الْخِلَافُ وَالْإِسْرَافُ مَرَضَانِ يُهَدِّدَانِ الْأُمَّةَ


 ((الْخِلَافُ وَالْإِسْرَافُ مَرَضَانِ يُهَدِّدَانِ الْأُمَّةَ))

أَمْرَانِ كَبِيرَانِ يَقَعَانِ عَلَى التَّزَامُنِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاقٍ، خِلَافٌ يَدُبُّ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ فِي الْقُطْرِ الْوَاحِدِ، وَفِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ، وَفِي النَّجْعِ الْوَاحِدِ، وَفِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ، بَلْ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ.

وَإِسْرَافٌ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ, وَحَذَّرَ مِنْهُ، وَوَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَعْدَى أَعْدَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 31]، وَهُوَ فِرْعَوْنُ اللَّعِينُ.

ووَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْرَافِ, وَحَذَّرَ اللهُ تَعَالَى الْعَالَمِينَ مِنْهُ, وَنَهَى عَنِ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا هَذَا الَّذِي تَأَبَّى أَنْ يَكُونَ عَبْدًا بِزَعْمِهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ رَبٌّ وَإِلَهٌ!!

هَذَانَ الْأَمْرَانِ؛ مِنْ تَهْيِيجِ الْعَدَاوَاتِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ, وَمِنَ الْإِسْرَافِ الَّذِي لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْوُقُوعِ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَائِهَا.

 هَذَانِ الْأَمْرَانِ فِي كَلِمَتَيْنِ تَوْرَاتِيَّتَيْنِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْسَبُونَ أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ يُحَارِبُونَهُمْ حَرْبًا عَقَائِدِيَّةً، وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الثَّرْوَاتِ، وَعَلَى احْتِلَالِ الدِّيَارِ وَالْمَمَالِكِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْبَادِ الْقُلُوبِ.

فِي ((سِفْرِ إِشْعِيَاءَ)), فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ، مِنْ رَقْمِ ثَلَاثَةٍ إِلَى رَقْمِ سَبْعَةٍ، يَقُولُ: ((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, فَيُحَارِبُونَ: كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ, مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً, وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا, وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ, وَيَجُفُّ النَّهْرُ  وَيَيْبَسُ, وَتُنْتِنُ التُّرَعُ, وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ, وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالْأَسَلُ)).

لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَا يَقَعُ بَيْنَكُمْ -مَعَاشِرَ الْمِصْرِيِّينَ- أَمْرٌ يُبَيَّتُ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ قَدِيمٍ, وَهِيَ عَقِيدَةٌ تُعْتَقَدُ, وَتُتَّخَذُ لَهَا التَّدَابِيرُ وَالْخُطَطُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَصِيرَ وَاقِعًا تَعِيشُونَهُ, وَتَلْفَحُكُمْ نَارُهُ.

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, حَتَّى يَكُونَ الْأَخُ يَقْتُلُ أَخَاهُ)).

 وَالنَّصُّ: ((وَأُهَيِّجُ)) هَكَذَا!!

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ)): يَتَنَاحَرُونَ، يَتَقَاتَلُونَ، يَسْبِي أَحَدُهُمْ أَخَاهُ, وَيَقْتُلُ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ, وَيَعْتَدِي أَحَدُهُمْ عَلَى أَخِيهِ.

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ, مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً)).

وَالنَّتِيجَةُ فِي تَخَالُفِ أَبْنَاءِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ, وَفِي تَعَادِي أَبْنَاءِ الْقُطْرِ الْوَاحِدِ, وَفِي اسْتِنْزَافِ طَاقَاتِ قُوَّاتِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِأَبْنَائِهِ، النَّتِيجَةُ: ((وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا!!))

 حَفِظَهَا اللهُ, وَسَلَّمَهَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا، لَوْ إِنَّ مِصْرِيًّا قِيلَ لَهُ هَذَا عَلَى هَذَا التَّأْصِيلِ الَّذِي لَا يُدْفَعُ؛ لَأَنْكَرَهُ؛ لِقُصُورِ النَّظَرِ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ، وَتَشْوِيشِ الْفِكْرِ، وَمَا وَقَعَ مِنَ الْغَزْوِ فِي الْمُعْتَقَدِ وَفِي الثَّقَافَةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاهِيرَ مِنْ جُمُوعِ الشَّبَابِ فِي مِصْرَ قَدِ اسْتُلِبُوا، وَعُبِثَ بِهُوِيَّتِهِمْ، وَتَرَبَّوْا عَلَى مَنَاهِجَ لَمْ تَنْبُعْ مِنْ دِينِهِمْ، وَلَا مِنْ كِتَابِ رَبِّهِمْ، وَلَا مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَلَا مِنْ تُرَاثِهِمْ، وَلَا مِنْ تَارِيخِهِمْ، وَلَا مِنْ مَاضِيهِمُ الْمُشْرِقِ، وَلَا مِنْ مَجْدِهِمْ وَفَخَارِهِمْ.

وَإِنَّمَا فُرِّغَتْ أَجْيَالٌ، ثُمَّ حُشِيَتْ بَعْدُ وَمُلِئَتْ بِشَيْءٍ آخَرَ يَجْعَلُ الْمَرْءَ مُشَوَّهًا، لَا يَنْتَمِي لِدِينٍ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى عِرْضٍ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى أَرْضٍ، وَيَدْخُلُ فِي اللَّامُبَالَاةِ وَفِي الِاسْتِهَانَةِ، وَهِيَ الدَّاءُ الدَّوِيُّ الْقَاتِلُ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ.

دَاءُ الِاسْتِهَانَةِ، النَّارُ تَرْعَى فِي ثِيَابِ أَكْثَرِهِمْ، وَتَطَالُهُمْ نِيرَانُ الْفِتَنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُمْ يُشَاهِدُونَ آثَارَ الْمُؤَامَرَاتِ حَوْلَهُمْ فِي بُلْدَانٍ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً آمِنَةً، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا، مِنْ بِلَادٍ لَمْ تَكُنْ مَدِينَةً لِأَحَدٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، كَانَتْ فِي كِفَايَةٍ، بَلْ فِي رَغَدٍ، وَكَانَتْ وَاعِدَةً لِأَبْنَائِهَا بِمُسْتَقْبَلِ ثَرْوَتِهَا الَّتِي آلَتْ إِلَيْهَا.

ثُمَّ وَقَعَ مَا وَقَعَ، وَدَبَّ مَا دَبَّ بِإِحْدَاثِ الْفَجْوَةِ، وَتَعْمِيقِ الْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْحُكَّامِ وَرَعِيَّتِهِمْ، مِمَّا أَدَّى إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ؛ مِنْ إِنْفَاذٍ لِلْمُؤَامَرَةِ الصُّهْيُو صَلِيبِيَّةِ الْمَاسُونِيَّةِ، الَّتِي تَضَافَرَ عَلَى إِنْجَاحِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَعْدَاءٌ لِهَذَا الدِّينِ؛ مِنْ مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ، وَمِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا، الَّذِينَ يُصَلُّونَ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَيُصَلُّونَ صَلَاتَنَا، وَيَنْطِقُونَ بِلُغَتِنَا، وَلَكِنَّهُمْ انْحَازُوا إِلَى أُولَئِكَ، وَصَارُوا إِلْبًا وَعَدُوًّا قَاهِرًا مُغَامِرًا بِأَبْنَاءِ دِينِهِمْ وَأَبْنَاءِ عُرُوبَتِهِمْ وَسَاكِنِي وَطَنِهِمْ، حَتَّى آلُوا إِلَى مَا آلُوا إِلَيْهِ.

الْجَمَاهِيرُ الَّتِي اسْتُلِبَتْ، وَالْجَمَاهِيرُ الَّتِي ابْتُلِيَتْ بِدَاءِ الِاسْتِهَانَةِ كَأَنَّهَا لَا تَرَى!! تَعْشُو مِنْهَا الْأَنْظَارُ بَلْ تَعْمَى، فَلَا تَكَادُ تُبْصِرُ شَيْئًا، بَلْ لَا تُبْصِرُ شَيْئًا، وَذَهَبَ الْإِدْرَاكُ عَنْ حِسِّهَا، تَبَلَّدَ، لَا؛ بَلْ مَاتَ، فَهِيَ لَا تَتَّعِظُ وَلَا تَعْتَبِرُ، وَحَتَّى إِذَا مَا وَقَعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا يُثْمِرُ نَتِيجَةً مَرْجُوَّةً، وَقَدْ ذَاقُوا الَّذِي ذَاقُوهُ، وَسَلَّمَ اللهُ.

وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ سَلَّمَ مَا بَقِيَ أَحَدٌ فِي أَمْنٍ وَلَا أَمَانٍ، وَلَا هُدُوءٍ وَلَا اطْمِئْنَانٍ، وَلَا سِلْمٍ وَلَا سَلَامٍ، وَلَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَأُرِيقَتِ الدِّمَاءُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَصَارَ جَمْعُ الْوَطَنِ بَدَدًا، وَشَمْلُهُ مُمَزَّقًا، وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ.

لَوْ تَأَمَّلْتَ فِي هَذَا دَلَّكَ عَلَى وُجُوبِ الْتِزَامِ الصَّبْرِ وَالْحِكْمَةِ, وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ الدِّينُ تُكَأَةً مِنْ أَجْلِ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ, وَوُقُوعِ الْفَوْضَى؛ فَكُلُّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِأَعْدَاءِ اللهِ, مُنَفِّذٌ لِخُطَطِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ قَيْنًا وَعَبْدًا مِنَ الْأُمَمِيِّينَ، الَّذِينَ لَا يَرْقُبُونَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.

 فَعَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ وَاعِيًا لِدِينِهِ، مُحَافِظًا عَلَى يَقِينِهِ، مُلْتَزِمًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْ إِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالشَّرِّ, وَأَنْ يَكُونَ بِمَبْعَدَةٍ عَنْ تَقْرِيرِ مَا هُوَ بَعِيدٌ عَلَى أَعْدَائِنَا حَتَّى يَصِيرَ دَانِيًا, فِيهِ قُرَّةُ الْعَيْنِ لَهُمْ, وَفِيهِ مَا تَرَى مِمَّا يُتَوَعَّدُ بِهِ أَهْلُ مِصْرَ, حَفِظَهَا اللهُ تَعَالَى وَرَعَاهَا وَسَائِرَ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ.

هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ, تَخَالُفٌ، وَتَدَابُرٌ، وَتَقَاطُعٌ، وَشِقَاقٌ، وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ, حَتَّى يَقْتُلَ الْأَخُ أَخَاهُ، وَحَتَّى يَسْبِي الْأَخُ أَخَاهُ, مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً, حَتَّى تَتَبَدَّدُوا فِي الْأَرْضِ مِزَقًا وَبِدَدًا.

هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ، تَوْرَاتِيٌّ مَحْضٌ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْذَرَ مِنَ التَّخَالُفِ, وَالتَّهَارُجِ, وَالتَّنَاوُشِ, وَالتَّقَاتُلِ, وَالتَّصَارُعِ, وَأَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا فِي اللهِ مُتَحَابِّينَ, لَا مُتَدَابِرِينَ, وَلَا مُتَقَاطِعِينَ, دَاعِينَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ, حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ تَعَالَى بِمَا يَشَاءُ, كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-, وَالْأَمْرُ للهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ, يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ .

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي فَهُوَ: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النِّعَمِ لَا يَعْرِفُ الْعَبْدُ قَدْرَهَا إِلَّا إِذَا فَقَدَهَا, وَنِعْمَةُ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى هَذَا الْبَلَدِ بِمَا أَجْرَى فِيهَا مِنَ النَّهْرِ الْمُبَارَكِ, نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ.

 فَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ, وَأَلَّا يُسْرِفُوا فِيهَا مُبَدِّدِينَ إِيَّاهَا, وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَرْضَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, وَلَا يُحِبُّهُ.

 فَالْإِسْرَافُ مِنْ خُلُقِ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ.

 وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

*إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَنْ تَبْذُلَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ طَاقَتُكَ, فَهَذَا إِسْرَافٌ كَمِّيٌّ .

*وَأَمَّا الْإِسْرَافُ الْكَيْفِيُّ: فَأَنْ تَتَجَاوَزَ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ الْحَدَّ, وَلَوْ كَانَ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ, فَإِنَّ وَضْعَ الْقَلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ  -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، هُوَ إِسْرَافٌ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ إِسْرَافٌ وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا وَاحِدًا, فَلَيْسَ بِكَثْرَتِهِ عَدًّا, وَإِنَّمَا بِوَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَيْفًا.

فَالْإِسْرَافُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْفُ مَا أُنْفِقَ فِي مَعْصِيَةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-, وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ الْقَلِيلِ.

فَإِنَّ الْمَرْءَ وَلَوْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً, وَأَضْعَافًا مُضَاعَفَةً, وَوَضَعَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ, كَانَ مُسْرِفًا مُتَوَعَّدًا بِمَا يُتَوَعَّدُ بِهِ مَنْ أَسْرَفَ, وَتَجَاوَزَ, وَتَعَدَّى, وَظَلَمَ.

 كَأَنْ يَضَعَ دِرْهَمًا فِي يَدِ فَاجِرَةٍ, أَوْ يَشْتَرِي بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ -وَقَدْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً- خَمْرًا, فَهُوَ مُسْرِفٌ, وَإِنْ كَانَ مَا أَنْفَقَهُ قَلِيلًا.

وَأَمَّا وَضْعُ الْكَثِيرِ وَلَوِ اشْتَمَلَ عَلَى الْمَالِ كُلِّهِ فِي طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا, كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, فَقَدْ أَتَى بِمَالِهِ كُلِّهِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ صَدَقَةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ طَاعَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَانْسَلَخَ مِنْ مَالِهِ جَمِيعًا, وَلَمْ يُرَاجِعْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يُعَدَّ مُسْرِفًا.

 فَمَهْمَا وَضَعْتَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَالٍ مِمَّا يَرْضَى اللهُ عَنْهُ، وَمَهْمَا كَثُرَ ذَلِكَ الَّذِي تُعْطِي للهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِسْرَافٍ.

وَمَهْمَا وَضَعْتَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي آتَانَا اللهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ وَنِعَمَتِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ, فَهُوَ إِسْرَافٌ يُبَدِّدُ رُوحَ أُمَّةٍ, وَيُصَحِّرُ أَرْضَ قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُبَارِكَ فِيهِ, وَأَنْ يَحْفَظَهُ وَسَائِرَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ مَا يَدُورُ عِنْدَ مَنْبَعِ النِّيلِ, وَلَا عَلَى مَدَارِ مَجْرَاهُ، فَيُؤَثِّرُ عَلَى مَصَبِّهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مُخَطَّطٌ تَوْرَاتِيٌّ عَلَى حَسَبِ النُّبُوءَةِ, كَمَا فِي الْمَوْضِعِ نَفْسِهِ -الَّذِي مَرَّ-.

وَمِنْ عَجَائِبِ اتِّفَاقِ الْمَقَادِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّصُّ التَّوْرَاتِيُّ الْمُدَّعَى الْمُفْتَرَى الْمَكْذُوبُ نَصًّا شَامِلًا لِلْأَمْرَيْنِ, وَقَدْ تَزَامَنَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ.

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ))؛ لِكَيْ يَسِيرَ الْمُجْتَمَعُ إِلَى الْفَوْضَى, فَإِذَا وَقَعَتْ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ- فَقَدْ خَسِرَ هَذَا الْقُطْرُ الْمُسْلِمُ الْعَظِيمُ مَكَاسِبَ الْإِسْلَامِ فِيهِ عَلَى مَدَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ, نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ .

((وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ، فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ, وَكُلُّ وَاحِدٌ صَاحِبَهُ)), وَتَقَعُ الْفَوْضَى فِي الْقُطْرِ الَّذِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ اللهُ بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ، ((مَدِينَةً مَدِينَةً, وَمَمْلَكَةً مَمْلَكَةً, وَيُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا)).

 ثُمَّ يَأْتِي الشِّقُّ الثَّانِي: ((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ))؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا قَلَّ عِنْدَ الْمَصَبِّ وَهُوَ يَصُبُّ -أَيِ النَّهْرُ- فِي الْبَحْرِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-, تَتَحَقَّقُ هَذِهِ النُّبُوءَةُ فِي ((سِفْرِ إِشْعَيَاءَ, فِي الْأَصْحَاحِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَقْمِ ثَلَاثَةٍ إِلَى رَقْمِ سَبْعَةٍ)): ((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ)).

 وَهُمْ يُحَاوِلُونَ تَحْوِيلَ الْمَجْرَى عِنْدَ الْمَنْبَعِ بِأَنْ يَصُبَّ النَّهْرُ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ, وَأَلَّا يَمْضِيَ فِي طَرِيقِهِ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ مَرْسُومٌ لَهُ بِقَدَرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

 حَاوَلُوا ذَلِكَ قَدِيمًا فَلَمْ يُفْلِحُوا, ثُمَّ يُحَاوِلُونَ مَا يُحَاوِلُونَ؛ بِبِنَاءِ السُّدُودِ، وَتَقْلِيلِ حِصَّةِ مِصْرَ مِنَ الْمِيَاهِ؛ حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الدِّيَارِ -الَّتِي نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهَا, وَأَنْ يُبَارِكَ فِي أَبْنَائِهَا, وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قُلُوبِ أَهْلِهَا حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ؛ حَتَّى يَكُونُوا جَمِيعًا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَاتِّبَاعِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.

 يُحَاوِلُونَ مَا يُحَاوِلُونَ؛ حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الدِّيَارِ مَا يَكْفِيهَا مِنْ مِيَاهِ النَّهْرِ، فَتَقِلُّ الْمِيَاهُ, وَحِينَئِذٍ تَقَعُ النُّبُوءَةُ التَّوْرَاتِيَّةُ -بِزَعْمِهِمْ-.

وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَمَلِيُّونَ, لَيْسُوا بِخَيَالِيِّينَ، هُمْ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُنَفِّذُونَ, وَيُخَطِّطُونَ قَبْلَ التَّنْفِيذِ, وَيُحْسِنُونَ التَّنْفِيذَ بَعْدَ التَّخْطِيطِ؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى تَحْقِيقِ النُّبُوءَةِ, وَهِيَ عِنْدَهُمْ مَعْصُومَةٌ، وَوَعْدٌ إِلَهِيٌّ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ.

((وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ, وَيَجِفُّ النَّهْرُ -يَعْنِي: نَهْرَ مِصْرَ, نَهْرَ النِّيلَ- وَيَيْبَسُ وَتُنْتِنُ التُّرَعُ, وَتَضْعُفُ, وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ, وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالْأَسَلُ)).

هَذَا كُلُّهُ مَبْذُولٌ، صَارَ مَعْرُوفًا، فَمَاذَا صَنَعَ قَوْمِي؟!!

مَرُّوا مُرُورَ الْكِرَامِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا شَيْئًا، وَلَمْ يُعَوِّلُوا عَلَى شَيْءٍ، وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ!!

 

المصدر:مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَالْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ!!

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: حُسْنُ الْخُلُقِ
  دَرْبُ الْحَيَاةِ مَلِيءٌ بِأَشْوَاكِهَا!!
  أَثَرُ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ
  مَعْرِفَةُ شُرُوطِ الْبَيْعِ وَثَمَرَاتُهَا
  تَعْلِيمُ النَّبِيِّ ﷺ الْأُمَّةَ كُلَّ مَا يَنْفَعُهَا
  وَسَائِلُ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَحِمَايَتِهِ
  مَبْنَى حَرَكَةِ حَيَاةِ الْمُسْلِمِ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ
  ثُبُوتُ سُنَّةِ صِيَامِ التِّسْعِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
  الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَمَلِ الْجَادِّ
  النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي السُّنَّةِ
  ثَمَرَاتُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  الْهَدَفُ مِنْ خَلْقِ الْخَلْقِ وَإِقَامَةِ الْمُجْتَمَعَاتِ عِبَادَةُ اللهِ وَتَوْحِيدُهُ
  عَقِيدَتُنَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  التَّرْهِيبُ مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُقُوقِ
  مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْإِدْمَانِ: تَطْبِيقُ وَلِيِّ الْأَمْرِ حَدَّ الْحِرَابَةِ عَلَى مُرَوِّجِي الْمُخَدِّرَاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان