مَبْنَى الْحَيَاةِ عَلَى الِابْتِلَاءِ


((مَبْنَى الْحَيَاةِ عَلَى الِابْتِلَاءِ))

فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ أَنَّهَا دَارُمِحْنَةٍ وَابْتِلَاءٍ، لَا دَارُ سَعَادَةٍ وَرَخَاءٍ.

وَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِكَيْ يَمْتَحِنَهُمْ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].

وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ.

وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

وَاللهِ لَتُخْتَبَرُنَّ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فَتَقَعَ عَلَيْكُمُ الْمِحَنُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، وَبِالْجَوَائِحِ تَنْزِلُ بِهَا، وَفِي الْأُنْفُسِ بِالْمَصَائِبِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْقَتْلِ وَفَقْدِ الْأَقَارِبِ وَالْأَحِبَّةِ، وَذَلِكَ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مَا يُؤْذِي أَسْمَاعَكُمْ مِنْ أَلْفَاظِ الشِّرْكِ، وَالِافْتِرَاءِ، وَالتَّهَكُّمِ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ.

وَإِنْ تَصْبِرُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَلَى أَذَاهُمْ، وَتَضْبِطُوا أَنْفُسَكُمْ وَتَحْبِسُوهَا عَنِ الْجَزَعِ، وَتَحْبِسُوهَا -أَيْضًا- مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَتَتَّخِذُوا الْوِقَايَةَ لِطَلَبِ رِضَا اللهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَتَدْفَعُوا الِاعْتِدَاءَ بِالْحَقِّ، وَتَعْمَلُوا عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِحْنَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِرَادَةٍ جَازِمَةٍ جَادَّةٍ قَوِيَّةٍ قَادِرَةٍ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأُمُورِ الشَّدِيدَةِ الصَّعْبَةِ عَلَى النُّفُوسِ بِالتَّنْفِيذِ.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].

وَلَنَخْتَبِرَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي تَضْطَرِبُ بِهِ نُفُوسُكُمْ؛ مِنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ، وَمِنَ الْمَجَاعَةِ بِعَدَمِ كِفَايَةِ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ لِسَدِّ حَاجَاتِكُمْ، وَبِنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ أَوْ تَعَسُّرِ الْحُصُولِ عَلَيْهَا، وَنَقْصٍ مِنَ الْأُنْفُسِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْجَوَائِحِ أَوْ مَوْتِ الْأَوْلَادِ؛ لِيَكُونَ مِنْ ثَمَرَةِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَتِي الثَّوَابُ الْعَظِيمُ.

وَبَشِّرْ -يَا رَسُولَ اللهِ- الصَّابِرِينَ عَلَى امْتِحَانِي عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِالسَّكِينَةِ وَالتَّسْلِيمِ بِقَضَاءِ اللهِ.. بَشِّرْهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

صِفَةُ هَؤُلَاءِ الصَّابِرِينَ أَنَّهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ، وَسُلِبَتْ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ سَبَقَ أَنْ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِمْ أَوْ حُرِمُوا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِمِثْلِهَا عَلَى عِبَادِهِ.. صِفَتُهُمْ -حِينَئِذٍ- أَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ مَمْلُوكَةٌ للهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ مَمْلُوكُونَ للهِ، وَهُمْ عِبَادُهُ، وَمَصِيرُ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَالِكِهِمْ، وَمَصِيرُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى مَالِكِهَا، فَعَلَامَ الْحُزْنُ وَالْأَسَى؟!! وَلِمَ الِاعْتِرَاضُ وَالتَّسَخُّطُ؟!!

وَحِينَمَا يَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّابِرُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ يَقُولُونَ: إِنَّا عَبِيدٌ وَمِلْكٌ للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ وَحْدَهُ صَائِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِينَا عَلَى مَا دَعَانَا إِلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ إِلَى قَضَائِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ الَّتِي لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا دَفْعُهَا.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)) .

وَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).

قَاعِدَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ، لَا السَّعَادَةُ وَالرَّخَاءُ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يُهَوِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْمُصِيبَةَ عَلَى الْمُصَابِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ هُوَ الذِّرْوَةَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ الْخَلْقَ، وَأَنَّهُ مهمَا يُصَبْ بِهِ مِنْ بَلَاءٍ فَإِنَّ فَوْقَهُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا رَبُّ الْخَلْقِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى.

عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ الِابْتِلَاءَ هُوَ قَاعِدَةُ حَرَكَةِ الْحَيَاةِ فِي مُعْطَيَاتِ الْإِسْلَامِ عَنِ الْحَيَاةِ وَعَنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ أَجْلِهَا سُخِّرَ كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ لَهُ، وَوُجِدَتِ الرِّسَالَاتُ وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَوُجِدَتْ إِرَادَةُ الْإِنْسَانِ الْحُرَّةُ الْفَاعِلَةُ، الْمُلْتَزِمَةُ بِإِعْمَارِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ الْحَضَارَةِ عَلَى أُسُسٍ أَخْلَاقِيَّةٍ لِإِسْعَادِ النَّاسِ جَمِيعًا)) .

((وَالِابْتِلَاءُ وَسِيلَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّدْرِيبِ الْعَمَلِيِّ عَلَى مُمَارَسَةِ مَا يُعْرَفُ بِالْأَخْلَاقِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى أَرْضِ الْوَاقِعِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ يَصْقُلُ الْإِنْسَانَ وَيَضْبِطُ انْفِعَالَاتِهِ.

وَالِابْتِلَاءُ مَحَكٌّ يَكْشِفُ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِاخْتِبَارِ رَدِّ فِعْلِ الْإِنْسَانِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّكَيُّفِ مَعَ الْمَوَاقِفِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا فِي حَيَاتِهِ.

وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمَوَاقِفَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ كَمًّا وَكَيْفًا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَارِ وَالْأَمَاكِنِ وَقُوَّةِ الضُّغُوطِ وَاسْتِمْرَارِهَا.

وَهُنَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ بِالِابْتِلَاءِ خِبْرَةً وَتَجْرِبَةً مَا كَانَتْ لِتَحْدُثَ فِي ضَمِيرِهِ وَتَتَرَكَّزَ فِي نَفْسِهِ لَوْلَا الِابْتِلَاءُ.

وَلَيْسَ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يُكْسِبَهُ ذَلِكَ -أَيْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَوَقْعُ الِابْتِلَاءِ عَلَيْهِ- نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ يَتَأَسَّى بِهَا طُولَ حَيَاتِهِ، كَمَا أَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ صَقْلًا لِلطَّبْعِ، وَتَهْذِيبًا لِلْعَاطِفَةِ، وَتَنْمِيَةً لِحُبِّ الْخَيْرِ.

 

المصدر:الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ مَعَانِي الْخِيَانَةِ
  ثَمَرَاتُ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّسَامُحِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَ الْعَمَلِ
  الْوَعْيُ بِالتَّحَدِّيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا
  فَضْلُ كِبَارِ السِّنِّ -الْمُسْنِّينَ- الصَّالِحِينَ
  مُوجِبَاتُ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ فِي رَمَضَانَ
  الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ
  عَقِيدَةُ الْخَوَنَةِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ إِسْقَاطَ الْجَيْشِ
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مِنَّةُ اللهِ عَلَى كُلِّ الْبَشَرِيَّةِ
  الْآثَارُ الْمُدَمِّرَةُ لِطُولِ الْأَمَلِ دُنْيَا وَآخِرَةً
  خُطُورَةُ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى الْأُمَّةِ
  الْجَزَائِرُ مِنْ بَعْدِ الِاحْتِلَالِ حَتَّى الْعَشْرِيَّةِ السَّوْدَاءِ
  فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
  مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ
  فَضْلُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان