بِرُّ الْأَبَوَيْنِ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ


((بِرُّ الْأَبَوَيْنِ سَبَبُ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ))

عَبْدَ اللهِ! خُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ رَسُولُنَا ﷺ، ثُمَّ قِسْ عَلَيْهِ حَالَكَ، وَعِنْدَئِذٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّكَ إِذَا مَا دَعَوْتَ فِي الشِّدَّةِ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَكَ؛ مِنْ أَيِّ بَابٍ أُوتِيتَ، وَلِمَاذَا سُدَّتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكُ، وَلِمَاذَا خُلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ حَتَّى تَشَعَّبَتْ بِكَ الظُّنُونُ وَاخْتَلَفَتْ عَلَيْكَ الْأَحْوَالُ، وَنَاشَتْكَ سِهَامُ الْأَعْدَاءِ وَرِمَاحُهُمْ حَتَّى تَنَصَّلَ اللَّحْمُ وَتَنَاثَرَتِ الْعِظَامُ بَيْنَ ذَلِكَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَنَا أَجْمَعِينَ-.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ -وَالْغَارُ: كُوَّةٌ فِي الْجَبَلِ لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ إِذَا مَا سُدَّتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ مُعَرَّضًا -لِعَدَمِ التَّهْوِيَةِ، لَا لِجَوْدَتِهَا؛ أَنْ يَمُوتَ اخْتِنَاقًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((فَقَالُوا: -فِيمَا يَرْوِيهِ لَنَا رَسُولُنَا ﷺ- إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلاَ مَالًا.. )).

أَمَّا الْغَبُوقُ: فَهُوَ سَقْيُ الْعَشِّيِ، يَعْنِي كَانَ يَرُوحُ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَى أُمِّهِ بِغَنَمِهِ أَوْ بِإِبِلِهِ أَوْ بِبَقَرِهِ، فَيَحْلِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يَسْقِي أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ؛ لَا زَوْجَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا مَالًا -يَعْنِي: وَلَا رَقِيقًا- حَتَّى يَسْقِيَ أَبَوَيْهِ الشَّيْخَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ -يَعْنِي بَلَغَ بِهِمَا كِبَرُ السِّنِّ مَبَالِغَهُ.

قَالَ: ((فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ.. )).

وَقَعَ الرَّجُلُ لِجَوْدَةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَلِعِظَمِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ بِالْفِكْرِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَعَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُحَيِّرَيْنِ جِدًّا، إِمَّا أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ أَبَوَيْهِ، فَيُخَالِفَ الْمَأْلُوفَ مِنْ عَادَتِهِ، وَرُبَّمَا انْتَبَهَا وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ!

وَضَعْ نَفْسَكَ مَكَانَهُ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانٍ، يُؤَرَّقَانِ كَثِيرًا كَحَالِ كِبَارِ السِّنِّ فِي لَيْلِهِمَا الَّذِي يَطُولُ أَحْيَانًا كَأَنَّمَا شُدَّتْ نُجُومُهُ بِأَمْرَاسِ كِتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ!!

أَمَّا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ يَأْرَقُ فِي لَيْلِهِ فَلَا يَجِدُ ابْنَهُ قَدْ أَتَى بِالْغَبُوقِ، فَيَظُنُّ بِهِ الظُّنُونَ، أَوْ رُبَّمَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُ لِمَكْرُوهٍ أَصَابَهُ، وَالرَّجُلُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُرَوِّعَهُمَا.

ثُمَّ -أَيْضًا- إِنَّ وَرَاءَ هَذَا الرَّجُلِ أَهْلًا وَوُلْدًا مِنَ الصِّغَارِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمْ بَعْدَ حِينٍ: وَالصِّغَارُ يَتَضَاغَوْنَ -يَعْنِي يَبْكُونَ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ بَيْنَ رِجْلَيْهِ-.

قَالَ: ((فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ)). كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ .

انْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ شَيْئًا، لَا يَسَعُ لَهُمْ مَخْرَجًا مِنَ الْغَارِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ فَرَجًا عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتَى بِمَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبِحَسَنَةٍ جَلِيلَةٍ، فَفُرِّجَ عَنْهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ، حَتَّى فَكَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَسْرَهُمْ، وَأَطْلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَيْدَهُمْ.

الْآنَ قِسْ نَفْسَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ، هَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى أَبَوْيِهِ بِاللَّبَنِ عَشِيًّا، فَيَجِدُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَمَا عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِمَا، وَأَنْ يَأْتِيَ الصِّغَارُ مِنْ وُلْدِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَفَطَّرُ الْكَبِدُ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ، وَيَنْصَدِعُ الْفُؤَادُ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَضَاغَوْنَ -كَمَا قَالَ- عِنْدَ رِجْلَيْهِ؛ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ!!

وَأَمَّا هُوَ فَوَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ أَبَوَيْهِ النَّائِمَيْنِ، يَحْمِلُ اللَّبَنَ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنَّ الْيَدَ لَتَكِلُّ -تَصَوُّرًا- أَنْ تَحْمِلَ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، فَقَدَّمَ اللَّبَنَ إِلَيْهِمَا لَمَّا اسْتَيْقَظَا، وَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهِمَا مَالًا وَلَا وَلَدًا.

وَالْآنَ قِسْ حَالَكَ عَلَى حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الطَّائِعِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَكَ -عَافَاكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَإِيَّايَّ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ- وَحَالَ الْكَرْبِ عِنْدَهُ عِنْدَمَا تَقَعُ فِي أَمْرٍ تَكْرَهُهُ، ثُمَّ تَتَوَسَّلُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَعِنْدَكَ مِثْلُ هَذَا الْبِرِّ الَّذِي تَوَسَّلَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ عِنْدَكَ تَقْدِيمُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْأُمِّ، بَلْ تَقْدِيمُ مَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ مِنَ الصَّاحِبِ وَالرَّفِيقِ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ جَمِيعًا؟!!

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ بِمَنِّهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ-.

 

المصدر:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْحَثُّ عَلَى الْإِيجَابِيَّةِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ
  مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ: تَوْقِيرُ الْكَبِيرِ
  الْجَزَائِرُ مِنْ بَعْدِ الِاحْتِلَالِ حَتَّى الْعَشْرِيَّةِ السَّوْدَاءِ
  بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ
  سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ
  المَوْعِظَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ(1) ))
  أَسْبَابُ طُولِ الْأَمَلِ
  الشَّبَابُ وَحَمْلُ أَمَانَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَنَمَاذِجٌ مِنْ خَيْرِ الْبَشَرِ
  الْحَثُّ عَلَى وَحْدَةِ الصَّفِّ فِي الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَثَمَرَاتُهَا
  مَعْرِفَةُ شُرُوطِ الْبَيْعِ وَثَمَرَاتُهَا
  مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ: قِرَاءَةُ وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلُ بِهِ
  مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعَطَاءِ لِلْوَطَنِ: الْعَمَلُ الْجَادُّ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ.. عِقَابُهُمْ وَخَطَرُهُمْ
  الْمَوْعِظَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((رَمَضَانُ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ))
  مَبْنَى الشَّرِيعَةِ وَقِيَامُ السُّنَّةِ عَلَى التَّيْسِيرِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان