الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ

الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ

((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((إِبَاحَةُ كُلِّ طَيِّبٍ وَتَحْرِيمُ كُلِّ خَبِيثٍ))

فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].

((يَقُولُ -تَعَالَى- رَدًّا عَلَى مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ أَوِ الْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَابْتِدَاعِهِمْ: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الْآيَةَ، أَيْ: هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَبَدَهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وَإِنْ شَرَكَهُمْ فِيهَا الْكُفَّارُ حِسًّا فِي الدُّنْيَا، فَهِيَ لَهُمْ خَاصَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَشْرَكُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ)).

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُنْكِرًا عَلَى مَنْ تَعَنَّتَ وَحَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} مِنْ أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ، وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ؛ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ، أَيْ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ؟! وَمَنْ ذَا الَّذِي يُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ؟!

وَهَذَا التَّوْسِيعُ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِالطَّيِّبَاتِ جَعَلَهُ لَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَلَمْ يُبِحْهُ إِلَّا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِمْ فِيهَا.

وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ، بَلِ اسْتَعَانَ بِهَا عَلَى مَعَاصِيهِ؛ فَإِنَّهَا غَيْرُ خَالِصَةٍ لَهُ وَلَا مُبَاحَةٍ، بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا وَعَلَى التَّنَعُّمِ بِهَا، وَيُسْأَلُ عَنِ النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} أَيْ: نُوَضِّحُهَا وَنُبَيِّنُهَا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَعْقِلُونَهَا وَيَفْهَمُونَهَا)).

إِنَّ مِنْ عَظَمَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْخَيْرِ، وَالنَّفْعِ، وَالْفَضْلِ، وَالسَّعَةِ، وَأَرْشَدَتِ النَّاسَ إِلَى مَا يُسْعِدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَحَلَّتْ لَهُمْ كُلَّ طَيِّبٍ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ كُلَّ خَبِيثٍ، وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ ضَرَرٍ، وَشَرَعَتْ كُلَّ مَا يُقِيمُ الْحَيَاةَ، وَيَحْفَظُ عَلَى النَّاسِ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ.

دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَطَيِّبٍ وَنَافعٍ وَمُسْتَحْسَنٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَمُنْكَرٍ وَخَبِيثٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً، يُبِيحُ كُلَّ طَيِّبٍ، وَيُحَرِّمُ كُلَّ خَبِيثٍ، يَقُولُ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

 (({يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} يُحِلُّ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَنَاكِحِ، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ، وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ)).

((يُحِلُّ لَهُمْ مَا كَانُوا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحَائِرِ، وَالسَّوَائِبِ، وَالْوَصَائِلِ، وَالِحَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا ضَيَّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالرِّبَا، وَمَا كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْمَآكِلِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ -تَعَالَى-)).

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ -تَعَالَى- فَهُوَ طَيِّبٌ نَافِعٌ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ، وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ فَهُوَ خَبِيثٌ ضَارٌّ فِي الْبَدَنِ وَالدِّينِ)).

((التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

إِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ دُونَ وَجْهٍ مِنَ الْحَقِّ، كَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَلَا يَسْتَحِلَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ إِلَّا لِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ؛ كَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ، وَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُبِيحِ لِلْمِلْكِ، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ مُبْطِلٌ، وَيَرْفَعُ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ لَهُ، وَيَنْتَزِعَ مِنْ أَخِيهِ مَا لَهُ بِشَهَادَةٍ بَاطِلَةٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ رِشْوَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ.

فَإِنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَلْيَمْتَثِلْ كُلُّ عَبْدٍ أَمْرَ اللهِ بِاجْتِنَابِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ، لَا يُبَاحُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ الْيَهُودَ بِأَنَّهُمْ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ بِصُنُوفِهِ؛ مِنْ رِبًا، وَرِشْوَةٍ، وَتَزْوِيرٍ، وَأَكْلُ السُّحْتِ يَسْتَأْصِلُ الْعَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، وَيُفْسِدُ أُمُورَ النَّاسِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].

حُكَّامُ الْيَهُودِ كَثِيرُو السَّمَاعِ لِلْكَذِبِ، كَثِيرُو الْأَكْلِ لِلْمَالِ الْحَرَامِ؛ كَالرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ رَشَاهُمْ وَيَقْضُونَ لَهُ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 62-63].

تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي الْمُتَتَبِّعُ لِأَحْوَالِهِمْ -الْيَهُودِ-، الْمُرَاقِبُ لِسُلُوكِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُبَادِرُونَ دُونَ تَرَدُّدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَمَجَاوَزَةِ الْحَدِّ بِالْعِصْيَانِ وَالظُّلْمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَالرِّشْوَةِ، وَالْغِشِّ، وَالتَّزْوِيرِ، الَّذِي يَسْتَأْصِلُ التَّعَامُلُ بِهِ كُلَّ عَلَاقَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَرْبُطُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَتُفْسِدُ أُمُورَهُمْ، وَلَبِئْسَ الْعَمَلُ كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

هَلَّا يَنْهَاهُمُ الْعُبَّادُ وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ كَانَ يَتَّبِعُهُمُ الْيَهُودُ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ الْكَذِبِ بِإِعْلَانِهِمُ الْإِسْلَامَ وَإِبْطَانِهِمْ الْكُفْرَ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

لَبِئْسَ مَا كَانَ عُبَّادُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ يَصْنَعُونَ؛ إِذْ لَمْ يَنْهَوْا غَيْرَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي، فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَكِبِينَ لَهَا، بَلْ صَارُوا أَشَدَّ جُرْمًا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى صِنَاعَةً، وَهِيَ تَكُونُ بِمَهَارَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَتَعَرُّفٍ بِالْغَايَاتِ وَالنَّتَائِجِ.

وَحَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّبَا -وُهَوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ-  وَحَذَّرَ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].

الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا أَخْذًا وَعَطَاءً، فَلَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ، وَلَا يَتُوبُونَ إِلَى بَارِئِهِمْ مِنْهُ، وَيَرَوْنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مُنْكَرًا، وَيَرْفُضُونَ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِهِ، حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا -إِذْ يَسْلُبُ الْإِثْرَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ عَاطِفَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَيَجْعَلُ أَفْكَارَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ مُضْطَرِبَةً دَائِمَةَ التَّطَلُّعِ لِمُضَاعَفَةِ رُؤُوسِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ جَهْدِ الْآخِرِينَ، وَاسْتِغْلَالِ ضَرُورَاتِهِمْ-.

حَالُهُمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ الرِّبَا كَالْمَجْنُونِ ذِي الْحَرَكَاتِ الْمُضْطَرِبَةِ، يَمْشِي وَيَتَعَثَّرُ، وَيَصْدِمُ الْأَشْيَاءَ، وَتَأْتِيهِ الْخَبْطَاتُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهُوَ لَا يَرَى الشَّخْصَ الْمَسْئُولَ عَنِ الضَّرْبَاتِ الَّتِي تَتَهَاوَى عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَأَنَّمَا يَتَخَبَّطُهُ شَيْطَانٌ خَبِيثٌ عَدِيمُ الرَّحْمَةِ، خَفِيٌّ لَا تَرَاهُ أَعْيُنُ النَّاسِ.

ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِرَفْضِهِمْ حُكْمَ اللهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فَكَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ، فَكَذَلِكَ الرِّبَا يُؤَدِّي إِلَى الرِّبْحِ وَهُوَ حَلَالٌ فِي نَظَرِهِمْ أَيْضًا.

مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُثْبِتُ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ مِثْلَ الرِّبَا، فَالرِّبَا ظُلْمٌ وَاسْتِغْلَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَوَسِيلَةٌ لِمَنْعِ التَّعَاطُفِ وَالتَّعَاوُنِ الِاجْتِمْاَعِيِّ عَنْ طَرِيقِ الْقَرْضِ الْحَسَنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رِبْحٌ لَا يُقَابِلُهُ جَهْدٌ وَلَا ضَمَانُ خَسَارَةٍ.

وَرِبْحُ الْبَيْعِ يُقَابِلُهُ ضَمَانُ الْخَسَارَةِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا؟!!

وَأَحَلَّ اللهُ لَكُمُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعٍ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْمَالِ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِغْلَالٍ وَضَيَاعٍ وَهَلَاكٍ.

وَحَرَّمَ اللهُ السَّرِقَةَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ اللَّذَيْنِ يَأْخُذَانِ الْمَالَ الْمُحَرَّزَ الْمَصُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، فَاقْطَعُوا -يَا وُلَاةَ الْأَمْرِ- أَيْدَيَهُمَا؛ بِقَطْعِ يَمِينِ السَّارِقِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الرُّسْغِ.

ذَلِكَ الْقَطْعُ مُجَازَاةٌ لَهُمَا عَلَى أَخْذِهِمَا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ، يَمْنَعُ بِهِا غَيْرَهُمَا أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَ صَنِعِيهِمَا، وَاللهُ قَوِيٌّ غَالِبٌ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ، حَكِيمٌ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ.

وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ: أَخْذُ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُحَرَّزًا مَصُونًا، مَعْنِيًّا بِحِفْظِهِ الْعِنَايَةُ الَّتِي تَلِيقُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالًا مُتَقَوِّمًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا قُصُورَ فِي مَالِيَّتِهِ بِأَنْ يَتَمَوَّلَهُ النَّاسُ، وَيُعِدُّونَهُ لِأَغْرَاضِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي طَلَبِهِ.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَا تُقْطَعُ إِلَّا إِذَا بَلَغَ الْمَسْرُوقُ قَدْرًا مِنَ الْمَالِ مِقْدَارُهُ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ عَشْرَةُ دَرَاهِمٍ.

وَحَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى -وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ السُّحْتِ أَيْضًا-، وَرَتَّبَ عَلَى أَكْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، الْمُتْلِفَةِ لِلْمَالِ حَرَامًا بِغَيْرِ حَقٍّ، سَيَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا، تَحْرِقُ بُطُونَهُمْ، وَتَشْوِي أَحْشَاءَهُمْ، وَسَيْدَخُلُونَ نَارًا هَائِلَةً مُشْتَعِلَةً، يَحْتَرِقُونَ فِيهَا؛ جَزَاءَ أَكْلِهِمْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ظُلْمًا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! أَنْفِقُوا مِنَ الْمَالِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي كَسَبْتُمُوهُ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَلَا تَعْمَدُوا إِلَى الرَّدِيءِ مِنْهُ فَتُنْفِقُونَهُ، وَلَوْ أُعْطِيَ لَكُمْ مَا أَخَذْتُمُوهُ إِلَّا إِذَا تَغَاضَيْتُمْ مُكْرَهِينَ عَلَى رَدَاءَتِهِ؛ فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ للهِ مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ؟!!

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ نَفَقَاتِكُمْ، مَحْمُودٌ فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.

*نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ الشَّدِيدُ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ:

إِنَّ أَكْلَ الْحَرَامِ يُثْمِرُ ثَمَرًا خَبِيثًا مُرًّا، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلى الْجَنَّةِ كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ))،  «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

الْعَبْدُ يَدْفَعُ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ، وَالدَّمُ يَتَجَدَّدُ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ فِي فَتْرَةٍ دَوْرِيَّةٍ، فَلَا تَبْقَى خَلِيَّةٌ مِنْ خَلَايَا الدَّمِ جَارِيَةً سَارِيَةً فِي عُرُوقِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ لَهَا؛ إِذْ تَتَكَسَّرُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى مَا تَصِيرُ إِلَيْهِ، وَيَتَجَدَّدُ ذَلِكَ مِنَ الْغِذَاءِ الَّذِي يَتَغَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ الْحَيُّ.

فَإِذَا مَا دَفَعَ بِاللُّقْمَةِ الْحَرَامِ فِي جَوْفِهِ؛ فَلَا جَرَمَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْحَرَامِ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ خَلَايَاهُ دَمًا وَلَحْمًا وَعَظْمًا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَ«كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ».

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُسْلِمِ حَرَجًا وَلَا ضِيقًا فِي شَيْءٍ، بَلْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّزْقَ مَكْفُولًا مُحَدَّدًا كَالْأَجَلِ، لَا يَخَافُ الْعَبْدُ مِنْهُ نُقْصَانًا، وَلَا يَتَوَقَّعُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ زِيَادَةً إِلَّا لِنَقْصٍ فِي عَقْلِهِ.

فَفِي «الْحِلْيَةِ» بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ -جِبْرِيل -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- نَفَثَ فِي رُوعِي)).

وَالنَّفْثُ: شَيْءٌ فَوْقَ النَّفْخِ وَدُونَ التَّفْلِ، ((فِي رُوعِيَ»؛ يَعْنِي: فِي نَفْسِي وَفُؤَادِي وَخَاطِرِي.. «إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».

«فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»: وَتَجَمَّلُوا، وَأْتُوا بِالْأَمْرِ لَا عَلَى نَحْوٍ مُنْضَبِطٍ وَنَحْوٍ جَمِيلٍ، مِنْ غَيْرِ مَا عَجَلَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا انْدِفَاع، «فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَسَّمَ الْأَرْزَاقَ آجِلًا، كَمَا حَدَّدَ الْآجَاَل سَلَفًا، فَلَا الْأَجَلَ يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا الرِّزْقَ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ حَدَّدَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَلَفًا.

دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتَوَرَّعُ فِيهِ الْمُتَوَرِّعُونَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَغِشْيَانِ الْحَرَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبُوا، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)).

الْحَلَالُ عِنْدَهُمْ مَا وَقَعَ فِي الْيَدِ!! وَلَوْ كَانَ رِشْوَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً!! مَا دَامَ وَقَعَ فِي الْيَدِ فَهُوَ حَلَالٌ!! وَالْحَرَامُ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْيَدِ!!

وَمَا كَذَلِكَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا عَلَى هَذَا أَخَذَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِيثَاقَنَا أَمْرًا: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].

وَالنَّبِيَّ الْكَرِيمَ ﷺ فِي أَعْظَمِ اجْتِمَاعٍ شَهِدَهُ وَأَوْسَعِهِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَحْضَرَ أَذْهَانَهُمْ، وَاسْتَجْلَبَ فُهُومَهُمْ حَتَّى صَارَتْ شَاخِصَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَحْتَ نَاظِرَيْهِ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟))

وَهُمْ يَقُولُونَ:  اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَيَقُولُ: ((أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ؟))

يَقُولُونَ: بَلَى.

((أَلَيْسَ بِالشَّهْرِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ الْقَدْرَ؟))

يَقُولُونَ: بَلَى.

يَقُولُ: ((أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟))

يَقُولُونَ: بَلَى.

فَلَمَّا قَرَّرَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ بِحُرْمَةِ الْيَوْمِ فِي شَهْرِهِ فِي مَكَانِهِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

((وُجُوبُ تَحَرِّي الْحَلَالِ الطَّيِّبِ))

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَمَرَنَا بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَاتًا وَكَسْبًا، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 171]، أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي كَسْبِهِ، فَتَعْلَقُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا.

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- سَوَّى بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرِ بِمَا الْمَرْءُ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأَحْزَاب: 1].

فَيَأْمُرُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالتَّقْوَى، وَهُوَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا، وَيَأْمُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَهُمْ آكِلُونَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالْأَمْرِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ مُعِينٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَكَلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَعَانَهُ ذَلِكَ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَمَلُ الصَّالِحِ هُوَ مَا كَانَ للهِ خَالِصًا، وَعَلَى قَدَمِ النَّبِيِّ سَائِرًا ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}: وَأَتْبَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.

وَفِي ضِمْنِهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ، فَأَكَلَ مِمَّا فِيهِ حُرْمَةٌ أَوْ مِمَّا لَيْسِ بِطَيِّبٍ فِي حَقِيقَتِهِ أَوْ مِمَّا حُصِّلَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَلِيقُ بِمُحَصِّلِهِ.

فَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ قَدْ صَرَفَ الْأَمْرَ إِلَى الْمُرْسَلِينَ؛ فَمَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى بِانْصِرَافِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ.

فَإِذَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمُرْسَلِينَ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ فَإِنَّ مَنْ دُونَهُمْ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ، وَإِذَا جَاءَ التَّحْذِيرُ وَالتَّشْدِيدُ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ؛ فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى وَأَجْدَرُ.

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البَقَرة: 172]: فَوَجَّهَ الْأَمْرَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)).

((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ فِي ذَاتِهِ، وَطَيِّبٌ فِي صِفَاتِهِ، وَطَيِّبٌ فِي أَفْعَالِهِ، وَطَيِّبٌ فِي أَسْمَائِهِ، فَلَهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ.

((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، لَيْسَ بِخَبِيثٍ، وَإِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي تَحْصِيلِهِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، وَيُكْتَسَبُ اكْتِسَابًا تَلْحَقُهُ الْحُرْمَةُ فِيهِ؛ فَيَكُونُ حَرَامًا لِلْكَسْبِ، لَا حَرَامًا لِلذَّاتِ.

فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَوْ مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ؛ قِيلَ: هَذَا مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِحُرْمَةِ ذَاتِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا مَا اغْتَصَبَ شَاةً؛ فَالْحُرْمَةُ تَلْحَقُ الْكَسْبَ هَاهُنَا، وَلَا تَلْحَقُ الذَّاتَ.

((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)).

قَسَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْبِلَادَ إِلَى طَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، وَلَا ثَالِثَ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58]، فَالْبِلَادُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ.

وَالنَّاسُ طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} {النور: 26].

فَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى قِسْمَينِ: طَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، طَيِّبِينَ وَطَيِّبَاتٍ، وَخَبِيثِينَ وَخَبِيثَاتٍ.

وَقَسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْكَلَامَ قِسْمَيْنِ، فَطَيِّبٌ وَخَبِيثٌ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 24-27].

فَالْكَلَامُ قِسْمَانِ: طَيِّبٌ وَخَبِيثٌ، كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ وَكَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ، وَالرَّسُولُ فِي وَصْفِهِ: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

فَالنَّبِيُّ ﷺ: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ..}.

وَالمُؤْمِنُونَ مَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ طَيِّبُونَ، فَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ طَيِّبُونَ، بِأَنَّهُمْ طَيِّبُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَجَعَلَ السَّلَامَ عَلَيهِمْ بِالطِّيبِ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73].

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الرُّوحَ الَّتِي تَكْتُبُ لَهُ الجَنَّةَ وَتُنَجِّى مِنَ النَّارِ مَوْصُوفَةً بِالطِّيبِ -أَيْضًا-، تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَهَا: «أَيُّتَهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ».

((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، فَلَيْسَ بِخَبِيثٍ، وَإِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا فِيهِ شُبْهَةٌ.

((وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172])).

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ التَّسْوِيَةَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ، وَمُجَانَبَةُ الْحَرَامِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْخَبَائِثِ، وَتَحَرِّي الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ.

فَأَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَفِي هَذَا رَفْعٌ لِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ أَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الصَّفْوَةَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْمُرْسَلُونَ، إِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ.

((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْكِتَابَ، وَبَيَّنَ فِيهِ لِلْأُمَّةِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: ((لِكُلِّ شَيْءٍ أُمِرُوا بِهِ أَوْ نُهُوا عَنْهُ)).

وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَا طَائِرٌ يُحَرِّكُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا وَذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا))، كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)).

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ ﷺ: ((الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)) مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحَلَالَ الْمَحْضَ بَيِّنٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْحَرَامُ الْمَحْضُ؛ وَلَكِنْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أُمُورٌ تَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ: هَلْ هِيَ مِنَ الْحَلَالِ، أَمْ مِنَ الْحَرَامِ؟

وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؛ فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُونَ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ هِيَ.

فَأَمَّا الْحَلَالُ الْمَحْضُ؛ فَمِثْلُ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَشُرْبِ الْأَشْرِبَةِ الطَّيِّبَةِ، وَلِبَاسِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ، أَوِ الصُّوفِ، أَوِ الشَّعْرِ، وَكَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ.

وَأَمَّا الْحَرَامُ الْمَحْضُ: فَكَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَمِثْلِ الْأَكْسَابِ الْمُحَرَّمَةِ؛ كَالرِّبَا، وَالْمَيْسِرِ، وَثَمَنِ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ بِسَرِقَةٍ، أَوْ غَصْبٍ، أَوْ تَدْلِيسٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الْمُشْتَبِهُ: فَمِثْلُ أَكْلِ بَعْضِ مَا اخْتُلِفَ فِي حِلِّهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ:

إِمَّا مِنَ الْأَعْيَانِ: كَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالضَّبِّ، وَشُرْبِ مَا اخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ مِنَ الْأَنْبِذَةِ الَّتِي يُسْكِرُ كَثِيرُهَا، وَلَيْسَ مَا اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَةِ لُبْسِهِ مِنْ جُلُودِ السِّبَاعِ وَنَحْوِهَا.

وَإِمَّا مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا: كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ، وَالتَّوَرُّقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَأَمَّا الْعِينَةُ: فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَبِيعُهُ عَلَى صَاحِبِهِ نَقْدًا بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ السِّلْعَةُ وَتَخْرُجُ وَيَبْقَى عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَجَلٍ، يَبْقَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَ نَقْدًا.

وَأَمَّا التَّوَرُّقُ: فَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى نَقْدٍ، فَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي مِئَةً بِأَكْثَرَ؛ لِيَتَوَسَّعَ بِثَمَنِهِ.

فَفِي الْجُمْلَةِ مَا تَرَكَ اللهُ وَرَسُولُهُ حَلَالًا إِلَّا مُبَيَّنًا، وَلَا حَرَامًا إِلَّا مُبَيَّنًا؛ لَكِنْ بَعْضُهُ كَانَ أَظْهَرَ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ، فَلَا بُدَّ فِي الْأُمَّةِ مِنْ عَالِمٍ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْحَقَّ؛ فَيَكُونُ هُوَ الْعَالِمَ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَغَيْرُهُ يَكُونُ الْأَمْرُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ عَالِمًا بِهَذَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا.

فَلَا يَكُونُ الْحَقُّ مَهْجُورًا غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ، قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، أَوْ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ؛ وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَهْلُ بَاطِلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى أَهْلِ حَقِّهَا أَبَدًا.

وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ: ((لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُهَا، وَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.

وَقَدْ فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، يَعْنِي: الْحَلَالَ الْمَحْضَ وَالْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَقَالَ: مَنِ اتَّقَاهَا فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ.

وَفَسَّرَهَا تَارَةً بِاخْتِلَاطِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا مُعَامَلَةُ مَنْ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ مُخْتَلِطٌ.

فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَرَامَ؛ فَقَالَ أَحْمَدُ: ((يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ شَيْئًا لَا يُعْرَفُ)).

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ: هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ، أَوْ مُحَرَّمٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِهِ الْحَلَالَ؛ جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ، وَالْأَكْلُ مِنْ مِالِهِ.

وَالْعُلَمَاءُ يُفَرِّقُونَ -أَيْضًا- بَيْنَ الْحَرَامِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَبَيْنَ الْحَرَامِ عَلَى الْكَسْبِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْكَسْبِ فَحُرْمَتُهُ عَلَى كَاسِبِهِ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ إِذَا وَصَلَهُ بِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوَرَعُ؛ فَإِنَّ الصَّالِحِينَ يَتَوَرَّعُونَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يُعَامِلُونَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَنِبُونَ الْحَرَامَ كُلَّهُ، وَإِنِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فَهُوَ شُبْهَةٌ، وَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، قَالَ سُفْيَانُ: ((لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ أَعْجَبُ إِلَيَّ)).

وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَرَامٌ -أُخِذَ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ-؛ فَإِنَّه يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْحَرَامُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرُهُ.

وَالْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ الَّتِي لَا تَتَبَيَّنُ أَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ يَتَبَيَّنُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ؛ لِمَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ مَزِيدِ عِلْمٍ.

وَكَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتِ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُهَا، وَقَوْلُهُ ﷺ: ((فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ  -أَيْ: صَانَ دِينَهُ وَحَمَى عِرْضَهُ مِنْ وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ-، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)).

وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)). هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَأَنَّهُ يُقَرِّبُ وُقُوعَهُ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ.

فَجَعَل النَّبِيُّ ﷺ مَثَلَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحِمَى الَّذِي تَحْمِيهِ الْمُلُوكُ، وَيَمْنَعُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ قُرْبَانِهِ.

وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حَمَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنَعَ عِبَادَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا، وَسَمَّاهَا حُدُودَهُ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].

وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ حَدَّ لَهُمْ مَا أَحَلَّ لَهُمْ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَقْرَبُوا الْحَرَامَ، وَلَا يَتَعَدَّوُا الْحَلَالَ، وَجَعَلَ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ جَدِيرًا بِأَنْ يَدْخُلَ الْحِمَى وَيَرْتَعَ فِيهِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ تَعَدَّى الْحَلَالَ وَوَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ فَإِنَّهُ قَدْ قَارَبَ الْحَرَامَ غَايَةَ الْمُقَارَبَةِ، فَمَا أَخْلَقَهُ بِأَنْ يُخَالِطَ الْحَرَامَ الْمَحْضَ وَيَقَعَ فِيهِ.

الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ الْبَيِّنَانِ لَا يَخْفَى أَمْرُهُمَا عَلَى النَّاسِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْحَرَامَ، وَلَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِمَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ.

وَقَدْ عَاتَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ ﷺ لَمَّا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ الْعَسَلِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1].

مِنْ حِكْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ يَخْفَى حُكْمُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمَآكِلِ، أَوِ الْمَشَارِبِ، أَوْ غَيْرِهِمَا؛ لِيَتَبَيَّنَ الْمُؤْمِنُ الْمُنْقَادُ لِأَوَامِرِ اللهِ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَسْبَابٍ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ، مِنْهَا:

أَنْ يَكُونَ النَّصُّ خَفِيًّا عَلَيْهِ لَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَبْلُغْ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعِلْمِ.

وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ؛ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ أَوْ مَفْهُومِ أَوْ قِيَاسِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ؛ فَتَخْتَلِفُ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا كَثِيرًا، وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى سِوَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ.

مَفْهُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مُشْتَبِهَةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَيْسَتْ مُشْتَبِهَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهَا.

فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَهُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ أَنْ يَدَعَهُ؛ لِكَيْ يَسْلَمَ دِينُهُ مِنَ النَّقْصِ، وَلِيَسْلَمَ عِرْضُهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ الْمَرْءِ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ))، كَمَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَه.

وَحِينَئِذٍ مَنِ ارْتَكَبَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَدْحِ فِيهِ وَالطَّعْنِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ.

النَّبِيُّ ﷺ يُقَرِّرُ الْمَعْنَى بِضَرْبِ الْمَثَلِ، وَالْأَمْثَالُ تُقَرِّبُ الْمَعَانِيَ لِلْأَفْهَامِ قَالَ ﷺ: ((كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى)).

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحِمَى الَّذِي تَحْمِيهِ الْمُلُوكُ لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ لِمَوَاشِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنِ اقْتَرَبَ مِنْهَا بِمَوَاشِيهِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَأَنَّهُ يَقْرُبُ وُقُوعُهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.

وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ لِمَحَارِمِهِ حِمًى حَتَّى لَا يَقَعَ الْمُسْلِمُ فِيهَا، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].

وَالنَّبِيُّ ﷺ قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)). أَيْ كُونُوا أَنْتُمْ فِي جَانِبٍ وَهَذِهِ السَّبْعَ فِي جَانِبٍ آخَرَ، وَهَذَا مَعْنَى اجْتَنِبُوا، كَمَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]؛ أَيِ اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ، وَالْأَصْنَامَ وَعِبَادَتَهَا فِي جَانِبٍ آخَرَ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ، وَأَلَّا يَقْتَرِبَ مِنَ الْحَرَامِ، وَأَلَّا يُوَاقِعَ الشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ.

((عَدَمُ مُبَالَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ!!))

النَّاسُ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي مَوْضُوعِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ، لَا لِصُعُوبَةِ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ مَعْرِفَةً لَدَيْهِمْ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ صُعُوبَةَ تَحْصِيلِ الْحَلَالِ، وَلَا لِصُعُوبَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ، جَعَلَهُ اللهُ فِطْرَةً فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَغَرِيزَةً جُبِلَ عَلَيْهَا الْبَشَرُ.

وَالنَّاسُ لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَكْلًا وَتَحْصِيلًا، وَالْكَلَامُ حَوْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَ عُقُوبَةَ مَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ عُقُوبَةً لِأَكْلِ الْحَرَامِ.

فَمَا الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْحَدِيثَ فِي أَمْرِ أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؟!!

الَّذِي يَجْعَلُ النَّاسَ كَذَلِكَ، مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))، يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي فِيهِ الْمَرْءُ أَمِنْ حَلَالٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)).

إِذَنْ؛ السَّبَبُ هُوَ الِاسْتِهْتَارُ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ.

فَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ، وَعَدَمُ أَخْذِ الْأَمْرِ بِجِدٍّ كَمَا هُوَ شَأْنُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَأْنُ الصَّالِحِينَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، هَذِهِ اللَّامُبَالَاةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَغْرِبُونَ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَفِتِينَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ كَأَصْلِ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ قَالَ: ((إِنَّ الشَّابَّ إِذَا تَعَبَّدَ؛ قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ: انْظُرُوا إِلَى مَطْعَمِهِ، فَإِنْ كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ، قَالَ: دَعُوهُ، فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ عِبَادَةٌ مَعَ أَكْلِ الْحَرَامِ)).

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْحَلَالَ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامَ يَأْتِي جُزَافًا، وَقَدْ أَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ السَّبْتِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].

فَأَوْضَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي أَبَاحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الصَّيْدَ، لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ شَيْءٌ، وَالْيَوْمَ الَّذِي حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ، تَأْتِيهِمُ الْحِيتَانُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّيْدَ، تَأْتِيهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ {شُرَّعًا}، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ}.

الْحَلَالُ يَأْتِي كَفَافًا، وَالْحَرَامُ يَأْتِي جُزَافًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَوْضَحَ هَذَا بِأَجْلَى بَيَانٍ كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شِعَافَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).

((يُوشِكُ)): أَيْ اقْتَرَبَ ((أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ)): الْغَنَمُ: اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَعًا، وَيَصْدُقُ عَلَى الذُّكُورِ وَحْدَهَا، وَعَلَى الْإِنَاثِ وَحْدَهَا، ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شِعَافَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)): يَعْنِي يَتْبَعُ بِغَنَمِهِ رُؤُوسِ الْجِبَالِ ((وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ)): يَعْنِي مَوَاقِعَ الْمَطَرِ، بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ، ((يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)).

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قُرُونٍ مُتَطَاوِلَاتٍ، وَهُوَ يَقُولُ ﷺ: ((يُوشِكُ)): يَعْنِي اقْتَرَبَ، فَاقْتَرَبَ ذَلِكَ مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ.

((النَّبِيُّ ﷺ كَانَتْ أَبْيَاتُهُ تَظَلُّ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ لَا يُوقَدُ فِيهَا نَارٌ)).

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعِيشُ هَكَذَا، ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ -كَمَا تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -ابْنِ أُخْتِهَا -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، تَقُولُ: ((كُنَّا نَظَلُّ نَمْكَثُ الْهِلَالَ فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، فِي إِثْرِ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ لَا يُوقَدُ فِي أَبْيَاتِ النَّبِيِّ ﷺ نَارٌ)).

قَالَ: فَمَا كَانَ يُقِيتُكُمْ يَا خَالَةُ -فَمَا كَانَ قُوتُكُمْ إِذَنْ-؟!!

فَقَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((قُوتُنَا الْأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ)).

وَلَكِنْ كَانَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْأَنْصَارِ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُهْدُونَ النَّبِيَّ ﷺ بَعْضَ اللَّبَنِ، فَهَذَا أَعْلَى مَا يَصِلُ بَيْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!

لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ ضِيقِ ذَاتِ يَدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ تَعَفُّفًا وَضَرْبًا لِلْمِثَالِ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ﷺ-.

النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَرَ بِعَيْنِهِ شَاةً سَمِيطًا قَطُّ، وَلَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ ﷺ خُبْزًا مُرَقَّقًا أَبَدًا، وَهُوَ الَّذِي يَطْعَمُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ جَعَلُوهُ طَعَامًا رُبَّمَا لِكِلَابِهِمْ!!

وَأَمَّا الْمُخْتَارُ ﷺ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَيْرُ الْخَلْقِ جَمِيعًا ﷺ؛ فَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّعِيرُ يُجْعَلُ بَيْنَ شِقِّيِ الرَّحَى، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ فَوْقِ الثِّفَالِ -وَهُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّحَى وَالْأَرْضِ؛ حَتَّى لَا يُصِيبَ الْمَطْحُونَ شَيْءٌ مِنْ تُرَابٍ-.

تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كُنَّا نَأْخُذُ الشَّعِيرَ بَعْدَ طَحْنِهِ -لِأَنَّهُ كَانَ يُطْحَنُ بِقِشْرِهِ-، فَتَقُولُ: فَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مِنْ قِشْرِهِ مَا يَطِيرُ، وَيَبْقَى مِنْ قِشْرِهِ مَا يَبْقَى، ثُمَّ نَأْخُذُ مَا تَبَقَّى فَنُثَرِّيهِ بِالْمَاءِ -نَجْعَلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ- ثُمَّ نَعْجِنُهُ، فَنَخْبِزُهُ، فَهَذَا طَعَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الْأُمَّةَ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ، وَهَا هُوَ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) يَقُولُ: ((إِنِّي لِأَجِدُ التَّمْرَةَ عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا إِلَى فِي -إِلَى فَمِي، وَرُبَّمَا أَدْخَلَهَا فِي فَمِهِ ﷺ- ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَأَطْرَحُهَا -فَأَلْقِيهَا-)).

مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا بَعِيدٌ الْوُقُوعِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا الَّذِي يَأْتِي بِتَمْرَةٍ مِنْ تَمْرٍ الصَّدَقَةِ إِلَى فِرَاشِ الرَّسُولِ ﷺ، لَا إِلَى مُطْلَقِ الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا مَا تَزَالُ التَّمْرَةُ تَنْحَدِرُ حَتَّى تَكُونَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!! وَلَكِنْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بَابَ الِاحْتِمَالَاتِ إِذَا فُتِحَ فَلَا يُسَدُّ إِلَّا بِيَقِينٍ قَاطِعٍ.

الرَّسُولُ ﷺ يَتَحَرَّى الْحَلَالَ هَذَا التَّحَرِّي، وَأَصْحَابُهُ كَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَتَابِعُوا التَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، وَتَبَعُ الْأَتْبَاعِ، وَالْفُقَهَاءُ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

((الْحِلُّ وَالْإِبَاحَةُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَلَاءِ))

عِبَادَ اللهِ! مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: بَيَانُ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَالْفِقْهِ وَالْفُقَهَاءِ، وَبَيَانُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- هَذَا الْأَصْلَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] إِلَى قَوْلِهِ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]. وَيَزِيدُهُ وُضُوحًا مَا صَرَّحَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْكَثِيرِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ لِلْعَامِّيِّ الْبَلِيدِ، ثُمَّ صَارَ هَذَا أَغْرَبَ الْأَشْيَاءِ، وَصَارَ الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ هُوَ الْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَخِيَارُ مَا عِنْدَهُمْ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَصَارَ الْعِلْمُ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى الْخَلْقِ وَمَدَحَهُ لَا يَتَفَوَّهُ بِهِ -يَعْنِي: عِنْدَهُمْ- إِلَّا زِنْدِيقٌ أَوْ مَجْنُونٌ، وَصَارَ مَنْ أَنْكَرَهُ وَعَادَاهُ، وَصَنَّفَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ وَالنَّهْيِ عَنْهُ هُوَ الْفَقِيهَ الْعَالِمَ!!

إِنَّ الْعَالِمَ نُورٌ يَهْتَدِي بِهِ النَّاسُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ قِصَّةُ الرَّجُلِ الَّذِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ رَجُلًا عَابِدًا: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَكَأَنَّ الْعَابِدَ اسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ، فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ السَّائِلُ، فَأَتَمَّ بِهِ الْمِئَةَ.

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَالِمٍ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ تَوْبَةً، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ دَلَّهُ عَلَى بَلَدٍ أَهْلُهُ صَالِحُونَ؛ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ، فَأَتَاهُ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ؛ فَانْظُرِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ!

إِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مِنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ حَقًّا -هُمُ الرَّبَّانِيُّونَ الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ عَلَى شَرِيعَةِ رَبِّهِمْ-؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ الرَّبَّانِيُّونَ عَمَّنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، يَتَشَبَّهُ بِهِمْ -أَيْ: بِالْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ- فِي الْمَظْهَرِ وَالْمَنْظَرِ وَالْمَقَالِ وَالْفِعَالِ؛ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي النَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ، فَخِيَارُ مَا عِنْدَهُ أَنْ يَلْبِسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَصُوغَهُ بِعِبَارَاتٍ مُزَخْرَفَةٍ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً، حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، بَلْ هُوَ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ الَّذِي يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ هُوَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ لَا يَتَفَوَّهُ بِهِ إِلَّا زِنْدِيقٌ أَوْ مَجْنُونٌ.

فَلَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَنِ ادَّعَاهُ، وَبَيْنَ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ.

وَلَعَلَّ مِنَ الْفَوَارِقِ الْمُهِمَّةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْجُهَلَاءِ: هُوَ مَدَى فَهْمِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ لِقَضَايَا الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَالضِّيقِ وَالسَّعَةِ، فَالْعَالِمُ يُدْرِكُ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعِبَادَاتِ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ؛ كَأَنْوَاعِ الْمَآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالصِّنَاعَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

((فَمَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ حَتَّى يَأْذَنَ الشَّرْعُ وَيَرِدُ بِمَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَلَا يُعْبَدُ اللهُ -تَعَالَى- إِلَّا بِمَا شَرَعَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعِبَادَاتِ؛ فَالْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلُ الْمَنْعُ.

الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ -هَذَا يَعُمُّ الْأَعْيَانَ، وَالْمَنَافِعَ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَفْعَالَ، وَكُلُّ شَيْءٍ الْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ؛ الْأَعْيَانُ إِذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ شَجَرًا فِي الْبَرِّ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ، فَلْيَأْكُلْهُ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ شَجَرًا ضَارًّا، إِذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ طَيْرًا أَوْ زَاحِفًا فِي الْبَرِّ؛ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ حَلَالٌ يَحِلُّ أَكْلُهُ مَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

كَذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا خَلَقَ اللهُ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ يَكُنْ الِانْتِفَاعُ حَرَامًا.

وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ إِذَا لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً، فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ عَامَلَ بِهَا الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ فَهِيَ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا.

دَلِيلُ ذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ: قَوْلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}؛ فَعَمَّمَ وَأَكَّدَ التَّعْمِيمَ، قَالَ: {مَا فِي الْأَرْضِ}: وَهَذِهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ تُفِيدُ الْعُمُومَ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ: {جَمِيعًا}.

وَدَلِيلُ الْمُعَامَلَاتِ: قَوْلُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، فَأَمَرَ اللهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أُخِذَتْ، وَبِأَيِّ مُعَامَلَةٍ كَانَتْ مَا لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ))،  فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ -أَيْ: مَا كَانَ مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللهِ- فَإِنَّهُ غَيْرُ بَاطِلٍ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامَا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا))، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا الْأَعْيَانِ، وَالْمَنَافِعِ، وَالْأَعْمَالِ، وَغَيْرِهَا- الْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا حَلَالٌ لَا إِثْمَ فِيهَا.

وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ؛ الْأَصْلُ فِيهَا الْمَنْعُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، دَلِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ أَنْكَرَ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى الَّذِينَ يَشْرَعُونَ أَوْ يَتَّبِعُونَ الشَّرَائِعَ الَّتِي لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهَا، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.

وَأَبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي دِينِ اللهِ، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).

فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا تَعَبَّدَ للهِ -تَعَالَى- بِعِبَادَةٍ لَمْ يَشْرَعْهَا اللهُ؛ كَانَتِ الْعِبَادَةُ بَاطِلَةً؛ سَوَاءٌ كَانَتْ لَمْ تُشْرَعْ مِنْ أَصْلِهَا، أَوْ شُرِعَتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَأَثْبَتَ هُوَ لَهَا سَبَبًا غَيْرَ ثَابِتٍ شَرْعًا؛ فَإِنَّهَا مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا فَعَلَ عِبَادَةً بِسَبَبٍ لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ سَبَبًا لَهَا؛ كَانَ مُبْتَدِعًا)).

فَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ وَالْإِبَاحَةُ، وَالتَّحْرِيمُ وَالْمَنْعُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَصْلِ مَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْعِبَادَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 145-146].

((لَمَّا ذَكَرَ -تَعَالَى- ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَلَالِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ، وَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ؛ أَمَرَ -تَعَالَى- رَسُولَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ حَلَالٌ مَنْ نَسَبَ تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُبْطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَقَدْ قَالَ لِرَسُولِهِ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} أَيْ: مُحَرَّمًا أَكْلُهُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِغَيْرِ الْأَكْلِ وَعَدَمِهِ {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وَالْمَيْتَةُ: مَا مَاتَ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}.

{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}: وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الذَّبِيحَةِ عِنْدَ ذَكَاتِهَا، فَإِنَّهُ الدَّمُ الَّذِي يَضُرُّ احْتِبَاسُهُ فِي الْبَدَنِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْبَدَنِ زَالَ الضَّرَرُ بِأَكْلِ اللَّحْمِ، وَمَفْهُومُ هَذَا اللَّفْظِ: أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَبْقَى فِي اللَّحْمِ وَالْعُرُوقِ بَعْدَ الذَّبْحِ حَلَالٌ طَاهِرٌ.

{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أَيْ: فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ رِجْسٌ، أَيْ: خُبْثٌ نَجِسٌ مُضِرٌّ حَرَّمَهُ اللَّهُ لُطْفًا بِكُمْ، وَنَزَاهَةً لَكُمْ عَنْ مُقَارَبَةِ الْخَبَائِثِ.

{أَوْ} إِلَّا أَنْ يَكُونَ {فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ الذَّبِيحَةُ مَذْبُوحَةً لِغَيْرِ اللَّهِ؛ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْفِسْقِ الَّذِي هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، أَيْ: وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُحَرَّمَاتُ مَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا، أَيْ: حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْهَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}، أَيْ: غَيْرَ  مُرِيدٍ لِأَكْلِهَا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ، وَلَا مُتَعَدٍّ؛ أَيْ: مُتَجَاوِزٍ لِلْحَدِّ بِأَنْ يَأْكُلَ زِيَادَةً عَنْ حَاجَتِهِ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: فَاللَّهُ قَدْ سَامَحَ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللَّهُ- فِي هَذَا الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ أَنَّ ثَمَّ مُحَرَّمَاتٍ لَمْ تُذْكَرْ فِيهَا؛ كَالسِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَازِلَةٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا، فَلَا يُنَافِي هَذَا الْحَصْرُ الْمَذْكُورُ فِيهَا التَّحْرِيمَ الْمُتَأَخِّرَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَعْضُهَا صَرِيحًا، وَبَعْضُهَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَعْنَى وَعُمُومِ الْعِلَّةِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ -تَعَالَى- فِي تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوِ الْأَخِيرِ مِنْهَا فَقَطْ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وَصْفٌ شَامِلٌ لِكُلِّ مُحَرَّمٍ؛ فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا رِجْسٌ وَخُبْثٌ، وَهِيَ مِنَ الْخَبَائِثِ الْمُسْتَقْذَرَةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ صِيَانَةً لَهُمْ، وَتَكْرِمَةً عَنْ مُبَاشَرَةِ الْخَبِيثِ الرِّجْسِ.

وَيُؤْخَذُ تَفَاصِيلُ الرِّجْسِ الْمُحَرَّمِ مِنَ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّهَا تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ، وَتُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ -تَعَالَى- لَمْ يُحَرِّمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ إِلَّا مَا ذُكِرَ -وَالتَّحْرِيمُ لَا يَكُونُ مَصْدَرُهُ إِلَّا شَرْعَ اللَّهِ-؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مُفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ، مُتَقَوِّلُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ.

وَفِي الْآيَةِ احْتِمَالٌ قَوِيٌّ لَوْ لَا أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِيهَا الْخِنْزِيرَ، وَهُوَ: أَنَّ السِّيَاقَ فِي نَقْضِ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَحْرِيمِهِمْ لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَخَوْضِهِمْ بِذَلِكَ بِحَسْبِ مَا سَوَّلَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، وَذَلِكَ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ إِلَّا مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ: الْمَيْتَةُ مِنْهَا، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَحَلَالٌ.

وَلَعَلَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ الْخِنْزِيرِ هُنَا عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ: أَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ قَدْ يُدْخِلُهُ فِي بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَنَمِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ جَهَلَةُ النَّصَارَى وَأَشْبَاهُهُمْ، فَيُنَمُّونَهَا كَمَا يُنَمُّونَ الْمَوَاشِيَ، وَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَنْعَامِ.

فَهَذَا الْمُحَرَّمُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا مِنْ بَابِ التَّنْزِيهِ لَهُمْ وَالصِّيَانَةِ، وَأَمَّا مَا حُرِّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَبَعْضُهُ طَيِّبٌ؛ وَلَكِنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}؛ وَذَلِكَ كَالْإِبِلِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بَعْضَ أَجْزَائِهَا، وَهُوَ: شُحُومُهُمَا، وَلَيْسَ الْمُحَرَّمُ جَمِيعَ الشُّحُومِ مِنْهَا، بَلْ شَحْمُ الْإِلْيَةِ وَالثَّرْبِ؛ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى الشَّحْمَ الْحَلَالَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا} أَيِ: الشَّحْمَ الْمُخَالِطَ لِلْأَمْعَاءِ {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}.

{ذَلِكَ} التَّحْرِيمُ عَلَى الْيَهُودِ {جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} أَيْ: ظُلْمِهِمْ وَتَعَدِّيهِمْ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عُقُوبَةً لَهُمْ وَنَكَالًا، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِي كُلِّ مَا نَقُولُ وَنَفْعَلُ وَنَحْكُمُ بِهِ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)).

وَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((إِنْ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ الْكُبْرَى))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِشَوَاهِدِهِ فِي ((شَرْحِ الطَّحَاوِيَّةِ)).

((إِنْ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا)).

وَالْحَدُّ لُغَةً: الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَشَرْعًا: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ تَزْجُرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.

أَيْ: جَعَلَ لَكُمْ حَوَاجِزَ وَزَوَاجِرَ مُقَدَّرَةً تَحْجُزُكُمْ وَتَزْجُرُكُمْ عَمَّا لَا يَرْضَاهُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ ﷺ الْمُوجَزَةِ الْبَلِيغَةِ، وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ حَدِيثٌ هُوَ أَجْمَعُ بِانْفِرَادِهِ لِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ مِنْهُ.

((وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)).

مَنْ عَمِلَ بِهِ -أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ- فَقَدْ حَازَ الثَّوَابَ، وَأَمِنَ مِنَ الْعِقَابِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ، وَوَقَفَ عِنْدَ الْحُدُودِ، وَتَرَكَ الْبَحْثَ عَمَّا غَابَ عَنْهُ؛ فَقَدِ اسْتَوْفَى أَقْسَامَ الْفَضْلِ، وَأَوْفَى حَقَّ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ: ((هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ))

وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَسَّمَ فِيهِ أَحْكَامَ اللهِ -تَعَالَى- أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: فَرَائِضُ، وَمَحَارِمُ، وَحُدُودٌ، وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ؛ وَذَلِكَ يَجْمَعُ أَحْكَامَ الدِّينِ كُلَّهَا.

*فَأَمَّا الْفَرَائِضُ: فَمَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَلْزَمَهُمُ الْقِيَامَ بِهِ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ.

*وَأَمَّا الْمَحَارِمُ: فَهِيَ الَّتِي حَمَاهَا اللهُ -تَعَالَى-، وَمَنَعَ مِنْ قُرْبَانِهَا، وَارْتِكَابِهَا، وَانْتِهَاكِهَا.

وَالْمُحَرَّمَاتُ الْمَقْطُوعُ بِهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ...}، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ [الأنعام: 151-153]، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِيهَا ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، كَقَوْلِهِ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ-: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ))، وَقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)).

فَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ يُسْتَفَادُ التَّحْرِيمُ مِنَ النَّهْيِ مَعَ الْوَعِيدِ وَالتَّشْدِيدِ، وَأَمَّا النَّهْيُ الْمُجَرَّدُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ؛ هَلْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّحْرِيمُ أَوْ لَا؟

وَعَنِ الْعُلَمَاءِ الْوَرِعِينَ كَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ تَوِقِّي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَرَامِ عَلَى مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ تَحْرِيمُهُ مِمَّا فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ أَوِ اخْتِلَافٍ.

وَهَذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، حَتَّى إِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ- سُئِلَ عَنِ الذَّبْحِ لِلْكَنِيسَةِ، وَالذَّبْحِ لِلزُّهَرَةِ -وَهِيَ كَوْكَبٌ مَعْرُوفٌ يَعْبُدُهُ مَنْ يَعْبُدُهُ مِنَ الصَّابِئَةِ-؛ فَسُئِلَ عَنِ الذَّبْحِ لِذَلِكَ فَقَالَ: ((أَكْرَهُهُ)). وَمَذْهَبُهُ التَّحْرِيمُ بِلَا خِلَافٍ.

وَكَذَلِكَ سُئِلَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ نِكَاحِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا، فَقَالَ: ((أَكْرَهُهُ)).

وَمَنْصِبُهُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ مِنَ الدِّينِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- يَجْعَلُهُ يُفْضِي إِلَى التَّحْرِيمِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ قَائِلٌ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: ((أَكْرَهُهُ)).

وَهَذَا يَعُودُ بِنَا إِلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخُذَ عَلَى حَسَبِ دَلَالَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

*وَأَمَّا حُدُودُ اللهِ الَّتِي نَهَى عَنِ اعْتِدَائِهَا؛ فَالْمُرَادُ بِهَا: جُمْلَةُ مَا أَذِنَ فِي فِعْلِهِ، سَوَاءً كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، أَوِ النَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ.

وَاعْتِدَاؤُهَا: هُوَ تَجَاوُزُ ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، وَالْمُرَادُ: مَنْ طَلَّقَ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، عَلَى حَسَبِ سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

*وَأَمَّا الْمَسْكُوتُ عَنْهُ: فَهُوَ مَا لَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهُ بِتَحْلِيلٍ، وَلَا إِيجَابٍ، وَلَا تَحْرِيمٍ؛ فَيَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ، لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا، كَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَغَيْرِهِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا: ((رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ)): يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَرِفْقًا، حَيْثُ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَمْ يُوجِبْهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، بَلْ جَعَلَهَا عَفْوًا؛ فَإِنْ فَعَلُوهَا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنْ تَرَكُوهَا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ.

وَقَوْلُهُ ﷺ ((فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)): يَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ هَذَا النَّهْيِ بِزَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِنُزُولِ التَّشْدِيدِ فِيهِ بِإيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَامًّا؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوَاجِبَاتِ وَلَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ قَدْ يُوجِبُ اعْتِقَادَ تَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ لِمُشَابَهَتِهِ لِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَبُولُ الْعَافِيَةِ فِيهِ وَتَرْكُ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْهُ خَيْرٌ.

وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قَالَهَا ثَلَاثًا كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ. وَالْمُتَنَطِّعُ: هُوَ الْمُتَعَمِّقُ الْبَحَّاثُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ.

هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ جُرْثُومُ بْنُ نَاشِرٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَدِيثٌ جَلِيلٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّحْذِيرُ مِنْ تَضْيِيعِ الْفَرَائِضِ، وَلَكِنْ اعْلَمْ أَنَّ الْفَرَائِضَ عَلَى نَوْعَيْنِ: كِفَائِيٍّ، وَعَيْنِيٍّ.

فَالْكِفَائِيُّ: مَا قُصِدَ فِعْلُهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهِ، وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ إِذَا قَامَ بِهِ مَنْ يَكْفِي سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَمَثَّلَ لَهُ الْعُلَمَاءُ: بِالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا الْعَيْنِيُّ: فَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ الْفِعْلُ وَالْفَاعِلُ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ، وَمَثَّلُوا لَهُ: بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ وَغَيْرِهَا، كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِيهِ: تَحْرِيمُ تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَحُدُودُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هِيَ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ، أَوِ اقْتَرَبَ مِنْهُ؛ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

لِذَلِكَ حَرَّمَ الشَّارِعُ الْغُلُوَّ وَالتَّنَطُّعَ فِي الدِّينِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قَالَهَا ثَلَاثًا.

وَقَالَ ﷺ وَبِيَدِهِ حَصَى الْجِمَارِ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ)).

فَهَذَا مِمَّا نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَجَاوُزِهِ، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَهَانَا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَعَنِ التَّهَاوُنِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنَقْصِ الْإِيمَانِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَنِ، فَيَنْبَغِي الْحَذَرُ مِنْهُ.

لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ)).

بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَسَاهَلُ بِهَا، وَلَا يُحْدِثُ عَنِ ارْتِكَابِهِ لَهَا تَوْبَةٌ حَتَّى يَخْرُجَ بِهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

وَلَا تَنْظُرْ إِنْ عَصَيْتَ إِلَى صِغَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى عِظَمِ مَنْ عَصَيْتَ، وَهُوَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الَّذِي أَمَدَّكَ بِالنِّعَمِ، وَدَفَعَ عَنْكَ الشُّرُورَ وَالنِّقَمَ.

مَا سَكَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ؛ فَهُوَ عَفْوٌ؛ لِقَوْلِهِ: ((وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ؛ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا))، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنَا.

وَهَذِهِ شُبْهَةٌ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي بِسَبَبِهَا تَجَرَّأَ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بَعْضُ مَرْضَى النُّفُوسِ مِنَ الْجُهَلَاءِ، وَهِيَ الْفَهْمُ الْخَاطِئُ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اسْتَفْتِ قَلْبَكَ))، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

الْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ.

((الْبِرُّ: حُسْنُ الخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: ما حَاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ)).

وعَنْ وابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟)).

قُلْتُ: نعَمْ.

قَالَ: ((استَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ: مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) .

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَيْنَاهُ فِي ((مُسْنَدَيِ الْإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيِّ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ)).

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وَبَعْضُهَا فِي تَفْسِيرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

فَحَدِيثُ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ الْبِرَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَسَّرَهُ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ وَغَيْرِهِ بِمَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالنَّفْسُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ تَفْسِيرُهُ لِلْبِرِّ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ:

*أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا خُصَّ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ عُمُومًا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».

وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبِرِّ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ.

وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ كَقَتْلِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ، وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعَانِي الْبِرِّ: أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

فَالْبِرُّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ؛ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ؛ كَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ؛ كَالْمَرَضِ، وَالْفَقْرِ، وَعَلَى الطَّاعَاتِ؛ كَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ.

وَقَدْ يَكُونُ جَوَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ شَامِلًا لِهَذِهِ الْخِصَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللَّهِ الَّتِي أَدَّبَ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «كَانَ خُلُقُهُ ﷺ الْقُرْآنَ»، يَعْنِي: أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ، وَيَتَجَنَّبُ نَوَاهِيَهُ، فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ لَهُ خُلُقًا كَالْجِبِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ لَا يُفَارِقُهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفُهَا وَأَجْمَلُهَا.

وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خُلُقٌ)).

*وَمِنْ مَعَانِي الْبِرِّ: أَنَّهُ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ لِلْحَقِّ:

فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ ﷺ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ».

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ، وَقَبُولِهِ، وَرَكَزَ فِي الطِّبَاعِ مَحَبَّةَ ذَلِكَ، وَالنُّفُورَ عَنْ ضِدِّهِ.

وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا أَمَرَ بِهِ «مَعْرُوفًا»، وَمَا نَهَى عَنْهُ «مُنْكَرًا»، وَأَخْبَرَ أَنَّ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ تَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، فَالْقَلْبُ الَّذِي دَخَلَهُ نُورُ الْإِيمَانِ، وَانْشَرَحَ بِهِ وَانْفَسَحَ.. يَسْكُنُ لِلْحَقِّ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ وَيَقْبَلُهُ، وَيَنْفِرُ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيَكْرَهُهُ، وَلَا يَقْبَلُهُ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ لَا يَلْتَبِسُ أَمْرُهُمَا عَلَى الْمُؤْمِنِ الْبَصِيرِ؛ بَلْ يَعْرِفُ الْحَقَّ بِالنُّورِ عَلَيْهِ، فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، وَيَنْفِرُ عَنِ الْبَاطِلِ، فَيُنْكِرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ.

فَدَلَّ حَدِيثُ وَابِصَةَ -وَمَا فِي مَعْنَاهُ- عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، فَمَا إِلَيْهِ سَكَنَ الْقَلْبُ، وَانْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ؛ فَهُوَ الْبِرُّ وَالْحَلَالُ، وَمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الْإِثْمُ وَالْحَرَامُ.

*الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ:

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِثْمَ مَا أَثَّرَ فِي الصَّدْرِ حَرَجًا، وَضِيقًا، وَقَلَقًا، وَاضْطِرَابًا، فَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ الصَّدْرُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَنْكَرٌ؛ بِحَيْثُ يُنْكِرُونَهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ.

وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْإِثْمِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَى فَاعِلِهِ وَغَيْرِ فَاعِلِهِ.

*الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ:

قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» يَعْنِي: أَنَّ مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ إِثْمٌ، وَإِنْ أَفْتَاهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْضًا إِثْمًا.

وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي لَهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إِلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَهَذَا الضَّابِطُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ؛ لِأَنَّ إِنْسَانًا قَدْ يَقُولُ: مَهْمَا أَفْتَانِي مَنْ أَفْتَانِي؛ فَأَنَا لَا آخُذُ الْفَتْوَى إِلَّا مِنْ قَلْبِي، وَيَكُونُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالزَّيْغِ، فَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يَرْكَنُ قَلْبُهُ إِلَى مَا يَأْلَفُهُ مِنْ زَيْغِهِ وَضَلَالِهِ.

وَلِأَنَّنَا لَوْ أَعَدْنَا الْأَمْرَ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْقُلُوبِ؛ مَا وُجِدَتْ شَرِيعَةٌ وَلَا قَامَ دِينٌ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ قُلَّبٌ لَا تَسْتَقِرُّ عَلَى قَرَارٍ، وَلَكِنْ هَكَذَا..

مَسْأَلَةُ إِرْجَاعِ الْأَمْرِ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ: إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي لَهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إِلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

أَمَّا إِذَا أَتَاهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى وَإِنْ وَجَدَ النُّفْرَةَ فِي قَلْبِهِ؛ فَهَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ أَيْ: هَذَا الَّذِي يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ لَا قِيمَةَ لَهُ بِإِزَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ-.

فَأَمَّا مَا كَانَ مَعَ الْمُفْتِي بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الرُّجُوعُ إِلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ صَدْرُهُ، وَهَذَا كَالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ مِثْلُ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَالْمَرَضِ، وَكَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ كَثِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ، فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ.

لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ لَهُ: رَخَّصَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكَ فِي السَّفَرِ أَنْ تُفْطِرَ، فَلَا تُعَذِّبْ نَفْسَكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي النِّهَايَةِ الَّتِي بِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ، وَالصَّوْمِ فِيهِ؛ الْقَاعِدَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِ الْمَشَقَّةِ.

فَإِنْ كَانَ الصَّائِمُ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ بِصِيَامِهِ فِي السَّفَرِ؛ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يُفْطِرَ.

وَإِذَا كَانَ الصَّائِمُ لَا يَجِدُ الْمَشَقَّةَ فِي السَّفَرِ؛ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ أَوْ لَا يُفْطِرُ.

وَكَانَ ﷺ يَكُونُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مُفْطِرِينَ، وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ صَائِمِينَ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُعَانَاةِ عَلَى الصَّائِمِينَ مَا فِيهِ-، فَقَامَ الْمُفْطِرُونَ بِخِدْمَةِ الصَّائِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ)) .

فَهَذِهِ الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَجِدُ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَقْبَلُهَا، وَيَقُولُ: بَلْ أَنَا آخُذُ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا، فَإِذَا أَفْتَاهُ مَنْ أَفْتَاهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبِمَا وَرَدَ مِنَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ؛ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لَهُ؛ لِجَهْلِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ فِيهَا، فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا العِبْرَةُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْيَانًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِمَا لَا تَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ بَعْضِهِمْ، فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ مِنْهُمْ، وَكَمَا أَمَرَهُمْ بِنَحْرِ هَدْيِهِمْ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَرِهُوهُ، -وَذَكَرُوا كَلَامًا وَقَعَ مِنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ- فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ-، وَكَرِهَ الصَّحَابَةُ مُقَاضَاتَهُ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ.

وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِن رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ مَرْوَانَ بِهِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ؛ فَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَلَقَّى ذَلِكَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَالرِّضَا؛ فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ وَالرِّضَا بِهِ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاء: 65].

وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ؛ فَإِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ الْمُطْمَئِنِّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ، الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوْجُودَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِي فِيهِ بِالرُّخْصَةِ إِلَّا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ -يَعْنِي: بِلَا دَلِيلٍ- وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَبِدِينِهِ، بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى؛ فَهُنَا يَرْجِعُ الْمُؤْمِنُ إِلَى مَا حَكَّ فِي صَدْرِهِ؛ وَإِنْ أَفْتَاهُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتُونَ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((الْإِثْمُ: حَوَازُّ الْقُلُوبِ)) .

وَقَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَحَزَّازَ الْقُلُوبِ، فَمَا حَزَّ فِي قَلْبِكَ مِنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ)) .

بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا؛ فَهَذَا هُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الشُّبْهَةِ الَّتِي رُبَّمَا أَلْقَاهَا بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِسَبَبِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ وَإِنْ أَفْتَاكَ المُفْتُونَ)).

وَالْحَزُّ وَالْحَكُّ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ: مَا أَثَّرَ فِي الْقَلْبِ ضِيقًا وَحَرَجًا، وَنُفُورًا وَكَرَاهِيَةً.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ -هَاهُنَا- بِالرُّجُوعِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ ، وَإِنَّمَا ذَمَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ؛ حَيْثُ كَانَ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ إِلَى مُجَرَّدِ رَأْيٍ وَذَوْقٍ، كَمَا كَانَ يُنْكِرُ الْكَلَامَ فِي مَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَالرُّجُوعُ إِلَى الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ؛ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ .

الْمَدَارُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، لَا عَلَى مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَالنَّاسُ قَدْ يُشْتَهَرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَيُفْتُونَ بِهِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَالْمَدَارُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ .

فَعَلَى الْإِنْسَانِ دَائِمًا أَنْ يُطَالِبَ بِالدَّلِيلِ، إِذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ العَامِّيَّ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ الدَّلِيلِ، فَإِذَا طَالَبَ بِالدَّلِيلِ فَأُعْطِيَ الدَّلِيلَ؛ فَهَذَا لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا.

عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَبِيعَ دِينَهُ؛ خَاصَّةً أَنَّهُ يَبِيعُهُ رَخِيصًا، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى آخِرَتِهِ؛ حَتَّى تَسْتَقِيمَ لَهُ دُنْيَاهُ.

إِنَّ الْجُهَلَاءَ صَعَّبُوا عَلَى النَّاسِ حَيَاتَهُمْ، وَنَفَّرُوهُمْ مِنْ دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَدَّى بِهِمْ جَهْلُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَكَانُوا سَبَبًا فِي الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثِ ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ سَبَبُهُمَا أَنْ يُسْتَفْتَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَأَنْ يُجِيبَ عَلَى مُقْتَضَى جَهْلِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).

وَمَفْهُومُ هَذَا الْمَنْطُوقِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ هُمَا سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ هُمَا سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ الضَّلَالِ وَأَنَّ سَبَبَ الْإِضْلَالِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ نَبِيَّهُ ﷺ مُبَلِّغًا لِلْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينًارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).

وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

{وَمَنْ أَظْلَمُ}: ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ؛ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ {مِمَّنِ افْتَرَىٰ}؛ أَيِ: اخْتَلَقَ {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ}: فَزَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ.

 وَمِنْ هَذَا النَّمَطِ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْفِقْهِ وَالسُّنَنِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ السُّنَنِ؛ فَيَقُولُ: وَقَعَ فِي خَاطِرِي كَذَا، أَوْ أَخْبَرَنِي قَلْبِي بِكَذَا; فَيَحْكُمُونَ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِصَفَائِهَا مِنَ الْأَكْدَارِ، وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ، فَتَتَجَلَّى لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكُلِّيَّاتِ، وَيَعْلَمُونَ أَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ، فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، وَيَقُولُونَ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْعَامَّةُ؛ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَغْبِيَاءِ وَالْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ؛ فَلَا يَحْتَاجُونَ لِتِلْكَ النُّصُوصِ.

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ تَعَالَى: لَا أَحَدَ أَعْظَمُ ظُلْمًا وَلَا أَكْبَرُ جُرْمًا مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ؛ بِأَنْ نَسَبَ إِلَى اللهِ قَوْلًا أَوْ حُكْمًا، وَهُوَ -تَعَالَى- بَرِيءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَظْلَمَ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَتَغْيِيرِ الْأَدْيَانِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مَا هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116-117].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((نَهَى -تَعَالَى- عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا بِمُجَرَّدِ مَا وَضَعُوهُ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ بِآرَائِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً لَيْسَ لَهُ فِيهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ حَلَّلَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللهُ، أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَبَاحَ اللهُ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ وَتَشَهِّيهِ.

ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}؛ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ؛ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).

وَيَدْخُلُ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ: الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنْ رَبِّهِ -تَعَالَى-، فَمَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَكَأَنَّمَا كَذَبَ عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ لَيْسَ كَالْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ ﷺ يَجْعَلُ دِينًا مَا لَيْسَ بِدِينٍ، وَيَنْفِي عَنِ الدِّينِ مَا هُوَ مِنْهُ، وَكَفَى بِذَلِكَ إِثْمًا مُبِينًا وَإِفْكًا عَظِيمًا.

قَالَ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ))؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي التَّشْرِيعِ، وَأَثَرُهُ عَامٌّ عَلَى الْأُمَّةِ، فَإِثْمُهُ أَكْبَرُ، وَعِقَابُهُ أَشَدُّ، ((فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ)): فَلْيَتَّخِذْ لِنَفْسِهِ مَسْكَنًا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا أَمْرٌ بِالْوُلُوجِ مُسَبَّبًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَقَدْ حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى- الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ تَحْرِيمًا صَرِيحًا، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ -وَبَعْضُهَا أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! جِئْتُكَ مِنْ مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، حَمَّلَنِي أَهْلُ بَلَدِي مَسْأَلَةً أَسْأَلُكَ عَنْهَا)).

قَالَ: ((سَلْ!)).

فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أُحْسِنُهَا.

قَالَ: ((فَبُهِتَ الرَّجُلُ، كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ!!)).

فَقَالَ: ((أَيَّ شَيْءٍ أَقُولُ لِأَهْلِ بَلَدِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهِمْ؟!!)).

قَالَ: تَقُولُ لَهُمْ: قَالَ مَالِكٌ: ((لَا أُحْسِنُ)).

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ((سَمِعْتُ مَالِكًا -وَذَكَرَ قَوْلَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ-: لَأَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ جَاهِلًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُ)).

ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -وَقَدْ خَصَّهُ اللهُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ- يَقُولُ: لَا أَدْرِي)).

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ((حَدَّثَنِي مَالِكٌ قَالَ: ((وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَسَيِّدَ الْعَالِمِينَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ، فَلَا يُجِيبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ)).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: ((قَالَ مَالِكٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ((إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ (لَا أَدْرِي)؛ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ)).

عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((إِذَا تَرَكَ الْعَالِمُ (لَا أَعْلَمُ)؛ فَقَدْ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ)).

فَهَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى لِمَا لَا يُحْسِنُونَهُ, وَفِي هَضْمِ النَّفْسِ وَبَذْلِ النُّصْحِ؛ حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ، وَمَا فِي قَلْبِي مِنْ عِلْمٍ إِلَّا وَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ)).

إِنَّ عَامَّةَ مَا تُعَانِي مِنْهُ الْأُمَّةُ الْيَوْمَ؛ إِنَّمَا هُوَ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ: الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، لَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ فَوْضَى، وَصَارَ النَّاسُ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ، وَلَا يَدْرُونَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ لِاخْتِلَاطِ الْأُمُورِ وَكَثْرَةِ الْفَتَاوَى فِي مُعْتَرَكٍ هَائِجٍ تَنُوحُ فِيهِ الْعَوَاصِفُ النَّائِحَاتُ، لَا يَهْدَأُ زَئِيرُهَا، كَأَنَّهُ عَزِيفُ الْجِنِّ!!

فَالنَّاسُ فِي حَيْرَةٍ، لَا يَكَادُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَتَلَمَّسُ لِنَفْسِهِ طَرِيقًا يَخُطُّ فِيهِ بِقَدَمَيْهِ سَبِيلًا؛ لِكَثْرَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمِنْ عَجَبٍ: أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْعَلْمَانِيِّينَ وَمِنَ الْإِعْلَامِيِّينَ الْفَاسِدِينَ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ وَالْفَنَّانِينَ.. تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ يَعِيبُ عَلَى أَهْلِ التَّخَصُّصِ فِي الدِّينِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِي الدِّينِ، وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ، فَيَتَكَلَّمُونَ هُمْ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يَقُولُونَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، كُلُّ هَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا، هَانَتْ عَلَيْهِمْ عَقِيدَتُهُمْ، وَهَانَ عَلَيْهِمْ دِينُهُمْ وَإِسْلَامُهُمْ، وَهُمْ يَخْبِطُونَ فِي كُلِّ وَادٍ خَبْطَ الْعَمْيَاءِ لَا الْعَشْوَاءِ.

النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي حَقِيقَتِهِ؛ فَإِنَّ سُحْنُونَ قَدْ جَلَسَ نَاحِيَةً يَبْكِي، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟!!

قَالَ: ((وَقَعَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَفُتِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْقٌ كَبِيرٌ، سُئِلَ الْيَوْمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَنْ أَمْرٍ مِنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).

فَعَدَّ هَذَا بِدَايَةَ الِانْحِرَافِ؛ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الدِّينِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّكَلُّمِ فِي الدِّينِ، لَوْ سَكَتَ الْجَاهِلُ لَاسْتَرَاحَ الْعَالِمُ.

فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخْبِطُونَ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يَنْسِفُونَ الْأُصُولَ، وَيُزِيلُونَ الثَّوَابِتَ؛ يُزِيلُونَهَا نَسْفًا لَا تَحْرِيكًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ حُرِّكَتْ عَنْ مَنَازِلِهَا -أَعْنِي الثَّوَابِتَ-؛ لَبَقِيَتْ قَائِمَةً، فَيُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِرَّ عَلَى قَرَارٍ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْسِفُونَهَا نَسْفًا.

الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ!!

الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ لَمْ يَسْتَحُوا أَنْ يَقُولُوا لِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ: لَا نَعْلَمُهُ، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].

وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ.

وَرَسُولُ اللهِ ﷺ، وَجِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَقُولَانِ: (لَا نَدْرِي) فِي سُؤَالٍ يَبْدُو يَسِيرًا؛ فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ هَذَا السُّؤَالَ: مَا شَرُّ الْبُلْدَانِ؟

قَالَ: ((لَا أَدْرِي)).

الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ)).

فَلَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: ((يَا جِبْرِيلُ! مَا شَرُّ الْبُلْدَانِ؟)).

قَالَ جِبْرِيلُ: ((لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي)).

فَسَأَلَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ عَادَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! سَأَلْتَنِي: مَا شَرُّ الْبُلْدَانِ، فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي فَقَالَ: شَرُّ الْبُلْدَانِ أَسْوَاقُهَا)).

مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ((أَسْوَاقُهَا))؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ: ((لَا أَدْرِي))، وَقَالَ جِبْرِيلُ: ((لَا أَدْرِي)).

وَأَمَّا هَذَا الْغُثَاءُ، هَذَا الْهَبَاءُ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَبْطًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَنْسُبُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ، وَيَنْسُبُونَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللهُ، كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ، لَا تَتَكَلَّمُوا إِلَّا فِيمَا تُحْسِنُونَ، ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

((ضَرُورَةُ التَّوَقِّي مِنَ الْحَرَامِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا، وَأَلَّا يَقْذِفَ فِي جَوْفِهِ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ حَلَالٌ صِرْفٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، لَا مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَرَامٌ.

واَلْحَقُّ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَتَوَقُّونَ ذَلِكَ تَوَقِّيًا نَفْسِيًّا لَا تَوَقِّيًا عَمَلِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى الْحَرَامِ، وَهُوَ يَتَيَقَّنُ فِي نَفْسِهِ أَمَامَ نَفْسِهِ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ عِلَّةٍ وَيَبْحَثُ عَنْ حُجَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَلِّلَ لِنَفْسِهِ مَا حَاكَ فِي صَدْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَلَالٍ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَانِبِ الْإِثْمِ.

لِذَلِكَ لَمَّا كَانَ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ- -هُوَ الثَّوْرِيُّ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْحِفْظِ -رَحِمَهُ اللهُ-- رَأَى النَّاسَ يَتَدَافَعُونَ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ بَعْضِ الْمُدِنِ يَتَدَافَعُونَ تَدَافُعًا.

فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَؤُلَاءِ؟

فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: كُلٌّ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ.

يَبْدُو أَنَّ الْمَكَانَ كَانَ مَشْهُورًا بِمُوَاقَعَةِ الشُّبُهَاتِ أَوْ بِمُزَاوَلَةِ الْحَرَامِ!!

فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ، أَطِيبُوا مَطْعَمَكُمْ، وَصَلُّوا فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ!!

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَمَسَّكُ بِظَوَاهِرَ مِنَ الدِّينِ مَحْمُودَةٍ، دَلَّتْ عَلَيْهَا السُّنَّةُ وَحَضَّتْ عَلَيْهَا، وَتَمَسَّكَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَعِيبُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقُّونَ وَلَا يَحْتَرِزُونَ وَعَلَى الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ يَجْتَرِئُونَ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُقِيمَنَا عَلَى السَّوِيَّةِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْنَا، وَأَنْ يُفْضِلَ عَلَيْنَا، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

اللَّهُمَّ أَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

اللَّهُمَّ أَطْعِمْنَا مِنَ الْحَلَالِ، وَيَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ.

اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشُّبُهَاتِ.

اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ.

اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا الْحَلَالَ الْمَحْضَ.

اللَّهُمَّ أَبْعِدْ عَنَّا الشُّبُهَاتِ، وَأَبْعِدْ عَنَّا الْحَرَامَ.

اللَّهُمَّ أَحْسِنْ خِتَامَنَا يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

*****

((مَا صَحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ وَتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ))

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ))

فَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا- مِنْ طُرُقٍ شَتَّى يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا: عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَائِشَةَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ، لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ فِيهِ.

وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْهُ، عَنِ الرَّسُولِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنينَ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ -أَيْ:  يَتْرُكُ- أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ». وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِثْلُهُ .

وَالْحَدِيثَانِ -كَمَا تَرَى- يَكَادَانِ يَنْطَبِقَانِ مَعْنًى، يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ؛ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَدَعُ -بِالْإِمْلَاءِ- الْكَافِرِينَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ.

 ((لَيْلَةُ النِّصْفِ لَيْلَةُ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُوَحِّدِينَ))

النَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ يُعْطِي فِيهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبَسَاتِ أَنْوَارِ رَحَمَاتِهِ خَلْقَهُ، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُفِيضُ هَذَا الْعَطَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَا عَلَى الْمُشَاحِنِينَ، وَإِنَّمَا جَمَعَهُمَا فِي قَرَنٍ، وَيَا بُؤْسَ مَا جُمِعَ!!

وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُشْرِكَ مَعَ الْمُشَاحِنِ فِي خَنْدَقٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ -مَعَ عُمُومِ الْمَغْفِرَةِ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ- لَا يَغْفِرُ لِمُشْرِكٍ وَلَا لِمُشَاحِنٍ، مَنْ عِنْدَهُ الْبَغْضَاءُ فِي قَلْبِهِ، وَمَنِ انْطَوَى صَدْرُهُ عَلَى الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، فَهَذَا بِمَبْعَدَةٍ عَنِ الْمَغْفِرَةِ.

وَفِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه»  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟

فقال ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ -كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ-)).

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ» .

فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَمَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّئًا.

وَأَمَّا مَنِ انْطَوَى قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَبْعَدَةٍ مِنَ الْمَغْفِرَةِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مَعَ عُمُومِ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا لِلْمُشْرِكِ الَّذِي يُشْرِكُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَعَهُ غَيرَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغْفَرُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةَ، إِذَا مَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ مُنِيبًا مُوَحِّدًا.

وَكَذَلِكَ الَّذِي انْطَوَى قَلْبُهُ عَلَى الشَّحْنَاءِ، عَلَى الْبَغْضَاءِ، عَلَى الْغِلِّ، عَلَى الْحَسَدِ، فَهَذَا مَترُوكٌ مُهْمَلٌ، وَهَذَا بِمَبْعَدَةٍ أَنْ يَنَالَهُ شَيْءٌ مِنْ عُمُومِ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي تَتَنَزَّلُ عَلَى الْخَلْقِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.

كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟

يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.. هَذَا صَلَاحُ الْقَلْبِ.

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى عِبَادَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ:

*إِيمَانٌ بِاللَّـهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ: مِنْ شِرْكِ الْمُعْتَقَدِ، مِنْ شِرْكِ الضَّمِيرِ، مِنْ شِرْكِ الْقَلْبِ، مِنْ شِرْكِ اللِّسَانِ، مِنْ شِرْكِ الْجَوَارِحِ، خُلُوصٌ مِنَ الشِّرْكِ جُمْلَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِلَّا فَلَا غُفْرَانَ.

«فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»، «يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ»، تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، الْخُلُوصُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ أَوَّلَ مَا يُعْقَدُ عِنْدَ عَدِّ الْخِصَالِ وَعِنْدَ السَّيْرِ إِلَى الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ، فَهَذَا أَوَّلًا.

*هَذِهِ الْعِبَادَةُ تَسْتَتْبِعُ حَتْمًا طَهَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحِقْدِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي يَدٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَرْءُ الْمَاءَ وَالنَّارَ قَدِ اجْتَمَعَا فِي يَدٍ، لَا يُمْكِنُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ.

وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الطُّهْرُ وَالنَّجَاسَةُ فِي مَحَلٍّ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ النُّورُ وَالظَّلَامُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ الْحِقْدُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ التَّوْحِيدُ وَالشِّرْكُ فِي قَلْبٍ أَبَدًا.

«وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ» وَقَدِ اطَّلَعَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى خَلْقِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ بِجَانِبٍ وَبِمَبْعَدَةٍ؛ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، أَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَيِّزِ التَّهْرِيجِ، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص: 88].

نَعَمْ! ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾؛ فَالْمَوْتُ أَقْرَبُ لِأَحَدِكُمْ مِنْ شَرَاكِ نَعْلِهِ.

نَعَمْ! إِنَّ الْمَوْتَ قَدْ تَبْقَى لَهُ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ بَرَأَ وَشُفِيَ، كَمْ مِنْ صَحِيحٍ هَلَكَ، وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ نَجَا، وَلَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ إِلَّا اللَّـهُ.

((بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ مُخْتَرَعَةٌ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ))

عِبَادَ اللهِ! هَذَا مَا صَحَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، لَا مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ، وَلَا مَا يَتَقَصَّى عَلَى آثَارِهِمْ فِيهِ قَصًّا الْمُتَصَوِّفَةُ، إِذْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ فِي صَلَاةِ  الْمَغْرِبِ، يَقُومُ قَائِمُهُمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ مَا يُسَمَّى بِـ (صَلَاةِ الرَّغَائِبِ)!!

وَهِيَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ، وَفِي أَوَّلِ رَجَبٍ، وَهِيَ صَلَاةٌ أَلْفِيَّةٌ لِمَنِ اسْتَطَاعَهَا مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي بِدْعَتِهِ جَلْدًا وَعَلَيْهَا مُقِيمًا، وَيُصَلُّونَ مِئَةَ رَكْعَةٍ، كُلُّ رَكْعَةٍ تُصَلَّى بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ عَشْرًا عَشْرًا، فَهَذِهِ أَلْفٌ، فَهِيَ صَلَاةٌ أَلْفِيَّةٌ!!

لَمْ يَتَّبِعْهَا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﷺ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ (ض3)، وَإنَّمَا هِيَ عَمَلٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ.

وَيَا لَلَّهِ الْعَجَب! كَيْفَ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ؟!!

وَكَيْفَ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالضَّلَالَةِ؟!!

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ، صَحَّ عَنْهُ قَوْلُهُ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» .

فَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ﷺ، وَإِنَّمَا جَمَعَ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ حَصَبُ النَّارِ- نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.

الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ)) عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَّمَهُ ﷺ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يُبَلِّغُهُ، لَا يَكْتُمُهُ، وَإِنَّما يُؤَدِّيهِ أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ وَنُصْحًا لِلْأُمَّةِ، فَيَقُولُ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا نَهَارَهَا» . فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، فِي سَنَدِهِ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، قَالَ فَيهِ الْإِمَامَانِ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ -رَحِمَهُمَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--: «كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ» -يَعْنِي: ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ- .

فَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تَخْصِيصُهَا بِالْقِيَامِ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

وَأَمَّا صِيَامُ النِّصْفِ فَإِنْ كَانَ تَخْصِيصًا لِتَوَهُّمِ مَزِيدِ فَضْلٍ؛ فَهَذَا ابْتِدَاعٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَأْتِ بِهِ أَثَرٌ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ فِعْلِ صَاحِبٍ، وَلَا إِجْمَاعِ أُمَّةٍ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَصُومُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْغُرِّ الْبِيضِ فَهَذِهِ بِذَاتِهَا قَدْ وَرَدَ فِيهَا النَّصُّ الصَّحِيحُ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الْبِيضَ.

فَإِنْ وَقَعَ هَذَا الْيَوْمُ فِي عَادَةِ مَنْ يَصُومُ الْأَيَّامَ الْغُرَّ الْبِيضَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ هِجْرِيٍّ مُبَارَكٍ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدْ وَقَعَ فِي ابْتِدَاعٍ.

وَأَيْضًا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هَكَذَا؛ تَخْصِيصُهَا بِالْقِيَامِ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

((وَظِيفَةُ دِينِ اللهِ فِي الْحَيَاةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَمْ يَصِحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَّا عُمُومُ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ خَلَا مَا كَانَ مُشْرِكًا أَوْ كَانَ مُشَاحِنًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحِبُّ إِلَّا مَنْ كَانَ صَدُوقَ اللِّسَانِ، مَخْمُومَ الْقَلْبِ، لَا إثمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ؛ لِأَنَّ الدِّينَ مَا أَتَى إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغَيِّرَ النَّاسَ.

فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَاجِزًا بِالدِّينِ عَنِ التَّغْيِيرِ؛ فَأَيَّ شَيْءٍ أَفَادَهُ الدِّينُ إِذَنْ؟!!

إِنَّمَا وَظِيفَةُ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمَرْءَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالٍ وَانْحِرَافٍ، وَسُوءِ سِيرَةٍ، وَسُوءِ طَوِيَّةٍ، وَسُوءِ قَصْدٍ، يُغَيِّرَهُ الدِّينُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَاهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

((شَهْرُ الْحَصَادِ وَسُنَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ))

فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا  عَنِ الحِبِّ بْنِ الْحِبِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ أُمِّ أَيْمَنَ حَاضِنَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَأَيْمَنُ هُوَ أَخُو أُسَامَةَ لِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أُمِّهِ وَعَنْ أَبِيهِ- قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَا لِي أَرَاكَ تَصُومُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ مَا لَا تَصُومُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ -يَعْنِي خَلَا رَمَضَانَ-؟!!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَذَا شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ» .

هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ يُوَضِّحُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُرْفَعُ الرَّفْعَ السَّنَوِيَّ، تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ رَفْعًا يَوْمِيًّا - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ - إِذْ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَلَائِكَةٌ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَكَذَا يَوْمِيًّا.

ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ- أَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَّا لِمُشْرِكٍ، وَرَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: أَجِّلَا هَذَيْنِ -أَنْظِرَا هَذَيْنِ- حَتَّى يَصْطَلِحَا، فَهَذَا عَرْضٌ أُسْبُوعِيٌّ فِي كُلِّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ.

ثُمَّ يَأْتِي الْعَرْضُ السَّنَوِيُّ عَلَى رَبِّ الْعِزَّةِ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي شَهْرِ شَعْبَانَ كما أخبرَ خليلُ الرَّحمنِ محمدٌ ﷺ: هذا شهرٌ يَغْفُلُ عنه أكثرُ النَّاسِ إذ إنَّه يقعُ بينَ رجبٍ وَرَمَضَانَ.

فَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يَقَعُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ مَعْلُومَيِ الْقَدْرِ، مَعْرُوفَيِ الْفَضْلِ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً، وَعَلَيْهِ: ((فَيَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُ تُعْرَضُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَتُرْفَعُ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)). هَذَا كَلَامُهُ ﷺ.

يُحِبُّ نَبِيُّكُمْ ﷺ مَعَ كَمَالِ تَمَامِ عَمَلِهِ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلُهُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَكَيْفَ لَا يُحِبُّ الْمَرْءُ وَلَا يَحْرِصُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلُهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ صَائِمٌ كَمَا كَانَ الشَّأْنُ عِنْدَ نَبِيِّهِ ﷺ؟!!

((تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ))

فِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ؛ نَزَلَ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ نَسْخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ.

عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ.

فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ؛ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَ الذي مَاتَ علَى القِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لم نَدْرِ ما نَقولُ فيهم، فَأَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143])). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجدِ قُبَاءٍ، إِذْ جَاءَ جَاءٍ؛ فَقَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: «كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144].

فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : «وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ فَصَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَاسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا».

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.

وَكَانَ للهِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ فِي تَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ، وَمِحْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالْمُنَافِقِينَ.

فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ؛ فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَقَالُوا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران:7] وَهُمُ الَّذِينَ هَدَى اللهُ، وَلَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَالُوا : كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا؛ يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِنَا، وَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّهَا الْحَقُّ.

وَأَمَّا الْيَهُودُ؛ فَقَالُوا: خَالَفَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا؛ لَكَانَ يُصَلِّى إِلَى قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ؛ فَقَالُوا: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، إِنْ كَانَتِ الْأُولَى حَقًّا؛ فَقَدْ تَرَكَهَا، وَإنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَقَّ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ.

وَكَثُرَتْ أَقَاوِيلُ السُّفَهَاءِ، وَكَانَت كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: من الآية143].

وَكَانَتْ مِحْنَةً مِنَ اللهِ امْتَحَنَ بِهَا عِبَادَهُ؛ لِيَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.

 ((هَذِهِ الْقِبْلَةُ الَّتِي هَدَى هَذِهِ الْأُمَّةَ لَهَا هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ الْأُمَمِ، كَمَا اخْتَارَ لَهُمْ أَفْضَلَ الرُّسُلِ وَأَفْضَلَ الْكُتُبِ، وَأَخْرَجَهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، وَخَصَّهُمْ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَحَهُمْ خَيْرَ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْكَنَهُمْ خَيْرَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرَ الْمَنَازِلِ، وَمَوْقِفَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرَ الْمَوَاقِفِ)) .

*الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة: 142، 143].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((قَدِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مُعْجِزَةٍ، وَتَسْلِيَةٍ، وَتَطْمِينِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)).

*مِنْ دُرُوسِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: وَسَطِيَّةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُطْلَقًا، بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ، وَذَكَرَ مِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الْوَسَطَ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ.

*تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ امْتِحَانٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ:

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة: 143].

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا}: وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا {إِلا لِنَعْلَمَ} أَيْ: عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ وَإِلَّا فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْأُمُورِ قَبْلَ وُجُودِهَا؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا؛ لِتَمَامِ عَدْلِهِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عِبَادِهِ.

بَلْ إِذَا وُجِدَتْ أَعْمَالُهُمْ؛ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، أَيْ: شَرَعْنَا تِلْكَ الْقِبْلَةَ؛ لِنَعْلَمَ وَنَمْتَحِنَ {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} وَيُؤْمِنُ بِهِ، فَيَتِّبَعُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَأْمُورٌ مُدَبَّرٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَتِ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ، فَالْمُنْصِفُ الَّذِي مَقْصُودُهُ الْحَقُّ؛ مِمَّا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِيمَانًا وَطَاعَةً لِلرَّسُولِ.

وَأَمَّا مَنِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِ، وَحَيْرَةً إِلَى حَيْرَتِهِ، وَيُدْلِي بِالْحُجَّةِ الْبَاطِلَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى شُبْهَةٍ لَا حَقِيقةَ لَهَا.

{وَإِنْ كَانَتْ} أَيْ: صَرْفَكَ عَنْهَا {لَكَبِيرَةً} أَيْ: شَاقَّةً {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، فَعَرَفُوا بِذَلِكَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَشَكَرُوا، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْإِحْسَانِ)).

فِي رِسَالَةِ ((الْقِبْلَةِ)) :

كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ امْتِحَانًا امْتَحَنَ اللهُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَهْلَ الْكِتَابِ، وَالْمُشْرِكِينَ.

وَكَثُرَ لَغَطُ السُّفَهَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَخَاضُوا فِي لَغْوٍ كَثِيرٍ؛ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [سورة البقرة: 142].

وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ؛ بِدَلِيلِ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي صُدِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ ﴿سَيَقُولُ؛ لِيُثَبِّتَ بِهَا أَقْدَامَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَيُهَيِّئَهُمْ لِاسْتِقْبَالِ هَذَا الْإِرْجَافِ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِمَالِ، وَيَلَقِّنَهُمُ الْجَوَابَ الَّذِي يَدْفَعُونَ بِهِ فِي صُدُورِ هَؤُلَاءِ الْمَارِقِينَ.

*تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ:

تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ لَنَا دَلَالَتُهُ وَعَلَامَتُهُ، نَحْنُ أُمَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ،  رَبُّهَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَهَدَفُهَا وَاحِدٌ: إِقَامَةُ دِينِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ عَلَى خَلْقِ اللهِ، تَعْبِيدُ الْخَلْقِ لِلْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ، هَذَا هَدَفُهَا، تَعْبُدُ رَبَّهَا وتُعَبِّد الْخَلْقَ لَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ فِي هَذَا كُلِّهِ.

نَهَانَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 32].

((جُمْلَةُ حِكَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ:

1*مِنْهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَرَسُولُهُمْ خَيْرُ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّهُ ﷺ خَاتَمُهُمْ، وَبِرِسَالَتِهِ تَمَّ بِنَاءُ الدِّينِ الَّذِي وَضَعَ كُلُّ رَسُولٍ سَابِقٍ لَبِنَةً فِي هَيْكَلِهِ، حَتَّى تَمَّ عَلَى يَدَيْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ.

وَكِتَابُهُمْ خَيْرُ الْكُتُبِ؛ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لَهَا، وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا؛ فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُمْ خَيْرَ الْقِبَلِ.

وَخَيْرُ الْقِبَلِ: هِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، الَّذِي هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.

2*وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ الْجِهَةَ لَا تَكُونُ قِبْلَةً إِلَّا إِذَا وَجَّهَ اللهُ النَّاسَ شَطْرَهَا، فَكُلُّ جِهَةٍ وَجَّهَ اللهُ النَّاسَ شَطْرَهَا فَهِيَ قِبْلَةٌ، وَلَا فَضْلَ لِجِهَةٍ عَلَى أُخْرَى فِي ذَاتِهَا؛ وَلَكِنَّ الْجِهَةَ تَفْضُلُ غَيْرَهَا بِاخْتِيَارِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

3*وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَوَلَّى  الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ بِشَهَادَتِهِ -جَلَّ وَعَلَا- شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِيُثْبِتَ أَنَّهُ خَيْرُ الْمَسَاجِدِ، وَلِيَدْحَضَ حُجَّةَ الْمُعَانِدِينَ ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾[سورة البقرة: 150].

4*وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي تُعَدُّ شَرِيعَتُهَا مُتَّصِلَةً بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُجَدِّدَةً لَهَا: أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهَا هِيَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ؛ لِتَتِمَّ لَهَا الْهِدَايَةُ ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.

5*وَمِنَ الْحِكَمِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِامْتِحَانِ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ الْإِيمَانِ يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ اعْتِرَاضٍ، وَلَا تَرَدُّدٍ، وَلَا إِنْكَارٍ.

وَلَكِنَّ ضَعِيفَ الْإِيمَانِ يُسَاوِرُهُ الشَّكُّ، وَتَعْبَثُ بِعَقْلِهِ الظُّنُونُ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الرِّدَّةِ، وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْإِسْلَامِ ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: 143].

6*وَمِنَ الْحِكَمِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: تَحْقِيقُ رَجَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ إِذْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُوَلِّيَهُ اللهُ شَطْرَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بُعِثَ هُوَ ﷺ لِتَجْدِيدِ مِلَّتِهِ ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.

7*وَمِنَ الْحِكَمِ: بَيَانُ أَنَّ الْبِرَّ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ شَطْرَ جِهَةٍ خَاصَّةٍ؛ فَمَدَارُ الْإِيمَانِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة: 177].

8*وَمِنَ الْحِكَمِ: بَيَانُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ الْقِبْلَةَ؛ يَكُونُ اتِّبَاعُ غَيْرِهَا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَانْصِرَافًا عَنِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ هِيَ الْحَقُّ ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ [سورة البقرة: 144]..

9*وَمِنَ الْحِكَمِ: تَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ كُتُبُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ.

((رِسَالَةٌ إِلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ))

يَا أَهْلَ الْقِبْلَةِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اخْتَارَ لَكُمْ أَجَلَّ الْقِبَلِ وَأَعْظَمَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْكُمْ أَعْظَمَ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ أَجَلَّ وَأَكْرَمَ الْكُتُبِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اصْطَفَاكُمْ، فَجَعَلَكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ فَحَقِّقُوا الْخَيْرِيَّةَ فِيكُمْ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ؛ نَجَوْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا؛ فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.

اتَّقُوا اللهَ فِي أُمَّتِكُمْ.. فِي دِينِكُمْ!!

اتَّقُوا اللهَ فِي قِبْلَتِكُمْ!!

لَا تَتَشَرْذَمُوا!!

وَلَا تَتَشَظَّوْا!!

تَمَاسَكُوا وَتَلَاحَمُوا!!

وَكُونُوا جَمِيعًا كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ كَمَا وَصَفَكُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ أُمَّتَنَا، وَأَنْ يُدِيمَ عَلَى بَلَدِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَى دُوَلِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كُلِّهَا بِالْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ التَّخَالُفِ، وَالْمُشَاقَّةِ، وَالْمُنَازَعَةِ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ .

المصدر:الْحَلَالُ بَيِّنٌوَالْحَرَامُ بَيِّنٌ

 

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ وَحَتْمِيَّةُ مُوَاجَهَةِ الْفَسَادِ
  خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.. جَمَالُ الْمَظْهَرِ وَالْجَوْهَرِ
  دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  شَرِيعَةُ التَّيْسِيرِ وَمُحَارَبَةِ التَّطَرُّفِ
  التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ
  إِيمَانُ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  الْاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ... وَكَيْفَ نَحْيَاهُ؟
  فضائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلرَّسُولِ ﷺ
  مظاهر التوحيد في عبادة الحج
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان