مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: بَيَانُ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ


 ((مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:

بَيَانُ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ دُرُوسِ النَّبِيِّ ﷺ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: بَيَانُ عِظَمِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ؛ فَفِي خُطَبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ أَعْلَنَ ﷺ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا أَبَدِيًّا، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)) .

فَهُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، لَا يَحِلُّ أَبَدًا لِمُسْلِمٍ دَمُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ أَنْ يَجْرَحَهُ أَوْ يَقْطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، أَوْ أَنْ يُرِيقَ دَمَهُ، إِلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.

أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ -يَعْنِي: نَشَرَهُمْ وَبَعَثَهُمْ فِي الْآفَاقِ-، فَيَقُولُ -وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؛ يَعْنِي: يَقُولُ لَهُمْ حَالَ بَثِّهِ إِيَّاهُمْ-: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ.

قَالَ: فَيَخْرُجُ هَذَا -وَفِيهِ إيجَازٌ بِالْحَذْفِ, وَهَا هُنَا فَجْوَةٌ فِي السِّيَاقِ مَعْلُومَةٌ, كَأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: فَيَذْهَبُونَ, فَيُخَذِّلُونَ الْمُسْلِمِينَ, ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَسْأَلُهُمْ سَيِّدُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ إِبْلِيسُ- فَيَخْرُجُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ.

وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَبَرَّ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ! وَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى زَنَى فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ! وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ! وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ».

وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ يُخْبِرُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ إِبْلِيسَ يُجَنِّدُ الْجُنْدَ فِي الصَّبَاحِ إِذَا أَصْبَحَ -لَا صَبَّحَهُ اللهُ بِخَيْرٍ- فَيُرْسِلُ فِي الْآفَاقِ جُنُودَهُ مَبْثُوثِينَ, وَيَعِدُهُمْ بِالْمُكَافَأَةِ الْكَبِيرَةِ: بِأَنْ يُلْبِسَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ -إِذَا مَا أَتَى بِتَخْذِيلِ مُسْلِمٍ عَلَى الْوَجْهِ- تَاجًا.

ثُمَّ إِنَّهُمْ يَذْهَبُونَ مُجْتَهِدِينَ فِي تَحْصِيلِ مَا أَمَرَ بِهِ كَبِيرُهُمْ, وَمَا نَدَبَ إِلَيْهِ, وَكُلٌّ يَرْجُو أَنْ يَلْبَسَ تَاجَهُ, ثُمَّ يَأْتِي آتِيهِمْ فَيُخْبِرُ بِأَنَّهُ مَا زَالَ بِمُسْلِمٍ حَتَّى صَنَعَ وَصَنَعَ؛ مِنْ أَلْوَانِ الْمُوبِقَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيُخْذَلُ؛ يُخَذِّلُهُ جُنْدُ إِبْلِيسَ, كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ إِبْلِيسُ جُنْدَهُ, يَقُولُ: ((مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ)).

فَيَعِدُ بِأَنْ يُلْبِسَ التَّاجَ مَنْ أَضَلَّ مُسْلِمًا، حَتَّى يَجِئَ مَنْ يُخْبِرُ أَنَّهُ مَا زَالَ بِعَبْدٍ حَتَّى وَقَعَ فِي الشِّرْكِ, وَالشِّرْكُ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ؛ فَيَقُولُ: ((أَنْتَ أَنْتَ!)).

ثُمَّ يَجِئُ آخَرُ فَيَقُولُ إِنَّهُ مَا زَالَ بِعَبْدٍ حَتَّى تَوَرَّطَ فِي دَمٍ حَرَامٍ؛ فَيَقُولُ لَهُ إِبْلِيسُ: ((أَنْتَ أَنْتَ! وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ)).

وَكَأَنَّهُ -لَعَنَهُ اللهُ- يَرَى أَنَّهُ مَا دَامَتْ فِي الْعُمُرِ فُسْحَةٌ فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الشِّرْكِ عَسَى أَنْ يُعَاوِدَ التَّوْحِيدَ.

وَأَمَّا الَّذِي تَوَرَّطَ فِي الدَّمِ الْحَرَامِ, فَمَا الَّذِي هُوَ صَانِعٌ؟!!

قَدْ سُدَّتْ فِي وَجْهِهِ الْمَنَافِذُ, كَمَا أَخْبَر الرَّسُولُ  ﷺ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهْرِيقَهُ كَأَنَّمَا يَذْبَحُ بِهِ دَجَاجَةً، كُلَّمَا تَعَرَّضَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ حَالَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَجْعَلَ فِي بَطْنِهِ إِلَّا طَيِّبًا، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ»؛ يَعْنِي إِذَا مَاتَ.

فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ -وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ؛ يَعْنِي حَسَنٌ لِذَاتِهِ ارْتَقَى بِكَثْرَةِ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ لِغَيْرِهِ, فَهُوَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ عَمَلٌ-: إِنِ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَلَّا يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ سَدًّا لَا يَجُوزُهُ وَسُورًا لَا يَظْهَرُهُ، وَمَعْبَرًا لَا يَعْبُرُهُ.

«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهْرِيقَهُ كَأَنَّمَا يَذْبَحُ بِهِ دَجَاجَةً)).

يَأْتِي هَذَا الدَّمُ الْحَرَامُ, وَهُوَ مِلْءُ كَفِّهِ, كَمَا أَخْبَرَ الْهُمَامُ ﷺ، ((كُلَّمَا تَعَرَّضَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ حَالَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ)).

ثُمَّ يُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ تَتِمَّةً؛ عَسَى أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً مِنَ التَّوَرُّطِ فِي الدَّمِ الْحَرَامِ -كَأَنَّ بَيْنَهُمَا تَلَازُمًا-: ((وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا يَجْعَلَ فِي بَطْنِهِ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ)).

بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ الْعَبْدُ مِنَ الطَّيِّبِ, وَأَلَّا يُدْخِلَ جَوْفَهُ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حَرَامٍ؛ لِأَنَّ الْبَطْنَ أَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ -يَعْنِي إِذَا مَا مَاتَ. فَلَعَلَّهُ إِذَا مَا أَكَلَ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ, وَاجْتَنَبَ الشُّبُهَاتِ وَالْحَرَامَ, ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَنْبَتَ مِنْ هَذَا الْحَلَالِ لَحْمًا وَعِظَامًا وَدَمًا, فَعَسَى أَلَّا يَتَوَرَّطَ بَعْدُ فِي النَّارِ, وَأَلَّا يَمَسَّهُ لَفْحٌ مِنْهَا.

وَأَمَّا إِنْ أَكَلَ مِنَ الْحَرَامِ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)) .

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمَّا سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، هَلْ لِلْقَاتِلِ مِنْ تَوْبَةٍ؟

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ, وَعَنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَجْمَعِينَ- كَالْمُعْجَبِ مِنْ شَأْنِهِ: مَاذَا تَقُولُ؟!!

فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ.

فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَقُولُ؟!! مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَقُولُ: «يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، تَشْجُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ».

فَهَذَا رَجُلٌ يَأْتِي فِي الْعَرَصَاتِ -عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فِي سَاحَاتِهَا- بِغَيْرِ رَأْسٍ- ((تَشْجُبُ -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ- أَوْدَاجُهُ -وَالْوَدَجَانِ: عِرْقَانِ كَبِيرَانِ, وَرِيدَانِ كَبِيرَانِ يَسْتَنْزِفَانِ دَمَ الْإِنْسَانِ إِذَا مَا قُطِعَا- تَشْجُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا)) مِنْ جَسَدِهِ الَّذِي هُوَ جَسَدُهُ بِغَيْرِ رَأْسٍ, وَمِنْ رَأْسِهِ الَّتِي بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى, حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ فَيَقُولَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: ((هَذَا قَتَلَنِي)).

فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- لِلْقَاتِلِ: ((تَعِسْتَ، وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ».

وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ, ضَرَبَ لَنَا فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّصْوِيرِ -فِي تَصْوِيرِ الْمَعَانِي بِصُورَةٍ حِسِّيَّةٍ مُجَسَّمَةٍ- فَنَقَلَ لَنَا صُورَةً فِيهَا حَرَكَةٌ, وَفِيهَا لَوْنٌ, وَفِيهَا ظِلَالٌ وَدِمَاءٌ, وَفِيهَا كَلَامٌ, وَفِيهَا ظُلَامَةٌ تُرْفَعُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فِيهَا حَرَكَةٌ, وَفِيهَا لَوْنٌ, وَفِيهَا قَوْلٌ, وَفِيهَا ظِلَالٌ, وَفِيهَا أَسًى, وَفِيهَا شَجَنٌ, وَفِيهَا أَلَمٌ, وَفِيهَا بُكَاءٌ, وَفِيهَا تَضَرُّعٌ, وَفِيهَا نِدَاءٌ, وَفِيهَا عَرْضٌ بِالْتِمَاسٍ لِلْعَدْلِ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ, مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ.

«يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى

فَهَذَا رَجُلٌ يَسِيرُ فِي الْعَرَصَاتِ بِغَيْرِ رَأْسٍ, مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ, سَوَاءٌ أَخَذَ رَأْسَهُ مِنْ أُذُنِهِ, أَمْ أَخَذَهَا مِنْ مَوْطِنِ الذَّبْحِ, أَمْ أَخَذَهَا مِنْ شَعَرِهِ, هُوَ قَدْ تَعَلَّقَهَا بِإِحْدَى يَدَيْهِ, كَمَا أَخْبَر الرَّسُولُ ﷺ.

((مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى))، سَاحِبًا إِيَّاهُ, جَارًّا لَهُ؛ حَتَّى يَقِفَ عِنْدَ الْعَرْشِ يَقُولُ: يَا رَبِّ...!

وَ((الرَّبُّ)) فِيهَا مِنَ الْحَنَانِ مَا فِيهَا، وَفِيهَا مِنَ التَّرْبِيَةِ مَا فِيهَا؛ لَفْظَةٌ مُوحِيَةٌ بِذَاتِهَا مُعَبِّرَةٌ بِجَرْسِهَا، ((يَا رَبِّ! هَذَا قَتَلَنِي))، وَأَنْتَ الْيَوْمَ تَنْصِبُ الْمَوَازِينَ الْحَقَّ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ, لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ, هَذَا قَتَلَنِي, وَأَنْتَ أَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, وَأَنْتَ أَنْتَ الْحَقُّ الْمُبِينُ.

فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- كَلِمَةً وَاحِدَةً, يَقُولُ لِلْقَاتِلِ: ((تَعِسْتَ)) -وَالْعَيْنُ تُكْسَرُ وَتُفْتَحُ, يَخْتَارُ هَذَا مَنْ يَخْتَارُهُ, وَيَخْتَارُ ذَلِكَ آخَرُونَ-: ((تَعِسْتَ, تَعَسْتَ)) سَوَاءٌ, وَهُوَ دُعَاءٌ بِالتَّعَاسَةِ عَلَيْهِ, بِالشَّقَاوَةِ الْأَبَدِيَّةِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ بِدُخُولِهَا, يَقُولُ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ: ((وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ)).

أَخْبَرَ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ فِي يَوْمِ النَّحْرِ, وَرَجُلٌ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ.. ))

وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي تَجِدُهَا فِي ((الصَّحِيحِ)), هِيَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهَا بِأَنَّهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ, وَبَعْضُهَا مُكَرَّرٌ فِي ((خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ)) بِعَرَفَاتٍ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ, قَالَهَا النَّبِيُّ ﷺ هُنَالِكَ.

فَلَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ بِمَا كُرِّرَ مِنْ أَلْفَاظِ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ, أَخْبَرَ بِهَا بِبَطْنِ الْوَادِي, فَرَوَاهَا مَنْ رَوَاهَا عَلَى أَنَّهَا بِعَرَفَاتٍ؛ لِقُرْبِهِمَا: لِقُرْبِ مِنًى مِنْ عَرَفَاتٍ, لِقُرْبِ بَطْنِ الْوَادِي مِنْ عَرَفَاتٍ.

أَوْ لَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ كَرَّرَ فِي خُطْبَتِهِ بِبَطْنِ الْوَادِي مَا قَالَهُ فِي خُطْبَتِهِ عِنْدَ الصَّخْرَاتِ فِي يَوْمِ عَرَفَاتٍ ﷺ

عَنْ أَبِي بَكْرَةَ فِيمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ: ((أَنَّ الرَّسُولَ خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى, وَرَجُلٌ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ.. )).

وَفِيهِ أَنَّ الْخَطِيبَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ كَمِنْبَرٍ وَنَحْوِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُسْمِعَ النَّاسَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ خَطَبَ فِي عَرَفَاتٍ خُطْبَةً جَلِيلَةً بَلِيغَةً، أَشْهَدَ فِيهَا الْخَلْقَ عَلَى الْبَلَاغِ الْمُبِينِ فَشَهِدُوا, فَأَشْهَدَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ: قَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ, وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ, وَنَصَحَ الْأُمَّةَ, وَكَشَفَ الْغُمَّةَ فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ قَوْمِهِ وَرَسُولًا عَنْ أُمَّتِهِ ﷺ.

وَأَسْمَعَ مِنْ غَيْرِ مَا مُكَبِّرٍ لِصَوْتٍ وَلَا مُبَلِّغٍ هُنَالِكَ, مِئَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ مِنَ الرِّجَالِ مُحْرِمِينَ فِي ثِيَابِهِمْ, كَأَنَّمَا شُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَكْفَانُهُمْ, وَهِيَ أَكْفَانُ الْمُحْرِمِ بِلَا خِلَافٍ؛ فَمَنْ مَاتَ مُحْرِمًا كُفِّنَ فِي ثَوْبَيْ إِحْرَامِهِ, ثُمَّ لَمْ يُخَمَّرْ وَجْهُهُ, ثُمَّ دُفِنَ، يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا, كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ

فَخَطَبَ فِي مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ, سِوَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ, يَسْمَعُ بَعِيدُهُمْ كَمَا يَسْمَعُ قَرِيبُهُمْ, وَيَسْمَعُ قَاصِيهِمْ كَمَا يَسْمَعُ دَانِيهِمْ, وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ ﷺ.

وَفِي يَوْمٍ النَّحْرِ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا, مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ, ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ, وَوَاحِدٌ فَرْدٌ, فَأَمَّا الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَوَالِيَاتُ: فَذُو الْقَعْدَةِ, وَذُو الْحِجَّةِ, وَالْمُحَرَّمُ، وَأَمَّا الشَّهْرُ الْفَرْدُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).

ثُمَّ أَقْبَلَ الرَّسُولُ ﷺ  عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْمَوْسِمَ, يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ ((أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟))

فَقَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالُوا: فَسَكَتَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِه.

قَالَ: ((أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟)).

قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ:((أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟)).

قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَسَكَتَ, حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ.

قَالَ:((أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟)).

قُلْنَا: بَلَى.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:((أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟)).

قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ:((أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ ؟)).

وَالْبَلْدَةُ اسْمٌ لِمَكَّةَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ ؟)).

قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ- وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي يَوْمِكُمْ هَذَا)) أَوْ: ((كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)) .

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- اخْتَارَ لِنَبِيِّهِ ﷺ أَعْدَلَ الْأَوْقَاتِ؛ لِيَحُجَّ ﷺ.

وَهُوَ رَأْيُ كَثِيرٍ مِنْ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِمَ أَرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ قَبْلَهَا أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ؟

وَلِمَ أَخَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَجَّ إِلَى الْعَامِ الَّذِي تَلَا بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَحُجَّ فِي أَوَّلِ فُرْصَةٍ سَنَحَتْ؟

فَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ حَجَّ التَّاسِعِ مِنْ الْهِجْرَةِ تَوْطِأَةً بَيْنَ يَدَيْ حَجِّهِ الْمَبْرُورِ الْمَيْمُونِ ﷺ؛ لِكَيْ يَنْفِيَ عَنِ الْبَيْتِ وَمَا حَوْلَهُ كُلَّ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ, وَلِكَيْ يَعُودَ الْحَجُّ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ لِيَقَعَ فِي زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)).

وَكَانَ النَّسَأَةُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الشُّهُورَ تَلَاعُبًا, فَيُقَدِّمُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَيُؤَخِّرُونَ بَيْنَ الشُّهُورِ؛ لِكَيْ تُتْرَعَ الْأَهْوَاءُ مِنَ الدِّمَاءِ الْحَرَامِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَلَى حَسَبِ الْهَوَى, مِنْ غَيْرِ مَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ.

فَيُؤَخِّرُونَ يَنْسَؤُونَ مِنَ الشُّهُورِ مَا يُرِيدُونَ, يَقِفُ الرَّجُلُ مِنَ النَّسَأَةِ فيِ الْمَوْقِفِ؛ لِكَيْ يُعْلِمَ الْقَوْمَ, ثُمَّ يَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَى مَا قَالَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ مَا نَكِيرٍ.

فَكَانَتِ الْأَشْهُرُ قَدِ اخْتَلَطَ عَدِيدُهَا وَامْتَزَجَتْ بِجُمْلَتِهَا حَتَّى لَا يُدْرَى بَدْؤُهَا مِنْ مُنْتَهَاهَا, فَلَمَّا حَجَّ الْمُخْتَارُ ﷺ أَعْلَنَ أَنَّهُ: كَمَا أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَذِنَ بِأَنْ تَعُودَ الْفِطْرَةُ إِلَى سَوَائِهَا إِلَى اسْتِقَامَتِهَا.

كَمَا أَذِنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعُودَ الْأَمْرُ إِلَى نِصَابِهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَبِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ؛ فَكَذَلِكَ عَادَ الزَّمَانُ إِلَى هَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةٍ هُنَالِكَ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)).

وَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ -فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ, اخْتَارَ لِلْأُمَّةِ فِي قَانُونِهِ الْآخِرِ ﷺ وَبَيَانِهِ الْخِتَامِيِّ- اخْتَارَ الْإِعْلَانَ عَنْ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ.

يَدُلُّ عَلَيْهَا مُؤَكِّدًا: (( كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا))؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَهُ!!

((كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا)): فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ, وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَهُ!!

((فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)) فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ, وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَهَا!!

((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ, وَهِيَ صَحِيحَةٌ بِلَا خِلَافٍ, فَعَلَيْهَا الْعَمَلُ, وَإِلَيْهَا الْمَآلُ- وَأَعْرَاضَكُمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).

فَهَذِهِ الْحُرْمَةُ الْمُثَلَّثَةُ مِنْ يَوْمٍ فِي شَهْرٍ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ, كُلُّهُ حَرَامٌ فِي حَرَامٍ فِي حَرَامٍ, لَيْسَتِ الْحُرْمَةُ الْمُثَلَّثَةُ مُنْقَسِمَةً عَلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَاتِ -عَلَى الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ- وَإِنَّمَا هِيَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ خَاصَّةً.

وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي تَفَارِيقِهَا: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))

وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ أَمْوَالِكُمْ، وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ أَعْرَاضِكُمْ.

يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَقُولُ: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ!)) .

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِلْكَعْبَةِ مُخَاطِبًا.. يُخَاطِبُ الْكَعْبَةَ ﷺ؛ كَمَا كَانَ يَقُولُ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ -حَجَرًا يَعْرِفُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ- كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ, إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ».  

قَبْلَ أْنْ يُبْعَثَ ﷺ إِذَا مَا مَرَّ عَلَيْهِ سَمِعَ الْحَجَرَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ .

لَا جَرَمَ؛ لَقَدْ سَبَّحَ الْحَصَى بَيْنَ يَدَيْهِ, وَحَنَّ الْجِذْعُ إِلَيْهِ, وَلَبَّى الْعِذْقُ, وَلَبَّتِ النَّخْلَةُ فِي الْأَرْضِ نِدَاءَهُ, وَأَجَابَتْ دُعَاءَهُ فَجَاءَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ﷺ .

النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ مُخَاطِبًا الْكَعْبَةَ: ((((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ -لَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ- اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ».

لَا جَرَمَ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ زَوَالَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا بِمَا فِيهَا وَمَنْ فِيهَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَا فِي بَطْنِ أَرْضِهَا, يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: هَذَا كُلُّهُ أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ إِهْرَاقِ دَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ.

هَكَذَا مِنْ غَيْرِ مَا تَحْدِيدٍ لِنَوْعِيَّةِ هَذَا الدَّمِ.

الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ سَدَّ الذَّرَائِعَ, وَكُلُّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ حَجَزَهُ الْإِسْلَامُ.

فَكُلُّ مَا يُؤَدِّي إِلَى أَمْرٍ يَسُوءُ, وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُ إِلَى أَمْرٍ يُغْضِبُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-, هُوَ مُحَرَّمٌ, فَيُحَرِّمُ الْوَسِيلَةَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ كَمَا يُحَرِّمُ الْحَرَامَ, وَيَسُدُّ الذَّرَائِعَ.

حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّهُ إِذَا أَشَارَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَقَدْ تَوَرَّطَ فِي كَبِيرَةٍ, وَتَوَرَّطَ فِي حَرَامٍ: ((لَا يُشِرْ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِسِلَاحِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ أَنْ يَنْزِعَ فِي يَدِهِ فَيَقَعَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ)) . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

النَّبِيُّ ﷺ نَهَى - وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ- أَنْ يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا, يَعْنِي إِذَا مَا أَرَدْتَ أَنْ تُعْطِيَ السَّيْفَ أَخَاكَ فَلَا تُعْطِهِ السَّيْفَ مِنْ جِهَةِ نَصْلِهِ وَذُبَابِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يُمْسِكُهُ, وَقَدْ شَهَرْتَ السَّيْفَ فِي وَجْهِهِ؟!!

وَإِنَّمَا يُدَارُ السَّيْفُ بِحَيْثُ يَكُونُ مِقْبَضُهُ جِهَةَ مُتَعَاطِيهِ -مُتَنَاوِلِهِ-, ثُمَّ يَتَعَاطَاهُ؛ يَتَنَاوَلُهُ.

وَهَذَا مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ فِي كُلِّ مَا كَانَ أَوْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سِلَاحًا, حَتَّى فِي الْمُدْيَةِ -فِي السِّكِّينِ- وَمَا أَشْبَهَ؛ إِذَا مَا نَاوَلْتَ أَخَاكَ سِكِّينًا فَلَا تُعْطِهِ إِيَّاهَا مِنْ قِبَلِ نَصْلِهَا وَسِلَاحِهَا؛ وَإِنَّمَا مِنْ قِبَلِ مِقْبَضِهَا؛ فَهَذَا أَدَبُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

((إِذَا أَشَارَ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ, فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا تَزَالُ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَنْزِعَ, وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ)) . وَهَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.

*وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ قَتْلَ الْمُسْتَأْمَنِينَ؛ فَالنَّفْسُ الْمَعْصُومَةُ فِي حُكْمِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ مُسْلِمٍ، وَكُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ أَمَانٌ؛ كَمَا قَالَ تعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].

وَقالَ -سُبْحَانَهُ- في حَقِّ غَيْرِ المُسْلِمِ فِي حُكْمِ قَتْلِهِ خَطَأً لَا عَمْدًا: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92].

فَإِذَا كَانَ غَيْرُ المُسْلِمِ الَّذِي لَهُ أَمَانٌ؛ إِذَا قُتِلَ خَطَأً؛ فِيهِ الدِّيَةُ وَالكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ إِذَا قُتِلَ عَمْدًا؟!!

إِنَّ الجَرِيمَةَ تَكُونُ أَعظَمَ، وَإِنَّ الإِثْمَ يَكُونُ أَكْبَرَ.

وَقَد صَحَّ عَن رَسُولِ اللهِ  -كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»-: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».

فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِمُسْتَأْمَنٍ بِأَذًى، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ المُتَوَعَّدِ عَلَيْهَا بِعَدَمِ دُخُولِ القَاتِلِ الجَنَّةَ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذْلَان-.

اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَرَّمَ الدِّمَاءَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحَقُّهَا مَعْلُومٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

بَيَانُ عِظَمِ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَمْوَالَ حَرَامٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهَا - كَمَا فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه))- فَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا؛ أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)).

فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْغِشَّ، وَحَرَّمَ الِاحْتِكَارَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ السَّرِقَةَ وَالْغَصْبَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّشْوَةَ وَالْخِيَانَةَ، وَكُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.

إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَدُلُّكُمْ -عِبَادَ اللهِ- عَلَى سُبُلِ الرَّشَادِ, وَهُوَ ﷺ يَقُولُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».

إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إِذَا حَلَفَ يَمِينًا وَأَقْسَمَ قَسَمًا عَلَى أَمْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحُوزَهُ, فَحَازَهُ وَتَمَلَّكَهُ بِالْيَمِينِ إِذَا مَا طُلِبَتْ مِنْهُ، ((الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)).

فَإِذَا مَا أَتَى بِالْيَمِينِ فَحَازَ شَيْئًا مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَأَدْخَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -إِذَنِ- النَّارَ, وَحَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».

وَلَوْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ سُوَاكٍ؟!!

وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفَرْعُ الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ قِيمَةً؟!!

وَانْظُرْ إِلَى الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ عَلَى لِسَانِ الصَّحَابِيِّ, وَتَأَمَّلْ فِيهِ -عَبْدَ اللهِ-؛ فَإِنَّهُ ضَرَبَ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ لِيُبَاعَ, وَلَمْ يَكُنْ لِيُشْتَرَى؛ لِأَنَّ الْأَرَاكَ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرِ الَّذِي يَنْمُو عِنْدَهُمْ كَمَا شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

فَإِذَا مَا ذَهَبَ أَحَدُهُمْ إِلَى غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَةِ الْأَرَاكِ، فَاحْتَازَ مِنْهَا مَا احْتَازَ، فَجَعَلَهُ سِوَاكًا، فَهَذَا مَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُشْتَرَى وَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَلِذَا ضَرَبَهُ الصَّحَابِيُّ مَثَلًا, وَلَيْسَ كَمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ ذِهْنُكَ وَخَاطِرُكَ الْآنَ، فَإِنَّهُ الْآنَ مُثَمَّنٌ لَهُ قِيمَةٌ وَلَهُ خَطَرٌ.

وَأَمَّا عِنْدَمَا كَانَ مَثَلًا مَضْرُوبًا فَلَمْ يَكُنْ ذَا قِيمَةٍ وَلَا ذَا خَطَرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَاعُ وَلَمْ يَكُنْ يُشْتَرَى، فَضَرَبَهُ مَثَلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ».

فَمَنْ أَخَذَ سِوَاكَ أَخِيهِ فَحَلَفَ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَهُ, ثُمَّ حَازَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ؛ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ, وَحَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ, كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.

وَالْحَدِيثُ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)).

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَجْرَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْبَيَانِ النِّهَائِيِّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فِي مِنًى, فِي خُطْبَتِهِ ﷺ: ((وَإِنَّ اللهَ مُسَائِلُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا))، أَوْ قَالَ: ((ضُلَّالًا)).

اللَّفْظَتَانِ الثِّنْتَانِ فِي ((الصَّحِيحِ)).

قَالَ ﷺ: ((فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا)) أَوْ قَالَ: ((ضُلَّالًا))، أَوْ قَالَ: ((كُفَّارًا ضُلَّالًا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) .

إِذَنْ؛ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا وَقَفَ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْكَبِيرِ الْعَظِيمِ فِي تِلْكَ الْحُرْمَةِ الْمُثَلَّثَةِ خَرَجَ مِنْ فَمِهِ الطَّاهِرِ ﷺ تَنْبِيهٌ أَكِيدٌ عَلَى حُرْمَةِ الدِّمَاءِ, وَحُرْمَةِ الْأَمْوَالِ, وَحُرْمَةِ الْأَعْرَاضِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَا ابْنُ مَاجَه -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا- فِي ((سُنَنَيْهِمَا)), وَغَيْرُهُمَا فِي غَيْرِهِمَا, عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِمَارًا، وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟».

قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «تَعَفَّفْ».

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي ذَرٍّ إِذَا وَقَعَ بِالنَّاسِ جُوعٌ مَاحِقٌ, مُهْلِكٌ, مُبِيدٌ, حَتَّى إِنَّكَ مِنْ شِدَّةِ تَكَالُبِ الْجُوعِ عَلَى مَعِدَتِكَ, وَوَهَنِ ذَلِكَ الْحِرْمَانِ فِي دِمَاكَ, وَأَثَرِ ذَلِكَ الْجُوعِ فِي خَلَايَاكَ, لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ لِتَبْلُغَ مَسْجِدَكَ.

لَعَلَّهُ يَعْنِي مَسْجِدَهُ الَّذِي فِي بَيْتِهِ, وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَسْجِدَ حَيِّهِ, وَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ لَا يَسْتَطِيعُ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ أَنْ يَبْلُغَ الْمَسْجِدَ مِنَ الْمَنْزِلِ أَوِ الْمَسْجِدَ مِنَ الْفِرَاشِ.

((كَيْفَ تَصْنَعُ؟».

قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «تَعَفَّفْ».

فَلَا يَحْمِلَنَّكَ الْجُوعُ الشَّدِيدُ الْمَوْصُوفُ بِحَالَتِهِ عَلَى أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, عَلَى أَنْ تَحْتَكِرَ الْأَقْوَاتَ, وَأَنْ تُصِيبَ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَجَاعَةِ الْمُفْتَعَلَةِ, وَلَا مَجَاعَةَ, وَإِنَّمَا هُوَ سُوءُ التَّوْزِيعِ فِي الْأُمَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْتَكِرَ التُّجَّارُ ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ))  كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغْلُوا الْأَسْعَارَ شَيْئًا فَشَيْئًا, يَنْتَهِزُونَ أَزْمَاتِ النَّاسِ النَّفْسِيَّةَ, وَالِاقْتِصَادِيَّةَ, وَالِاجْتِمَاعِيَّةَ, وَالْخُلُقِيَّةَ، وَهُمْ -أَيِ: التُّجَّارُ- حِينَئِذٍ مُتَوَرِّطُونَ فِي أَزْمَةٍ خُلُقِيَّةٍ, بِمَسْلَكٍ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّكَافُلِ وَسَدِّ الْحَاجَةِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ ثَوْبًا زَائِدًا عَلَى ثَوْبِهِ الَّذِي هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ, فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمْتَلِكَهُ, وَكَذَا نَعْلُهُ, وَكَذَا مَا شِئْتَ مِنْ أَلْوَانِ الْفَضْلِ أَيِ الزِّيَادَةِ.

قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ: حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي الْفَضْلِ.

قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ! أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ شَدِيدٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْعَبْدِ؛ يَعْنِي الْقَبْرَ -أَيْ: أَنَّ الرَّجُلَ لِكَثْرَةِ الْمَوْتَى لَا يَجِدُ مَكَانًا يَتَّخِذُهُ قَبْرًا إِلَّا إِذَا بَاعَ عَبْدَهُ بِمَوْضِعِ قَبْرِهِ, فَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ الْقَبْرُ بِالْبَيْتِ؛ أَيْ بِالْعَبْدِ, كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ- كَيْفَ تَصْنَعُ؟»

قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «اصْبِرْ».

فَهَا هُنَا يَأْتِي هَذَا الْأَمْرُ بِقِيمَتِهِ الْجَلِيلَةِ الْبَهِيَّةِ النَّيِّرَةِ وَبِطَلْعَتِهِ الْمُشْرِقَةِ ((اصْبِرْ)), اصْبِرْ عَلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨]

فَهَذَا شَأْنُهُ, وَالْكَوْنُ كَوْنُهُ, وَالْعَبْدُ عَبْدُهُ, وَالْخَلْقُ خَلْقُهُ, وَالْفِعْلُ فِعْلُهُ, يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ, وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ! أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَعْنِي حَتَّى تَغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ مِنَ الدِّمَاءِ -حَتَّى تُغْرِقَ الدِّمَاءُ حِجَارَةَ الزَّيْتِ، وَحِجَارَةُ الزَّيْتِ مَوْضِعٌ بِالْحَرَّةِ, وَبِالْمَدِينَةِ حَرَّتَانِ, وَهُمَا ذَوَاتَا أَرْضٍ سَوْدَاءَ بِصُخُورٍ مُسْمَطَةٍ سَوْدَاءَ- كَيْفَ تَصْنَعُ؟»

قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: «اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ، وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ».

قَالَ: فَإِنْ لَمْ أُتْرَكْ؟

قَالَ: «فَأْتِ مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ، فَكُنْ فِيهِمْ».

قَالَ: فَآخُذُ سِلَاحِي؟

قَالَ: «إِذَنْ تُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، وَلَكِنْ إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى يَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ».

*مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: عِظَمُ حُرْمَةِ الْأَعْرَاضِ:

((أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، حَتَّى تَلْقَوا رَبَّكُمْ)).

حَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَنْ يَنْتَهِكَ أَحَدٌ عِرْضَ أَخِيهِ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمَ عِنْدَ اللهِ مِنْ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ يَقُولُ ﷺ وَهُوَ طَائِفٌ بِالْكَعْبَةِ: ((أَلَا مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-!، وَلَحُرْمَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حُرْمَتِكِ)) .

فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَعْرَاضَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَلَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا بِمَا أَذِنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.

 

 

المصدر:مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الدرس الثامن عشر : «البِرُّ»
  هَدَفُ الْيُهُودِ الْخَبِيثُ: هَدْمُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
  قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ قَضِيَّةُ فِلَسْطِينَ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: إِصْلَاحُ النَّفْسِ
  مَعَانِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَحُكْمُهُمَا
  إِيمَانُ الْأُمَّةِ وَوَحْدَتُهَا سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  رِسَالَةُ الْمُسْلِمِينَ: دَعْوَةُ الْعَالَمِ إِلَى التَّوْحِيدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ
  هَلْ رَأَى النَّبِيُّ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟
  الْحَثُّ عَلَى الْمُرُوءَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ وَتَغْيِيرُهَا بِدَايَةُ طَرِيقِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ
  نِعَمُ اللهِ عَلَيْنَا لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: تَعْلِيمُ الشَّبَابِ سُبُلَ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
  جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان