الدرس الثامن : «التَّوَاضُعُ»


«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»

«الدرس الثامن» 

«التَّوَاضُعُ»

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

«الْأَمْرُ بِالتَّوَاضُعِ وَحْيٌ إِلَهِيٌّ»

فَفِى «الصَّحِيحِ» عنه ﷺ: «وَأَوْحِيَ إليَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

التَّوَاضُعُ المَحْمُودُ نَوْعَان:

*الأَوَّلُ: تَوَاضُعُ العَبْدِ عِنْدَ أَمْرِ اللهِ امْتِثَالًا، وَعِنْدَ نَهْيِهِ اجْتِنَابًا، فَإِنَّ النَّفْسَ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ تَتَلَكَّأُ فِي أَمْرِهِ، فَيَبْدُو مِنْهَا إِبَاءٌ وَشِرَادٌ هَرَبًا مِنَ العُبُودِيَّةِ، وَتَثْبُتُ عِنْدَ نَهْيِهِ طَلَبًا لِلظَّفَرِ بِمَا  مَنَعَ مِنْهُ، فَإِذَا تَوَاضَعَ العَبْدُ نَفْسُهُ لأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ فَقَدْ تَوَاضَعَ للعُبُودِيَّةِ.

*والنَّوْعُ الثَّانِي: تَوَاضُعُهُ لِعَظَمَةِ الرَّبِّ وَجَلَالِهِ، وَخُضُوعِهِ لِعِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَكُلَّمَا شَمَخَت نَفْسُهُ ذَكَرَ عَظَمَةَ الرَّبِّ وَتَفَرُّدَهُ بِذَلِكَ  وَغَضَبَهُ الشَّدِيدَ على مَن نَازَعَهُ ذَلِكَ، فَتَوَاضَعَت إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَانْكَسَرَ لِعَظَمَةِ اللهِ قَلْبُهُ، وَاطْمَأنَّ لِهَيْبَتِهِ، وَأَخْبَتَ لِسُلْطَانِهِ، فَهَذَا غَايَةُ التَّوَاضُعِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الأَوَّلَ مِن غَيْرِ عَكْسٍ، وَالمُتَوَاضِعُ حَقِيقَةً مَنْ رُزِقَ الأَمْرَيْنِ». «الجَامِعُ لأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ».

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ-: «الْفرقُ بَينَ التَّوَاضُعِ وَالمَهَانَةِ أَنَّ التَّوَاضُعَ يَتَوَلَّدُ مِن بَيْنِ الْعِلْمِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ، وَمِنْ مَعْرفَتِهِ بِنَفْسِهِ وَتَفَاصِيلِهَا وَعُيُوبِ عَمَلِهَا وَآفَاتِهَا، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ كُلِّهِ خُلُقٌ هُوَ التَّوَاضُعُ، وَهُوَ انْكِسَارُ الْقْلَبِ للهِ وَخَفْضِ جَنَاحِ الذُّلِّ وَالرَّحْمَةِ بِعِبَادِهِ، فَلَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا، وَلَا يَرَى لَهُ عِنْد أَحَدٍ حَقًّا، بَلْ يَرَى الْفَضْلَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ وَالحُقُوقَ لَهُم قَبْلَهُ، وَهَذَا خُلُقٌ إِنَّمَا يُعْطِيهِ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ يُحِبُّهُ وَيُكْرُمُهُ وَيُقَرِّبُهُ.

وَأَمَّا المَهَانَةُ: فَهِيَ الدَّنَاءَةُ وَالخِسَّةُ وَبَذْلُ النَّفْسِ وَابْتِذَالُهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهَا وَشَهَوَاتِهَا، كَتَوَاضِعِ السُّفَّلِ فِي نَيْلِ شَهَوَاتِهِم، وَتَوَاضُعِ الْمَفْعُولِ بِهِ للْفَاعِلِ، وَتَوَاضُعِ طَالِبِ كُلِّ حَظٍّ لِمَن يَرْجُو نَيْلَ حَظِّهِ مِنْهُ، فَهَذَا كُلُّهُ ضَعَةٌ لَا تَوَاضُعَ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَاضُعَ وَيُبْغِضُ الضَّعَةَ وَالمَهَانَةَ، وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْهُ: «وَأَوْحِيَ إليَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».

 

«أَحَبُّ المُسْلِمِينَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ أَحَاسِنُهُم أَخلَاقًا»

لَمَّا كانَ النبيُّ ﷺ أكملَ الناسِ خُلُقًا، وأحسنَهُم أخلاقًا، كان أَوْلَى الناسِ بالحُبِّ والقُربِ منه مَن بلغَ في حُسنِ الخُلُقِ مبلغًا مَرضيًّا، وَتَسَنَّمَ مِن حُسنِ الخُلُقِ مكانًا عليًّا.

عن جابر -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «مِن أَحَبِّكُم إِلَيَّ وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيامَةِ: أَحَاسِنَكُم أَخلَاقًا، وَإِنَّ أَبغَضَكُم إِلَيَّ وَأَبعَدَكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ: الثَّرثَارُونَ، وَالمُتَشَدِّقُونَ، وَالمُتَفَيهِقُونَ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰهِ، قَد عَلِمنَا الثَّرثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا المُتَفَيهِقُونَ؟

قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ». رواه الترمذيُّ وقال: «حديثٌ حسنٌ»، وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ في «صحيح سُنَنِ الترمذيِّ ».

قال النوويُّ -رحمهُ اللهُ-: «الثَّرْثَارُ: كثيرُ الكلامِ تَكَلُّفًا، المُتَشَدِّقُ: المُتَطَاوِلُ على النَّاسِ بِكَلَامِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِمِلءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وتَعْظِيمًا لِكَلَامِهِ، المُتَفيهقُ: مِن الفِهْقِ وهو الامْتِلَاءِ وهو الذي يَمْلأُ فَمَهُ بالكلامِ، وَيَتَوَسَّعُ فيه وَيُغْرِبُ به تَكَبُّرًا وارتفاعًا وإظِهْارًا للفَضِيلَةِ على غَيْرِهِ».

«الأَمْرُ بِالتَّوَاضُعِ والنَّهِيُ عَن الكِبْرِ والخُيَلَاءِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ»

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)﴾ [لقمان: 18-19].

ضَعْ في ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا المُتَلَقِّي آيَاتِ كِتَابِ اللهِ، ضَع نَصَيِحَةَ لُقْمَانَ لابْنِهِ، وَهُوَ يَنْصَحُهُ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ...

وَمِن نَصَائِحِهِ: وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَن النَّاسِ تَكَبُّرًا، وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَكَبِّرًا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مِشْيَتِهِ، فَخُورٍ بِمَا أُوتِيَ مِن نِعَمٍ لَا يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ يُبْغِضُهُ، وَتَوَسَّطْ فِي مَشْيِكَ بَيْنَ الإِسْرَاعِ وَالدَّبِيبِ مَشْيًا يُظْهِرُ الوَقَارَ، وَاخْفِضْ مِن صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤذِي، إِنَّ أَقْبَحَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ بِارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا(1).

«تَوَاضُعُ النَّبِيِّ »

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا كُلَّهَا كَيْفَ يَكُونُ الإِخْبَاتُ والخُشُوعُ والتَّوَاضُعُ للهِ جَلَّ وَعَلَا-، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ».

وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَاجِعُ مَن أَخَذَتْهُ الهَيْبَةُ وَحُقَّ لَهُ أَنْ تَأْخَذَهُ- مَن أَخَذَتْهُ الهَيْبَةُ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَارْتَعَدَت فَرَائِسُهُ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُ: «يَا أَخَ العَرَبِ، هَوِّن عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِن قُرَيْش كَانَت تَأْكُلُ القَدِيدَ بِمَكَّةَ ﷺ».

كان النَّبِيُّ ﷺ في حَجَّةِ الوَدَاعِ مِثَالًا لِلتَّوَاضُعِ شَاخِصًا، مِثَالًا للبُعْدِ عَن الكِبْرِ والعُجْبِ، مَاثِلًا وَقَائِمًا صلى الله وسلم وبارك عليه-، وَإِذَا كانَ النبيُّ ﷺ قد قالَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم»، فَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ النبيُّ ﷺ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ؛ لأَنَّ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ خَاتَمُ المُرْسَلِينَ صلى الله وسلم وبارك عليه-.

كانَ النبيُّ ﷺ في حَجَّةِ الوَدَاعِ مِثَالًا للعَبْدِ القَانِتِ المُنِيبِ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ».

فَحَقَّقَ العبوديَّةَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، سُلُوكًا وَتَطْبِيقًا وَعَمَلًا، وَكَانَ للهِ مُتَوَاضِعًا.

نَحَرَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، نَحَرَهَا بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُنِيبَ وَأَنْ يُوَكِّلَ، وَلَكِنْ نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، قَالَ العُلَمَاءُ: كَأَنَّمَا كَانَت إِشَارَةً إِلَى عُمُرِهِ الشَّرِيفِ، إِذْ عَاشَ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ عَامًا ﷺ، وَوَكَّلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في نَحْرِ تَمَامِ المِئَةِ، ثُمَّ أَكَلَ النبيُّ ﷺ مِن هَدْيِهِ كَمَا يَأْكُلُ الحَجِيجُ، مُتَوَاضِعًا للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

في الخَنْدَقِ لَمَّا كانَ به مِن الجُوعِ مَا وَصَفَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، حَتَّى إِنَّهُ مِن شَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ذَهَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَوَصَفَ الخَمْصَ الَّذِي نَزَلَ بِالنِّبِيِّ ﷺ، وَعِنْدَهَا بَعْضٌ مِن دَقِيقٍ، وَعِنْدَهُ عَنَاقٌ، فَذَبَحَ وَأَعَدَّ، وَجَعَلَ اللَّحْمَ في البُرْمَةِ يَهْدِرُ بِاللَّحْمِ مَاؤُهُ على نَارِهِ في بُرْمَتِهِ، وَالمَرْأَةُ قَد سَجَّرَت التَّنُّورَ تَصْنَعُ خُبْزًا، وَقَالَت له: يَا جَابر، إيَّاكَ أَنْ تَفْضَحَنِي بِرَسُولِ اللهِ ﷺ. مَاذَا تَعْنِي رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؟

تُرِيدُ أَنَّ الطَّعَامَ قَلِيلٌ، إنَّ اللَّحْمَ والخُبْزَ لَا يُغْنِيَانِ مِن الجُوعِ شَيْئًا، فَأَسِرّ مِن النبيِّ ﷺ بالدَّعْوَةِ، وإيَّاكَ أَنْ تَجْعَلَ الدَّعْوةَ عَامَّة، فَإِنَّ الطَّعَامَ لَا يَكْفِي.

قَالَ: يَا رسولَ اللهِ، عندنا كذا وكذا، وإنَّا لَنَدْعُوكَ إلى طَعَامِنَا.

قالَ النبيُّ ﷺ آمِرًا جَابِرًا رَضِيَ اللهُ عنه-: اجْعَلُوا الأَمْرَ عَلَى حَالِهِ، اجْعَلُوا البُرْمَةَ عَلَى حَالِهَا وَكَذَا العَجِينُ حَتَّى آتِيَ ﷺ.

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إنَّ أَخَاكُم جَابِرًا قَد صَنَعَ لَكُم طَعَامًا فَحَيَّهلَّا».

فَدَعَا النَّاسَ كُلَّهُم، ثُمَّ جَاءَ النبيُّ ﷺ فَبَصَقَ في البُرْمَةِ والعَجِينِ، وَقَالَ النبيُّ ﷺ: «ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا». المَكَانُ ضَيِّقٌ وَلَا يَتَّسِعُ لَهُم جَمِيعًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-، فَادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا، فَلَيْدْخُل مِنْكُم بِقَدْرِ مَا يَتَّسِعُ المَكَانُ لَهُم. مَن الَّذِي كانَ عَلَى الطَّعَامِ؟

رَسُولُ اللهِ ﷺ، كانَ يَكْسِرُ الخُبْزَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ صلى الله وسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- وَيُقَدِّمُ لَهُم الطَّعَامَ حَتَّى أَشْبَعَهُم ذَلِكَ الطَّعَامُ جَمِيعًا، وَهِيَ بَرَكَةٌ مِن اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

كانَ النبيُّ ﷺ سَيِّدَ المُتَوَاضِعِينَ، النبيُّ ﷺ مِن تَوَاضُعَهِ لِرَبِّهِ؛ لَمَّا كانَ في بِنَاءِ مَسْجِدِهِ، كانَ يَحْمِلُ اللَّبِنَ على عَاتِقِهِ ﷺ، وَمَا سُلْيَمَانُ بِأَكْرَمَ على اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ مِن خَلِيلِهِ مُحَمَّد صلى الله وسلم عَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الأَنْبَيَاءِ والمُرْسَلِينَ-، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَخَّرَ الجِنَّ لسُليمَان يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ، ولو أنَّ النبيَّ ﷺ دَعَا رَبَّهُ أنَّ يَكُونَ المَسْجِدُ مَبْنِيًّا بِقُدْرَةٍ، لَا بِأَسْبَاب؛ لآتَاهُ اللهُ مَا دَعَا وَمَا طَلَبَ، لَو أَنَّ النبيَّ ﷺ دَعَا رَبَّهُ أنْ يُسَخِّرَ الجِنَّ لَهُ مِن أَجْلِ بِنَاءِ مَسْجِدِهِ لكانَ، لَكِنَّهُ أَبَى إِلَّا أَنْ يُبْنَى المَسْجِدُ عَلَى سَوَاعِدِ الثُّلَّةِ الصَّالِحَةِ مِن القِلَّةِ المُؤمِنَةِ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، وَمَا عَلَى ظَهْرِهَا سُوَاهُم رضوانُ اللهِ عَلَيْهِم-، وَقَائِدُهُم وَإِمَامُهُم رَسُولُ اللهِ صلى الله وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى كَتِفِهِ، رَسُولُ اللهِ ﷺ يَحْمِلُ التُّرَابَ في بِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَى كَتِفِهِ وَيَحْمِلُ اللَّبِنَ عَلَى كَتِفِهِ، تَوَاضُعًا للهِ، وَمُشَارَكَةً في تَحْصِيلِ الأَجْرِ للهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

النَّبِيُّ ﷺ كانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ، فَيَسْبِقُهَا وَتَسْبِقُهُ.

نَبِيُّكُم ﷺ كَانَ في بَيْتِهِ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَقْضِي حَاجَةَ نَفْسِهِ ﷺ، كانَ في بَيْتِهِ في حَاجَةِ أَهْلِهِ ﷺ.

«تَوَاضُعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-»

إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْرَهُ سَفَاسِفَ الأُمُورِ، يُحِبُّ مَعَالِي الأَخْلَاقِ، فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى نَفْسِهِ مُفَتِّشًا فِيهَا، أَيْنَ أَنَا؟ وَمَن أَنَا؟ وَإِلَى أَيْنَ أَسِيرُ؟

عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَ نَفْسَكَ مَن أَنْتَ، مَن تَكُونُ، أَأَنْتَ عَبْدٌ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ؟!! أَو عَلَى الأَقَلِّ هَلْ أَنْتَ آخِذٌ مِن التَّعَالِيمِ عَلَى قَدْرِ الوُسْعِ وَالطَّاقَةِ أَمْ هُوَ التَّقْصِيرُ وَالتَّفْرِيطُ وَالاسْتِهَانَةُ؟!!

هذه الأمورُ كُلُّهَا مِمَّا كَانَ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى الوَجْهِ العَمَلِيِّ، فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ- يَخْلُو إِلَى نَفْسِهِ وَيُحَاسِبُهَا عَلَى مَا فَعَلَت وَعَلَى مَا قَالَت وَعَلَى مَا انْتَوَت، وَيُعَاقِبُ نَفْسَهُ يَضْرِبُ عَلَى فَخِذِهِ بِكَفِّهِ، وَكَانَ يَقُولُ: وَيْحَكَ يَا عُمَر، كُنْتَ في الجَاهِلِيَّةِ تُدْعَى عُمَيْرًا فَصِرْتَ عُمَر، وَكُنْتَ تَرْعَى لِلخَطَّابِ غَنَمَهُ فَصِرْتَ أَمِيرًا للمُؤمِنِينَ يَعْنِي يَرْعَى أُمَّةَ الرَّسُولِ ﷺ-!! يُذَكِّرُ نَفْسَهُ، وَكَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يَعْرِفُ قَدْرَ نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَطْلَبِ رَبِّهِ.

عِنْدَمَا حَمَلُوهُ عَلَى بِرْذَوْنَ، فَهَمْلَجَ به وَلَم يَسْتَقِرّ، فَكُلَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَمْشِيَ مَشْيًا مُسْتَقِيمًا، ازْدَادَ فِي عُجْبِهِ وَتَبَخْتُرِهِ، فَنَزَلَ فَقَالَ: إِنَّمَا حَمَلْتُمُونِي عَلَى شَيْطَانٍ، فَأَتَوْهُ بِدَابَّةٍ سَلِسَةٍ تَكُونُ طَوْعَ قِيادِهِ رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-.

«صورٌ مِن مُحَاسَبَةِ السَّلَفِ لأَنْفُسِهِم وَتَوَاضُعِهِم»

قَالَ مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ اللهِ: «لَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِن نَفْسِي لَقَليْتُ النَّاسَ».

فَفِي النَّاسِ شَرٌّ كَبِيرٌ -إِلَّا مَن رَحِم الخَبِيرُ البَصِيرُ-، في النَّاسِ شَرٌّ كَبِيرٌ، وَمَهْمَا قَلَّبْتَ النَّاسَ؛ خَرَجَ لَكَ مَن وَرَاءِ تَقْلِيبِهم أَمُورٌ، فَلَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِن نَفْسِي، وَأَنَّهَا أَسْوَءُ، وَقَد انْطَوَت عَلَى الشَّرِّ الكَبِيرِ، لَقَلَيْتُ النَّاسَ؛ لِأَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا لَم يَعْلَم حَالَ نَفْسِه، وَخَبَرَ حَالَ غَيْرِهِ، فَوَجَدَ الشَّرَّ بَازِغًا، وَوَجَدَ آفَاتِ النُّفُوسِ حَالَّةً، فَإِنَّهُ يَمْقُتُ غَيْرَهُ، وَلَو عَلِمَ نَفْسَهُ، لَكَانَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا.

 قَالَ مُطَرِّفٌ في دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: «اللهم لَا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي».

فَيَرَى نَفْسَهُ بِالمَوْقِفِ فِي عَرَفَات أَسْوَءَ النَّاسِ، وَأَرْدَئَ النَّاسِ، وَشَرَّ النَّاسِ!! فَيَقُولُ: اللهم لا تَرُدّ النَّاسَ لِأَجْلِي، مِن بَابِ هَضْمِ النَّفْسِ، والإِزْرَاءِ عَلَيْهَا، وَالحَطِّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ نَفْسِهِ هَلَكَ.

 فالنَّفْسُ كَمَاءِ البَحْرِ، لَا يَشْبَعُ وَارِدُهُ، مَهْمَا شَرِبَ مِنْهُ، فَمَا يَزَالُ يَعُبُّ مِن مَاءِ البَحْرِ حَتَّى تَنْقَدَّ مَعِدَتُهُ، وَلَا رِيَّ وَلَا ارْتِوَاءَ، فَاللهم لا تُذِقْنَا طَعْمَ أَنْفُسِنِا يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

قَالَ بَكْرُ بن عَبْدِ اللهِ المُزَنِيُّ: «لمَّا نَظَرْتُ إِلَى أَهْلِ عَرَفاَت، ظَنَنْتُ أَنَّهُم قَد غُفِرَ لَهُم، لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ فِيهِم».

وقَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: «إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ، كُنْتُ عَنْهُم بِمَعْزِلٍ».

وَلَمَّا احْتَضَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الأَشْهَب وَحَمَّادُ بنُ سَلَمَة، فَقَالَ له حَمَّاد: «يَا أَبَا عَبْد الله، أَلَيْسَ قَدْ أَمِنْتَ مِمَّا كُنْتَ تَخَافُهُ، وَتَقْدَمُ عَلَى مَن تَرْجُوهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟

فَقَالَ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ يَنْجَوَ مِنْ النَّارِ، قَالَ: إِي والله، إِنِّي لأَرْجُو لَكَ ذَلِكَ». أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ أَنْجُوَ مِن النَّارِ!!

عن مُسْلِمٍ بن سَعِيدٍ الوَاسِطيِّ، فِيمَا ذَكَرَ ابنُ كَثِير، في «البدايةِ» قال: «أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بنُ جَعْفَر بن زَيْد، أنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: خَرَجْنَا في غَزْوَةٍ إلى (كابول)، وفي الجَيْشِ صِلَةُ بنُ أَشْيَم، فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ العَتَمَةِ، فَصَلَّوْا، ثُمَّ اضطجَعَ.

 فَقُلْتُ: لأرْمُقَنَّ عَمَلَهُ، فَالْتَمَسَ غَفْلَةَ النَّاسِ، حَتَّى إِذَا قُلْتُ: هَدَأَتِ العيُونُ، وَثَبَ، فَدَخَلَ غَيْضَةً قَرِيبًا مِنَّا، فَدَخَلْتُ عَلَى إِثْرِهِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، وَجَاءَ أَسَدٌ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، فَصَعِدْتُ في شَجَرَةٍ، فَتُرَاهُ الْتَفَتَ أو عَدَّهُ جَرْوًا، فَلَمَّا سَجَدَ، قُلْتُ: الآن يَفْتَرِسُهُ الأَسَدُ، فَجَلَسَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا السَّبُع، اطْلُب الرِّزْقَ فِي مَكَانٍ آخر، فَوَلَّى وَإِنَّ لَهُ لَزَئِيرًا!! أَقُولُ: تَصَدَّعُ الجِبَالُ مِنْهُ.

قَالَ: فَمَا زَالَ كَذَلِكَ يُصَلِّي حَتَّى كانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، جَلَسَ، فَحَمِدَ اللهَ تَعَالَى بِمَحَامِدَ لَم أَسْمَع بِمِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِن النَّارِ، وَمِثْلِي يَصْغُرُ أَنْ يَجْتَرِئَ أَنْ يَسْأَلَكَ الجَنَّةَ!

 قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ، وَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ بَاتَ عَلَى الحَشَايَا، وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الفَتْرَةِ شَيْءٌ، اللهُ به عَالِمٌ».

وَمَا بَاتَ قَائِمًا، وَلَا مِن السَّبُعِ مُشْفِقًا، وَلَا لَهُ آمِرًا وَنَاهِيًا، وَأَمَّا صِلَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَصْبَحَ كَأَنَّمَا مَا بَاتَ عَلَى الحَشَايَا، وَهُوَ يُعَامِلُ رَبَّهُ، وَيَفِرُّ بِقَلْبِهِ مِن مَوَاطِنِ الرِّيَاءِ والسُّمْعَةِ، فَيَنْتَظِرُ حَتَّى تَهْدَأَ العيُونُ وَتَلْتَذَّ بِالغُمْضِ أَجْفَانُهَا، ثُمَّ يَقُومُ يَتَوَضَّأُ خَالِيًا بِرَبِّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِن حَالٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَمَّا أَصْبَحَ: «اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِن النَّارِ، وَمِثْلِي يَصْغُرُ أَنْ يَجْتَرِئَ أَنْ يَسْأَلَكَ الجَنَّةَ!»

وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ اللهَ، إِنْ أَعَاذَهُ مِنَ النَّارِ وَأَجَارَه مِنْهَا؛ أَدْخَلَهُ الجَنَّةَ وَنِعْمَ القَرَارِ، وِلَكِنَّهُ يَعْرِفُ نَفْسَهُ وَقَدْرَ رَبِّهِ، فَيَتَأَدَّبُ فِي الخِطَابِ، فَهَذَا أَدَبٌ فِي الخِطَابِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

قَالَ يونسُ بنُ عُبَيْد: «إِنِّي لأَجِدُ مِئَةَ خَصْلَةٍ مِن خِصَالِ الخَيْرِ -أَي أَعْرِفُهَا-، مَا أَعْلَمُ عَنْهَا في نَفْسِي مِنْهَا وَاحِدَةً».

وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ وَاسِع: «لَو كانَ للذُّنُوبِ رِيحٌ، مَا قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَجْلِسَ إِلِيَّ».

 إي والله، لو كانَ للذُّنُوبِ رِيح، مَا قَدَرَ أَحَدٌ، أَنْ يَجْلِسَ إِليَّ، وَلَكِنَّهُ السَّتْر، اللهم أَدِم عَلَيْنَا سَتْرَكَ وَعَافِيَتَكَ.

قَالَ أَبُو حَفْص: «مَن لم يَتَّهِم نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الأَوْقَاتِ، وَلَم يُخَالِفْهَا فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، وَلَم يَجُرَّهَا إِلَى مَكْرُوهِهَا في سَائِرِ أَوْقَاتِهَا، كَانَ مَغْرُورًا، وَمَن نَظَرَ إِلَيْهَا بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَهْلَكَهَا».

فَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى المَهَالِكِ، مُعِينَةٌ لِلأَعْدَاءِ، طَامِحَةٌ إِلى كُلِّ قَبِيحٍ، مُتَّبِعَةٌ لِكُلِّ سُوءٍ، فَهِيَ تَجْرِي بِطَبْعِهَا في مَيْدَانِ المُخَالَفَةِ.

وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِهَا، أَشَدُّهُم إِزْرَاءً عَلَيْهَا وَمَقْتًا لَهَا، وَمَقْتُ النَّفْسِ في ذَاتِ الرَّبِّ -جلَّ وَعَلَا- مِن صِفَاتِ الصِّدِيقينَ، وَبِمَقْتِ النَّفْسِ في ذَاتِ الرَّبِّ، يَدْنُو العَبْدُ مِن اللهِ تَعَالَى في لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا يَدْنُو بِالعَمَلِ.

 

«نَعِيمُ الْجَنَّةِ لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ اسْتِكْبَارًا عَن الإيمَانِ وَلَا اسْتِطَالَةً عَلَى النَّاسِ»

قَالَ تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].

تِلْكَ الجِنَّةُ البَعِيدَةُ المَكَانِ وَالمَكَانَةِ، المُرْتَفِعَةُ المَنْزِلَةِ، نَجْعَلُ نَعِيمَهَا مُسْتَقْبَلًا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ اسْتِكْبَارًا عَن الإيمَانِ وَلَا اسْتِطَالَةً عَلَى النَّاسِ، بِتَحْقِيقِ حُظُوظِ أَنْفُسِهِم مِن الدُّنْيَا، وَلَا الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، وَيَنْشُرُونَ الفَاحِشَةَ، وَيَطْرُحُونَ الشُّبُهَات، وَيُفْسِدُونَ الأَخْلَاقَ وَالقِيَمَ وَالآدَابَ، وَالعَاقِبَةُ الحَسَنَةُ المَحْمُودَةُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ لِمَن اتَّقَى عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

« احْذَرُوا مِنَ التَّوَاضُعِ الكَاذِبُ»

مَن تَوَاضَعَ للهِ جَلَّ وَعَلَا- رَفَعَهُ اللهُ، والعَجِيبُ أنَّ كَثِيرًا مِن النَّاسِ يَدَّعِي أَنَّهُ يَتَوَاضَعُ، وَلَا يَكُونُ مُتَوَاضِعًا فِي حَقِيقَةِ الأَمْرِ لِأَمْرَيْنِ:

*الأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَوَاضَعُ بِسَبَبِهِ؛ لأَنَّ الَّذِي يَتَوَاضَعُ هو مَن يَكُونُ قَد أُوتِيَ قَدْرًا وَقِيمَةً، وَآتَاهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ مَا يَسْمُو بِهِ، فَهَذَا إِذَا مَا خَفَضَ جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحْمَةِ بِالمُؤمِنِينَ كَانَ مُتَوَاضِعًا.

وَلَكِنَّ الذِي لَم يُؤت مِن ذَلِكَ شَيْئًا، لِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَاضَعُ؟!! هُو لَم يُؤت شَيْئًا أَصْلًا يَرْتَفِعُ به عَلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَتَوَاضَعَ غَيْرَ نَاظِرٍ إِلَيْهِ.

*شَيْءٌ آخرُ: أَنَّ هَذَا التَّوَاضُعَ إِنَّمَا يَكُونُ جَلْبًا للمَدْحِ الكَاذِبِ، فَهُوَ تَوَاضُعٌ كَاذِبٌ جَلْبًا للمَدِيحِ الأَكْذَبِ، فَكُلَّمَا زَاَدَ تَوَاضُعًا فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ أَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ.

إِنَّ مَسَارِبَ النَّفْسِ خَفِيَّةٌ جِدًّا، وَلَا يَسْتَطِيعُ المَرْءُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَكَامِنِ بَوَاعِثِ أَفْعَالِهَا وَنِيَّاتِهَا، فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَخْشَى هَذَا، وَأَنْ يَعُودَ عَبْدًا كَمَا خَلَقَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي رَدِّ الحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا لأَنَّ المَوْتَ يَأتِي بِغْتَةً.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ .        

 المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  اِنْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ، وَتَحَدِّيَاتُ الْمُسْتَقْبَلِ
  حُقُوقُ الْحَاكِمِ الْمُسْلِمِ فِي الْإِسْلَامِ
  المَوْعِظَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : ((ثَمَرَاتُ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-))
  الْحِكْمَةُ مِنَ الِابْتِلَاءِ
  كَيْفَ نُحَقِّقُ الْإِخْلَاصِ وَالتَّقْوَى؟
  المَوْعِظَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ (2) ))
  الْإِحْسَانُ هُوَ أَسَاسُ الْعَلَاقَاتِ فِي الْإِسْلَامِ
  الحُبُّ الفِطْرِيُّ لِلْأَوْطَانِ
  مِنْ سُبُلِ التَّنْمِيَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْأَوْطَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِعَقِيدَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي حُقُوقِ الْحُكَّامِ
  تَيَّقَظْ وَانْتَبِهْ!!
  دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ
  تَعْرِيفُ الْمُسْكِرِ لُغَةً وَشَرْعً
  فَوَائِدُ وَدُرَرُ الدَّوْرَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ -دَوْرَةِ الْإِمَامِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ- لِلْعَلَّامَةِ رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ- شَرْحُ عُمْدَةِ الْأَحْكَامِ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان