كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ

كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ

((كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حَثُّ الْإِسْلَامِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ))

فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ شَيْءٍ يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الْعَالِيَةِ وَعَلَى ذِرْوَةِ السَّنَامِ، وَمَدَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.

 ((لَقَدْ أَعَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَى الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا وَدَعَا إِلَيْهَا الْجَنَّةَ وَالْكَرَامَةَ، مَعَ التَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَعَدَّ لِمَنْ حَادَ عَنْهَا وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا دَارَ الْهَوَانِ، وَهِيَ النَّارُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.

وَالْأَخْلَاقُ الْإِسْلَامِيَّةُ هِيَ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، أَوْ أَمَرَ بِهَا رَسُولُهُ الْكَرِيمُ مُحَمَّدٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، أَوْ مَدَحَ أَهْلَهَا، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهَا الْأَجْرَ الْعَظِيمَ وَالْفَوْزَ الْكَبِيرَ)).

وَهَذِهِ بَعْضُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي حَثَّتْ عَلَى التَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَالْخِصَالِ الْفَاضِلَةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} [البقرة: 83].

((أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عُمُومًا، فَقَالَ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وَمِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْعِلْمَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَالْبَشَاشَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ طَيِّبٍ.

وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَسَعُ النَّاسَ بِمَالِهِ؛ أَمَرَ بِأَمْرٍ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ: النَّهْيُ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ لِلنَّاسِ؛ حَتَّى لِلْكُفَّارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

وَمِنْ أَدَبِ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ: أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ نَزِيهًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، غَيْرَ فَاحِشٍ وَلَا بَذِيءٍ، وَلَا شَاتِمٍ، وَلَا مُخَاصِمٍ، بَلْ يَكُونُ حَسَنَ الْخُلُقِ، وَاسِعَ الْحِلْمِ، مُجَامِلًا لِكُلِّ أَحَدٍ، صَبُورًا عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ.

ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ، وَالزَّكَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإِحْسَانِ إِلَى الْعَبِيدِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ}.

((هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ؛ وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمُ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.

وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ: أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: مَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلِمْنَا عَنْهُمْ، وَأَمْهَلْنَاهُمْ، وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ)).

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ -الزَّعِيمُ هَاهُنَا: الضَّامِنُ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ -رَبَضُ الْجَنَّةِ: مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا، تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيِ: الْجَدَلَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟)).

قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

إِنَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ يَبْلُغُ الرَّجُلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.

إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَيْسَ كَلَامًا يُقَالُ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ..

 ((مِنْ مَعَانِي حُسْنِ الْخُلُقِ: كَفُّ الْأَذَى))

إِنَّ لِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً، وَوُجُوهًا شَتَّى، وَمِنْ أَجْلَى هَذِهِ الْمَعَانِي وَأَبْرَزِهَا: كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ؛ فَعَنِ الْحَسَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «حُسْنُ الْخُلُقِ: الْكَرَمُ، وَالْبَذْلَةُ، وَالِاحْتِمَالُ».

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ: بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ: «هُوَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى».

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «حُسْنُ الْخُلُقِ: أَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ».

 وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: أَلَّا تَغْضَبَ، وَلَا تَحْقِدَ)).

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: «حُسْنُ الْخُلُقِ: كَظْمُ الْغَيْظِ للهِ، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا أَوْ إِقَامَةً لِحَدٍّ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ إِلَّا تَغْيِيرًا لِمُنْكَرٍ، أَوْ أَخْذًا بِمَظْلِمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ».

قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَدْوَأِ الدَّاءِ؟)).

قَالُوا: ((بَلَى)).

قَالَ: ((الْخُلُقُ الدَّنِيُّ، وَاللِّسَانُ البَذِيُّ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: «الْحَسَنُ الْخُلُقِ مِنْ نَفْسِهِ فِي رَاحَةٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي سَلَامَةٍ، وَالسَّيِّءُ الْخُلُقِ النَّاسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي عَنَاءٍ)).

الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ؛ زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ.

وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى)).

وَقِيلَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ)).

وَقِيلَ: ((التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ)).

((النَّهْيُ عَنْ أَذَى النَّاسِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ تُؤَكِّدُ عَلَى حُرْمَةِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّاسِ عَامَّةً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ الْوَعِيدَ وَالزَّجْرَ الشَّدِيدَ لِمَنْ تَعَمَّدَ أَذِيَّةَ الْمُسْلِمِ بِأَيِّ نَوْعٍ أَوْ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ الْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِيَّةِ؛ فَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْإِيذَاءِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

فَهَذَا فِي النَّهْيِ عَنِ الْإِيذَاءِ.

((وَالْإِيذَاءُ يَشْمَلُ الْإِيذَاءَ بِالْقَوْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالْفِعْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالتَّرْكِ.

أَمَّا الْإِيذَاءُ بِالْقَوْلِ: فَأَنْ يُسْمِعَ أَخَاهُ كَلَامًا يَتَأَذَّى بِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّهُ، فَإِنْ ضَرَّهُ كَانَ أَشَدَّ إِثْمًا.

وَالْإِيذَاءُ بِالْفِعْلِ: أَنْ يُضَايِقَهُ فِي مَكَانِهِ، أَوْ فِي جُلُوسِهِ، أَوْ فِي طَرِيقِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالْإِيذَاءُ بِالتَّرْكِ: أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا يَتَأَذَّى مِنْهُ أَخُوهُ.

كُلُّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَعَلَيْهِ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

{احْتَمَلُوا} يَعْنِي: تَحَمَّلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

والْبُهْتَانُ: وَهُوَ الْكَذِبُ.

وَالْإِثْمُ الْمُبِينُ: وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الْعَظِيمَةُ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ آذَى الْإِنْسَانَ لِارْتِكَابِهِ عَمَلًا يَحِقُّ أَنْ يُؤْذَى عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ.

الْمُهِمُّ أَنَّ الْإِيذَاءَ بِحَقٍّ لَا بَأْسَ بِهِ)).

حَرَّمَ الدِّينُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَذَى وَالْإِضْرَارِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْيَدِ، أَمْ بِاللِّسَانِ، أَمْ بِالتَّسَبُّبِ، أَمْ بِالْمُبَاشَرَةِ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ قَوْلُهُ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)).

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

((إِنَّ أَذِيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ عَظِيمَةٌ، وَإِثْمَهَا عَظِيمٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهَا: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أَيْ: بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُمْ مُوجِبَةٍ لِلْأَذَى {فَقَدِ احْتَمَلُوا} عَلَى ظُهُورِهِمْ {بُهْتَانًا}؛ حَيْثُ آذَوْهُمْ بِغَيْرِ سَبَبٍ {وَإِثْمًا مُبِينًا}؛ حَيْثُ تَعَدَّوْا عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَكُوا حُرْمَةَ أَمْرِ اللَّهِ بِاحْتِرَامِهَا.

وَلِهَذَا كَانَ سَبُّ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لِلتَّعْزِيرِ بِحَسَبِ حَالَتِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، فَتَعْزِيرُ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَبْلَغُ، وَتَعْزِيرُ مَنْ سَبَّ الْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ)).

وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا؛ وَلَوْ كُنَّا نَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَنُعْطِيهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].

ذَكَرَ اللَّهُ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ لِلْإِحْسَانِ:

الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا: النَّفَقَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَلَمْ يُتْبِعْهَا الْمُنْفِقُ مَنًّا وَلَا أَذًى.

ثُمَّ يَلِيهَا قَوْلُ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ: الْإِحْسَانُ الْقَوْلِيُّ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ؛ الَّذِي فِيهِ سُرُورُ الْمُسْلِمِ، وَالِاعْتِذَارُ مِنَ السَّائِلِ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمَعْرُوفِ.

وَالثَّالِثَةُ: الْإِحْسَانُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.

وَهَذَانِ أَفْضَلُ مِنَ الرَّابِعَةِ وَخَيْرٌ مِنْهَا؛ وَهِيَ الَّتِي يُتْبِعُهَا الْمُتَصَدِّقُ الْأَذَى لِلْمُعْطَى؛ لِأَنَّهُ كَدَّرَ إِحْسَانَهُ، وَفَعَلَ خَيْرًا وَشَرًّا.

فَالْخَيْرُ الْمَحْضُ- وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا- خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يُخَالِطُهُ شَرٌّ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا، وَفِي هَذَا التَّحْذِيرُ الْعَظِيمُ لِمَنْ يُؤْذِي مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ اللُّؤْمِ وَالْحُمْقِ وَالْجَهْلِ.

وَاللَّهُ -تَعَالَى- غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ، حَلِيمٌ مَعَ كَمَالِ غِنَاهُ وَسِعَةِ عَطَايَاهُ يَحْلُمُ عَنِ الْعَاصِينَ، وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ، وَيُدِرُّ عَلَيْهِمْ خَيْرَهُ، وَهُمْ مُبَارِزُونَ لَهُ بِالْمَعَاصِي)).

مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ: أَلَّا يُؤْذِيَهُ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا شَدِيدًا، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فَضْلَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي تَنْحِيَةِ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْأَذَى يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ، أَوْ يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِمْ.

النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ حَالَ الْمُسْلِمِ فِي كَمَالِ إِسْلَامِهِ فَيَقُولُ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).

وَهَذَا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّكَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُفَّ يَدَكَ عَنِ الْأَذَى يَصِلُ بِسَبَبِهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ أَنْ تَكُفَّ أَذَى لِسَانِكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ يَتَمَرَّدُ عَلَى صَاحِبِهِ تَمَرُّدًا عَظِيمًا، وَلَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُذَلِّلَ اللِّسَانَ لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَإِلَّا بِبَذْلِ جُهْدٍ عَظِيمٍ فِي رِيَاضَةٍ مُتَّصِلَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ وَاعِيًا لِكُلِّ لَفْظَةٍ يَلْفِظُهَا؛ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لِسَخَطِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا عَنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).

شَجَرَةٌ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ إِذَا مَا مَرَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الطَّرِيقِ؛ آذَتْ مَنْ يَمُرُّ بِجِوَارِهَا أَوْ تَحْتَهَا، فَقَالَ رَجُلٌ لِنَفْسِهِ: إِنَّ هَذِهِ تُؤْذِي إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَامَ بِقَطْعِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِنِيَّةِ أَلَّا يَصِلَ أَذَاهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرَآهُ الرَّسُولُ ﷺ يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا عَنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ)).

قَالَ: ((اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ)).

وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ ((إِمَاطَةَ الْأَذَى شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ)) فِيمَا صَحَّ عَنْهُ ﷺ.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ)).

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْرَهُ أَنْ يَصِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ وَمِنَ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَذًى بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يُحِبُّهُ.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: ((النَّاسُ رَجُلَانِ؛ مُؤْمِنٌ فَلَا تُؤْذِهِ، وَجَاهِلٌ فَلَا تُجَاهِلْهُ)).

النَّاسُ إِمَّا مُؤْمِنٌ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الصِّنْفَ الْآخَرَ؛ وَهُوَ الْجَاهِلُ، فَالْجَاهِلُ يَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُجَاهِلَهُ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ».

قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ، أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ».

وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَفي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «المُسْلمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ».

وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ أَوِ الحَدِيدِ إِلَى المُسْلِمِ؛ جَادًّا، أَوْ مَازِحًا، أَوْ مُمَثِّلًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ فَاعِلَهُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَلْعُونٌ إِذَا فَعَلَ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ الجِدِّ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ المُزَاحِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَلْعُونًا إِذَا أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِالحَدِيدَةِ؛ أَيْ: بِالسِّلَاحِ؛ وَلَوْ كَانَ مَازِحًا، وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دُخُولِ المَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ وَأَمَاكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ بِالأَسْلِحَةِ إِذَا كَانَ فِي حَمْلِهَا ضَرَرٌ عَلَى المُسْلِمِينَ.

عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ -أَوْ قَالَ: فَلْيَأْخُذْ، أَوْ: لِيَقْبِضْ- عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ؛ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيءٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي المَسْجِدِ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا».

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِخَافَةِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ إِرْهَابِهِمْ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، مَنْ أَخَافَهَا فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ ﷺ ».

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ -مَعَ النَّائِمِ-، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحزِنُهُ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ‏)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.  

((يَا عِبَادِي!)): هَلْ هَذَا مُوَجَّهٌ لِلْأُمَّةِ وَحْدَهَا، أَوْ لِلْبَشَرِيَّةِ جَمِيعِهَا؟

هَذَا لِلْبَشَرِيَّةِ أَجْمَعَ؛ لِلطَّائِعِ وَالْعَاصِي، لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، بِأَشْرَفِ أَسْمَائِهِمْ وَنُعُوتِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَضَافَهُمْ لِنَفْسِهِ ((يَا عِبَادِي!))، يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الْتِزَامِ مِنْهَاجِهِ الَّذِي بَيَّنَهُ رَسُولُهُ ﷺ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ((حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)) أَيْ: تَقَدَّسْتُ عَنْهُ؛ فَالظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَعَ اعْتِقَادِ ثُبُوتِ ضِدِّهِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَنْفِيَّةِ عَنْ رَبِّ الْبَرِيَّةِ.

فَالظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

والظُّلْمُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، أَوِ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَهُمَا جَمِيعًا مُحَالٌ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

((وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا)) يَعْنِي: أَنَّهُ -تَعَالَى- حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى عِبَادِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَظَالَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ فَالظُّلْمُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: ظُلْمُ النَّفْسِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

ثُمَّ يَلِيهِ الْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، فَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ نَوْعَيِ الظُّلْمِ.

وَالثَّانِي: ظُلْمُ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-،  عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

عِبَادَ اللهِ! هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ إِلَّا لِدَلِيلٍ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْكَ أَنْ تُدْخِلَ النَّفْعَ عَلَى نَفْسِكَ وَتُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى غَيْرِكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ.

فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)): قِيلَ: إِنَّ الضَّرَرَ هُوَ الِاسْمُ، وَالضِّرَارَ الْفِعْلُ؛ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الضَّرَرَ نَفْسَهُ مُنْتَفٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِدْخَالَ الضَّرَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَذَلِكَ.

النَّبِيُّ ﷺ نَفَى الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَمَّا إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ بِحَقٍّ؛ إِمَّا لِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ؛ فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ ظَلَمَ غَيْرَهُ؛ فَيَطْلُبُ الْمَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالْعَدْلِ، فَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ)).

فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا)).

فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)).

قَالُوا: ((وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).

قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

نَبِيُّكُمْ ﷺ مَنَعَ مَنْ كَانَ ذَا رِيحٍ خَبِيثَةٍ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ اللهِ؛ يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ أَوِ الْكُرَّاثَ؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، [وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيَعْتَزِلْنَا] [وَفِي رِوَايَةٍ: وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا]؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).

هُوَ بَيْتُ اللهِ! يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَمَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ، إِذَا أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا، أَوْ كَانَ آتِيًا بِمَا عَلَى قَانُونِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنَ الرَّوَائِحِ -لَا مِنْ أَصْلِ الْمَطْعُومِ؛ فَأَصْلُهَا حَلَالٌ-؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ، وَلْيَعْتَزِلْ بُيُوتَ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ الْمُصَلِّينَ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ؛ ((فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).

((كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا تَعَبَّدَنَا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ تَعَبَّدَنَا -أَيْضًا- بِحِفْظِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَدَمِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا بِنَوْعٍ مِنَ الْأَذَى.

إِنَّ الْمُسْلِمَ كَمَا يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ؛ كَذَلِكَ يُؤْجَرُ عَلَى كَفِّ الْأَذَى وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَدَاخِلٌ فِي مَعْنَى الصَّدَقَةِ؛ فَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ: كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟

قَالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: ((فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَكَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ، كَفُّ الشَّرِّ عَنْهُمْ صَدَقَةٌ يَأْتِي بِهَا الْكَافُّ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ».

قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟

قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَدَهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ».

قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الخَيْرِ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ».

حَتَّى إِذَا مَا أَمْسَكَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ أَتَى بِالصَّدَقَةِ.

إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعِينَ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْتَمِلَ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ ذَاتَهُ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى خَلْقِ اللهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَمَنْ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ فَقَدْ تَصَدَّقَ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.

((إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّهَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ هَذَا مِنَ الْإِيمَانِ.

وَالْمُرَادُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى: إِزَالَتُهُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْأَذَى: هُوَ مَا يُؤْذِي الْمَارَّةَ؛ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ شَوْكٍ، أَوْ زُجَاجٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، فَيُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 

وَعِنْدَ  مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ)).

فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَلْتَفِتُ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْتَفَتُوا إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ؛ لَكَانَتْ طُرُقُهُمْ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ؛ بَلْ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا طُرُقٌ كَطُرُقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ يَشْكُونَ مِنَ الْقَذَارَةِ وَإِلْقَاءِ الْقَاذُورَاتِ فِي طُرُقِهِمْ وَشَوَارِعِهِمْ.

وَحَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ ﷺ كَفِيلٌ لِإِزَالَةِ تِلْكَ الشَّكْوَى.

وَأَيْضًا كثَيِرٌ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُ إِلَى الْغَرْبِ وَإِلَى الشَّرْقِ وَالدُّوَلِ الَّتِي يَقُولُونَ عَنْهَا ((مُتَقَدِّمَةٌ))، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ رَجَعَ فَمَدَحَ شَوَارِعَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ دَلَّنَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَوْ أَخَذْنَا بِهِ مَا فَاقَنَا أَحَدٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَثَلًا-؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظْلِمُ نَفْسَهُ، وَيَظْلِمُ دِينَهُ، وَيَظْلِمُ إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ.

الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ يَعُودُونَ يَمْدَحُونَ النَّظَافَةَ؛ فَأَيْنَ نَظَافَةُ أُولَئِكَ الْخَلْقِ؟!!

هُمْ نَظَّفُوا شَوَارِعَهُمْ، نَظَّفُوا بُيُوتَهُمْ ظَاهِرًا؛ لَكِنَّهُمْ قَذَّرُوهَا بِالشِّرْكِ كَمَا قَذَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَجْسَادَهُمْ، وَأَرْوَاحَهُمْ.

فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ  مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ((مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ،  وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.  

 ((التَّحْذِيرُ مِنْ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِين فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ))

إِنَّ كَفَّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى فَضْلِهَا وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا، وَقَدْ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تَسْلَمُوا وَيَسْلَمَ لَكُمْ دِينُكُمْ؛ فَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ دِمَاءِ النَّاسِ، وَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَكُفُّوا بُطُونَكُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ)).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ-، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ)) أَيْ: يَكْفِيهِ مِنَ الشَّرِّ ((أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).

نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أُمُورٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((لَا تَحَاسَدُوا)) يَعْنِي: لَا يَحْسُدُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.

الْحَسَدُ مَرْكُوزٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَفُوقَهُ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ.

وَيَنْقَسِمُ النَّاسُ بَعْدَ هَذَا إِلَى أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي زَوَالِ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ بِالْبَغْيِ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي نَقْلِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ عَنِ الْمَحْسُودِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ شَرُّهُمَا وَأَخْبَثُهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ.

وَكَانَ ذَنْبُ إِبْلِيسَ حَيْثُ حَسَدَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَآهُ قَدْ فَاقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ فِي جِوَارِهِ، فَمَا زَالَ يَسْعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنْهَا.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْيَهُودَ بِالْحَسَدِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].

وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ -حَالِقَةُ الدِّينِ، لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ-، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ)) وَغَيْرِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَا تَنَاجَشُوا))؛ فَسَّرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالنَّجَشِ فِي الْبَيْعِ: هُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا؛ إِمَّا لِنَفْعِ الْبَائِعِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ لَهُ، أَوْ بِإِضْرَارِ الْمُشْتَرِي بِتَكْثِيرِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: ((النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ)).

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ((أَجْمَعُوا أَنَّ فَاعِلَهُ عَاصٍ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا كَانَ بِالنَّهْيِ عَالِمًا)).

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ التَّبَاغُضِ: ((وَلَا تَبَاغَضُوا))؛ فَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ اللهِ؛ بَلْ عَلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ إِخْوَةً، وَالْإِخْوَةُ يَتَحَابُّونَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَتَبَاغَضُونَ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]، وَامْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمَ الْمَشْيَ بِالنَّمِيمَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَرَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَغَّبَ اللهُ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟)).

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: ((إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَأَمَّا الْبُغْضُ فِي اللهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، وَلَوْ ظَهَرَ لِرَجُلٍ مِنْ أَخِيهِ شَرٌّ فَأَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مَعْذُورًا فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ أُثِيبَ الْمُبْغِضُ لَهُ وَإِنْ عُذِرَ أَخُوهُ.

وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِ وَقَطِيعَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ: ((وَلَا تَدَابَرُوا))، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّدَابُرُ: الْمُصَارَمَةُ وَالْهِجْرَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ دُبُرَهُ، وَيُعْرِضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ التَّقَاطُعُ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)).

وَعَنْ أَبِي خِرَاشٍ السَّلْمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) ، وَغَيْرِهَا.

((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)) يَعْنِي: فِي الْإِثْمِ، وَكُلُّ هَذَا فِي التَّقَاطُعِ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَأَمَّا لِأَجْلِ الدِّينِ؛ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا؛ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِجْرَانِهِمْ لَمَّا خَافَ مِنْهُمُ النِّفَاقَ، وَأَبَاحَ هِجْرَانَ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَى الْأَهْوَاءِ.

وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هِجْرَانَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ.. أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا.

وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْقَطِعُ الْهِجْرَانُ بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ بِدُونِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَوَدَّةِ.

وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، فَقَالَ فِي الْأَجَانِبِ: تَزُولُ الْهِجْرَةُ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِوُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)) هَذَا قَدْ تَكَاثَرَ النَّهْيُ عَنْهُ؛ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطِبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَاخْتَلَفُوا: هَلِ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ؟ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ.

وَمَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَيَبْذُلُ لِلْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ لِيَشْتَرِيَهَا، وَيَفْسَخُ بَيْعَ الْأَوَّلِ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا))؛ هَذَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَرَكُوا التَّحَاسُدَ، وَالتَّنَاجُشَ، وَالتَّبَاغُضَ، وَالتَّدَابُرَ، وَبَيْعَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ؛ كَانُوا إِخْوَانًا.

وَفِيهِ أَمْرٌ بِاكْتِسَابِ مَا يَصِيرُ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إِخْوَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَدَاءُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَالِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَالنُّصْحِ لِلْغَيْرِ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ))؛ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً أُمِرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُ تَآلُفَ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعَهَا، وَنُهُوا عَمَّا يُوجِبُ تَنَافُرَ الْقُلُوبِ وَاخْتِلَافَهَا.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوصِلَ إِلَى أَخِيهِ النَّفْعَ، وَيَكُفَّ عَنْهُ الضَّرَرَ، وَمِنْ أَعْظَمِ الضُّرِّ الَّذِي يَجِبُ كَفُّهُ عَنِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ: الظُّلْمُ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ، بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَمِنْ ذَلِكَ: خِذْلَانُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْمُورٌ أَنْ يَنْصُرَ أَخَاهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا؛ فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟!!

قَالَ: ((تَمْنَعُهُ عَنِ الظُّلْمِ؛ فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ)). الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَمِنْ ذَلِكَ: كَذِبُ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ فَيَكْذِبُهُ، بَلْ لَا يُحَدِّثُهُ إِلَّا صِدْقًا.

وَمِنْ ذَلِكَ: احْتِقَارُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْكِبْرِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَغَمْصُ النَّاسِ)) وَغَمْصُ النَّاسِ: الطَّعْنُ عَلَيْهِمْ، وَازْدِرَاؤُهُمْ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((التَّقْوَى هَاهُنَا)) يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ بِالتَّقْوَى، فَرُبَّ مَنْ يَحْقِرُهُ النَّاسُ لِضَعْفِهِ، وَقِلَّةِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا؛ فَهُوَ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- مِمَّنْ لَهُ قَدْرٌ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ بِسَبَبِ التَّقْوَى وَبِحَسَبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟

قَالَ: ((أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )). الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)) يَعْنِي: يَكْفِيهِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْتَقِرُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لِتَكَبُّرِهِ عَلَيْهِ، وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الشَّرِّ.

وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ))، هَذَا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ بِهِ فِي الْمَجَامِعِ الْعَظِيمَةِ؛ فَإِنَّهُ خَطَبَ بِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ إِيصَالُ الْأَذَى إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةً؛ لِيَتَعَاطَفُوا وَيَتَرَاحَمُوا.

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ -فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ- قَالَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)).

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: ((لِيَكُنْ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْكَ ثَلَاثَةً: إِنْ لَمْ تَنْفَعَهُ فَلَا تَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْرِحْهُ فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ)).

هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ -كَمَا مَرَّ- مُبْتَدِعًا، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَبَاحُ عِرْضُهُ بِهِ، كَــ((لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ بَيَّنَ لَنَا فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مِنَ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَصِّلَهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ الَّتِي دَلَّنَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ ضَاعَتْ فِي هَذَا الْوَاقِعِ الْمُعَاصَرِ!!

فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ صَارَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، لَا يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحَقِّقُوهَا فِي حَيَاتِهِمْ، فَضَاعَتْ حُقُوقُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ إِغْفَالِ هَذِهِ الْآدَابِ.

ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي ((سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)) عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ: ((أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ الْعِلْمَ كُلَّهُ.

فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لَازِمًا أَمْرَ جَمَاعَتِهِمْ فَافْعَلْ)).

وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اسْتَغْنَى بِهَا ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ ذِكْرِ الْعِلْمِ كُلِّهِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ جُمْلَةَ خُطَبٍ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفَةَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ، وَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِمِنًى فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْأُصُولَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عُمَرَ فِي وَصِيَّتِهِ، وَرَكَّزَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ تَرْكِيزًا شَدِيدًا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَفِي خُطْبَتِهِ بِهَا بَدَأَ بِبَرَاعَةِ اسْتِهْلَالٍ مُنْقَطِعَةِ النَّظِيرِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَجَّهَ إِلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا لِي؛ فَإِنَّهُ لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا فِي مَوْقِفِي هَذَا أَبَدًا)).

فَأَلْقَوْا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِأَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْغَوْا إِلَيْهِ بِآذَانِهِمْ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ -عَزَّ وَجَلَّ- كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لَازِمًا أَمْرَ جَمَاعَتِهِمْ فَافْعَلْ)).

((حُرْمَةُ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ))

إِنَّ أَذِيَّةَ الْمُسْلِمِ بِسَفْكِ دَمِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ تُعَدُّ كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَجَرِيمَةً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فإِنَّ احْتِرَامَ دِمَاءِ النَّاسِ وَاحْتِرَامَ أَمْوَالِهِمْ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ شَرِيعَةُ الإِسْلَامِ، وَحُرْمَةُ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ شَرَائِعُ اللهِ كُلُّهَا، وَأَكْمَلُهَا شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ القَتْلِ، وَبَيَانُ خَطَرِهِ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ: قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

وَقَالَ ﷺ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ -أَيْ: نَصِيبٌ- مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ».

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ رَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى  أَنَّهُ قَالَ لِلخَضِرِ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكَهْف: 74].

وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [القصص: 15- 16].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].

 وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

الْأَصْلُ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، لَا تَحِلُّ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا؛ فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)).

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا الْقَاتِلُ؛ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟

قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)).

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَأَخْرَجَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا: سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغِيْرِ حِلِّهِ)).

وَالْوَرْطَاتُ: جَمْعُ وَرْطَةٍ، وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي قَلَّ مَا يَنْجُو مِنْهُ، أَوْ هِيَ الْهَلَاكُ، ((إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا أَيْ: لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا-: سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ -أَيْ: بِغَيْرِ حَقٍّ يُبِيحُ الْقَتْلَ-)).

فَهَذَا كُلُّهُ تَشْدِيدٌ فِي الدِّمَاءِ، وَبَيَانٌ عَظِيمٌ لِحُرْمَتِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

إِنَّ النَّفْسَ الْمَعْصُومَةَ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ أَمَانٌ، كَمَا قَالَ تعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء:93].

وَقالَ -سُبْحَانَهُ- في حَقِّ غَيْرِ المُسْلِمِ فِي حُكْمِ قَتْلِهِ خَطَأً لَا عَمْدًا: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92].

فَإِذَا كَانَ غَيْرُ المُسْلِمِ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً فِيهِ الدِّيَةُ وَالكَفَّارَةُ؛ فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!!

إِنَّ الجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعْظَمَ، وَإِنَّ الإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ  -كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا؛ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى؛ فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ المُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ القَاتِلِ الجَنَّةَ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذْلَانِ-.

((حُرْمَةُ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّعَدِّي عَلَى أَمْوَالِهِمْ))

إِنَّ مِنْ صُوَرِ أَذَى الْمُسْلِمِ: أَنْ تُؤْذِيَهُ فِي مَالِهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِهِ، بِالِاغْتِصَابِ فِي مَالِهِ، بِجُحُودِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ أَدَاؤُهُ، بِمُمَاطَلَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَتَأْخِيرِهِ وَإِرْجَائِهِ بِلَا عُذْرٍ، كُلُّ هَذَا مِنْ إِيذَاءِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ احْتِرَامُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا سَرِقَةَ، وَلَا اغْتِصَابَ، وَلَا إِتْلَافَ، وَلَا تَأْخِيرَ لِلْحُقُوقِ؛ فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ؛ كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ، وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ.

وَلَا يُنَازِعْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعْ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ الْقَاضِي؛ لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَالَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؛ فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

وَحَرَّمَ اللهُ السَّرِقَةَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ اللَّذَانِ يَأْخُذَانِ الْمَالَ الْمُحَرَّزَ الْمَصُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ؛ فَاقْطَعُوا -يَا وُلَاةَ الْأَمْرِ- أَيْدِيَهُمَا؛ بِقَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الرُّسْغِ.

ذَلِكَ الْقَطْعُ مُجَازَاةٌ لَهُمَا عَلَى أَخْذِهِمَا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ يَمْنَعُ بِهَا غَيْرَهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَ صَنِيعِهِمَا.

وَحَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ أَيْضًا-، وَرَتَّبَ عَلَى أَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الرَّدِيئَةِ الْمُتْلِفَةِ لِلْمَالِ حَرَامًا بِغَيْرِ حَقٍّ سَيَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا تَحْرِقُ بُطُونَهُمْ، وَتَشْوِي أَحْشَاءَهُمْ، وَسَيَدْخُلُونَ نَارًا هَائِلَةً مُشْتَعِلَةً يَحْتَرِقُونَ فِيهَا؛ جَزَاءَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا.

إِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ))، «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

وَالنَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ؛ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)).

وَهُمْ يَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟)).

يَقُولُونَ: بَلَى.

فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ؛ قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ؛ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ)).

قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟)).

قَالَ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ!)).

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي وَقْتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْيَوْمَ ثَمَنٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: ((وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ))، تُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَسَاوِيكُ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ))، يَحْلِفُ زُورًا وَيُقْسِمُ كَذِبًا أَنَّ هَذَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالِ الْمُتَخَاصِمِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ: ((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ أَخِيهِ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَمَنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).

يَعْنِي: إِذَا قَضَيْتُ لَهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْحَنَ وَأَبْيَنَ بِالْحُجَّةِ مِنْ عَيِيٍّ ذِي حَقٍّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبِينَ وَلَا أَنْ يُعْرِبَ عَنْ حَقِّةِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَبَيِّنَةٍ بَاهِرَةٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ ((فَإِنِ اقْتَطَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِفَتْوَايَ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ))، إِذَا أَخَذَ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ ((أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)).

لَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا؛ أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا؛ أَتْلَفَهُ اللهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ حَكَمَتِ الشَّرِيعَةُ بِقَطْعِ الْيَدِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ يُسْرَقُ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ)).

وَآخِذُ الْمَالِ عَنْ طَرِيقِ السَّرِقَةِ مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ لِلَعْنَةِ اللهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عَبْدَ اللهِ! اتَّقِ اللهَ! وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَائِلُكَ، وَأَنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَاخِذَ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخِذَكَ.

الدَّمُ وَالْمَالُ.. إِيَّاكَ أَنْ تَعْتَدِيَ عَلَى مَالِ أَخِيكَ؛ فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ السَّرِقَةَ، وَحَرَّمَ الْغَصْبَ، وَحَرَّمَ الرِّشْوَةَ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.

((حُرْمَةُ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِانْتِهَاكِ أَعْرَاضِهِمْ))

مِنْ أَشْنَعِ صُوَرِ إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ -عِبَادَ اللهِ-: التَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ بِالْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْبَهْتِ، وَالسَّبِّ، وَالِانْتِقَاصِ، وَالْعِرْضُ: هُوَ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ.

إِنَّ مِنْ عَظَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّهَا حَفِظَتْ لِلْإِنْسَانِ كَرَامَتَهُ وَإِنْسَانِيَّتَهُ، وَشَرَفَهُ وَمُرُوءَتَهُ؛ فَهِيَ شَرِيعَةُ الطُّهْرِ وَالْعِفَّةِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ صِيَانَةَ الْأَعْرَاضِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا وَالنَّيْلَ مِنْهَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}: وَهُوَ كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ اسْتَفْحَشَتْهُ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ؛ كَالشِّرْكِ بِاللهِ، وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ.

وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرِ كُلُّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِحَقِّ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَبِالْبَغْيِ كُلُّ عُدْوَانٍ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ.

مِنْ أَشَدِّ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَشْنَعِهِ: التَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِهِمْ بِارْتِكَابِ فَاحِشَةِ الزِّنَا، وَقَدْ نَهَانَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ تَأْخُذَنَا رَأْفَةٌ بِالزُّنَاةِ فِي دِينِ اللَّهِ تَمْنَعُنَا مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ فَرَحْمَتُهُ حَقِيقَةٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَرَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْضُرَ عَذَابَ الزَّانِيَيْنِ طَائِفَةٌ -أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ-؛ لِيَشْتَهِرَ، وَيَحْصُلَ بِذَلِكَ الْخِزْيُ وَالِارْتِدَاعُ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].

وَمِنْ أَخْطَرِ سُبُلِ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ: التَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ذَلِكَ؛ فَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ)).

قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16-17])).

ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟)).

قَالَ: قُلْتُ: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟)).

فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!!)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَمِنَ الْجَرَائِمِ الَّتِي تُؤْذَى بِهَا الْأَعْرَاضُ: الْقَذْفُ؛ فَمِنْ أَشْنَعِ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ الَّتِي رَتَّبَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهَا الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا: قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ.

((وَالْقَذْفُ هُوَ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا فِي مَعْرِضِ الشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ)).

 ((وَالْقَذْفُ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ، وَحَرَامٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ وَلَا لِمُسْلِمَةٍ أَنْ يَرْمِيَ أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْفَاحِشَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ صَادِقًا عِنْدَ نَفْسِهِ فِي اتِّهَامِهِ أَمْ كَانَ كَاذِبًا.

أَمَّا فِي حَالَةِ الْكَذِبِ: فَلِأَنَّهُ بُهْتَانٌ وَظُلْمٌ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَأَمَّا فِي حَالَةِ كَوْنِهِ صَادِقًا عِنْدَ نَفْسِهِ: فَلِأَنَّهُ كَشْفٌ لِلْأَسْتَارِ، وَهَتْكٌ لِلْأَعْرَاضِ، وَفَضْحٌ لِمَا أَمَرَ اللهُ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَنَشْرٌ لِمَقَالَةِ السُّوءِ فِي الْمُجْتَمَعِ)).

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

((وَلَمَّا عَظَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمْرَ الزَّانِي بِوُجُوبِ جَلْدِهِ، وَكَذَا بِرَجْمِهِ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُقَارَنَتُهُ وَلَا مُخَالَطَتُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْلَمُ فِيهِ الْعَبْدُ مِنَ الشَّرِّ؛ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- تَعْظِيمَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِالرَّمْيِ بِالزِّنَا، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 4-5].

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: النِّسَاءَ الْحَرَائِرَ الْعَفَائِفَ، وَكَذَلِكَ الرِّجَالُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا، بِدَلِيلِ السِّيَاقِ {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} عَلَى مَا رَمَوْا بِهِ {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أَيْ: بِرِجَالٍ عُدُولٍ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ صَرِيحًا.

{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} بِسَوْطٍ مُتَوَسِّطٍ يُؤْلِمُ فِيهِ، وَلَا يُبَالِغُ بِذَلِكَ حَتَّى يُتْلِفَهُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ: التَّأْدِيبُ، لَا الْإِتْلَافُ.

وَفِي هَذَا تَقْرِيرُ حَدِّ الْقَذْفِ؛ وَلَكِنْ بِشَرْطٍ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ -كَمَا قَالَ تَعَالَى- مُحْصَنًا مُؤْمِنًا، وَأَمَّا قَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ.

{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أَيْ: لَهُمْ عُقُوبَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَوْ حُدَّ عَلَى الْقَذْفِ حَتَّى يَتُوبَ.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيِ: الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، الَّذِينَ قَدْ كَثُرَ شَرُّهُمْ؛ وَذَلِكَ لِانْتِهَاكِ مَا حَرَّمَ اللهُ، وَانْتِهَاكِ عِرْضِ أَخِيهِ، وَتَسْلِيطِ النَّاسِ عَلَى الْكَلَامِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَإِزَالَةِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي عَقَدَهَا اللهُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ)).

((وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: الْعَفَائِفَ عَنِ الْفُجُورِ {الْغَافِلَاتِ} اللَّاتِي لَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِنَّ {الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: وَاللَّعْنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ كَبِيرٍ، وَأَكَّدَ اللَّعْنَةَ بِأَنَّهَا مُتَوَاصِلَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارَيْنِ.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى اللَّعْنَةِ، أَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ شَدِيدَ نِقْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)).

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا هُنَّ؟)).

قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إِنَّ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ مُجْتَمَعَاتٌ يُحْفَظُ فِيهَا الْعِرْضُ، وَيُصَانُ فِيهَا الشَّرَفُ، وَمِنَ الْآفَاتِ الَّتِي يُؤْذَى بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَالَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ تَحْرِيمًا أَكِيدًا، وَرَتَّبَ عَلَى التَّوَرُّطِ فِيهَا وَعِيدًا شَدِيدًا: الْغِيبَةُ؛ فَإِنَّ مِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْغِيبَةَ، وَهِيَ ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ؛ سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

فَهَكَذَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ، قَالَ عَنِ الْغِيبَةِ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)).

قِيلَ: ((أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟)).

قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] أَيْ: وَلَا يَقُلْ بَعْضُكُمْ فِي بَعْضٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مَا يَكْرَهُ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ؟!!

لَا شَكَّ أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَتَعَافُهُ نُفُوسُكُمْ، وَتَتَقَزَّزُ مِنْهُ؛ فَاكْرَهُوا -أَيْضًا- اغْتِيَابَهُ وَذِكْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ.

احْذَرِ الْغِيبَةَ فَهْيَ الْفِسْقُ لَا رُخْصَةَ فِيهِ=إِنَّمَا الْمُغْتَابُ كَالْآكِلِ مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ؛ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَ((رَدْغَةُ الْخَبَالِ)): عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ، كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مَرْفُوعًا: ((مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ؛ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)).

فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَلْسِنَتِنَا، وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، يَعْنِي: لَنْ تَتُوبَ مِنْهَا إِلَّا إِذَا أَحَلَّكَ مَنِ اغْتَبْتَهُ.

اتَّقُوا اللهَ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ!

وَمِنْ صُوَرِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْرَاضِهِمْ: الْغَمْزُ، وَاللَّمْزُ، وَالسُّخْرِيَةُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 11-13].

 

هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَلَّا يَسْخَرَ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَهَذِهِ الطَّوَائِفُ مِنَ الْأَذَى؛ مِنَ السُّخْرِيَةِ بِالنَّاسِ، وَتَعْيِيرِهِمْ، وَمُنَادَاتِهِمْ بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا، وَإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ، وَغِيبَتِهِمْ؛ كُلُّهَا حَرَامٌ وَإِجْرَامٌ، وَمَعَاصٍ شَنِيعَةٌ حَرَّمَهَا الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَشِرَ بَيْنَهُمْ.

هَذِهِ الشُّرُورُ وَالْآثَامُ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ إِذَا كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَى عُمُومِ النَّاسِ؛ فَكَيْفَ بِهَا إِذَا كَانَتْ تَسْتَهْدِفُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ، وَالْجِيرَانَ، وَالْأَصْحَابَ؟!!

فَهِيَ بِلَا شَكٍّ أَشَدُّ إِثْمًا، وَأَعْظَمُ جُرْمًا.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُبَيِّنًا أَنَّ الدِّينَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَحْرِيمِ أَذِيَّةِ الْأَحْيَاءِ وَشَتِيمَتِهِمْ؛ بَلْ حَرَّمَ -أَيْضًا- أَذَى الْأَمْوَاتِ وَسَبَّهُمْ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

((حُرْمَةُ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَايِشِهِمْ))

لَقَدْ أَوْلَتِ الشَّرِيعَةُ الرَّبَّانِيَّةُ عِنَايَةً كَبِيرَةً وَاهْتِمَامًا عَظِيمًا بِمَنْعِ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِمْ في مَعَايِشِهِمْ وَسُبُلِ حَيَاتِهِمْ، فَمِنْ صُوَرِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ: مُضَايَقَتُهُمْ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمُ الْعَامَّةِ، وَإِلْقَاءُ النِّفَايَاتِ فِيهَا بِلَا مُبَالَاةٍ وَلَا احْتِرَامٍ، وَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ؛ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ)).

وَمِمَّا يَحْرُمُ فِعْلُهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ: الْبَوْلُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ».

وَ((الرَّاكِدُ)): السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَجْرِي.

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَسَائِرِ مَسَائِلِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ مِنْ مَحَاسِنِهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ الْمَاءِ الْجَارِي، الْإِنْسَانُ لَا يُلَوِّثُ الْمَوَارِدَ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَاعِنِ الَّتِي يَتَّقِيهَا الْإِنْسَانُ مِنْ ظِلِّ النَّاسِ وَطَرِيقِهِمْ وَمَوَارِدِهِمْ -مَوَاضِعِ شُرْبِهِمْ-.

هَذَا شَيْءٌ مُهِمٌّ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالنَّظَافَةِ الْعَامَّةِ.

يَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ مَوَارِدِ الْمِيَاهِ.. لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)).

مَا الَّذِي أَتَى بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ؟!!

نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النَّظَافَةَ..

وَنَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النِّظَامَ..

وَمَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنَّا..

نَحْنُ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا النَّظَافَةَ وَالنِّظَامَ..

وَعَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ..

((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ -وَهِيَ طُرُقُ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ -قَارِعَةُ الطَّرِيقِ: وَسَطُهَا-، وَالظِّلِّ)).

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).

قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟

اللَّاعِنَانِ: الْأَمْرَانِ الْمُوجِبَانِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ، فَصَارَ هَذَا سَبَبًا، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ فَكَانَا كَأَنَّهُمَا اللَّاعِنَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا مُسْتَجْلِبَانِ لِلَّعْنِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لُعِنَ وَشُتِمَ.

((قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!))؛ وَمَا الْأَمْرَانِ الْمُسْتَجْلِبَانِ لِلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!!

قَالَ ﷺ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى أَيْ: يَقْضِي حَاجَتَهُ- فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ))، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ لَعَنُوا فَاعِلَهُ وَشَتَمُوهُ وَسَبُّوهُ.

هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْآدَابِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطَّرِيقِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَهَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا إِذَا خُولِفَتْ وَقَعَ الْمُسْلِمُ بِمُخَالَفَتِهَا فِي الْحَرَامِ، فَأَكْثَرُهَا مِنَ الْوَاجِبِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهُ وَأَوْجَبَهُ رَسُولُهُ ﷺ.

مِنْ صُوَرِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَايِشِهِمْ: رَفْعُ الصَّوْتِ وَإِزْعَاجُهُمْ، وَإِيلَامُهُمْ بِالضَّجِيجِ وَالضَّوْضَاءِ؛ فَمِنَ الْآدَابِ الْعَامَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ: خَفْضُ الصَّوْتِ -إِلَّا إِذَا كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ ضَرُورِيًّا-، قَالَ تَعَالَى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُسْتَمِعِينَ، إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رَفْعِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ، فَلَا تَكُنْ يَا بُنَيَّ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ الَّتِي تَنْهَقُ فَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا الْمُنْكَرَةَ، إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ وَأَكْثَرَهَا تَنْفِيرًا لِلْأَسْمَاعِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.

وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤْذِي، إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ فِي ارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذَا الْأَدَبِ الرَّاقِي: أَنَّ مِنْ آدَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: تَجَنُّبَ الصَّخَبِ بِالْأَسْوَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ، فَهَذَا يَتَنَافَى مَعَ الْوَقَارِ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَقَدْ سُئِلَ عَنْ وَصْفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: ((أَجَلْ؛ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ:... لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ -وَأَيْضًا بِالسِّينِ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ بَيْنَ السِّينِ وَالصَّادِ، وَهُمَا بِمَعْنًى: وَلَا سَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ-)). وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.

إِنَّ التَّلَوُّثَ السَّمْعِيَّ الَّذِي يَشْكُو مِنْهُ الْخَلْقُ -بَلْ يَشْكُو مِنْهُ الْعَالَمُ- الْيَوْمَ، نَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الرَّسُولُ ﷺ يَتْلُو عَلَيْنَا آيَاتِ رَبِّنَا فِي قَوْلِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي وَصِيَّةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لِابْنِهِ: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}، ثُمَّ أَتْبَعَهَا وَشَفَعَهَا بِالتَّنْفِيرِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَجْعَلُ النَّفْسَ الصَّالِحَةَ.. وَالَّذِي يَجْعَلُ الْعَقْلَ السَّوِيَّ وَالْبَدَنَ الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ عَلَى سَنَنِ الْحَيَوَانَاتِ، بَلْ عَلَى سَنَنٍ أَقْبَحَ مِنْ أَقْبَحِهَا، يَأْتِي هَذَا التَّفْسِيرُ فِي التَّعْقِيبِ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمَّا سَاقَ الْوَصِيَّةَ: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ}، عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

فَلْيَكُنْ صَوْتُكَ عَلَى قَدْرِ سَمَاعِ سَامِعِكَ، لَا يَتَعَدَّاهُ، فِي صَوْتِكَ الَّذِي هُوَ صَوْتُكَ، وَفِي صَوْتِكَ الَّذِي لَيْسَ بِصَوْتِكَ بَلْ أَنْتَ مُتَحَكِّمٌ فِيهِ؛ مِنْ مِذْيَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْمُسْتَحْدَثَاتِ، فَهُوَ صَوْتُكَ؛ لِأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي بِهِ تَتَحَكَّمُ وَفِيهِ.

وَمِنْ صُوَرِ الْإِيذَاءِ الْعَامِّ فِي مَجَالِ الْمَالِ وَالِاقْتِصَادِ: مَا يُمَارِسُهُ بَعْضُ التُّجَّارِ وَأَصْحَابِ الْمَصَالِحِ مِنَ الِاحْتِكَارِ وَرَفْعِ الْأَسْعَارِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَاحْتِكَارُ السِّلَعِ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) ».

فَرَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ.

وَالِاحْتِكَارُ: هُوَ شِرَاءُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ لِيَقِلَّ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَغْلُوَ سِعْرُهُ، وَيُصِيبَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرَرُ.

وَالِاحْتِكَارُ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ.

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، وَالخَاطِئُ: الآثِمُ، وَالمَعْنَى: لا يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الفِعْلِ الشَّنِيعِ إِلَّا مَنِ اعْتَادَ المَعْصِيَةَ.

وَمِنْ صُوَرِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَايِشِهِمْ وَسُبُلِ حَيَاتِهِمْ: التَّطْفِيفُ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، وَهُوَ مِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ.

وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالْجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7-9].

وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ الْمَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا».

وَأَوْضَحُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ تَجْعَلُ التَّلَاعُبَ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ كَبِيرَةً مُوبِقَةً مُهْلِكَةً؛ هِيَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1-6].

وَالْوَيْلُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَتَهَدَّدُ بِهِ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا- أُولَئِكَ الَّذِينَ خَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، وَبَاعُوا ذِمَمَهُمْ، وَتَعَدَّوْا عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ.

وَإِذَا كَانَ الْأَذَى بِغَيْرِ حَقٍّ مُحَرَّمًا فِي شَرِيعَتِنَا؛ فَإِنَّ جُرْمَ الْأَذَى يَزْدَادُ إِثْمًا حِينَمَا يَتَّجِهُ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْجِيرَانِ، أَوْ يَتَوَجَّهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ‏)).

وَقَالَ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).

قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((شَرُّهُ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)) الْوَلِيُّ هُوَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ.

 ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))، يَعْنِي فَقَدْ أَعْلَمْتُهُ بِأَنِّي مُحَارِبٌ لَهُ حَيْثُ كَانَ مُحَارِبًا لِي بِمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِي فَأَوْلِيَاءُ اللهِ تَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ، وَتَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ كَمَا أَنَّ أَعْدَاءَهُ تَجِبُ مُعَادَاتُهُمْ، وَتَحْرُمُ مُوَالَاتُهُمْ.

فَأَوْلِيَاءُ اللهِ هُمْ عِبَادُهُ الْمُتَّقُونَ؛ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا كَانَ لِلَّهِ وَلِيَّا.

وَفَضِيلَةُ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى اللهِ بَيَّنَهَا هَذَا الْحَدِيثُ حَيْثُ كَانَ الَّذِي يُعَادِيهِمْ قَدْ آذَنَ اللهَ بِالْحَرْبِ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ فَضِيلَةِ هَذَا الْوَلِيِّ عَلَى اللهِ وَلِكَرَامَتِهِ عِنْدَهُ.

مِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ: أَذِيَّتُهُ فِي دِينِهِ؛ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ بِالشُّبَهِ الضَّالَّةِ وَالْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ؛ لِيُغَيِّرُوهُمْ عَنْ فِطْرَتِهِمْ، وَيَحْرِفُوهُمْ عَنْ مَنْهَجِهِمُ الصَّحِيحِ بِالدَّعَايَةِ الْمُضَلِّلَةِ وَالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، أَوْ حَمْلِهِمْ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ؛ كَهَذِهِ الْفِرْقَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ تُشَكِّكُ الْمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، يَعْتَدُونَ عَلَى ثَوَابِتِ الْأُمَّةِ، يُهَرْطِقُونَ، يُجَدِّفُونَ، يَتَزَنْدَقُونَ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ!!

وَمِنْ صُوَرِ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ: نَشْرُ الْأَرَاجِيفِ وَالْإِشَاعَاتِ.. الْأَرَاجِيفُ وَالشَّائِعَاتُ الَّتِي تَنْطَلِقُ مِنْ مَصَادِرَ شَتَّى وَمَنَافِذَ مُتَعَدِّدَةٍ؛ إِنَّمَا تَسْتَهْدِفُ التَّآلُفَ وَالتَّكَاتُفَ، وَتَسْعَى إِلَى إِثَارَةِ النَّعْرَاتِ وَالْأَحْقَادِ، وَنَشْرِ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ، وَتَرْوِيجِ السَّلْبِيَّاتِ، وَتَضْخِيمِ الْأَخْطَاءِ.

الْإِشَاعَاتُ وَالْأَرَاجِيفُ سِلَاحٌ بِيَدِ الْمُغْرِضِينَ وَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَعْدَاءِ وَالْعُمَلَاءِ، يَسْلُكُهُ أَصْحَابُهُ؛ لِزَعْزَعَةِ الثَّوَابِتِ، وَهَزِّ الصُّفُوفِ، وَخَلْخَلَةِ تَمَاسُكِهَا.

وَالْمُرْجِفُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الشَّائِعَاتِ الْكَاذِبَةَ، أَوْ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ وَقُدُرَاتِهِمْ، وَاسْتِحَالَةِ هَزِيمَتِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ تَخْذِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَقَدْ لَعَنَهُمُ اللهُ حَيْثُمَا وُجِدُوا، وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، وَيَقْطَعُ دَابِرَهُمْ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ هَذَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمُوَاجَهَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَحَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السَّمَاعِ لَهُمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ، وَإِشَاعَةِ تَخْوِيفَاتِهِمْ وَأَرَاجِيفِهِمْ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60-61].

وَمِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ الْإِيذَاءِ الْعَامِّ لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ عَامَّةً: الْخُرُوجُ عَلَى الْحُكَّامِ بِالْمُظَاهَرَاتِ، وَالِاعْتِصَامَاتِ، وَإِثَارَةِ الشَّغْبِ وَالْفِتَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإسْلَامِ-رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَزَالَتْهُ)).

وَمِنْ صُوَرِ أَذَى الْمُسْلِمِ: أَنْ تُؤْذِيَهُ فِي عَقْلِهِ؛ فَالْمُرَوِّجُونَ لِلْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُسْكِرَاتِ وَالْمُسَوِّقُونَ لَهَا وَالسَّاعُونَ فِي نَشْرِهَا بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ أُولَئِكَ مُؤْذُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِلَا شَكٍّ، وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْخَمْرِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الْمُفَتِّرَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُخَدِّرَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَهُوَ مِنَ الْضَّرُورَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ بِسِوَاهَا.

أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ النَّفْسِ، وَبِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَبِحِفْظِ الْمَالِ، وَبِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ الْدِّينِ وَبِهِ يُحْفَظُ هَذَا كُلُّهُ.

وَلا صَلَاحَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا بِالْحِفَاظِ عَلَى هَذِهِ الْضَّرُورَاتِ، وَمَا وَرَاءَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْتَّحْسِينِيَّاتِ.

فَيَدْخُلُ فِي الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي الْمُحَارَبَةِ للهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ؛ الِاتِّجَارُ فِي الْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُفَتِّرَاتِ، وَكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُغيِّبَ الْوَعْيَ أَوْ يُذْهِبَهُ، أَوْ يُضْعِفَ الْعَقْلَ أَوْ يَحْجُبَهُ.

فَمِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمِنَ الْمُحَارَبَةِ للهِ وَرَسُولِهِ؛ تَضْيِيعُ شَبَابِ الْأُمَّةِ وَشِيبِهَا، وَإِهْدَارُ ثَرْوَاتِهَا وَمُقَدَّرَاتِهَا، وَتَضْيِيعُ الذُّرِّيَّةِ وَالْأَهْلِ، وَالتَّفْرِيطُ في حَقِّ الدِّينِ، وَحَقِّ الْوَطَنِ.

لَقَدْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْآدَابِ وَالتَّوْجِيهَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ الَّتِي تُعَظِّمُ الْحُرُمَاتِ، وَتَحْمِي جَنَابَ الْمُسْلِمِ أَنْ يُمَسَّ بِأَدْنَى أَذًى؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي مَشَاعِرِهِ وَأَحَاسِيسِهِ، وَالْأُخُوَّةُ فِي الْإِسْلَامِ تَسْتَوْجِبُ الْإِحْسَانَ، وَتَنْفِي الْأَذَى مَهْمَا كَانَتْ صُوَرُهُ وَأَشْكَالُهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]؛ ((أَيِ: الْجَمِيعُ إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ)))).

((دَفْعُ أَذَى الْغَيْرِ عَنِ النَّاسِ وَعَنِ الْوَطَنِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُفَّ أَذَانَا عَنِ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ نَكُفَّ أَذَى الْغَيْرِ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ دَفْعَ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرٌ مَحْمُودٌ وَفِعْلٌ مَرْغُوبٌ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْض أَخِيهِ رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْههِ النَّارَ يَوْم الْقِيَامَة)).

وَعِنْدَ  مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ  مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).

وَإِذَا كَانَ دَفْعُ أَذَى الْغَيْرِ عَنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا مَرْغُوبًا؛ فَإِنَّ دَفْعَ أَذَى الْمُتَآمِرِينَ الْحَاقِدِينَ عَلَى وَطَنِنَا الْإِسْلَامِيِّ أَكْبَرُ فَضْلًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا، فَوَاجِبُنَا جَمِيعًا أَنْ نَقِفَ ضِدَّ جَمَاعَاتِ الْفِتْنَةِ وَأَهْلِ الشَّرِّ، وَأَنْ نَتَصَدَّى بِقُوَّةٍ لِدَفْعِ أَذَى الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْوَطَنِ وَالْأَرْضِ وَالْعِرْضِ، وَأَنْ نَتَكَاتَفَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ، كُلٌّ فِي مَيْدَانِهِ؛ الدِّينِيِّ، وَالْعِلْمِيِّ، وَالْعَسْكَرِيِّ، وَالْأَمْنِيِّ، فَالْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ وَطَنِهِ بِتَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْفَوْضَى وَالْفِتَنِ، وَالْجُنْدِيُّ يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ وَطَنِهِ بِثَبَاتِهِ وَصَبْرِهِ وَفِدَائِهِ، وَالشُّرْطِيُّ بِسَهَرِهِ عَلَى أَمْنِ وَطَنِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِصْرِيٍّ فِي مَوْقِعِهِ لَهُ دَوْرُهُ الْعَظِيمُ فِي الذَّوْدِ عَنْ وَطَنِهِ بِإِخْلَاصِهِ وَتَفَانِيهِ وَعَمَلِهِ عَلَى صَالِحِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.

إِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

((عَوَاقِبُ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ))

إِنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي عَظَّمَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالتَّعَدِّيَ عَلَيْهِمْ بِأَذِيَّتِهِمْ لَمِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

((الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ عَمِلُوهُ؛ فَقَدِ ارْتَكَبُوا أَفْحَشَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَأَتَوْا ذَنْبًا ظَاهِرَ الْقُبْحِ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ)).

إِنَّ أَذِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ سَخَطِ اللهِ -تَعَالَى-؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمِنْبَرَ، فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).

إِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تَفْقِدُ اعْتِبَارَهَا وَتَنْمَحِي آثَارُهَا إِنْ هِيَ لَمْ تَنْهَ أَصْحَابَهَا عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَصُنُوفِ الْأَذَى.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَصَّدَّقُ، وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا)).

فَقَالَ: ((لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ ﷺ: ((أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟))

قَالُوا: ((الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ)).

فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

هَذَا هُوَ الْمُفْلِسُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُنْقِذُ مُهْجَتَهُ مِنَ النَّارِ، رَغْمَ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ.

فَاحْذَرْ أَنْ تُفْسِدَ وَتَنْقُضَ مَا أَبْرَمْتَ!

وَحَاذِرْ أَنْ تُضَيِّعَ مَا قَدَّمْتَ؛ فَإِنَّهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ!

((سُبُلُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ))

إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو فِي تَنَقُّلَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ وَأَطْوَارِهِ فِيهَا مِنْ حَالَتَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا:

الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يُحِبُّ، وَيَنْدَفِعَ عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، وَهَذَا حَبِيبٌ لِلنُّفُوسِ، مُلَائِمٌ لِلْقُلُوبِ، مَطْلُوبٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ فَوَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْحَالِ: الشُّكْرُ، وَالِاعْتِرَافُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ، فَيَعْتَرِفُ بِهَا مُتَحَدِّثًا بِهَا، مُسْتَعِينًا بِهَا عَلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَهَذَا هُوَ الشَّاكِرُ، فَإِنْ أَلْهَتْهُ النِّعْمَةُ وَأَبْطَرَتْهُ، وَأَوْصَلَتْهُ إِلَى الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ، وَغَفَلَ عَنِ الشُّكْرِ؛ فَهَذَا الَّذِي كَفَرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَعْمَلَ مِنَنَ اللهِ فِي غَيْرِ وَاجِبِهَا وَطَرِيقِهَا.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَبْدِ الْمَكْرُوهُ، وَيَفْقِدَ الْمَحْبُوبَ، فَيُحْدِثُ لَهُ ذَلِكَ هَمًّا وَحُزْنًا وَقَلَقًا وَغَمًّا؛ فَوَظِيفَةُ الْعَبْدِ: الصَّبْرُ للهِ، فَلَا يَتَسَخَّطُ وَلَا يَضْجَرُ، وَلَا يَشْكُو لِلْمَخْلُوقِ مَا نَزَلَ بِهِ، بَلْ تَكُونُ شَكْوَاهُ لِخَالِقِهِ، وَمَنْ كَانَ فِي الضَّرَّاءِ صَبُورًا، وَفِي السَّرَّاءِ شَكُورًا؛ لَمْ يَزَلْ يَغْنَمُ عَلَى رَبِّهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَيَكْتَسِبُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ، قَالَ ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

النِّعَمُ وَالنِّقَمُ وَالْمَحَابُّ وَالْمَكَارِهُ أَضْيَافٌ؛ فَأَكْرِمْ قِرَاهَا بِالْقِيَامِ بِوَظِيفَتِهَا؛ لِيَسْتَرِيحَ قَلْبُكَ، وَتُرْضِيَ رَبَّكَ، وَيَنْقَلِبَ ضَيْفُكَ شَاكِرًا، وَلِمَعْرُوفِكَ ذَاكِرًا.

مَتَى حَصَلَ لَكَ مَحْبُوبٌ؛ مِنْ رِيَاسَةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ زَوْجَةٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ صِحَّةٍ، أَوْ رِزْقٍ، أَوْ تَوَابِعِ ذَلِكَ، أَوِ انْدَفَعَ عَنْكَ مَكْرُوهٌ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللهِ؛ فَاعْتَرِفْ بِهَا بِقَلْبِكَ، وَاخْضَعْ لِرَبِّكَ الَّذِي أَوْصَلَهَا إِلَيْكَ، وَازْدَدْ لَهُ حُبًّا وَثَنَاءً؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا؛ فَكَيْفَ بِمَنْ مِنْهُ جَمِيعُ الْإِحْسَانِ؟!!

وَأَكْثِرْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ بِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.

أَمَّا الْإِجْمَالُ؛ فَأَنْ تَقُولَ: ((اللهم مَا أَصْبَحَ أَوْ مَا أَمْسَى بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ)).

وَأَمَّا تَفْصِيلًا فَقُلْ: أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ بِالنِّعْمَةِ الْفُلَانِيَّةِ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ، وَصَرَفَ عَنِّي كَذَا وَكَذَا، وَتَوَسَّلْ بِهَا إِلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَسَلْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا مَعُونَةً عَلَى الْخَيْرِ، وَأَنْ يُعِيذَكَ مِنْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَاحْمَدِ الَّذِي وَفَّقَكَ لِشُكْرِهَا؛ فَالتَّوْفِيقُ لِلشُّكْرِ نِعْمَةٌ أُخْرَى، وَمَتَى أَصَابَكَ مَكْرُوهٌ فِي بَدَنِكَ أَوْ مَالِكَ أَوْ حَبِيبِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَدَّرَهُ حَكِيمٌ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا عَبَثًا، وَلَا يُقَدِّرُ شَيْئًا سُدًى، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ قَدْ تَنَوَّعَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ، يَرْحَمُهُ فَيُعْطِيهِ، ثُمَّ يَرْحَمُهُ فَيُوَفِّقُهُ لِلشُّكْرِ، وَيَرْحَمُهُ فَيَبْتَلِيهِ، ثُمَّ يَرْحَمُهُ فَيُوَفِّقُهُ لِلصَّبْرِ؛ فَرَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى التَّدَابِيرِ السَّارَّةِ وَالضَّارَّةِ، وَمُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، وَيَرْحَمُهُ -أَيْضًا- بِأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْبَلَاءَ لِذُنُوبِهِ كَفَّارَاتٍ، وَلِمَقَامَهِ خَيْرًا وَرِفْعَةَ دَرَجَاتٍ، وَيَرْحَمُهُ بِأَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْمَكْرُوهَ مُنَمِّيًا لِأَخْلَاقِهِ الْجَمِيلَةِ، مُرَبِّيًا عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الزَّكِيَّةِ.

فَإِذَا فَهِمَ الْعَبْدُ فِي التَّقْدِيرِ هَذِهِ الرَّحَمَاتِ، وَلَحَظَ هَذِهِ الْأَلْطَافَ الْمُتَنَوِّعَاتِ؛ لَمْ تَتَأَخَّرْ نَفْسُهُ -إِنْ كَانَتْ نَفْسًا حُرَّةً- عَنِ الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَالِاحْتِسَابِ رَجَاءَ الْأَجْرِ وَالِارْتِقَابِ، ثُمَّ رَجَاءَ السَّلَامَةِ وَالْفَرَجِ مِنَ الْمَلِيكِ الْوَهَّابِ.

مَنِ اسْتَكْمَلَ مَرَاتِبَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ؛ فَهُوَ الْكَامِلُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ آلَةٌ عَظِيمَةٌ تُعِينُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ، قَالَ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة : 45]، أَيْ: عَلَى جَمِيعِ أُمُورِكُمْ، فَمَنْ شَرَعَ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَصَبَرَ عَلَيْهِ وَثَابَرَ؛ رُجِيَ لَهُ النَّجَاحُ، وَمَنْ ضَعُفَ صَبْرُهُ وَثَبَاتُهُ؛ لَمْ يَتِمَّ لَهُ فَلَاحٌ.

إِذَا أُصِيبَ الْعَبْدُ بِمُصِيبَةٍ فَلَجَأَ إِلَى الصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ؛ خَفَّتْ وَطْأَتُهَا، وَهَانَتْ مَشَقَّتُهَا، وَتَمَّ لَهُ أَجْرُهَا، وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ الْكِرَامِ، وَمَنْ ضَعُفَ صَبْرُهُ، وَحَضَرَ جَزَعُهُ؛ اشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهُ، وَتَضَاعَفَتْ آلَامُهُ الْقَلْبِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ، وَفَاتَهُ الثَّوَابُ، وَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ فَيَسْلُوَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ، وَذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ اللِّئَامِ.

بَشِّرِ الصَّابِرِينَ عَلَى مَشَقَّةِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمُخَالَفَاتِ، وَآلَامِ الْمُصِيبَاتِ بِتَوْفِيَةِ أَجْرِهِمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

وَأَنْذِرِ الْجَازِعِينَ الْمُتَسَخِّطِينَ لِأَقْدَارِ اللهِ بِتَضَاعُفِ الْمَكَارِهِ، وَفَوَاتِ الْأَجْرِ، وَحُلُولِ الْعِقَابِ وَالْوِزْرِ.

إِنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ الْفَائِتَ، وَلَكِنَّهُ يُحْزِنُ الصَّدِيقَ، وَيَسُرُّ الشَّامِتَ.

الصَّبْرُ مُؤْذِنٌ بِالْقُوَّةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالثَّبَاتِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْجَزَعُ عُنْوَانُ الْجُبْنِ وَالضَّعْفِ، وَالْخَوَرِ، وَالْهَلَعِ، وَالْخُسْرَانِ، مَا نَالَ مَنْ نَالَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِالصَّبْرِ، وَلَا حُرِمَ مَنْ حُرِمَهُ إِلَّا بِفَقْدِهِ، قَالَ تَعَالَى {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23-24].

بِالصَّبْرِ يَرْتَقِي الْعَبْدُ إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، وَهُوَ مَقَامُ الشَّاكِرِينَ الَّذِينَ يَشْكُرُونَ اللهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، يَشْكُرُونَ اللهَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ؛ يَشْكُرُونَهُ عَلَى نِعْمَةِ الْعَافِيَةِ وَالصِّحَّةِ، وَسَلَامَةِ الْأَبْدَانِ، وَيَشْكُرُونَهُ عَلَى نِعْمَةِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، وَالْعُقُولِ وَالْبَيَانِ، وَيَشْكُرُونَهُ عَلَى تَيْسِيرِ الرِّزْقِ، وَالْأَسْبَابِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي بِهَا تُكْتَسَبُ الْأَرْزَاقُ؛ خُصُوصًا إِذَا يَسَّرَ اللهُ لِلْعَبْدِ سَبَبًا مُرِيحًا لِقَلْبِهِ، مُعِينًا عَلَى الْخَيْرِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَرَكَةِ الرِّزْقِ وَكَمَالِهِ، وَيَحْمَدُونَ اللهَ عَلَى دَفْعِ الْمَكَارِهِ وَالْمُلِمَّاتِ، وَكَذَلِكَ يَحْمَدُونَ اللهَ أَبْلَغَ حَمْدٍ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِحْسَانِ.

نِعْمَةُ اللهِ بِالتَّوْفِيقِ لِلتَّقْوَى أَجَلُّ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا.

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]

مَنْ حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَقَدْ تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ نَالَ مِنْ رَبِّهِ كُلَّ مَا يُؤَمِّلُهُ وَيَرْجُوهُ؛ فَيَا مَنْ تَوَالَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ، وَصُرِفَتْ عَنْهُ النِّقَمُ! اشْكُرِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِتَبْقَى وَتَكْمُلَ؛ فَالشُّكْرُ مَقْرُونٌ بِالْمَزِيدِ، وَكُفْرَانُ النِّعَمِ مَقْرُونٌ بِالْمَحْقِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ.

وَشُكْرَانُكَ لِلنِّعَمِ نِعَمٌ أُخْرَى تَحْتَاجُ إِلَى شُكْرٍ آخَرَ وَتَجْدِيدٍ؛ وَلَكِنَّ اللهَ -تَعَالَى- رَضِيَ مِنَّا بِالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ عَنْ شُكْرِهِ، وَأَنْ نَفْعَلَ مَا نَسْتَطِيعُهُ مِنَ الثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ.

الشَّاكِرُونَ أَطْيَبُ النَّاسِ نُفُوسًا، وَأَشْرَحُهُمْ صُدُورًا، وَأَقَرُّهُمْ عُيُونًا؛ فَإِنَّ قُلُوبَهُمْ مَلِيئَةٌ بِحَمْدِهِ، وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ، وَالِاغْتِبَاطِ بِكَرَمِهِ، وَالِابْتِهَاجِ بِإِحْسَانِهِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ رَطْبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِشُكْرِهِ وَذِكْرِهِ، وَذَلِكَ أَسَاسُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَنَعِيمُ الْأَرْوَاحِ، وَحُصُولُ جَمِيعِ اللَّذَائِذِ وَالْأَفْرَاحِ، وَقُلُوبُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُتَطَلِّعَةٌ لِلْمَزِيدِ، وَطَمَعُهُمْ وَرَجَاؤُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفَضْلِ رَبِّهِمْ يَقْوَى وَيَزِيدُ.

لَوْ عَلِمَ الْعِبَادُ مَاذَا أُعِدَّ لِلشَّاكِرِينَ مِنَ الْخَيْرَاتِ لَسَبَقُوا إِلَى هَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعُلْيَا، وَلَوْ شَاهَدُوا أَحْوَالَهُمْ فِي السُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ فِي جَنَّةِ الدُّنْيَا.

إِذَا قُضِيَتِ الْمَصَائِبُ وَالْمَكَارِهُ عَلَى الْخَلْقِ؛ انْقَسَمُوا فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: الظَّالِمُونَ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَزَعِ وَالسُّخْطِ.

وَالثَّانِي: الصَّابِرُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ حَبَسُوا قُلُوبَهُمْ عَنِ التَّسَخُّطِ عَلَى الْمَقْدُورِ، وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الشَّكْوَى، وَجَوَارِحَهُمْ عَنْ أَفْعَالِ السَّاخِطِينَ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْرُهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

وَالثَّالِثُ: الرَّاضُونَ عَنِ اللهِ الَّذِينَ كَمَّلُوا مَرَاتِبَ الصَّبْرِ، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ لِأَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ، وَرَضُوا بِهَا، وَلَمْ يَوَدُّوا أَنَّهُمْ لَمْ يُصَابُوا بِهَا، بَلْ رَضُوا بِمَا رَضِيَ اللهُ بِهِ لَهُمْ؛ فَرَضُوا عَنِ اللهِ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

الرَّابِعُ: الشَّاكِرُونَ، وَهُمْ مَنِ ارْتَفَعَتْ عَلَى هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ دَرَجَاتُهُمْ، فَصَبَرُوا للهِ، وَرَضُوا بِقَضَاءِ اللهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ شَكَرُوا اللهَ عَلَى الضَّرَّاءِ كَمَا شَكَرُوهُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَحَمِدُوهُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْمَضَارِّ كَمَا حَمِدُوهُ عَلَى الْمَحَابِّ وَالْمَسَارِّ، فَهَؤُلَاءِ الشَّاكِرُونَ الْأَصْفِيَاءُ الْأَبْرَارُ، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا، قَالَ تَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ : 13].

وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، فِيهِمَا بِشَارَةٌ وَخَيْرٌ عَظِيمٌ لِلصَّابِرِينَ وَالشَّاكِرِينَ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهم أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا؛ إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَهَذَا يَشْمَلُ أَيَّ مُصِيبَةٍ كَانَتْ، وَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بِصِدْقٍ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ الْخَلَفِ الْعَاجِلِ وَالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.

وَالثَّانِي مِنَ الْحَدِيثَيْنِ: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَهَذَا وَعْدٌ بِأَنَّ مَنْ حَمِدَ اللهَ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ حَصَلَ لَهُ مِنَ اللهِ الرِّضَا الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّاتِ.

وَعُمُومُ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ النِّعَمِ إِذَا حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَيْهَا؛ حَصَلَ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ، فَاجْتَمَعَ لَهُ نِعْمَةُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ.

وَمِنْ لُطْفِهِ -تَعَالَى-: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَغْنَى بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ عَمَّا حَرَّمَهُ، وَتَنَاوَلَ الْحَلَالَ الْمُلَائِمَ لِلنُّفُوسِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ، كَمَا قَالَ ﷺ حِينَ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ الصَّدَقَاتِ، حَتَّى قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ؟

قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ؛ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَتَبَارَكَ اللهُ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظْلِمُ غَيْرَهُ ابْتِدَاءً وَمِنْ غَيْرِ اعْتِدَاءٍ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إِذَا ظَلَمَهُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِ مُعْتَدٍ فِي دَمَهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ؟! فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَصْعُبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَلَى مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ، بَلْ يَسْعَى إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُوصِلُهُ إِلَى ذَلِكَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ نَبِيًّا أَوْ صِدِّيقًا، فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ الْعَدْلَ، وَيَبْذُلُ الْفَضْلَ.

وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ عَظِيمَةٌ مُتَضَافِرَةٌ مُتَلَازِمَةٌ إِذَا عُرِفَتْ، وَتُدُبِّرَتْ، وَفُهِمَتْ فَهْمًا سَدِيدًا؛ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْقُوَّةِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهِيَ الْأُمُورُ الْمُعِينَةُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ، وَهِيَ ((قَاعِدَةُ الصَّبْرِ)) فِي ضِمْنِ جَامِعِ الْمَسَائِلِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

قَالَ: ((وَيُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى هَذَا الصَّبْرِ عِدَّةُ أَشْيَاء:

أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا تَتَحَرَّكُ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ ذَرَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَالْعِبَادُ آلَةٌ؛ فَانْظُرْ إِلَى الَّذِي سَلَّطَهُمْ عَلَيْكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فِعْلِهِمْ بِكَ تَسْتَرِحْ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ)).

هَذَا مَا بَدَأَ بِهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ النَّافِعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهِيَ ((قَاعِدَةٌ فِي الصَّبْرِ))؛ أَنْ تَشْهَدَ -أَيُّهَا الْعَبْدُ- فِي هَذَا الْمَقَامِ خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ، وَلَا يَشَاءُ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَّا مَا شَاءَهُ اللهُ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].

فَإِذَا تَذَكَّرْتَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ حَرَكَةٌ وَلَا سُكُونٌ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللهِ -تَعَالَى- وَقَضَائِهِ، وَأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ حَرَكَةٍ مِنْ حَرَكَاتِهِمْ قَدْ قَدَّرَ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ؛ فَانْظُرْ إِلَى الآمِرِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَلَّطَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْكَ بِهَذَا الْأَذَى مَا مُوجِبُهُ؟! مَا سَبَبُهُ؟!

مِنْ أَفْعَالِكَ.

فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَأَفْعَالِهِمْ، وَتَعَامَيْتَ عَنِ النَّظَرِ الْمُوجِبِ لِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْكَ؛ فَلَمْ تُحْسِنْ، وَقَدْ أَسَأْتَ.

((الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: مِمَّا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى هَذَا الصَّبْرِ: أَنْ يَشْهَدَ ذُنُوبَهُ، وَأَنَّ اللهَ إِنَّمَا سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ فَسَبَبُهُ ذُنُوبُهُ؛ اشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا، اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ ذَمِّهِمْ وَلَوْمِهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْعَبْدَ يَقَعُ فِي النَّاسِ إِذَا آذَوْهُ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ مُصِيبَتَهُ مُصِيبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَإِذَا تَابَ وَاسْتَغْفَرَ، وَقَالَ: هَذَا بِذُنُوبِي؛ صَارَتْ فِي حَقِّهِ نِعْمَةً، قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَلِمَةً مِنْ جَوَاهِرِ الْكَلَامِ: «لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إِلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافَنَّ عَبْدٌ إِلَّا ذَنْبَهُ».

وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ: «مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ»)).

أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الَّذِينَ آذَوْهُ إِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ اللهِ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ.

الْعِبَادُ آلَةٌ؛ فَانْظُرْ إِلَى الَّذِي سَلَّطَهُمْ عَلَيْكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى فِعْلِهِمْ بِكَ تَسْتَرِحْ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ، أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أُصِيبَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ بِذُنُوبِهِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: «إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُشَاكُ الشَّوْكَةَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكِ بِذَنْبٍ، وَمَا ظَلَمَنِي رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ فَسَبَبُهُ ذُنُوبُهُ؛ اشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي سَلَّطَهُمْ عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا عَنْ ذَمِّهِمْ، وَلَوْمِهِمْ، وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ.

عَلَى الْمُصَابِ بِأَيِّ مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى ذَنْبِهِ؛ لِيَلُومَ نَفْسَهُ، وَيَسْعَى فِي إِصْلَاحِهَا، وَعَلَيْهِ أَلَّا يَشْغَلَ نَفْسَهُ كَثِيرًا بِمَنْ أَصَابَهُ؛ فَغَفْلَتُهُ عَنْ هَذَا أَمْنٌ مِنْ مَكْرِ اللهِ.

أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ))، وَهَنَّادٌ فِي ((الزُّهْدِ)) لَهُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ قَالَ: «مَا أَنَا بِرَاضٍ عَنْ نَفْسِي فَأَتْفَرَّغُ مِنْ ذَمِّهَا إِلَى ذَمِّ غَيْرِهَا، إِنَّ النَّاسَ خَافُوا مِنْ ذُنُوبِ النَّاسِ، وَأَمِنُوا عَلَى ذُنُوبِهِمْ!!». وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

يُهَيِّئُ نَفْسَهُ لِلصَّبْرِ؛ خُصُوصًا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ؛ لِأَنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ الصَّبْرَ عَلَى مَنْ جَنَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا وَقَعَ فِي الظُّلْمِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ بَلْ وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فِي الْمَهَالِكِ، وَهَلْ كَثُرَ هَلَاكُ بَنِي آدَمَ إِلَّا بِسَبَبِ الِانْتِقَامَاتِ!!

((الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: أَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدُ حُسْنَ الثَّوَابِ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ لِمَنْ عَفَا وَصَبَرَ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].

وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْأَذَى ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: ظَالِمٌ يَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ، وَمُقْتَصِدٌ يَأْخُذُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَمُحْسِنٌ يَعْفُو وَيَتْرُكُ حَقَّهُ؛ ذَكَرَ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَوَّلُهَا لِلْمُقْتَصِدِينَ، وَوَسَطُهَا لِلسَّابِقِينَ، وَآخِرُهَا لِلظَّالِمِينَ.

وَيَشْهَدُ نِدَاءَ الْمُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].

فَإِذَا نَادَى الْمُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ، فَإِذَا شَهِدَ مَعَ ذَلِكَ فَوْتَ الْأَجْرِ بِالِانْتِقَامِ وَالِاسْتِيفَاءِ؛ سَهُلَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ وَالْعَفْوُ)).

هَذَا الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدُ حُسْنَ الثَّوَابِ؛ أَيْ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْمَقَامِ -مَقَامِ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ-، أَنْ يَشْهَدَ حُسْنَ الثَّوَابِ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلصَّابِرِينَ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ، وَلِلْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَهُمَا مَرْتَبَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَعْلَى مِنَ الْأُخْرَى؛ الْأُولَى: مَرْتَبَةُ الصَّبْرِ، يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، وَالْأَعْلَى مِنْهَا: أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَالْعَفْوُ مَقَامُهُ أَعْلَى {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].

فَهَذَا مَقَامُ إِحْسَانٍ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادِ اللهِ  -تَعَالَى- الْمُقَرَّبُونَ الْمُحْسِنُونَ، وَالَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَاكَ شُهُودُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ؛ طَمَعًا فِيمَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الثَّوَابِ، أَوْ يَأْتِي بِأَمْرٍ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ؛ وَهُوَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ طَالِبًا مَا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- مِنَ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى : 40].

فَذَكَرَ -رَحِمَهُ اللهُ- هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهَا ثَلَاثَ مَرَاتِبَ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ مَعَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ أَذًى مِنَ الْخَلْقِ:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْمُجَازَاةُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِسَيِّئَةٍ مِثْلِهَا، وَمُعَاقَبَةُ الْمُعْتَدِي بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى دُونَ تَجَاوُزٍ أَوْ تَعَدٍّ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وَمِثْلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَفْوُ، وَهِيَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ؛ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وَالْعَطِيَّةُ عَلَى قَدْرِ الْمُعْطِي، وَاللهُ -تَعَالَى- أَحَالَ فِي هَذِهِ الْعَطِيَّةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} أَيْ: إِنَّ أَجْرَ هَؤُلَاءِ وَثَوَابَهُمْ عَظِيمٌ وَجَزِيلٌ عِنْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: مَرْتَبَةُ الْمُعَاقَبَةِ بِأَشَدَّ مِنَ الْمِثْلِ، وَالتَّعَدِّي وَالتَّجَاوُزِ، وَهَذَا ظُلْمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.

إِذَنِ؛ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ -مَقَامِ الْأَذَى- عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ظَالِمٌ، وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ، وَمُقْتَصِدٌ: وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَمُحْسِنٌ: يَعْفُو وَيَتْرُكُ حَقَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ.

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- هَذِهِ الْأَقْسَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: ((وَيَشْهَدُ أَيْ: فِي بَابِ حُسْنِ الثَّوَابِ- نِدَاءَ الْمُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ، فَيَقُومُ الْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ))، كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-.

((الرَّابِعُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ إِذَا عَفَا وَأَحْسَنَ؛ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ مِنْ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لِإِخْوَانِهِ، وَنَقَائِهِ مِنَ الْغِشِّ وَالْغِلِّ وَطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَإِرَادَةِ الشَّرِّ، وَحَصَلَ لَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الْعَفْوِ مَا يَزِيدُ لَذَّتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ عَاجِلًا وَآجِلًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ لَهُ بِالِانْتِقَامِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ فَيَصِيرُ مَحْبُوبًا للهِ، وَيَصِيرُ حَالُهُ حَالَ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ دِرْهَمٌ فَعُوِّضَ عَلَيْهِ أُلُوفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ؛ فَحِينَئِذٍ يَفْرَحُ بِمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ يَكُونُ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا انْتَقَمَ أَحَدٌ قَطُّ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَوْرَثَهُ ذَلِكَ ذُلًّا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا عَفَا أَعَزَّهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَهَذَا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ؛ حَيْثُ قَالَ:  «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالْعِزُّ الْحَاصِلُ لَهُ بِالْعَفْوِ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ مِنَ الْعِزِّ الْحَاصِلِ لَهُ بِالِانْتِقَامِ؛ فَإِنَّ هَذَا عِزٌّ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ يُورِثُ فِي الْبَاطِنِ ذُلًّا، وَالْعَفْوُ ذُلٌّ فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ يُورِثُ الْعِزَّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

السَّادِسُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَأَنَّهُ نَفْسَهُ ظَالِمٌ مُذْنِبٌ، وَأَنَّ مَنْ عَفَا عَنِ النَّاسِ عَفَا اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ غَفَرَ لَهُمْ غَفَرَ اللهُ لَهُ، فَإِذَا شَهِدَ أَنَّ عَفْوَهُ عَنْهُمْ وَصَفْحَهُ وَإِحْسَانَهُ مَعَ إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْهِ.. إِذَا شَهِدَ أَنَّ عَفْوَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ سَبَبٌ لِأَنْ يَجْزِيَهُ اللهُ كَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، فَيَعْفُو عَنْهُ وَيَصْفَحُ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ عَلَى ذُنُوبِهِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ عَفْوَهُ وَصَبْرَهُ، وَيَكْفِي الْعَاقِلَ هَذِهِ الْفَائِدَةُ.

السَّابِعُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَتْ نَفْسُهُ بِالِانْتِقَامِ وَطَلَبِ الْمُقَابَلَةِ؛ ضَاعَ عَلَيْهِ زَمَانُهُ، وَتَفَرَّقَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ وَحَالُهُ، وَفَاتَهُ مِنْ مَصَالِحِهِ مَا لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَلَعَلَّ هَذَا أَعْظَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَالَتْهُ مِنْ جِهَتِهِمْ، فَإِذَا عَفَا وَصَفَحَ؛ فَرَغَ قَلْبُهُ وَجِسْمُهُ لِمَصَالِحِهِ الَّتِي هِيَ أَهَمُّ عِنْدَهُ مِنَ الِانْتِقَامِ.

الثَّامِنُ: أَنَّ انْتِقَامَهُ وَاسْتِيفَاءَهُ وَانْتِصَارَهُ لِنَفْسِهِ، وَانْتِقَامَهُ لَهَا؛ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، فَإِذَا كَانَ خَيْرُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ لَمْ يَنْتَقِمْ لِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّ أَذَاهُ أَذَى اللهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الدِّينِ، وَنَفْسُهُ أَشْرَفُ الْأَنْفُسِ وَأَزْكَاهَا وَأَبَرُّهَا، وَأَبْعَدُهَا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ مَذْمُومٍ، وَأَحَقُّهَا بِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ يَنْتَقِمُ لَهَا؛ فَكَيْفَ يَنْتَقِمُ أَحَدُنَا لِنَفْسِهِ الَّتِي هُوَ أَعْلَمُ بِهَا وَبِمَا فِيهَا مِنَ الشُّرُورِ وَالْعُيُوبِ!! بَلِ الرَّجُلُ الْعَارِفُ لَا تُسَاوِي نَفْسُهُ عِنْدَهُ أَنْ يَنْتَقِمَ لَهَا، وَلَا قَدْرَ لَهَا عِنْدَهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ انْتِصَارَهُ لَهَا.

«مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ للهِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

التَّاسِعُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: إِنْ أُوذِيَ عَلَى مَا فَعَلَهُ للهِ، أَوْ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنُهِيَ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الِانْتِقَامُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أُوذِيَ فِي اللهِ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ.

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَهَبَتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ فِي اللهِ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً؛ فَإِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَالثَّمَنُ عَلَى اللهِ لَا عَلَى الْخَلْقِ، فَمَنْ طَلَبَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى اللهِ ثَمَنٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ فِي اللهِ تَلَفُهُ كَانَ عَلَى اللهِ خَلَفُهُ.

وَإِنْ كَانَ قَدْ أُوذِيَ عَلَى مُصِيبَةٍ فَلْيَرْجِعْ بِاللَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ فِي لَوْمِهِ لَهَا شُغُلٌ عَنْ لَوْمِهِ لِمَنْ آذَاهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُوذِيَ عَلَى حَظٍّ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ؛ فَإِنَّ نَيْلَ الْحُظُوظِ دُونَهُ أَمْرٌ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى حَرِّ الْهَوَاجِرِ، وَالْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَمَشَقَّةِ الْأَسْفَارِ، وَلُصُوصِ الطَّرِيقِ؛ وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي الْمُتَاجَرَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ أَنَّ مَنْ صَدَقَ فِي طَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ؛ بَذَلَ مِنَ الصَّبْرِ فِي تَحْصِيلِهِ بِقَدْرِ صِدْقِهِ فِي طَلَبِهِ)).

أَذَى الْخَلْقِ لِلْعَبْدِ يَقَعُ عَلَى أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَذًى مِنْهُمْ لَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ؛ كَأَنْ يَأْمُرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ يَدْعُوَ إِلَى اللهِ، أَوْ يُعَلِّمَ النَّاسَ الْخَيْرَ؛ فَيُؤْذُونَهُ؛ لِأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ لِنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لِدَعْوَتِهِ إِلَى اللهِ، فَهَذَا أُوذِيَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَا يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ، بَلْ يَبْغِي مَا عِنْدَ اللهِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَذًى حَصَلَ لَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، فَيَطْلُبُ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَى فِي اللهِ وَفِي طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-، فَيَرْجُو عَلَيْهِ مَا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى-.

فَهَذَا يَضِيعُ ذِكْرُهُ وَيَخْفَى أَثَرُهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَقُومُونَ بِأَعْمَالِ الْخَيْرِ؛ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَبَذْلِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللهِ، فَإِذَا وَقَعَ أَذًى فَهَذَا لَا يُنْتَقَمُ مِمَّنْ أَوْقَعَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ صَنَعَ الْمَعْرُوفَ وَأَمَرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَنِ اجْتَنَبَ الْمَكْرُوهَ وَنَهَى عَنْهُ، وَدَعَا إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى بَصِيرَةٍ؛ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ.

وَحِينَئِذٍ مَنْ كَانَ فِي اللهِ تَلَفُهُ فَعَلَى اللهِ خَلَفُهُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنْ كَانَ قَدْ أُوذِيَ عَلَى مُصِيبَةٍ؛ فَلْيَرْجِعْ بِاللَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ فِي لَوْمِهِ لَهَا شُغُلٌ عَنْ لَوْمِهِ لِمَنْ آذَاهُ -كَمَا مَرَّ- فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الْمُعِينِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاسِ.

الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَدْ أُوذِيَ عَلَى حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا؛ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ مِثْلَمَا يُوَطِّنُ أَصْحَابُ التِّجَارَةِ وَالْمُرَابَحَاتِ وَطَلَبِ الْمَكَاسِبِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَذَى الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ فِي سَبِيلِ مَا يُؤَمِّلُونَهُ وَيَرْجُونَهُ مِنْ أَرْبَاحِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَأَحْرَى.

((الْعَاشِرُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: أَنْ يَشْهَدَ مَعِيَّةَ اللهِ مَعَهُ إِذَا صَبَرَ، وَمَحَبَّةَ اللهِ لَهُ إِذَا صَبَرَ وَرِضَاهُ، وَمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ؛ دَفَعَ عَنْهُ أَنْوَاعَ الْأَذَى وَالْمَضَرَّاتِ مَا لَا يَدْفَعُهُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].

الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الصَّبْرَ نِصْفُ الْإِيمَانِ، فَلَا يَبْذُلُ مِنْ إِيمَانِهِ جُزْءًا فِي نُصْرَةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا صَبَرَ فَقَدْ أَحْرَزَ إِيمَانَهُ، وَصَانَهُ مِنَ النَّقْصِ، وَاللهُ يَدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالْإِيمَانُ صَبْرٌ وَشُكْرٌ، فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ ذَلِكَ أَعَانَهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ.

الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ صَبْرَهُ حُكْمٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَهْرٌ لَهَا وَغَلَبَةٌ لَهَا؛ فَمَتَى كَانَتِ النَّفْسُ مَقْهُورَةً مَعَهُ مَغْلُوبَةً؛ لَمْ تَطْمَعْ فِي اسْتِرْقَاقِهِ وَأَسْرِهِ، وَإِلْقَائِهِ فِي الْمَهَالِكِ، وَمَتَى كَانَ مُطِيعًا لَهَا، سَامِعًا مِنْهَا، مَقْهُورًا مَعَهَا؛ لَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى تُهْلِكَهُ، أَوْ تَتَدَارَكَهُ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ.

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّبْرِ إِلَّا قَهْرُهُ لِنَفْسِهِ وَلِشَيْطَانِهِ؛ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ سُلْطَانُ الْقَلْبِ، وَتَثْبُتُ جُنُودُهُ، وَيَفْرَحُ وَيَقْوَى، وَيَطْرُدُ الْعَدُوَّ عَنْهُ.

الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ فَاللهُ نَاصِرُهُ وَلَا بُدَّ؛ فَاللهُ وَكِيلُ مَنْ صَبَرَ، وَأَحَالَ ظَالِمَهُ عَلَى اللهِ، وَمَنِ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ هُوَ النَّاصِرَ لَهَا؛ فَأَيْنَ مَنْ نَاصِرُهُ اللهُ خَيْرُ النَّاصِرِينَ إِلَى مَنْ نَاصِرُهُ نَفْسُهُ أَعْجَزُ النَّاصِرِينَ وَأَضْعَفُهُ؟!!

الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ صَبْرَهُ عَلَى مَنْ آذَاهُ وَاحْتِمَالَهُ لَهُ يُوجِبُ رُجُوعَ خِصْمِهِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَنَدَامَتَهُ وَاعْتِذَارَهُ، وَلَوْمَ النَّاسِ لَهُ، فَيَعُودُ بَعْدَ إِيذَائِهِ لَهُ مُسْتَحْيِيًا مِنْهُ، نَادِمًا عَلَى مَا فَعَلَهُ؛ بَلْ يَصِيرُ مُوَالِيًا لَهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].

الْخَامِسَ عَشَرَ: رُبَّمَا كَانَ انْتِقَامُهُ وَمُقَابَلَتُهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ شَرِّ خَصْمِهِ، وَقُوَّةِ  نَفْسِهِ وَفِكْرَتِهِ فِي أَنْوَاعِ الْأَذَى الَّتِي يُوصِلُهَا إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ وَالْمَعْرُوفُ، فَإِذَا صَبَرَ وَعَفَا أَمِنَ مِنْ هَذَا الضَّرَرِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَخْتَارُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِدَفْعِ أَدْنَاهُمَا، وَكَمْ قَدْ جَلَبَ الِانْتِقَامُ وَالْمُقَابَلَةُ مِنْ شَرٍّ عَجَزَ صَاحِبُهُ عَنْ دَفْعِهِ!!

وَكَمْ قَدْ ذَهَبَتْ نُفُوسٌ وَرِئَاسَاتٌ وَأَمْوَالٌ لَوْ عَفَا الْمَظْلُومُ لَبَقِيَتْ عَلَيْهِ!!

السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ مَنِ اعْتَادَ  الِانْتِقَامَ وَلَمْ يَصْبِرْ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ لَهَا، لَا عِلْمًا وَلَا إِرَادَةً، وَرُبَّمَا عَجَزَتْ عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ الْغَضَبَ يَخْرُجُ بِصَاحِبِهِ إِلَى حَدٍّ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ، فَبَيْنَمَا هُوَ مَظْلُومٌ يَنْتَظِرُ النَّصْرَ وَالْعِزَّ؛ إِذِ انْقَلَبَ ظَالِمًا يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ وَالْعُقُوبَةَ، أَيْ: إِنَّ الصَّبْرَ أَسْلَمُ لَكَ، وَأَبْرَأُ لِذِمَّتِكَ؛ لِأَنَّكَ إِنْ عَمِلْتَ عَلَى الِانْتِقَامِ وَالْمُعَاقَبَةِ بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]؛ رُبَّمَا زِدْتَ وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ عَنِ الْمِثْلِ، فَتَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِلْإِثْمِ وَالظُّلْمِ، وَاللهُ -تَعَالَى- لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَظْلِمَةَ الَّتِي ظُلِمَهَا هِيَ سَبَبٌ إِمَّا لِتَكْفِيرِ سَيِّئَتِهِ أَوْ رَفْعِ دَرَجَتِهِ، فَإِذَا انْتَقَمَ وَلَمْ يَصْبِرْ؛ لَمْ تَكُنْ مُكَفِّرَةً لِسَيِّئَتِهِ، وَلَا رَافِعَةً لِدَرَجَتِهِ)).

أَنْ يَدَعَ الظَّالِمَ إِلَى ظُلْمِهِ؛ فَإِنَّهُ أَضَرُّ بِهِ مِنَ انْتِقَامِ الْمَظْلُومِ مِنْهُ.

أَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي ((زَوَائِدِ الزُّهْدِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ: ((أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو عَلَى رَجُلٍ ظَلَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: «كِلِ الظَّالِمَ إِلَى ظُلْمِهِ؛ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنْ دُعَائِكَ عَلَيْهِ؛ إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِعَمَلٍ، وَقَمِنٌ أَلَّا يَفْعَلَ».

إِذَا تَرَكَ أَخْذَ حَقِّهِ مِنَ الظَّالِمِ تَسْلِيمًا للهِ؛ فَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالدَّوَائِرُ تَدُورُ عَلَى الظَّالِمِ إِنْ كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ ((الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ حَكِيمُ الْمُحَدِّثِينَ أَبُو حَازِمٍ النَّجَّارُ: «لَا تُعَادِيَنَّ رَجُلًا وَلَا تُنَاصِبَنَّهُ الْعَدَاءَ حَتَّى تَنْظُرَ إِلَى سَرِيرَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ -تَعَالَى-، فَإِنْ تَكُنْ لَهُ سَرِيرَةٌ حَسَنَةٌ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَكُنْ بِخَاذِلِهِ بِعَدَائِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ سَرِيرَةٌ رَدِيئَةٌ فَقَدْ كَفَاكَ مَسَاوِئَهُ، فَلَوْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْمَلَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَعَاصِي اللهِ لَمْ تَقْدِرْ».

((الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ الْأُمورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: أَنَّ عَفْوَهُ وَصَبْرَهُ مِنْ أَكْبَرِ الْجُنْدِ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ، فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ وَعَفَا كَانَ صَبْرُهُ وَعَفْوُهُ مُوجِبًا لِذُلِّ عَدُوِّهِ، وَخَوْفِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنْهُ وَمِنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَسْكُتُونَ عَنْ خَصْمِهِ وَإِنْ سَكَتَ هُوَ، فَإِذَا انْتَقَمَ زَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ إِذَا شَتَمَ غَيْرَهُ أَوْ آذَاهُ يُحِبُّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ، فَإِذَا قَابَلَهُ اسْتَرَاحَ، وَأَلْقَى عَنْهُ ثِقَلًا كَانَ يَجِدُهُ.

التَّاسِعَ عَشَرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ: أَنَّهُ إِذَا عَفَا عَنْ خَصْمِهِ اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُ خَصْمِهِ أَنَّهُ فَوْقَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ عَلَيْهِ، فَلَا يَزَالُ يَرَى نَفْسَهُ دُونَهُ، وَكَفَى بِهَذَا فَضْلًا وَشَرَفًا لِلْعَفْوِ)).

«مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا» كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

إِنَّ الْمَظْلُومَ إِذَا صَبَرَ وَرَضِيَ بِأَنْ يُعْطَى لَهُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، أَوْ يَتَحَمَّلَ الظَّالِمُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ؛ كَانَ هَذَا أَنْفَعَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الْعَصِيبِ.

فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي ذَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَمَّا الْأَذَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمُعَامَلَةِ النَّاسِ؛ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شِئْتَ فَاصْبِرْ، وَإِنْ شِئْتَ فَخُذْ بِحَقِّكَ، وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الصَّبْرِ عُدْوَانٌ وَاسْتِمْرَارٌ فِي الْعُدْوَانِ، فَالْأَخْذُ بِحَقِّكَ أَوْلَى، وَالشَّاهِدُ: إِذَا كَانَ فِي الصَّبْرِ عُدْوَانٌ.. إِذَا كَانَ فِي الصَّبْرِ عُدْوَانٌ وَاسْتِمْرَارٌ فِي الْعُدْوَانِ فَالْأَخْذُ بِحَقِّكَ أَوْلَى.

فَإِذَا دَعَا الْمَظْلُومُ عَلَى ظَالِمِهِ فِي الدُّنْيَا، وَاسْتُجِيبَ لِدُعَائِهِ؛ فَقَدِ اقْتَصَّ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا إِذَا سَكَتَ فَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا دَعَوْتَ عَلَى ظَالِمِكَ فَاسْتُجِيبَ لَكَ فِيهِ فَقَدْ أَخَذْتَ حَقَّكَ، اقْتُصَّ لَكَ مِنْهُ، إِذَا سَكَتَّ فَلَمْ تَدْعُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَعْفُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ لَكَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

((الْعِشْرُونَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ: أَنَّهُ إِذَا عَفَا وَصَفَحَ كَانَتْ هَذِهِ حَسَنَةً، فَتُوَلِّدُ لَهُ حَسَنَةً أُخْرَى، وَتِلْكَ الْأُخْرَى تُوَلِّدُ لَهُ حَسَنَةً أُخْرَى، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلَا تَزَالُ حَسَنَاتُهُ فِي مَزِيدٍ؛ فَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ، كَمَا أَنَّ مِنْ عِقَابِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا سَبَبًا لِنَجَاتِهِ وَسَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ، فَإِذَا انْتَقَمَ وَانْتَصَرَ زَالَ ذَلِكَ)).

هَذِهِ الْأُمُورُ الْعِشْرُونَ -وَهِيَ قَاعِدَةٌ فِي الصَّبْرِ- مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ الَّتِي تَجْعَلُ الْمَرْءَ عَلَى السَّوِيَّةِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ تِجَاهَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ أَذَى خَلْقٍ، وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ مِنْ أَذَاهُمْ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، مِنْ مَقَادِيرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْخَطَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَسْخَطُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهَا الَّتِي لِأَجْلِهَا سُلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ؛ فَإِنَّهُ مَا وَقَعَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا ارْتَفَعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ!

الصَّبْرُ مَحْمُودٌ، وَمِنْهُ مَذْمُومٌ، مِنْ ذَلِكَ: الصَّبْرُ عَنِ اللهِ، الصَّبْرُ عَنِ اللهِ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ وَأَضَرُّهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَأَشْأَمُهُ عَلَيْهِ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَالْمَذْمُومُ -أَيْ: مِنَ الصَّبْرِ- الصَّبْرُ عَنِ اللهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ، وَسَيْرِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا الصَّبْرَ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ كَمَالِ الْعَبْدِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتَفْوِيتَ مَا خُلِقَ لَهُ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ أَقْبَحُ الصَّبْرِ فَهُوَ أَعْظَمُهُ وَأَبْلَغُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ أَبْلَغُ مِنْ صَبْرِ مَنْ يَصْبِرُ عَنْ مَحْبُوبِهِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لَهُ بِدُونِهِ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَنِ الْمَحْبُوبِ غَيْرُ مَحْمُودٍ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ كَمَالُ الْعَبْدِ وَفَلَاحُهُ فِي مَحَبَّتِهِ؟!!)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِمَّا يُنَافِي الصَّبْرَ: شَكْوَى الْخَالِقِ إِلَى الْمَخْلُوقِ، فَإِذَا شَكَا الْعَبْدُ رَبَّهُ إِلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؛ فَقَدْ شَكَا مَنْ يَرْحَمُهُ إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُهُ، وَلَا تُضَادُّهُ الشَّكْوَى إِلَى اللهِ، كَمَا فِي شِكَايَةِ يَعْقُوبَ إِلَى اللهِ مَعَ قَوْلِهِ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، وَأَمَّا إِخْبَارُ الْمَخْلُوقِ بِالْحَالِ؛ فَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِعَانَةِ بِإِرْشَادِهِ أَوْ مُعَاوَنَتِهِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى زَوَالِ ضَرَرِهِ؛ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الصَّبْرِ؛ كَإِخْبَارِ الْمَرِيضِ الطَّبِيبَ بِشِكَايَتِهِ، وَإِخْبَارِ الْمَظْلُومِ لِمَنْ يَنْتَصِرُ بِهِ بِحَالِهِ، وَإِخْبَارِ الْمُبْتَلَى بِبَلَائِهِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ فَرَجُهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْمَرِيضِ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟»، وَهَذَا اسْتِخْبَارٌ مِنْهُ وَاسْتِعْلَامٌ لِحَالِهِ)).

عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَالْإِلْمَامِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمُعِينَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ،  وَكُلُّ مَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ دَعَا إِلَى اللهِ، أَوْ تَصَدَّى لِلْإِصْلَاحِ وَالْإِرْشَادِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ مِنَ الْأَذَى عَلَى قَدْرِ سَعْيِهِ فِي الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْهَجُنَا هُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْعَصْرِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3]، الْعِلْمُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِيهِ.

وَتَأَمَّلْ قَوْلَ رَبِّكَ: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} كَيْفَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

فَكُلُّ مَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ عَلَى قَدْرِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُصَادَمَةً لِأَهْوَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْخَيْرِ وَالْتِزَامِ الْحَقِّ، وَهَذَا شَدِيدٌ عَلَى النَّفْسِ.

عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ -قَاعِدَةٌ فِي الصَّبْرِ-، وَأَنْ نَعْرِفَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْعِشْرِينَ، أَنْ نَعْلَمَهَا، وَنَجْتَهِدَ فِي وُجْدَانِهَا فِي أَنْفُسِنَا، وَأَنْ نُحَوِّلَهَا إِلَى وَاقِعٍ نَعِيشُهُ بِإِيمَانٍ وَإِخْلَاصٍ.

((كُفُّوا أَذَاكُمْ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ!)).

عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ -يَعْنِي: فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُوَصِّلَ الْخَيْرَ إِلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ- فَدَعِ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ -يَعْنِي: فَكُفَّ أَذَاكَ وَكُفَّ شَرَّكَ عَنْ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ-؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقْتَ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ)).

إِذَا مَا حَجَبْتَ أَذَاكَ وَحَجَزْتَ شَرَّكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهِيَ صَدَقَةٌ قَدْ تَصَدَّقْتَ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُوَصِّلَ الْخَيْرَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُفَّ شَرَّهُ وَأَذَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَنَا، وَأَنْ يَهْدِيَ بِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا سَبَبًا لِمَنِ اهْتَدَى، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَدْيِهِ وَالْتَزَمَ سُنَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

المصدر:

كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 2
  جناية التنوير على المسلمين
  إِلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَة
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَمَنْهَجُهُ فِي عِمَارَةِ الْكَوْنِ
  الْعَدْلُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ
  تيقظ وانتبه !!
  الْحُقُوقُ وَالْحُرُمَاتُ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  الخَوْفُ مِن اللهِ وَثَمَرَاتُهُ وآثَارُهُ عَلَى الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ
  التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ
  كَيْفَ تَكُونُ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ؟!!
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان