ: صَوْتُ الْفَرَسِ دُونَ الصَّهِيلِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.  

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ -وَالثُّغَاءُ: صَوْتُ الشِّيَاةِ-، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ -يَعْنِي: عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْسَانٌ اسْتَرَقَّهُ؛ اسْتَعْبَدَهُ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ- لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يَعْنِي: مَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَا فِيهِ حَيَاةٌ مِمَّا غَلَّهُ الْإِنْسَانُ، مِمَّا أَخَذَهُ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ؛ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَيَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ يَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ-، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَغِثْنِي، يَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».

ذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَلْوَانًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُغَلَّ، مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ فِي عَصْرِنَا -كَمَا يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا-: هُوَ الْمَالُ الْعَامُّ، يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ يَحْمِلُهُ فِي الْمَوْقِفِ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْأَمْرِ حَدِيثًا عَجَبًا؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ مَرُّوا عَلَى قُبُورٍ لِبَعْضِ الشُّهَدَاءِ مِمَّنْ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَانُوا يَقُولُونَ: ((فُلَانٌ شَهِيدٌ -لِقَبْرٍ يُعَيِّنُونَهُ-، فُلَانٌ شَهِيدٌ))، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَسْمَعُ.

حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: ((فُلَانٌ شَهِيدٌ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ)).

مَعَ أَنَّهُ مَاتَ فِي الْمَعْرَكَةِ، فَمَاتَ شَهِيدًا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَشْفَعْ لَهُ أَنْ سَالَ دَمُهُ، وَأُزْهِقَتْ رُوحُهُ، وَفَاضَتْ نَفْسُهُ، لَمْ يَشْفَعْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعَدَّ فِي الشُّهَدَاءِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((يَأْتِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ؛ بَلْ إِنَّهُ دَخَلَ النَّارَ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا -أَخَذَهَا- مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَأَخَذَهَا بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.

وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ مَرَّ يَوْمًا بِقَبْرٍ مَعَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى رَجُلٍ كَانَ مَعْدُودًا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ -لَتَسْتَعِرُ- عَلَيْهِ نَارًا)).

فَهَذَا عَذَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ السَّاعَةَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ عَذَابُهُ فِي الْمَوْقِفِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا غَلَّ، {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161].

مَا مِنْ أَحَدٍ يَغُلُّ شَيْئًا.. يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ -وَهُوَ فِي عَصْرِنَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ- إِلَّا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فِي الْمَوْقِفِ، مَفْضُوحًا بِهِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، مِنْ آدَمَ إِلَى آخِرِ مَنْ يُقِيمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ السَّاعَةَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُقَادَرُ قَدْرُ عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.

((مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ)).

الرَّسُولُ ﷺ أَلْحَقَ بِمَسْأَلَةِ الْغُلُولِ -وَهُوَ: الْأَخْذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ، وَهُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ-؛ أَلْحَقَ بِهِ مَا يَأْخُذُهُ الْعُمَّالُ الَّذِينَ كَانُوا يُعَيَّنُونَ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ ﷺ لِجَمْعِ الصَّدَقَاتِ، فَكَانَ الرَّسُولُ ﷺ يُعَيِّنُ الْعُمَّالَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَدُورُوا عَلَى الْقَبَائِلِ؛ لِجَلْبِ صَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، وَكَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ جَلْبِ صَدَقَاتِ الْأَمْوَالِ وَمَا أَشْبَهَ، كُلُّ ذَلِكَ يَؤُولُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِكَيْ يُوضَعَ فِي مَوَاضِعِهِ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

((أَرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--؛ أَرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ رَجُلًا مِنَ (الْأَسْدِ) -قَبِيلَةٍ- يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، أَرْسَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ لِكَيْ يَأْتِيَهُ بِصَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَجَمَعَ الصَّدَقَاتِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى رَسُولِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ ﷺ، فَقَالَ: ((هَذَا لَكُمْ -وَفِي رِوَايَةٍ-: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ)).

فَتَعَجَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ هَذَا الْمَنْطِقِ!

قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: ((مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟!! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ)).

فَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْعُمَّالَ -وَهُمُ الْمُوَظَّفُونَ فِي زَمَانِنَا هَذَا- أَنْ يُفِيدَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَالًا بِسَبَبِ وَظِيفَتِهِ، فَإِنْ فَعَلَ أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ يَدُورُ بِهِ فِي الْمَوْقِفِ، يَقُولُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَغِثْنِي)).

فَيَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ)).

فَأَلْحَقَ الرَّسُولُ ﷺ هَدَايَا الْعُمَّالِ -هَدَايَا الْمُوَظَّفِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ-؛ أَلْحَقَهَا الرَّسُولُ ﷺ بِالْغُلُولِ، وَالْغُلُولُ: الْأَخْذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، أَوْ هُوَ الْأَخْذُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ، أَوْ هُوَ التَّرَبُّحُ بِسَبَبِ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ.

إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يَدَعُ أَوْلِيَاءَهُ، وَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَتْرُكُ أَصْفِيَاءَهُ، وَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُبَارِكُ فِي الْحَرَامِ، وَآكِلُ الْحَرَامِ كَشَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، لَا يَرْوَى أَبَدًا؛ كَالْإِبِلِ الْهِيمِ -وَهِيَ الَّتِي فِي أَجْوَافِهَا دَاءٌ، مَا تَزَالُ تَشْرَبُ وَتَشْرَبُ بِلَا وَعْيٍ حَتَّى تَنْقَضَّ مَعِدَاتُهَا مِمَّا تَشْرَبُ، لَا تَعِي وَلَا تُدْرِكُ-، تَشْرَبُ شُرْبَ الْهِيمِ مَتَى مَا أَخَذْتَ الْحَرَامَ.

وَالدِّرْهَمُ الْحَرَامُ إِذَا مَا دَخَلَ عَلَى الْحَلَالِ أَفْسَدَهُ؛ تَمَامًا كَقَطْرَةِ الدَّمِ تُخَالِطُ كُوبَ الْمَاءِ أَوْ كُوبَ اللَّبَنِ الْبَارِدِ الْعَذْبِ الَّذِي تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ؛ وَلَكِنَّ قَطْرَةَ الْبَوْلِ إِذَا مَا خَالَطَتْهُ أَفْسَدَتْهُ، تَعَافُهُ النَّفْسُ وَلَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَدَعُ أَصْفِيَاءَهُ، وَلَا يَتْرُكُ أَوْلِيَاءَهُ، وَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ يَقُولُ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُ النَّارَ)).

فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟)).

فَقَالَ الرَّسُولُ : ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)).

مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ عُودَ الْأَرَاكِ -أَيِ: الْمِسْوَاكَ- لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ يُسَاوِي شَيْئًا؛ بَلْ لَمْ يَكُنْ يُبَاعُ، وَلَمْ يَكُنْ يُشْتَرَى؛ لِأَنَّ الْأَرَاكَ كَانَ مَبْذُولًا، فَشَجَرُ الْأَرَاكِ فِي الْحِجَازِ كَانَ كَثِيرًا، وَإِنَّمَا يَقُومُ الرَّجُلُ إِلَى شَجَرَةِ الْأَرَاكِ يَقْتَطِعُ مِنْ أَفْرُعِهَا مَا شَاءَ، يَصْنَعُ مِنَ الْمَسَاوِيكِ مَا أَحَبَّ.

فَإِذَنْ؛ هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِلَا شَيْءَ، فَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ اقْتَطَعَ حَقَّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَخَذَ شَيْئًا حَرَامًا لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا وَزْنَ وَلَا خَطَرَ، فَاقْتَطَعَ هَذَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ؛ إِذْ يَقُولُ الصَّحَابِيُّ السَّائِلُ لِلرَّسُولِ : الَّذِي يَقْتَطِعُ حَقَّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَا رَسُولَ اللهِ، يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَقْتَطِعُهُ لِنَفْسِهِ بِيَمِينِهِ، حَالِفًا بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى حَقِّ أَخِيهِ أَنَّهُ لَهُ؛ لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ رِيحُهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا، لَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟!!

قَالَ الرَّسُولُ ضَارِبًا الْمَثَلَ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)).

النَّبِيُّ ﷺ حَذَّرَ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ خَطِيرٍ؛ هَذَا الْأَمْرُ هُوَ أَنَّ الَّذِي يَأْخُذُ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ -وَمَاذَا يَصْنَعُ الْإِنْسَانُ بِشِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ؟!! وَلَكِنْ هِيَ بَلَاغَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ يَضْرِبُ بِهَا الْأَمْثَالَ -بِأَبِي -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- وَأُمِّي وَنَفْسِي هُوَ ﷺ-.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ))؛ وَالْقَطَاةُ: نَوْعٌ مِنَ الْأَطْيَارِ كَالْعُصْفُورِ، يَجْعَلُ عُشَّهُ هُنَالِكَ عَلَى تِلْكَ الْحُدُودِ تَكُونُ بَيْنَ الْأَرْضِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَبْنِي للهِ مَسْجِدًا كَمِفْحَصِ الْقَطَاةِ؛ وَلَكِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَضْرِبُ ذَلِكَ مَثَلًا.

وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْخُذُ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ- أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ -وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ- خَاصَمَتْهُ امْرَأَةٌ هِيَ أَرْوَى بِنْتُ أَوْسٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ -وَكَانَ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ- فِي أَرْضٍ ادَّعَتْ أَنَّهُ اغْتَصَبَها -أَيْ: سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ اغْتَصَبَ مِنْهَا الْأَرْضَ، وَأَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ- فَاسْتَدْعَى مَرْوَانُ سَعِيدًا، فَلَمَّا جَاءَ سَعِيدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى مَجْلِسِ مَرْوَانَ قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ تَدَّعِي أَنَّكَ أَخَذْتَ أَرْضَهَا)).

فَقَالَ: ((أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟!!)).

 قَالَ: ((مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟)).

قَالَ: ((سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقُولُ: ((مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ)).

فَقَالَ لَهُ مَرْوَانٌ: ((لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا)).

مَنِ اغْتَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ.. مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ ظُلْمًا؛ جِيءَ بِهَذَا الشِّبْرِ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ طِينًا وَوَحْلًا حَتَّى يُجْعَلَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْمَوْقِفِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

((مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ)).

ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبِةً، فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا)).

قَالَ: ((فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ)).

 اللهم إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي أَرْضِهَا!

فَعَاشَتْ حَتَّى عَمِيَتْ، وَكَانَ عِنْدَهَا بِئْرٌ فِي أَرْضِهَا، فَغَابَ عَنْهَا قَائِدُهَا يَوْمًا، فَذَهَبَتْ تَسِيرُ فِي أَرْضِهَا بِغَيْرِ قَائِدٍ، فَتَرَدَّتْ فِي الْبِئْرِ فَمَاتَتْ، فَكَانَتِ الْبِئْرُ قَبْرَهَا.

وَكَانَتْ لَمَّا أَصَابَهَا الْعَمَى تَقُولُ: ((أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدٍ)).

((أَنَا آخُذُ أَرْضَهَا وَأَنَا الَّذِي يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلَهُ: ((مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ))؟!!

يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ -فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- وَقَدْ أُمِرَ بِأَنْ يَحْفِرَ الْأَرْضَ إِلَى سَابِعِهَا، يَحْفِرُ سَبْعَ أَرَضِينَ، وَكُلُّ مَا خَرَجَ هُنَالِكَ مِنْ طِينٍ يُجْعَلُ طَوْقًا حَوْلَهُ، يَكُونُ كَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوْقِفِ، وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ؛ فَهُوَ: أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ، فَتَصِيرَ الْأَرْضُ -حِينَئِذٍ- كَأَنَّهَا طَوْقٌ حَوْلَ رَقَبَتِهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

فَالرَّسُولُ ﷺ أَخْبَرَنَا عَنْ أُمُورٍ -كَالَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا- تَتَعَلَّقُ كُلُّهَا بِالْمَكَاسِبِ؛ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا.

الرِّبَى حَيَاةٌ ضَنْكٌ، وَمَعِيشَةٌ سَوْدَاءُ لَيْسَ فِيهَا بَصِيصٌ مِنْ نُورٍ، وَهَمٌّ مُقْعِدٌ مُقِيمٌ، وَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ فِي الْحَيَاةِ رَاحَةً بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ فِي حَرْبٍ مَعَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ.

وَأَمَّا فِي الْبَرْزَخِ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ؛ فَسَابِحٌ فِي نَهْرِ الدَّمِ، لَاقِمٌ لِلْحِجَارَةِ، يُلْقِمُهُ إِيَّاهَا رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الدِّمَاءِ الْعَجِيبِ.

فَإِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لَا يَقُومُ كَمَا يَقُومُ عَامَّةُ الْبَشَرِ وَلَوْ كَانُوا كَافِرِينَ، بَلْ يَقُومُ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.

ثُمَّ يُحَاسِبُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحِسَابَ الْأَكْبَرَ، وَيُعَذِّبُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي النَّارِ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَكَذَلِكَ مَنْ غَلَّ شَيْئًا فَأَخَذَهُ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُوَاطِنِينَ، ذِمَمُ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ؛ أَتْلَفَهُ، أَوْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِ، أَوْ تَحَصَّلَ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلًا إِيَّاهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَدُورُ بِهِ فِي الْمَوْقِفِ يَسْتَغِيثُ، وَلَا مُغِيثَ، وَلَاتَ حِينَ مُغِيثٍ؛ حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ)).

هَذَا فِي الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ، فَضِيحَةٌ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ.

وَأَمَّا فِي الْقَبْرِ فَإِنَّهُ يَشْتَعِلُ عَلَيْهِ مَا غَلَّهُ، مَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ؛ يَشْتَعِلُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي صَاحِبِ الشَّمْلَةِ الَّتِي غَلَّهَا، وَقَدْ مَاتَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ شَهِيدًا، فَلَمْ يَشْفَعْ لَهُ ذَلِكَ، لَا فِي قَبْرِهِ وَلَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ إِذْ يَأْتِي بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ يَدُورُ بِهِ فِي يَوْمِ الْفَضَائِحِ  -نَسْأَلُ اللهَ السِّتْرَ وَالْعَافِيَةَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

ثُمَّ الْحِسَابُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ -نَسْأَلُ اللهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَنْ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ-.

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَتَحَرُّونَ حَلَالًا مِنْ حَرَامٍ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ الْهُمَامُ : «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مِنْ حَرَامٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَلَالٍ».

وَهُوَ هَذَا الزَّمَانُ -كَمَا تَعْلَمُونَ-؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ : «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

وَالْعَبْدُ يَدْفَعُ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، وَالدَّمُ يَتَجَدَّدُ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ فِي فَتْرَةٍ دَوْرِيَّةٍ، فَلَا تَبْقَى خَلِيَّةٌ مِنْ خَلَايَا الدَّمِ جَارِيَةً سَارِيَةً فِي عُرُوقِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ لَهَا؛ إِذْ تَتَكَسَّرُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ، وَيَتَجَدَّدُ ذَلِكَ مِنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ الْحَيُّ.

فَإِذَا مَا دَفَعَ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ؛ فَلَا جَرَمَ -وَلَا رَيْبَ- أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْحَرَامِ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ خَلَايَاهُ؛ دَمًا، وَلَحْمًا، وَعَظْمًا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَ«كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ حَرَامٍ؛ فَتَتَخَلَّقُ نُطْفَتُهُ مِنْ حَرَامٍ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ حَرَامٍ؛ فَتَتَخَلَّقُ بُوَيْضَتُهَا مِنْ حَرَامٍ، ثُمَّ تَتَغَذَّى الْمَرْأَةُ عَلَى الْحَرَامِ، فَيَدُورُ الدَّمُ بِالْغِذَاءِ إِلَى الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ يُغَذِّي الْجَنِينَ مِنْ الْحَرَامِ، ثُمَّ تُرْضِعُ الْوَلِيدَ اللَّبَنَ الْحَرَامَ، ثُمَّ يُطْعَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَامِ، ثُمَّ تَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ نَجَابَةَ الْوَلَدِ!!

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!!

دُونَ ذَلِكَ خَرْطُ الْقَتَادِ!!

لَا تَعْجَبَنَّ مِمَّا يَحْدُثُ لِتِلْكَ الْأَجْيَالِ الَّتِي انْفَلَتَتْ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-؛ فَإِنَّمَا هِيَ مِمَّنْ خُلِّقَ مِنْ حَرَامٍ، وَمِمَّنْ غُذِّيَ مِنْ حَرَامٍ، وَلَا يَتَوَرَّعُ وُلَاةُ أُمُورِهِمْ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا يَتَوَقُّونَ وَلَا يَتَحَرُّونَ الْحَلَالَ الصِّرْفَ الْمَحْضَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ: ((أَنَّ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)).

وَيُخْبِرُ الرَّسُولُ ﷺ مُنْذِرًا وَمُحَذِّرًا، يَقُولُ ﷺ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُرْسَلِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَقَدْ غُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!)).

فَالرَّسُولُ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوَاطِعِ فِي الدُّعَاءِ بِحَيْثُ إِنَّ الرَّجُلَ يَدْعُو مَا شَاءَ، ثُمَّ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؛ أَنَّهُ يَقْذِفُ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ إِلَى جَسَدِهِ، أَوْ يَجْعَلُ ثَوْبًا عَلَى جَسَدِهِ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ حَرَامٍ، أَوْ يَجْعَلُ فِي جَسَدِهِ ذَاتِهِ مُزْعَةً مِنْ لَحْمٍ مِنْ حَرَامٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَيُّمَا لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)).

وَالرَّسُولُ ﷺ يَخْبِرُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً مِنْ حَرَامٍ، فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ، أَوْ عَطَفَ بِهَا عَلَى يَتِيمٍ، أَوْ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، جُمِعَ ذَلِكَ جَمِيعًا، ثُمَّ قُذِفَ بِهِ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) يَقُولُ: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ)).

وَلَفْظَةُ: ((وَقَدْ غُذِيَ مِنْ حَرَامٍ)) لَفْظَةٌ دَالَّةٌ فِي مَوْضِعِهَا؛ كَيْفَ؟

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ))، فَهَذَا غِذَاؤُهُ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ ﷺ: ((وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ)) هُوَ بِعَيْنِهِ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ؛ فَهُوَ تَكْرِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلَاغَةً وَفَصَاحَةً!! يُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ مَنْطِقُ الرَّسُولِ ﷺ.

 فَإِذَنْ؛ فِيهِ دِلَالَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ ((غُذِيَ بِالْحَرَامِ)) أَيْ: رَضَعَ اللَّبَانَ الْحَرَامَ عِنْدَمَا كَانَ رَضِيعًا.

وَتَحْمِلُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا آخَرَ؛ بَلْ إِنَّهُ غُذِيَ بِالْحَرَامِ نُطْفَةً أَمْشَاجًا فِي رَحِمِ أُمِّهِ؛ إِذْ تَدُورُ الدِّمَاءُ بِالْحَرَامِ غِذَاءً، فَيَنْمُو مِنَ الْحَرَامِ، وَيَكْبُرُ عَلَى الْحَرَامِ، وَيَخْرُجُ إِلَى الْحَرَامِ، وَيَرْضَعُ الْحَرَامَ، وَيَرْتَعُ فِي الْحَرَامِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ صَاحِبَ ذِكْرٍ -وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.

النَّبِيُّ يَقُولُ: «دِرْهَمٌ رِبًى يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً».

وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ، وَفِيهِ عَجَبٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا دَامَ هُوَ اللَّفْظَ الَّذِي يُرْفَعُ إِلَى الرَّسُولِ ؛ إِذْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: (سِتٍّ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً).

يَقُولُ الرَّسُولُ : «دِرْهَمٌ رِبًى يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً» يَعْنِي: فِي الْإِثْمِ، لَوْ وَقَعَ الْمَرْءُ فِي الزِّنَى سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لَكَانَ أَهْوَنَ وَأَقَلَّ إِثْمًا مِنْ دِرْهَمِ رِبًى يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ.

يَقُولُ الرَّسُولُ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «الرِّبَى اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا» أَيْ: إِثْمًا.

وَفِي رِوَايَةٍ: «الرِّبَى اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بابًا، أَدْنَاهَا -أَدْنَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَى- مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ».

أَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَى هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَى؛ لِأَنَّ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَى هِيَ زِنَى الْمَحَارِمِ، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي زِنَى الْمَحَارِمِ أَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِأُمِّهِ، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَى هِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعُونَ، فَإِذَا كَانَتْ أَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَى -كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ- هِيَ مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ؛ فَكَيْفَ بِأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَى؟!!

لَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ وَلَا يُمْسِكُ عَنِ الْحَرَامِ؛ فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ مَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟!!

أَعْظَمُ بَابٍ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ؛ بَلْ لَا يَتَأَتَّى الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ لِلْعَبْدِ إِلَّا مِنْ خِلَالِهِ، وَلَا يَنْفُذُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ بَابِهِ؛ أَكْبَرُ أَمْرٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ.

وَلِذَلِكَ لَمَّا رَأَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- الْقَوْمَ يَتَدَافَعُونَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَلُّوا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ قَالَ: ((مَا بَالُ هَؤُلَاءِ؟!!)).

قَالَ قَائِلُهُمْ: ((إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ)).

وَكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَمَّا فِيهِ شُبَهٌ؛ بَلْ رُبَّمَا اقْتَحَمُوا الْحَرَامَ اقْتِحَامًا.

فَقَالَ: ((قُلْ لِلْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ يَأْكُلُ الْكِسْرَةَ الْحَلَالَ، ثُمَّ فَلْيُصَلِّ فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ)).

وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي قَوْلِ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، قَالَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ لِأَقْرَانِهِ: إِذَا مَا تَعَبَّدَ الشَّابُّ انْظُرُوا إِلَى مَطْعَمِهِ -يَعْنِي: إِلَى مَطْعَمِ الشَّابِّ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَعَبَّدَ-، فَإِنْ كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ؛ فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ!!)).

قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].

فِي الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبَرِ الْعَظِيمَةِ الْكَثِيرُ؛ وَلَكِنْ {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166].

خَسَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَقْوَامٍ، وَمَسَخَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، هَؤُلَاءِ بِسَبَبِ أَكْلِ الْحَرَامِ، بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَسَخَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ظَوَاهِرَهُمْ بَعْدَ أَنْ مُسِخَتْ بَوَاطِنُهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ الْبَاطِنَ إِذَا مَا عَصَا الْإِنْسَانُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ مُسِخَ فَصَارَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ بَاطِنٌ مَمْسُوخٌ، وَلَوْ رُفِعَ الْحِجَابُ لَرَأَيْتَ تَحْتَ الْإِهَابِ كِلَابًا، وَسِبَاعًا، وَحُمُرًا، وَخَنَازِيرَ؛ عَلَى حَسَبِ الشَّهَوَاتِ، وَعَلَى حَسَبِ الْمَلَذَّاتِ، وَعَلَى حَسَبِ التَّوَرُّطِ فِي الْمَعْصِيَاتِ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَنَا أَجْمَعِينَ-.

فَهَؤُلَاءِ لَمَّا تَمَرَّدُوا عَمَّا ذُكِّرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا} بِالْأَمْرِ الْمُبَاشِرِ، بِالْكَافِ وَالنُّونِ يَفْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا يَشَاءُ؛ قَالَ لَهُمْ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.

الْمَسْخُ يَجْعَلُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرًا عَلَى حَقِيقَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حَقِيقَةٌ بَاطِنِيَّةٌ، وَلَيْسَ صُورَةً ظَاهِرِيَّةً فَقَطْ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ كَانَ يُرْسِلُ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ، فَيَأْتِي -أَحْيَانًا- فِي صُورَةٍ بَشَرِيَّةٍ، فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْدُودِينَ جَمَالًا وَحُسْنَ صُورَةٍ فِي الْعَرَبِ، فَكَانَ يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ -أَيْ: جِبْرِيلُ- فِي صُورَةِ دِحْيَةَ، فَيُخَاطِبُ النَّبِيَّ ﷺ، وَيُخَاطِبُهُ النَّبِيُّ ﷺ.

وَدُونَكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ -الْمَشْهُورُ لُغَةً، لَا اصْطِلَاحًا-؛ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((عِنْدَمَا جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَسْوَدَ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَبْيَضَ الثِّيَابِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ)).

الْمُهِمُّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ -أَحْيَانًا- يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ فِي صُورَةٍ بَشَرِيَّةٍ؛ فَهَلْ كَانَ بَشَرًا؟!!

الصُّورَةُ الْبَشَرِيَّةُ قَائِمَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ الْبَشَرِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ، فَلَا يُقَالُ لِجِبْرِيلَ إِنَّهُ إِنْسَانٌ، بَلْ هُوَ مَلَكٌ كَرِيمٌ مِنْ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ.

وَأَيْضًا جَاءَ الشَّيْطَانُ إِلَى الْمُجْتَمِعِينَ فِي (دَارِ النَّدْوَةِ) فِي صُورَةِ شَيْخٍ مِنْ نَجْدٍ، يُشِيرُ عَلَيْهِمْ بِمَشُورَتِهِ الْمَشْؤُومَةِ مِنْ جَمْعِ الشُّبَّانِ لِقَتْلِ النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ مُتَمَثِّلًا لَدَيْهِمْ فِي صُورَةٍ بَشَرِيَّةٍ، فَالصُّورَةُ الْبَشَرِيَّةُ قَائِمَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ؛ فَلَا يُقَالُ لِلشَّيْطَانِ إِنَّهُ إِنْسَانٌ!!

إِذَنْ؛ هَذَا الْمَسْخُ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِيهِ عَلَى حَالِهَا؛ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَفُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، هِي في عَيْنِهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَا زَالَتْ قَائِمَةً فِيهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَأَمَّا الصُّورَةُ فَصُورَةُ قِرْدٍ لَهُ ذَنَبٌ يَتَحَرَّكُ عَلَى أَرْبَعٍ.

لَمَّا وَقَعَ الْمَسْخُ،  وَقَالَ لَهُمُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-:  {كُونُوا قِرَدَةً خَسِـِٔينَ}؛ كَانَ الْقِرْدُ الْمَمْسُوخُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ قَدْ صَارَتْ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْقِرْدِيَّةِ لَكَانَ خَلْقًا آخَرَ وَمَا كَانَ مَسْخًا، بَلِ الْمَسْخُ هُوَ: تَشْوِيهُ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ عَلَى حَالِهَا؛ وَإِلَّا لَوْ صَارَ قِرْدًا حَقِيقِيًّا بِالْحَيَاةِ الْقِرْدِيَّةِ لَمَا أَثَّرَ فِيهِ الْمَسْخُ شَيْئًا، وَلَا آلَمَهُ بِشَيْءٍ؛ وَلَكِنَّ حَقِيقَتَهُ الْإِنْسَانِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا، فَيَأْتِي إِلَى أَقْرِبَائِهِ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَهُ، يَبْكِي وَيَتَمَسَّحُ بِهِمْ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَاتَ الْمُسُوخُ جَمِيعًا، فَلَمْ يَنْسَلْ مِنْ مَسْخٍ نَسْلٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَاللهَ اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ -عِبَادَ اللهِ-!

أَدُّوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((الْحَلَالُ يَأْتِي كَفَافًا وَالْحَرَامُ يَأْتِي جُزَافًا))

إِنَّ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ، وَلَا يَسْتَغْرِبُ النَّاسُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْأَمْرِ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِصُعُوبَةِ الْحُصُولِ عَلَى الْحَلَالِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ صُعُوبَةِ الْحُصُولِ عَلَى الْحَلَالِ مِنَ الْمُقَرَّرَاتِ فِي الشَّرْعِ وَمِنَ الْمُسَلَّمَاتِ فِيهِ.

والْحَلَالُ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِي جُزَافًا، وَقَدْ أَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ السَّبْتِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].

فَأَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَبَاحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الصَّيْدَ لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْيَوْمَ الَّذِي حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ تَأْتِيهِمُ الْحِيتَانُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ.. تَأْتِيهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ {شُرَّعًا}، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ}.

الْحَلَالُ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِي جُزَافًا..

سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: ((عِنْدَكَ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَأَنَّ الْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا؟)).

عِنْدَكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، يَأْتِي قَلِيلًا يَقْطُرُ قَطْرَةً قَطْرَةً، عِنْدَكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَأَنَّ الْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا بِغَيْرِ عَدٍّ، بِلَا إِحْصَاءٍ وَلَا حَصْرٍ؟

((عِنْدَكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَأَنَّ الْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163])).

فَهَذَا حَلَالٌ يَأْتِي كَفَافًا، وَحَرَامٌ يَأْتِي جُزَافًا، وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يَذْهَبُ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ؛ إِذْ إِنَّ رَبَّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ جَعَلَ عَلَى الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ يَوْمًا مُعَظَّمًا؛ هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَرَفَضُوهُ، وَاخْتَارُوا السَّبْتَ، فَفَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَائِضَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَعْمَالًا، وَطَلَبَ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ طَاعَاتٍ بِعَيْنِهَا، شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِالْأَيْسَرِ الْأَيْسَرِ لَعَامَلَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا أَخَذُوا بِهِ، وَلَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ.

فَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الصَّيْدَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، كَانَتْ قَرْيَةً أَغْفَلَ الْقُرْآنُ ذِكْرَهَا، فَلَا نَعْرِضُ لِذِكْرِهَا؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي ذِكْرِهَا مِنْ فَائِدَةٍ تُذْكَرُ لَذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَبْهَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ لَا تَلْتَفِتْ وَلَا تَبْحَثْ وَلَا تُنَقِّبْ وَلَا تُمَحِّصْ حَوْلَ الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ فَائِدَةٍ تُذْكَرُ لَذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ هِدَايَةً لِلْبَشَرِ وَنُورًا؛ وَلَكِنَّ أَقْوَامًا يَلْتَفِتُونَ عَنِ اسْمِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَأَقْوَامًا يَبْحَثُونَ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى آدَمَ وَزَوْجِهِ مَا هِيَ، إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ!! وَلَكِنْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْمُبْهَمَاتِ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ الْبَحْثُ حَوْلَ حَقِيقَتِهَا لَا يُجْدِي نَفْعًا.

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].

قَرْيَةٌ.. وَالْقَرْيَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ لَيْسَتْ هِيَ الْقَرْيَةَ فِي عُرْفِنَا الْحَاضِرِ، وَإِنَّمَا الْقَرْيَةُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَفِي عُرْفِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَأُسْلُوبِهِ هِيَ الْمَدِينَةُ، مَدِينَةٌ هِيَ حَاضِرَةٌ بَحْرًا؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْبَحْرُ هُوَ (بَحْرَ الْقُلْزُمِ) -يَعْنِي: الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ-، وَالْمَدِينَةُ هِيَ (أَيَلَةَ) -يَعْنِي: هِيَ مَدِينَةُ الْعَقَبَةِ الْآنَ-؛ كُلُّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُنَا شَيْئًا.

وَلَكِنْ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}؛ إِذْ حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الصَّيْدَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَكَانُوا إِذَا مَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ يَوْمُ السَّبْتِ وَجَدُوا الْبَحْرَ -وَهُمْ فِي الْقَرْيَةِ الَّتِي هِيَ حَاضِرَتُهُ -يَعْنِي: حَاضِرَةَ الْبَحْرِ، يَعْنِي: عَلَى شَاطِئِهِ-؛ وَجَدُوا الْبَحْرَ قَدِ امْتَلَأَ حِيتَانًا -الْحُوتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ هُوَ الْحُوتَ فِي عُرْفِ الْبَاحِثِينَ فِي عُلُومِ الْبَحْرِيَّةِ، ذَلِكَ الْكَائِنُ الْبَحْرِيُّ الْعَظِيمُ الْخِلْقَةِ الَّذِي يَتَنَفَّسُ الْهَوَاءَ الْجَوِيَّ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ فَيُخْرِجُ الْهَوَاءَ مَعَ الْمَاءِ صَانِعًا شِرَاعًا، الْحُوتُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ السَّمَكَةُ الْعَظِيمَةُ، كَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ، ((فَاحْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ -يَعْنِي: فِي زِنْبِيلٍ، وَهِيَ الْقُفَّةُ الْعَظِيمَةُ-، فِي زِنْبِيلٍ، احْمِلْ فِي هَذَا الزِّنْبِيلِ حُوتًا، وَقِيلَ: كَانَتْ سَمَكَةً مَشْوِيَّةً؛ بَلْ إِنَّ هَذَا ثَابِتٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ -يَعْنِي: فَالْعَبْدُ الصَّالِحُ هُنَالِكَ حَيْثُ فَقَدْتَ الْحُوتَ)).

{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ}؛ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى حَسَبِ الْمُصْطَلَحِ، وَهُوَ مَا يَتَنَاسَقُ مَعَ جَوِّ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ جَوَّ الْآيَةِ يَقُولُ: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} يَعْنِي: تَأْتِي الْحِيتَانُ كَأَنَّ لَهَا أَشْرِعَةً -جَمْعُ شِرَاعٍ- تُخْرِجُ الْهَوَاءَ الْجَوِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْهَوَاءُ حَامِلًا الْمَاءَ، صَانِعًا شِرَاعًا أَوْ كَمِثْلِ الشِّرَاعِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ فِي الْحُوتِ الْبَحْرِيِّ الَّذِي نَعْرِفُهُ نَحْنُ فِي مُصْطَلَحِنَا الْحَادِثِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ عَلَى الْأَصْلِ اللُّغَوِيِّ؛ فَالْمُعْجِزَةُ ظَاهِرَةٌ وَبَاهِرَةٌ.

{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا}: لَوْ كَانَ عَلَى الْأَصْلِ فَهِيَ أَسْمَاكٌ تَأْتِي ظَاهِرَةً، {شُرَّعًا} يَعْنِي: ظَاهِرَةً بَارِزَةً يُمْكِنُ أَنْ تُتَنَاوَلَ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ مَا وَسِيلَةٍ لِلصَّيْدِ سِوَى الْيَدِ الْمُجَرَّدَةِ.

{تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ}: فَإِذَا مَضَى السَّبْتُ ظَلُّوا مِنَ السَّبْتِ إِلَى السَّبْتِ الَّذِي يَلِي وَلَا حُوتَ هُنَالِكَ فِي الْبَحْرِ يَبِينُ، وَلَا سَمَكَةَ فِي الْبَحْرِ تَظْهَرُ، فَيَظَلُّونَ يَتَلَدَّدُونَ يَتَقَلَّبُونَ عَلَى أَمْثَالِ الْجَمْرِ أُسْبُوعًا بِطُولِهِ حَتَّى يَأْتِيَ السَّبْتُ، فَإِذَا مَا جَاءَ السَّبْتُ وَجَدُوا الْحِيتَانَ فِي الْبَحْرِ شُرَّعًا.

{كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، بَلَاءٌ عَظِيمٌ.

يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ-: ((إِنَّ الْحَلَالَ لَا يَحْتَمِلُ السَّرَفَ)).

الْحَلَالُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِسْرَافَ.

تَقُولُ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَحَدُّ النَّاسِ لِسَانًا، وَأَقْبَضُ النَّاسِ لِذَاتِ يَدٍ)).

تَقُولُ: فِيكَ حِدَّةٌ ظَاهِرَةٌ؛ وَلَكِنَّهَا امْرَأَةُ عَالِمٍ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ دَائِمًا وَأَبَدًا لِمُخَالِطِي مَنْ كَانَ صَالِحًا.

عَنْ أَنَسٍ -كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ- قَالَ: ((كُنْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا.. كُنَّا خَارِجَيْنِ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَتَى السَّاعَةُ؟)).

فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)).

فَاسْتَكَانَ الرَّجُلُ وَقَالَ: ((وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَبِيرِ صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، وَلَا صَدَقَةٍ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ﷺ )).

فَقَالَ: ((الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)).

فَقَالَ أَنَسٌ: ((فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ مُنْذُ أَسْلَمْنَا فَرَحَنَا بِقَوْلِ نَبِيِّنَا: ((الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ))، وَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ؛ فَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

لَمَّا صَحِبَ كَلْبٌ -أَعَزَّكُمُ اللهُ- قَوْمًا صَالِحِينَ؛ اسْتَأْهَلَ أَنْ يَذْكُرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ بَلْ جَعَلَ الْأَمْرَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلَّ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ--: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18].

فَذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ دُونِ الْكِلَابِ قَاطِبَةً مُكَرَّمًا، وَأَنْتَ تَتْلُو قَوْلَ رَبِّكَ: {وَكَلْبُهُمْ} تَأْخُذُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ قَوْلِ رَبِّكَ: {وَكَلْبُهُمْ} عَشْرَ حَسَنَاتٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

فَإِذَا كَانَ كَلْبٌ أَحَبَّ قَوْمًا مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأَصَابَهُ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ أَنْ ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا؛ فَكَيْفَ بِمَنْ أَحَبَّ الصَّالِحِينَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّالِحِينَ-.

الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- كَانَ يَوْمًا فِي بَيْتِهِ وَعِنْدَهُ خَادِمُهُ، وَكَانَا صَائِمَيْنِ، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ بِقَلِيلٍ طَرَقَ الْبَابَ طَارِقٌ، فَذَهَبَ الْخَادِمُ يَنْظُرُ مَنِ الطَّارِقُ، فَدَخَلَ وَخَرَجَ وَصَارَتْ حَرَكَةٌ، فَلَمَّا أَتَى السُّكُونُ قَالَ لَهُ الْحَسَنُ: ((مَا الشَّأْنُ؟)).

فَقَالَ: ((هَذَا رَجُلٌ يَطْلُبُ صَدَقَةً)).

قَالَ: ((وَمَا أَعْطَيْتَهُ؟)).

قَالَ: ((أَعْطَيْتُهُ كُلَّ مَا عِنْدَنَا)).

قَالَ: ((وَلَمْ تُبْقِ شَيْئًا لِإِفْطَارِنَا؟)).

قَالَ: ((لَا)).

فَقَالَ: ((إِنَّكَ لَقَلِيلُ الْعِلْمِ، كَثِيرُ الْيَقِينِ)).

فَأَسَرَّهَا فِي نَفْسِهِ.

لَمَّا أُذِّنَ لِلْمَغْرِبِ جَاءَ عَبْدٌ وَعَلَى رَأْسِهِ صَحْفَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا مِنْ أَطَايِبِ مَا رَزَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَجَاءَ الْعَبْدُ يَدْفَعُ حَتَّى كَانَ بَيْنَ يَدَيِ الْحَسَنِ، فَوَضَعَ مَا هُنَالِكَ وَقَالَ: ((يَا إِمَامُ! إِنَّ سَيِّدِي قَدْ قَالَ لِي: إِنْ قَبِلَ مِنْكَ هَذَا الطَّعَامَ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ؛ فَاقْبَلْهُ مِنِّي لِكَيْ تُعْتِقَ رَقَبَتِي)).

فَقَالَ: ((قَبِلْتُهُ)).

فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ غُلَامُهُ فَقَالَ: ((يَا إِمَامُ! إِنَّكَ لَكَثِيرُ الْعِلْمِ، قَلِيلُ الْيَقِينِ)).

فَرَدَّهَا إِلَيْهِ.

هُوَ قَالَ: ((أَنْتَ قَلِيلُ الْعِلْمِ، كَثِيرُ الْيَقِينِ))، فَلَمَّا جَاءَ الْيَقِينُ قَالَ: ((أَنْتَ كَثِيرُ الْعِلْمِ، قَلِيلُ الْيَقِينِ)).

نَعُودُ..

قَالَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- لَهُ يَوْمًا: ((أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ..))، وَهِيَ تُخَاطِبُ وَاحِدًا؛ وَلَكِنَّهَا امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ لَا تُجَبِّهُ رَجُلَهَا بِمَا يَسُوءُ، لَا تَقُولُ لَهُ: أَنْتَ يَا إِبْرَاهِيمُ رَجُلٌ حَادُّ اللِّسَانِ ذَرِبُهُ، وَلِسَانُكَ كَالْمِبْرَدِ؛ فَإِذَا مَا أَخْطَأَ مُخْطِئٌ نَزَلَ لِسَانُكَ عَلَيْهِ يَفْعَلُ الْأَفَاعِيلَ، يَفْرِي أَدِيمَهُ بِالْحَقِّ فَرْيًا، لَا تَقُولُ ذَلِكَ، وَلَا تَقُولُهُ امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ لِرَجُلِهَا، وَإِنَّمَا تَقُولُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لِرَجُلِهَا تَشْكُو الْفَاقَةَ، وَتَشْكُو ضِيقَ ذَاتِ الْيَدِ، وَتَطْلُبُ التَّوْسِعَةَ بِالتَّوْرِيَةِ تَارَةً، وَبِالْكِنَايَةِ تَارَةً أُخْرَى، وَلَا تُكَلِّفُ الرَّجُلَ فَوْقَ مَا يُطِيقُ.

قَالَتْ: ((أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ..))، فَأَدْخَلَتْهُ فِي زُمْرَةٍ صَالِحَةٍ طَيِّبَةٍ؛ لِكَيْ يَكُونَ اللَّوْمُ مُوَزَّعًا عَلَى الْعُلَمَاءِ جَمِيعًا، فَيُصِيبُ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُ قَدْرٌ يَسِيرٌ.

قَالَتْ: ((أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَحَدُّ النَّاسِ لِسَانًا، وَأَضْيَقُ النَّاسِ وَأَمْسَكُ النَّاسِ لِذَاتِ يَدٍ)).

فَقَالَ: ((أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ حِدَّةِ اللِّسَانِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ يَكُونُ مَعَنَا، وَالْبَاطِلَ مَعَ مُخَالِفِينَا، وَهُمْ يَأْبَوْنَ -يَرْفُضُونَ وَيَمْتَنِعُونَ- إِلَّا أَنْ يَدْفَعُوا حَقَّنَا بِبَاطِلِهِمْ؛ فَمَنْ يَصْبِرُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ؟! وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ ضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ؛ فَإِنَّ الدِّرْهَمَ الْحَلَالَ لَا يَقَعُ فِي الْيَدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ -فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ!!-؛ فَأَنْتِ تَعْلَمِينَ أَنَّ الدِّرْهَمَ الْحَلَالَ لَا يَقَعُ فِي يَدِ الرَّجُلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ، فَإِذَا تَحَصَّلَ فِي الْيَدِ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ)).

الْحَلَالُ لَا يَحْتَمِلُ السَّرَفَ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَمْدَحْ بِالْإِسْرَافِ، بَلْ ذَمَّ بِهِ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27].

نَعُودُ إِلَى الْقِصَّةِ..

((أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَأَنَّ الْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا؟)).

فَقَالَ: ((نَعَمْ، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ})).

هَؤُلَاءِ لَمَّا وَجَدُوا الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهِ؛ فَمَاذَا صَنَعُوا؟!!

خَدُّوا فِي الْأَرْضِ أَخَادِيدَ تَتَّصِلُ بِالْبَحْرِ إِلَى الْيَابِسَةِ مِثْلِ الْهَوِيسِ، فَإِذَا مَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بَعْدَمَا يَفْتَحُونَ مَا هُنَالِكَ مِنْ حَوَاجِزَ؛ دَخَلَتِ الْحِيتَانُ مَعَ الْمَاءِ، فَإِذَا مَا دَخَلَتِ الْحِيتَانُ الْخُلْجَانَ أَنْزَلُوا الْحَوَاجِزَ، وَلَمْ يَصْطَادُوا -بِزَعْمِهِمْ-، فَإِذَا مَا مَرَّ السَّبْتُ أَقْبَلُوا عَلَى مَا دَخَلَ فَحُجِزَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فِي الْخُلْجَانِ مِنَ السَّمَكِ.. مِنَ الْحِيتَانِ، فَشَوَوْا ذَلِكَ، وَأَطْعَمُوهُ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَطَعِمُوا مِنْهُ!!

إِذَنِ؛ الْحَلَالُ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِي جُزَافًا.

((جُمْلَةٌ مِنْ صُوَرِ أَكْلِ الْحَرَامِ الْمُعَاصِرَةِ))

عِبَادَ اللهِ! فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي أَدَاءِ عَمَلِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَافِعَ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.

إِنَّ تَحْصِيلَ الْمَكَاسِبِ مِنَ الْحَرَامِ تَعَدَّدَتْ صُوَرُهُ بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْصِيَهُ إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

 وَعِنْدَنَا فِي عَصْرِنَا هَذَا كُلُّ مُوَظَّفٍ فِي الدَّوْلَةِ مَهْمَا كَانَ مَوْقِعُهُ إِنَّمَا هُوَ أَجِيرٌ عِنْدَ الدَّوْلَةِ عَلَى مُقْتَضَى عَقْدٍ لَهُ بُنُودٌ قَدْ خُطَّتْ وَصِيغَتْ؛ وَلَكِنْ هُنَاكَ جَهَالَةٌ فَاشِيَةٌ عِنْدَ الْأُجَرَاءِ -يَعْنِي: عِنْدَ الْمُوَظَّفِينَ وَالْعُمَّالِ-، هُنَاكَ جَهَالَةٌ فَاشِيَةٌ فِي مَعْرِفَةِ بُنُودِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ الْمَعْقُودِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِهَةِ الَّتِي يَعْمَلُ أَجِيرًا لَدَيْهَا.

الْإِجَارَةُ: عَقْدٌ بِمَنْفَعَةٍ عَلَى عِوَضٍ مِنْ مَالٍ، فَأَنْتَ تَأْتِي بِالْمَنْفَعَةِ -عَقْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَادِّيَّةً- فِي مُقَابِلِ عِوَضٍ مَادِّيٍّ مَعْلُومٍ.

مَا مِنْ مُوَظَّفٍ فِي الدَّوْلَةِ إِلَّا وَهُوَ أَجِيرٌ عِنْدَ الدَّوْلَةِ بِشُرُوطِ إِجَارَةٍ مُثْبَتَةٍ فِي لَائِحَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَهُوَ مَتَى مَا قَبِلَ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْوَظِيفَةِ فَقَدْ أَمْضَى عَقْدَ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّوْلَةِ بِأَخْذِ مَنْفَعَةٍ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَنِيَّةً؛ كَالْخَدَمِ وَالْعُمَّالِ، أَمْ كَانَتْ مَنْفَعَةً تَصِلُ إِلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ؛ كَالْمُهَنْدِسِينَ، وَالْعُلَمَاءِ، وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ؛ وَلَكِنَّهُ فِي الْمُنْتَهَى عَقْدُ إِجَارَةٍ، لَا بُدَّ مِنْ تَوْفِيَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي نَظِيرِ الْعِوَضِ؛ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَزُوغُ هَذَا الْمُوَظَّفُ فِي وَقْتِ الْعَمَلِ الرَّسْمِيِّ الَّذِي تَعَاقَدَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ؟ وَهَلْ إِذَا فَعَلَ يَكُونُ آكِلًا مِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟

أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ إِذَا مَا تَأَمَّلْتَ فِيهَا، وَبَحَثْتَ عَنْ إِجَابَاتِهَا؛ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الْحَلَالَ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَعَنْقَاءِ مَغْرِب؛ بَلْ هُمْ أَنْدَرُ مِنْ ذَلِكَ.

يَقُولُ نَبِيُّكُمْ : ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).

الطَّبِيبُ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمَرِيضُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ الْأَجْرَ؛ فَهَذَا عَقْدُ إِجَارَةٍ بِعِوَضٍ فِي نَظِيرِ مَنْفَعَةٍ مُتَحَصَّلَةٍ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ تَشْخِيصَهُ؛ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ ثَمَنَ الْفَحْصِ إِلَيْهِ، أَمْ يَأْكُلُ هَذَا الْمَالَ وَلَا يَرُدُّهُ إِلَى الْمَرِيضِ الَّذِي دَفَعَهُ؟

مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الطَّبِيبَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ الْمُبْرَمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وِزَارَةِ الصِّحَّةِ الَّتِي يَعْمَلُ أَجِيرًا لَدَيْهَا.. لَهُ الْحَقُّ فِي أَنْ يَفْتَتِحَ وَأَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مَعَ عَمَلِهِ فِي الْمَشْفَى -فِي الْمُسْتَشْفَى- أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ عِيَادَةً خَارِجِيَّةً، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ يَتَحَصَّلُ مَعَ رَاتِبِهِ عَلَى مَا يُسَمَّى بِـ (بَدَلِ عِيَادَةٍ).

وَأَمَّا إِذَا اِفْتَتَحَ لِنَفْسِهِ أَوِ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ عِيَادَةً خَارِجِيَّةً؛ فَإِنَّهُ يُخْصَمُ مِنْهُ بَدَلُ الْعِيَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ.

يَعْمَلُ فِي الْمُسْتَشْفَى فِي الْوَقْتِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِمَا يُرْضِي اللهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَعَلَى حَسَبِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهَ.

يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي عَمَلِهِ، وَلَا يَتَّخِذَ الْمُسْتَشْفَى كَالْأَعْرَافِ -مَنْطِقَةً وُسْطَى- إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهَا بِمَرِيضٍ أَتَى بِهِ مِنْ عِيَادَتِهِ؛ لِكَيْ يَسْتَكْمِلَ فِي الْمُسْتَشْفَى فُحُوصًا لِذَلِكَ الْمَرِيضِ، أَوْ يَأْخُذَ بِيَدِ مَرِيضٍ مِنَ الْمُسْتَشْفَى؛ لِيَذْهَبَ بِهِ إِلَى عِيَادَتِهِ!!

إِذَا ذَهَبَ الْمَرِيضُ إِلَى الطَّبِيبِ فِي عِيَادَتِهِ فَدَفَعَ أَجْرَ الْفَحْصِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الطَّبِيبِ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الطَّبِيبُ أَنْ يُشَخِّصَهُ، هَلْ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يَرُدَّ لِلْمَرِيضِ الْأَجْرَ الَّذِي دَفَعَهُ، أَوْ لَا يَجِبُ؟

هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِمَرَضِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ تَشْخِيصًا، أَمْ يَخْدَعُهُ، ثُمَّ يَصِفُ لَهُ دَوَاءً لَيْسَ بِمُتَعَلِّقٍ بِمَرَضِهِ، فَيُكَلِّفُهُ مَالًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَيُمَكِّنُ لِلْمَرَضِ مِنْ جَسَدِهِ، وَيُفَوِّتُ عَلَيْهِ فُرْصَةَ شِفَاءٍ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَرْخَصَ ثَمَنًا، وَأَقَلَّ وَقْعًا عَلَى بَدَنِهِ مِمَّا يَتَأَتَّى بَعْدُ؟!

هَلْ يَظَلُّ سَادِرًا مَعَ جَهْلِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ تَشْخِيصَ مَرِيضِهِ، فَيَصِفُ لَهُ دَوَاءً، أَيَّ دَوَاءٍ كَمَا يَقُولُونَ: إِذَا لَمْ يَنْفَعْ لَا يَضُرُّ!

 لَا، هُوَ يَضُرُّ؛ يَضُرُّ بِالْمَرِيضِ مَالِيًّا، وَأَيْضًا يَضُرُّ بِهِ فِي بَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمَكِّنُ لِلْمَرَضِ الْمَجْهُولِ الْهُوِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ مَعْرِفَةً.. يُمَكِّنُ لِهَذَا الْمَرَضِ فِي جَسَدِ الْمَرِيضِ، وَتَطُولُ الْمُدَّةُ عَلَى الْوُقُوعِ عَلَى الدَّوَاءِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَرَضِ حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْبُرْءِ وَالشِّفَاءِ.

وَأَيْضًا هُوَ عِنْدَمَا يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ فُرْصَةَ شِفَاءٍ فِي زَمَانٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الزَّمَنَ أَصْلُ الْمَالِ، وَأَنَّ الْمَالَ فَرْعُ الزَّمَنِ، وَإِذَنْ فَهُوَ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ زَمَانًا كَانَ مَحَلًّا لِكَسْبِ مَالٍ، فَهُوَ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً كَانَتْ تَعُودُ عَلَى الْفَرْدِ بِمَالٍ، وَتَعُودُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ بِمَنْفَعَةٍ -أَيْضًا-.

وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ إِذَا مَا جَهِلَ؟!

يَحْرُمُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يَعْمَلَ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ؛ وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ طَبَّبَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطِّبِّ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ» .

وَالْعَامِلُ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ جَاهِلٌ بِالتَّخَصُّصِ الَّذِي لَمْ يَتَخَصَّصْ فِيهِ، وَإِذَنْ فَهُوَ إِذَا عَالَجَ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ؛ فَهُوَ مُعَالِجٌ فِيمَا هُوَ بِهِ جَاهِلٌ، وَفِيمَا هُوَ لَهُ غَيْرُ عَالِمٍ، وَإِذَنْ فَلَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُتَعَرِّضًا لِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَلَكِنْ هَلْ تَجِدُ طَبِيبًا يَقْوَى عَلَى أَنْ يَقُولَ لِمَرِيضِهِ: يَا صَاحِبِي، أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقَعَ عَلَى كُنْهِ عِلَّتِكَ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُشَخِّصَ دَاءَكَ، أَنَا بِهِ جَاهِلٌ، وَلَمْ يَفْتَحِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَيْنَ بَصِيرَتِي عَلَى حَقِيقَةِ دَائِكَ؟ فَاذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ، فَأَنَا أَظُنُّ أَنْ تَجِدَ تَشْخِيصَكَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَرُدُّ لَهُ الْمَالَ، هَلْ يَقْوَى طَبِيبٌ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ؟!!

دَعْكَ مِنْ هَذِهِ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ الَّذِي أَخَذَهُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْوُصُولَ إِلَى عَيْنِ التَّشْخِيصِ، أَوْ مُقَارِبًا لِلتَّشْخِيصِ لَا وَاقِعًا عَلَى عَيْنِهِ؟

يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمَالَ الَّذِي دُفِعَ لَمْ يُدْفَعْ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى عَيْنِ التَّشْخِيصِ، وَلَا مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَةِ الشِّفَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّفَاءَ بِيَدِ اللهِ وَهَذِهِ أَسْبَابٌ، فَقَدْ يَأْتِي مِنْ وَرَائِهَا نَفْعٌ، وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى مِنْ وَرَائِهَا نَفْعٌ.

إِذَنْ؛ هُوَ يَدْفَعُ الْمَالَ؛ لِأُجْرَةٍ قَدْ أَجَّرَ بِهَا الطَّبِيبَ لِزَمَانٍ يَتَحَصَّلُ مِنَ الطَّبِيبِ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِيهِ، وَهُوَ قَدِ اسْتَنْفَذَ هَذَا الزَّمَانَ عِنْدَمَا قَامَ الطَّبِيبُ بِفَحْصِهِ مُعْمِلًا فِيهِ عِلْمَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّيِّقِ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَوَقَعَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ الْوُصُولَ إِلَى حَقِيقَةِ التَّشْخِيصِ، إِذَنْ؛ فَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِلْأَجْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى شَيْءٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، هَذَا أَمْرٌ كَمَا تَرَى عَسِيرٌ جِدًّا.

كَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الْعَامِّ فِي الْمُسْتَشْفَيَاتِ، هَلْ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ لِلْمُسْتَشْفَى خَاصَّةً، فَيَأْخُذُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؛ لِأَنَّ عِيَادَتَهُ لَيْسَ بِهَا أَمْثَالُ هَذِهِ الْآلَاتِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَدَيْهِ يَقُومُ بِهِ بِأَعْمَالٍ يَتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهَا عَلَى أَجْرٍ، يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟!!

الْحَقُّ أَنَّ النَّاسَ -وَلَيْسَ الْأَطِّبَّاءُ وَحْدَهُمْ- النَّاسُ فِي جُمْلَتِهِمْ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- لَا يَرْقَبُونَ فِي الْمَالِ الْعَامِّ -وَهُوَ مَالٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ جَمِيعُ ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْيَانِهِمْ- لَا يَرْقُبُونَ فِي هَذَا الْمَالِ الْعَامِّ إِلَّا وَلَا ذِمَّةً، وَلَا يُرَاعُونَهُ بِحَالٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يَسِيرُونَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي يَحْفَظُهَا الْجَمِيعُ: إِذَا خَرِبَ بَيْتُ أَبِيكَ فَخُذْ لَكَ مِنْهُ قَالَبًا!!

السَّبَبُ فِي هَذَا وَفِي أَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي أَذْهَانِ النَّاسِ أَنَّ بَيْتَ أَبِيهِمْ قَدْ خَرِبَ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَصَّلُوا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ هُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الدِّينِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، إِعْلَامًا وَغَيْرَ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُونَ عَنْ مَفَاسِدَ تَتَعَلَّقُ بِالْحُكُومَاتِ، وَيَتَكَلَّمُونَ نَاقِدِينَ الْحُكَّامَ وَالْحُكُومَاتِ عَلَى مُسْتَوَى الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي كُلِّ بِقَاعِ الْأَرْضِ.

وَقُلْ لِي بِرَبِّكَ! مَاذَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ الْمَسَاكِينُ عِنْدَ نَقْدِ الْحُكُومَاتِ وَعِنْدَ نَقْدِ الْحُكَّامِ وَعِنْدَ مَا يَسْتَقِرُّ فِي أَذْهَانِ هَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ الْمَسَاكِينِ أَنَّ الْفَسَادَ قَدِ اسْتَشْرَى فِي الْمُجْتَمَعِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَتَأَتَّى إِصْلَاحٌ، قُلْ لِي بِرَبِّكَ إِذَا مَا وَصَلَ النَّاسُ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الْإِحْبَاطِ مَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُرْجَى مِنَ الصَّلَاحِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ؟!!

مَا هِيَ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ مِنْ نَشْرِ الْمَفَاسِدِ إِعْلَامًا عِنْدَ الْعَوَامِّ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَالَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ تَغْيِيرًا لِلْوَاقِعِ بِحَالٍ؟! وَإِنَّمَا يُحِسُّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنَّهُ غَرِيبٌ لَا يَنْتَمِي إِلَى بَلَدِهِ.

كَثِيرٌ مِنَ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تَتَبَنَّى السِّيَاسَاتِ مَنْهَجًا، وَالَّتِي تُكْثِرُ مِنْ نَقْدِ الْحُكُومَاتِ وَنَقْدِ الْحُكَّامِ عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ أَوْصَلَتِ الْمَجْمُوعَ الْمُسْلِمَ بِالشُّعُوبِ الْمُسْلِمَةِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَى حَالَةٍ مِنَ الِاسْتِهْتَارِ بِالْمَالِ الْعَامِّ، وَبِالْإِحْسَاسِ بِأَنَّ الْأَرْضَ الْمُسْلِمَةَ.. الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ أَرْضُ الْإِسْلَامِ أَصْبَحَ الْإِحْسَاسُ بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهَا يَكَادُ يَكُونُ مَعْدُومًا؛ لِأَنَّهُمْ يُحِسُّونَ مِنْ هَذَا النَّقْدِ لِلْحُكُومَاتِ وَالْحُكَّامِ أَنَّهُمْ لَا يَحْيَوْنَ فِي أَرْضِهِمْ، وَأَنَّ الْبِلَادَ لَيْسَتْ بِبِلَادِهِمْ، وَأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ، فِي حِينِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعَوَامَّ عِنْدَمَا يُنْشَرُ عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا النَّقْدِ لَا يَمْلِكُونَ حَوْلًا وَلَا حِيلَةً، لَا يَمْلِكُونَ إِلَّا التَّخْرِيبَ، فَتَجِدُ فِي الْمُوَصِّلَاتِ الْعَامَّةِ -الَّتِي يُقَالُ عَنْهَا خَطَأً الْمُوَاصَلَاتُ الْعَامَّةُ- تَجِدُ الرَّجُلَ إِذَا مَا رَكِبَ مُوَصِّلَةً مِنَ الْمُوَصِّلَاتِ الْعَامَّةِ يُحَاوِلُ أَنْ يَزُوغَ مِنَ الْمُحَصِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَنْتَمِي إِلَى الْحَرَامِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَكُلُّ مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْأَجْرِ الَّذِي حَجَبَهُ نَظِيرَ نَقْلِهِ هُوَ حَرَامٌ دَخَلَ عَلَى مَالِهِ.

الْأَنْكَى مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ تَجِدُ الشَّبَابَ -الَّذِي هُوَ عُدَّةُ الْأُمَّةِ- عِنْدَمَا يَرْكَبُ تِلْكَ الْمُوَصِّلَاتِ الْعَامَّةَ يُعْمِلُ فِيهَا يَدَ التَّخْرِيبِ، وَكَأَنَّهُ لَا يَنْتَمِي إِلَيْهَا وَلَا تَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ يَحْيَا فِي بَلَدٍ أَجْنَبِيٍّ يُعَادِيهِ يَكْرَهُهُ وَلَا يُحِبُّهُ، بَلْ يُرِيدُ لَهُ الْخَرَابَ، وَأَنْ يَتَأَتَّى الْخَرَابُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ بِلَا إِيَابٍ، وَأَنْ يَظَلَّ مُسْتَقِرًّا فِيهِ!!

لَا يَتَعَلَّقُ هَذَا بِالْمُوَصِّلَاتِ الْعَامَّةِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا بِالطُّرُقِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْمُؤَسَّسَاتِ الْعَامَّةِ فِي أَثَاثِهَا وَفِي بُنْيَانِهَا.

لَا يَسْتَقِرُّ فِي عَقْلِ وَاحِدٍ وَلَا فِي وُجْدَانِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَالَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْإِثْمَ فِيهِ أَكْبَرُ مِنَ الْإِثْمِ الْوَاقِعِ مِنْهُ أَوْ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ عَلَى مَالٍ خَاصٍّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ تَعَلَّقَتْ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ.

مَا الَّذِي أَوْصَلَ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ؟!!

هَذَا النَّقْدُ الْجَائِرُ لِتِلْكَ السِّيَاسَاتِ، وَهَذَا الْإِعْلَامُ الَّذِي يَظَلُّ -هَكَذَا- مُعَارِضًا، وَيُغَذِّي هَذِهِ الْمَجْمُوعَاتِ مِنَ الْأُمَمِ الْمُسْلِمَةِ فِي شُعُوبِ الْأَرْضِ الْإِسْلَامِيَّةِ.. يُغَذِّيهَا بِكُلِّ مَا يَدْعُو إِلَى الْإِحْبَاطِ، وَبِكُلِّ مَا يَدْعُو إِلَى عَدَمِ الِانْتِمَاءِ، وَبِكُلِّ مَا يَدْعُو إِلَى تَسْلِيمِ الْأَرْضِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْعِرْضِ إِذَا جَدَّ الْجِدُّ -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَظِيمِ-.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ رَبَّنَا فِي أُمَّتِنَا، وَفِي أَرْضِنَا الْمُسْلِمَةِ الَّتِي أَقَامَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا، نُدَافِعُ عَنْهَا إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَإِلَى آخِرِ مَا فِي أَرْوَاحِنَا مِنْ دِمَاءٍ وَمَا فِي عُرُوقِنَا مِنْ دِمَاءٍ.

((أَكْلُ الْحَلَالِ أَصْلٌ عَظِيمٌ وَالْفَجْوَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ))

إِذَنْ؛ أَكْلُ الْحَلَالِ -عِبَادَ اللهِ- أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْكِتَابِ وَفِي السُّنَّةِ، وَطَبَّقَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَصْلَ تَطْبِيقًا عَظِيمًا فِي حَيَاتِهِ جَمِيعِهَا، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- سَارُوا عَلَى دَرْبِهِ، وَنَهَجُوا نَهْجَهُ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا هُمْ عَلَى الدَّرْبِ يَسِيرُونَ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَأْتِي بَعْدُ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَلَاكِ الْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا.

هَذَا الْمَوْضُوعُ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ الْعَظِيمَةِ الْأَثَرِ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ الْمُسْلِمِ، وَلَكِنَّنَا نَخْتَلِفُ عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافًا بَيِّنًا، الْفَارِقُ الضَّخْمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ يَكْمُنُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْوُضُوحِ بِمَكَانٍ، الزَّمَانُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ظَاهِرِهِ، مَا زَالَتِ الشَّمْسُ تُشْرِقُ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَمَا زَالَ النَّهَارُ مُقَسَّمًا عَلَى سَاعَاتِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَغْيِيرٍ، وَالْإِنْسَانُ هُوَ هُوَ، لَا يَسِيرُ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَا يَزْحَفُ عَلَى بَطْنِهِ، وَإِنَّمَا مَا زَالَ كَمَا كَانَ أَصْحَابُ الرَّسُولِ اللهِ ﷺ يَسِيرُ كَمَا يَسِيرُونَ، وَأَيْضًا الْقُرآنُ بَيْنَ أَيْدِينَا كَمَا كَانَ بَيْنَ أَيْدِي أَصْحَابِ الرَّسُولِ ﷺ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ غَيْرِ مَا تَبْدِيلٍ، بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَالسُّنَّةُ مَجْمُوعَةٌ فِي دَوَاوِينِهَا، وَيَقُولُ عُلَمَاؤُنَا: ((مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ ((سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ)) فَكَأَنَّ فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ)).

بَلْ إِنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعَةٌ عِنْدَ صِغَارِ طُلَّابِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَمْ يَتَحَصَّلْ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَلَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ دَوَاوِينَ السُّنَّةِ بَعْدَمَا جَمَعَهَا الْأَئِمَّةُ تَدْوِينًا صَارَتْ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- لِكُلِّ مَنِ امْتَلَكَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا، فَحَازَ الْقَوْمُ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَكِنْ أَيْنَ الْعِزُّ مِنَ الذُّلِّ؟!!

وَأَيْنَ الْعُلْوُّ مِنَ السُّفْلِ؟!!

وَأَيْنَ السَّمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ؟!!

وَأَيْنَ الثَّرَى مِنَ الثُّرَيَّا؟!!

وَأَيْنَ التَّقَدُّمُ مِنَ التَّخَلُّفِ؟!!

وَأَيْنَ الْفِكْرُ الثَّاقِبُ مِنَ الْفِكْرِ الْعَلِيلِ الْكَلِيلِ؟!!

أَيْنَ نَحْنُ مِنْهُمْ؟!!

لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

أَيْنَ يَكْمُنُ الْخَلَلُ إِذَنْ؟!!

مَا الْفَارِقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ؟!!

 الْفَارِقُ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، كَانَ الدَّرْسُ الْقُرْآنِيُّ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَلْبِ الرَّسُولِ ﷺ يَتْلُوهُ عَلَى الْأَصْحَابِ، فَيَتَلَقَّاهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ إِلَيْهِ، كَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُخَاطِبُهُ؛ يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ! آمُرُكَ بِكَذَا، وَأَنْهَاكَ عَنْ كَذَا، وَأَعِظُكَ بِكَذَا، وَأُحَذِّرُكَ مِنْ كَذَا، فَهُوَ يَأْخُذُ الْأَمْرَ جِدًّا لَا هَزْلَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَمَا يَسْمَعُ الْبَيَانَ النَّبَوِيَّ مِنَ فِي النَّبِيِّ ﷺ، كَانَ يَأْخُذُهُ لِلتَّطْبِيقِ وَالْعَمَلِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا نَحْنُ فَنَحْنُ نُحَصِّلُ الْعِلْمَ مَتَاعًا، وَنُحَصِّلُ الْعِلْمَ تَرَفًا، وَنَزِيدُ عَلَى أَنْفُسِنَا حُجَجَ اللهِ عَلَيْنَا عِنْدَمَا نَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((إِنَّمَا أَخْشَى مِنْ رَبِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْعُوَنِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ فَيَقُولُ لِي: يَا عُوَيْمِرُ! فَأَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، مَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟)).

وَكَمَا بَيَّنَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَابْنُ حِبِّهِ، عِنْدَمَا كَانَ يَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ -يَعْنِي: تَخْرُجُ مَصَارِينُهُ مِنْ دُبُرِهِ- ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ)).

فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

اللهم اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَأَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

اللهم ارْزُقْنَا رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مُوَسَّعًا فِيهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، بِغَيْرِ حِسَابٍ يَا رَبَّ الْأَرْبَابِ.

اللهم ارْزُقْنَا رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مُوَسَّعًا فِيهِ مُبَارَكًا فِيهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللهم أَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ.

اللهم أَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

اللهم أَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ، وَيَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ.

اللهم جَنِّبْنَا الشُّبُهَاتِ، اللهم جَنِّبْنَا الشُّبُهَاتِ.

اللهم يَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ، وَيَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ، وَيَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ، وَيَسِّرْنَا لِلْحَلَالِ، وَيَسِّرْنَا لِلْحَلَالِ، وَيَسِّرْنَا لِلْحَلَالِ.

اللهم يَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ الْمَحْضَ، اللهم يَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ الْمَحْضَ.

اللهم أَبْعِدْ عَنَّا الشُّبُهَاتِ، وَأَبْعِدْ عَنَّا الْحَرَامَ.

اللهم أَبْعِدْ عَنَّا الشُّبُهَاتِ، وَأَبْعِدْ عَنَّا الْحَرَامَ.

نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُطْعِمَنَا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ. 

اللهم ارْزُقْنَا الْحَّلَالَ الصِّرْفَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ مُبَارَكًا فِيهِ، مُوَسَّعًا فِيهِ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

اللهم جَنِّبْنَا الْحَرَامَ.

اللهم جَنِّبْنَا الْحَرَامَ.

اللهم جَنِّبْنَا الْحَرَامَ.

اللهم ارْزُقْنَا مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ.

اللهم ارْزُقْنَا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ، وَوَسِّعْ عَلَيْنَا فِيهِ، وَقَنِّعْنَا بِمَا رَزَقْتَنَا، اللهم قَنِّعْنَا بِمَّا رَزَقْتَنَا، قَنِّعْنَا بِمَا رَزَقْتَنَا.

اللهم قِ دِيَارَنَا وَأَوْطَانَنَا مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللهم ارْزُقْنَا الْإِخْلَاصَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.

اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ، وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ.

وَأَحْسِنْ إِلَيْنَا، وَأَجْمِلْ بِنَا، وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ.

اللهم أَحْسِنْ خِتَامَنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:أَكْلُ الْحَلَالِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  فَضْلُ الشَّهَادَةِ وَوَاجِبُنَا نَحْوَ أُسَرِ الشُّهَدَاءِ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ الْعَاشِرُ: الْحَثُّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَثَمَرَاتُهُ))
  الإسلام دين الرحمة والسلام، وفضل شهر الله المحرم وصوم عاشوراء
  فضل عشر ذي الحجة
  الرد على الملحدين: من الأدلة المادية على وجود الله
  دَرَجَاتُ الْعَطَاءِ وَمَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ
  حَاجَتُنَا إِلَى الدِّينِ الرَّشِيدِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ وَأَثَرُهَا فِي بِنَاءِ الْحَضَارَاتِ
  فَضَائِلُ عْشَرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَحْكَامُ الْأُضْحِيَّةِ، وَفِقْهُ الْمَقَاصِدِ
  نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلرَّسُولِ ﷺ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان