حَادِثَةُ الْإِفْكِ أَخْطَرُ شَائِعَةٍ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ


((حَادِثَةُ الْإِفْكِ أَخْطَرُ شَائِعَةٍ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ))

فِي تَارِيخِ المُسلِمِينَ, بَلْ وَفِي سِيرَةِ النَّبيِّ الكَرِيمِ ﷺ حَادِثَةٌ عَظِيمَةٌ لهَا ثِقَلُهَا الكَبِير, وَآثَارُهَا الحَمِيدَةُ فِي نَتَائجِهَا، وَهِيَ حَادِثَةُ الإِفْك.

وَلَسْنَا مُبَالِغِينَ حِينَ نَقُولُ إِنَّ مَا وَاجَهَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، هُوَ حَدَثُ الْأَحْدَاثِ فِي تَارِيخِهِ ﷺ, فَلَمْ يُمْكَرْ بِالْمُسْلِمِينَ مَكْرٌ أَشَدُّ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَهِيَ مُجَرَّدُ فِرْيَةٍ وَإِشَاعَةٍ مُخْتَلَقَةٍ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى كَذِبَهَا، لَكِنَّهَا لَوْلَا عِنَايَةُ اللهِ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى أَنْ تَعْصِفَ بِالْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، وَلَا تُبْقِي عَلَى نَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ مُطْمَئِنَّةٍ.

وَلَقَدْ مَكَثَ مُجتَمَعُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَكْمَلِهِ شَهْرًا كَامِلًا وَهُوَ يَصْطَلِي نَارَ تِلْكَ الْفِرْيَةِ، وَيَتَعَذَّبُ ضَمِيرُهُ, وَتَعْصِرُهُ الْإِشَاعَةُ الْهَوْجَاءُ وَالْفِرْيَةُ الصَّلْعَاءُ، حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ؛ لِيَضَعَ حَدًّا لِتِلْكَ الْمَأْسَاةِ الْمُفْظِعَةِ, وَلِيَكُونَ دَرْسًا تَرْبَوِيًّا رَائِعًا لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَلِكُلِّ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ]النور: 11[.

وَلِلْإِشَاعَةِ قُدْرَةٌ عَلَى تَفْتِيتِ الصَّفِّ الْوَاحِدِ وَتَمْزِيقِهِ، وَتَفْتِيتِ الرَّأْيِ الْوَاحِدِ وَبَعْثَرَتِهِ وَتَوزِيعِهِ؛ فَالنَّاسُ أَمَامَهَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَمُتَرَدِّدٍ وَمُتَبَلْبِلٍ، فَغَدَا بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْوَاحِدُ وَالْفِئَةُ الْوَاحِدَةُ فِئَاتٍ مُتَعَدِّدَةً.

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَوَائِلِ ((سُورَةِ النُّورِ)) آيَاتٍ فِي تَعْظِيمِ الرَّمْيِ بِالزِّنَا عُمُومًا, وَصَارَ ذَلِكَ كَأنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى أَشْرَفِ النِّسَاءِ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؟

وَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ الْمَشْهُورَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ.

وَحَاصِلُهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ وَمَعَهُ زَوْجُهُ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، فَانْقَطَعَ عِقْدُهَا، فَانَحْبَسَتْ فِي طَلَبِهِ وَرَحَلُوا، وَقَدْ رَحَّلُوا جَمَلَهَا وَهَوْدَجَهَا، وَلَمْ يَفْقِدُوهَا؛ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ الْجَيْشُ رَاحِلًا، وَجَاءَتْ مَكَانَهُمْ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُمْ إِذَا فَقَدُوهَا رَجَعُوا إِلَيْهَا, فَاسْتَمَرُّوا فِي مَسِيرِهِمْ.

وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعْطَّلِ السُّلَمِيُّ, وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، قَدْ عَرَّسَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ وَنَامَ، فَرَأَى عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَعَرَفَهَا، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَرَكِبَتْهَا مِنْ دُونِ أَنْ يُكَلِّمَهَا أَوْ تُكَلِّمَهُ، ثُمَّ جَاءَ يَقُودُ بِهَا بَعْدَ مَا نَزَلَ الْجَيْشُ فِي الظَّهِيرَةِ.

فَلَمَّا رَأَى بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ -الَّذِينَ فِي صُحْبَةِ الْأَمِينِ ﷺ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ- مَجِيءَ صَفوَانَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَشَاعَ مَا أَشَاعَ، وَوَشِيَ الْحَدِيثَ، وَتَلَقَّفَتْهُ الْأَلْسُنُ، حَتَّى اغْتَرَّ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارُوا يَتَنَاقَلُونَ هَذَا الْكَلَامَ.

وَانْحَبَسَ الْوَحْيُ مُدَّةً طَوِيلَةً عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائشَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، فَحَزِنَتْ حُزْنًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ((سُورَةِ النُّورِ))، وَوَعَظَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمَ ذَلِكَ، وَوَصَّاهُمْ بِالْوَصَايَا النَّافِعَةِ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} أَيْ: بِالْكَذِبِ الشَّنِيعِ، وَهُوَ رَمْيُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.

{عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أَيْ: جَمَاعَةٌ مُنْتَسِبُونَ إِلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ فِي إِيمَانِهِ، لَكِنَّهُ اغْتَرَّ بِتَروِيجِ الْمُنَافِقِينَ, وَمِنْهُمُ الْمُنَافِقُ.

{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم}: لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ تَبْرِئَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَزَاهَتَهَا، وَالتَّنْوِيهَ بِذِكْرِهَا، حَتَّى تَنَاوَلَ عُمُومَ الْمَدحِ سَائِرَ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلِمَا تَضَمَّنَ مِنْ بَيَانِ الْآيَاتِ الْمُضْطَرِ إِلَيْهَا الْعِبَادُ، الَّتِي مَا زَالَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ هَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ، لَوْلَا مَقَالَةُ أَهْلِ الْإِفْكِ لَمْ يَحصُلْ ذَلِكَ.

وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا جَعَلَ لَهُ سَبَبًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَدْحَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ كَقَدْحٍ فِي أَنْفُسِهِمْ.

فَفِيهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.

وَالْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكَمَا أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَقْدَحَ أَحَدٌ فِي عِرْضِهِ، فَلْيَكْرَهْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْدَحَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَمَا لَم يَصِل الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإنَّهُ مِنْ نَقْصِ إِيمَانِهِ وَعَدَمِ نُصْحِهِ.

{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}: وَهَذَا وَعِيدٌ لِلَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ، وَأَنَّهُمْ سَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ حَدَّ النَّبِيُّ ﷺ مِنْهُمْ جَمَاعَةً -أَيْ: أَقَامَ عَلَيْهِمْ حَدَّ الْقَذْفِ-.

{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أَيْ: مُعْظَمَ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْخَبِيثُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ -لَعَنَهُ اللهُ-، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: أَلَا وَهُوَ الْخُلودُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ عِبَادَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} أَيْ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ بَعضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، وَهُوَ السَّلَامَةُ مِمَّا رُمُوْا بِهِ، وَأَنَّ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْمَعْلُومِ يَدْفَعُ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الْإِفْكِ الْبَاطِلِ.

{وَقَالُوا} بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ: {سُبْحَانَكَ} أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَعَنْ أَنْ تَبتَلِيَ أَصْفِيَاءَكَ وَأَوْلِيَاءَكَ بِالْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ.

{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أَيْ: هَذَا كَذِبٌ وَبَهْتٌ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَبْيَنِهَا، فَهَذَا مِنَ الظَّنِّ الْوَاجِبِ حِينَ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَنْ يُبَرِّءَهُ بِلِسَانِهِ، وَيُكَذِّبَ الْقَائِلَ فِيمَا افْتَرَاهُ.

{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أَيْ: هَلَّا جَاءَ الرَّامُونَ عَلَى مَا رَمَوْا بِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ -أَيْ: عُدُولٍ مَرْضِيِّينَ-.

{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَإِنْ كَانُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَدْ تَيَقَّنُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي حُكْمِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ التَّكَلُّمَ بِذَلِكَ مِنْ دُونِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: { فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، وَلَمْ يَقُلْ: ((فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)).

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ عِرْضِ الْمُسْلِمِ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى رَمْيِهِ مِنْ دُونِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ بِالصِّدْقِ.

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} بِحَيْثُ شَمِلَكُمْ إِحْسَانُهُ فِيهِمَا، فِي أَمْرِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ} أَيْ: خُضْتُمْ {فِيهِ}: مِنْ شَأْنِ الْإِفْكِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ لِاسْتِحْقَاقِكُمْ ذِلِكَ بِمَا قُلْتُمْ، وَلَكِنْ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتِه أَنْ شَرَعَ لَكُمُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ مَطْهَرَةً لِلذُّنُوبِ.

{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أَيْ: تَلْقَّفُونَهُ وَيُلْقِيهِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَتَسْتَوْشُونَ حَدِيثَهُ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ.

{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}: وَالْأَمْرَانِ مَحْظُورَانِ؛ التَّكَلُّمُ بِالْبَاطِلِ, وَالْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ.

{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}: فَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَ بَعضَكُمْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ, ثُمَّ تَابُوا مِنْهُ -يَعْنِي: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا- وَقَدْ تَطَهَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}: وَهَذَا فِيهِ الزَّجْرُ الْبَلِيغُ عَنْ تَعَاطِي بَعْضِ الذِّنُوبِ عَلَى وَجْهِ التَّهَاوُنِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا.

فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُفِيدُهُ حُسْبَانُهُ شَيْئًا، وَلَا يُخَفِّفُ مِنْ عُقُوبَتِهِ الذَّنْبَ، بَلْ يُضَاعِفُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ الْعُقُوبَةَ؛ لِاسْتِخْفَافِهِ بِمَا أَمَر اللهُ رَبُّ الْعَالمِينَ بِأَلَّا يَقْرَبَ, فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِخْفَافِ أَنْ يَقَعَ فِي الذَّنْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.

وَالْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ؛ لِأَنَّهُ بِنَظَرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, يَرَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُبْصِرُهُ، عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ أَنْ يَسْخَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ إِذْ يَرَاهُ عَلَى مَعْصِيَتِه, فَيُسْقِطُهُ مِنْ نَظَرِهِ، فَلَا يَعْتَبِرُهُ أَبَدَ الْآبِدِينَ.

{ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أَيْ: وَهَلَّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أَيُّهَا المُؤمِنونَ، أَيْ: سَمِعْتُمْ كَلَامَ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبَاطِلِ، {قُلْتُمْ} مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ، مُعْظِمِينَ لِأَمْرِهِ.

{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَنَا وَمَا يَلِيقُ بِنَا الْكَلَامُ بِهَذَا الْإِفْكِ الْمُبِينِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَمْنَعُهُ إِيمَانُهُ مِنَ ارْتِكَابِ الْقَبَائحِ.

{هَذَا بُهْتَانٌ} أَيْ: كَذِبٌ {عَظِيمٌ}.

{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} أَيْ: لِنَظِيرِهِ، مِنْ رَمْيِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفُجُورِ، فَاللهُ يَعِظُكُمْ وَيَنْصَحُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَنِعْمَ الْمَوَاعِظُ وَالنَّصَائِحُ مِنْ رَبِّنَا, فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُقَابَلَتُهَا بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالشُّكْرِ لَهُ، عَلَى مَا بَيَّنَ لَنَا.

 {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِقَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ.

{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَالْوَعْظِ وَالزَّجْرِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، يُوضِّحُهَا لَكُمْ تَوْضِيحًا جَلِيًّا.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ: كَامِلُ الْعِلْمِ عَامُّ الْحِكْمَةِ، فَمِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، أَنْ عَلَّمَكُمْ مِنْ عِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا لمَصَالِحِكُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ.

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أَيْ: الْأُمُورُ الشَّنِيعَةُ الْمُسْتَقْبَحَةُ, فَيُحِبُّونَ أَنْ تَشْتَهِرَ الْفَاحِشَةُ {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُوجِعٌ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ, وَذلِكَ لِغِشِّهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ, وَمَحَبَّةِ الشَّرِّ لَهُمْ, وَجَرَاءَتِه عَلَى أَعْرَاضِهِمْ.

فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ, وَاسْتِحْلَاءِ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ, فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ إِظْهَارِهِ وَنَقْلِهِ وَالْجِدِّ فِي إِفْشَائِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؟!!

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْفَاحِشَةُ صَادِرةً أَوْ غَيْرَ صَادِرَةٍ, وَكلُّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ, وَصِيَانَةِ أَعْرَاضِهِمْ، كَمَا صَانَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ, وَأَمَرَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي الْمُصَافَاةَ, وَأَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ, وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: فَلِذَلِكَ عَلَّمَكُمْ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَجْهَلُونَهُ.

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: قَد أحَاطَ بِكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، {وَرَحْمَتُهُ} عَلَيْكُمْ، {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} لَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْمَواعِظَ، وَالْحِكَمَ الْجَلِيلَةَ, وَلَمَا أَمْهَلَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ, وَلَكِنَّ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ, وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ اللَّازِمُ أَثَّرَ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ مَا لَنْ تُحْصُوهُ أَوْ تَعُدُّوهُ.

وَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَا الذَّنْبِ بِخُصُوصِهِ, نَهَى عَنِ الذِّنُوبِ عُمُومًا فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أَيْ: طُرُقَهُ وَوَسَاوِسَهُ.

وَخُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ يَدْخُلُ فِيهَا سَائِرُ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْبَدَنِ.

وَمِنْ حِكْمَتِه تَعَالَى أَنْ بَيَّنَ الْحُكْمَ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَالْحِكْمَةُ وَهِيَ بَيَانُ مَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ الْمُقْتَضِي وَالدَّاعِي لِتَرْكِهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ} أيْ: الشَّيْطَانُ {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أَيْ: مَا تَسْتَفْحِشُهُ الْعُقُولُ وَالشَّرَائِعُ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ, مَعَ مَيْلِ بَعْضِ النُّفُوسِ إِلَيْهِ, {وَالْمُنْكَرِ} وَهُوَ: مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَلَا تَعْرِفُهُ.

فَالْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ خُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ لَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَنَهَى اللهُ عَنْهَا الْعِبَادَ؛ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ وَيَذْكُرُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُمْ عَنِ التَّدَنُّسِ بِالرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ, فَمِنْ إِحْسَانِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ نَهَاهُمْ عَنْهَا كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَنَحْوِهَا.

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أَيْ: مَا تَطَهَّرَ مِنَ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَسْعَى هُوَ وَجُنْدُهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَتَحْسِينِهَا, وَالنَّفْسُ مَيَّالَةٌ إِلَى السُّوءِ، أَمَّارَةٌ بِهِ.

وَالنَّقْصُ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَالْإِيمَانُ غَيْرُ قَوِيٍّ، فَلَوْ خُلِّيَ وَهَذِهِ الدَّوَاعِيَ مَا زَكَا أَحَدٌ بِالتَّطَهُّرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالنَّمَاءِ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ، فَإِنَّ الزَّكَاءَ يَتَضَمَّنُ الطَّهَارَةَ وَالنَّمَاءَ، وَلَكِنَّ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ أَوْجَبَا أَنْ يَتَزَكَّى مِنْكُمْ مَنْ تَزَكَّى.

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} مَنْ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنْ يَتَزَكَّى بِالتَّزْكِيَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

{وَلا يَأْتَلِ} أَيْ: لَا يَحْلِفْ {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}.

كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ (مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ)، وَهُوَ قَرِيبٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ مِسْطَحٌ فَقِيرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ الَّذِي قَالَ.

فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، يَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْحَلِفِ الْمُتَضَمِّنِ لِقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَيَعِدُهُ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ إِنْ غَفَرَ لَهُ، فَقَالَ: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

إِذَا عَامَلْتُمْ عَبِيدَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، عَامَلَكُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ-: ((بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي))، فَرَجَّعَ النَّفَقَةَ إِلَى مِسْطَحٍ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ، وَأَنَّهُ لَا تُتْرَكُ النَّفَقَةُ وَالْإِحْسَانُ بِمَعْصِيَةِ الْإِنْسَانِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَلَوْ جَرَى مِنْهُ مَا جَرَى مِنْ أَهْلِ الْجَرَائِمِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: الْعَفَائِفَ عَنِ الْفُجُورِ، {الْغَافِلاتِ}: اللَّاتِي لَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِنَّ، {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: وَاللَّعْنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ كَبِيرٍ، وَأَكَّدَ اللَّعْنَةَ بِأَنَّهَا مُتَوَاصِلَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارَيْنِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى اللَّعْنَةِ، أَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ شَدِيدَ نِقْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: فَكُلُّ جَارِحَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلَتْهُ، يُنْطِقُهَا الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارَ، وَلَقَدْ عَدَلَ فِي الْعِبَادِ مَنْ جَعَلَ شُهُودَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} أَيْ: جَزَاءَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْجَزَاءَ الْحَقَّ، الَّذِي بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، يَجِدُونَ جَزَاءَهَا مُوَفَّرًا، لَمْ يَفْقِدُوا مِنْهَا شَيْئًا، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

وَيَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، فَيَعْلَمُونَ انْحِصَارَ الْحَقِّ الْمُبِينِ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَوْصَافُهُ الْعَظِيمَةُ حَقٌّ، وَأَفْعَالُهُ هِيَ الْحَقُّ، وَعِبَادَتُهُ هِيَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُهُ حَقٌّ، وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ حَقٌّ، وَحُكْمُهُ الدِّينِيُّ وَالْجَزَائِيُّ حُقٌّ، وَرُسُلُهُ حَقٌّ، فَلَا ثَمَّ حَقٌّ إِلَّا فِي اللَّهِ وَمَا مِنَ اللَّهِ.

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} أَيْ: كُلُّ خَبِيثٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ مُنَاسِبٌ لِلْخَبِيثِ، وَمُوَافِقٌ لَهُ، وَمُقْتَرِنٌ بِهِ، وَمُشَاكِلٌ لَهُ، وَكُلُّ طَيِّبٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ مُنَاسِبٌ لِلطَّيِّبِ، وَمُوَافِقٌ لَهُ، وَمُقْتَرِنٌ بِهِ، وَمُشَاكِلٌ لَهُ.

فَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَامَّةٌ، وَحَصْرٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ، مِنْ أَعْظَمِ مُفْرَدَاتِهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ -خُصُوصًا أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ، خُصُوصًا سَيِّدَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الطَّيِّبِينَ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ- لَا يُنَاسِبُهُمْ -يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ- إِلَّا كُلُّ طَيِّبٍ مِنَ النِّسَاءِ.

فَالْقَدْحُ فِي عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِهَذَا الْأَمْرِ قَدْحٌ فِي النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْإِفْكِ مِنْ قَصْدِ الْمُنَافِقِينَ، فَمُجَرَّدُ كَوْنِهَا زَوْجَةً لِلرَّسُولِ ﷺ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا طَيِّبَةً طَاهِرَةً مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْقَبِيحِ، فَكَيْفَ وَهِيَ هِيَ؟!! صَدِّيقَةُ النِّسَاءِ، وَأَفْضَلُهُنَّ، وَأَعْلَمُهُنَّ، وَأَطْيَبُهُنَّ، حَبِيبَةُ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّتِي لَمْ يَنْزِلِ الْوَحْيُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي لِحَافِ زَوْجَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ سِوَاهَا -رَضِيَ اللهُ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِنَّ- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

ثُمَّ صَرَّحَ بِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يُبْقِي لِمُبْطِلٍ مَقَالًا، وَلَا لِشَكٍّ وَشُبْهَةٍ مَجَالًا، فَقَالَ: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}: وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَصْلًا، وَلِلْمُؤْمِنَاتِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ تَبَعًا لَهَا، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} تَسْتَغْرِقُ الذُّنُوبَ، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فِي الْجَنَّةِ، صَادِرٌ عَنِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ.

 

المصدر: خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مُوجَزُ تَارِيخِ الْقُدْسِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  تَجْرِيمُ الْأَعْمَالِ الْإِرْهَابِيَّةِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ
  رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ مِنْ هَدْيِ الْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهُمُ السَّلَامُ-
  الْجَزَائِرُ مِنْ بَعْدِ الِاحْتِلَالِ حَتَّى الْعَشْرِيَّةِ السَّوْدَاءِ
  إِمْسَاكُ الْعَبْدِ عَنِ الشَّرِّ وَأَذَى الْخَلْقِ صَدَقَةٌ
  خُطُورَةُ التَّسَتُّرِ عَلَى الْإِرْهَابِيِّينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ
  رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ تُعَلِّمُ الطَّاعَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ
  رِسَالَةُ الْمُسْلِمِينَ:دَعْوَةُ الْعَالَمِ إِلَى التَّوْحِيدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ
  تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ امْتِحَانٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ
  وَسَائِلُ سَلَامَةِ الْقَلْبِ
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَرْعِهِ بِالْأُمَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ
  قَضِيَّةُ الْقُدْسِ قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ
  ضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَى نَظَافَةِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ
  نَمَاذِجُ مِنْ مِحَنِ وَابْتِلَاءَاتِ خَيْرِ الْبَشَرِ
  التَّرْهِيبُ مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُقُوقِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان