((فَلَاحُ الْأُمَّةِ وَنَجَاتُهَا فِي الْأَخْذِ بِكِتَابِ رَبِّهَا))
فَنَقِّ قَلْبَكَ، وَطَهِّرْ رُوحَكَ؛ فَإِنَّكَ قَدْ خَرَجْتَ مِنْ مَدْرَسَةٍ عَلَّمَتْكَ الْكَثِيرَ، فَاحْذَرْ أَنْ تَنْتَكِسَ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَقَامَ عَلَيْكَ الحُجَّةَ، عَلَّمَكَ كَيْفَ تَصُومُ، وَعَلَّمَكَ كَيْفَ تَقُومُ، وَعَلَّمَكَ كَيْفَ تَنْظُرُ فِي كِتَابِ رَبِّكَ، أَوْ كَيْفَ تَسْمَعُ آيَاتِهِ تُتْلَى عَلَيْكَ.
وَأَمَرَكَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْبَذْلِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، وَذَكَرٍ وَأُنْثَى، فَعَلَّمَكَ الْبَذْلَ وَالْعَطَاءَ، عُلِّمْتَ؛ فَإِنِ اْنْتَكَسْتَ فَلَا تَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَكَ!
وَاحْذَرْ أَنْ تَدَعَ كِتَابَ رَبِّكَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ هَادِيكَ إِلَى الجَنَّةِ، وَهُوَ قَائِدُكَ إِلَيْهَا، وَهُوَ نُورُكَ عَلَى صِرَاطِ رَبِّكَ، وَهُوَ شَفِيعُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي قَبْرِكَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ: ((الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: يَا رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهْوَةَ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: يَا رَبِّ، مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ)).
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنَازِلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ عَلَى عَدَدِ آيَاتِ الْقُرْآنِ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ وَرَتِّلْ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُهَا)).
وَالثَّوَابُ عَظِيمٌ، قَالَ ﷺ: ((لَا أَقُولُ ((الم)) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ))، وَالحَرْفُ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ.
فَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ يَطْرُدُ عَنْكَ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالجِنِّ، هُوَ حِصْنُكَ، وَهُوَ مَلَاذُكَ، وَهُوَ هَادِي الْأُمَّةِ إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، لَا فَلَاحَ لَهَا إِلَّا فِي الْأَخْذِ بِهِ، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيهِ، وَتَرْكِ زِبَالَاتِ أَفْكَارِ الْأُمَمِ الَّتِي أَفْسَدَتْ عَلَى الْأُمَّةِ المَرْحُومَةِ عَقِيدَتَهَا، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ مُمَارَسَاتِ الْأُمَمِ، كَزُهْدِ الهِنْدِ وَفَارِسٍ، الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى الْأُمَّةِ عِبَادَتَهَا.
فَالْأَخْذُ بِالْقُرْآنِ أَخْذٌ بِالنَّهْجِ الْأَحْمَدِ، وَقَدْ أَخْرَجَ اللهُ بِالقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَبِالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ الشَّرِيفَةِ -بِالْوَحْيِ المَعْصُومِ- أُمَّةً كَانَتْ غَارِقَةً فِي كُفْرِهَا وَوَثَنِيَّتِهَا، يَنْحِتُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ حَجَرًا؛ لِكَيْ يَعْبُدَهُ وَيُقَرِّبَ إِلَيْهِ وَيَقْصِدَهُ.
فَإِذَا رَأَى حَجَرًا أَحْسَنَ مِنْهُ عَدَلَ عَنْ هَذَا الَّذِي كَانَ إِلَهًا قَبْلُ، وَاسْتَبْدَلَهُ بِإِلَهٍ سِوَاهُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَجْعَلُ صَنَمًا مِنْ عَجْوَةٍ يَعْبُدُهُ، فَإِذَا جَاعَ أَكَلَهُ!! أَكَلَ إِلَهَهُ!!
كَانَتْ أُمَّةً غَارِقَةً فِي وَثَنِيَّتِهَا، يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، وَيَئِدُونَ الْبَنَاتِ، وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ، وَكَانُوا يَأْتُونَ الْفَوَاحِشَ، وَيَأْكُلُونَ المَيْتَةَ، وَلَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْ حَرَامٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ الهُمَامُ ﷺ، بِأَيِّ شَيْءٍ جَاءَ، وَكَيْفَ خَرَجَتِ الْأُمَّةُ مِنْ هَذَا الدَّيْجُورِ المُظْلِمِ المُدْلَهِمِّ إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ حَيْثُ النُّورُ وَالحَيَاةُ؟
إِنَّمَا خَرَجَتْ بِكِتَابِ اللهِ، فَهُوَ حَيَاتُكُمْ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، إِيَّاكُمْ أَنْ تَدَعُوهُ، أَوْ أَنْ تَغْفُلُوا عَنْهُ، حُلُّوا وَاِرْتَحِلُوا وَاِقْرَأُوهُ وَاتْلُوهُ، أَقِيمُوا حُرُوفَهُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ تِلَاوَتِهِ، الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ لَيْسُوا هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ بِقَانُونِ التِّلَاوَةِ، وَيُعْطُونَ كُلَّ حَرْفٍ حَقَّهُ وَمُسْتَحَقَّهُ، هَذَا أُولَى المَنَازِلِ وَأَدْنَاهَا، وَفَوْقَ ذَلِكَ مَنَازِلُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ المَجِيدِ.
وَهَجْرُ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ، بِحَيْثُ يِأْتِي بِهِ طَرِيًّا غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ، لَا يَعِي مَا يَقْرَأُ، يَمُرُّ عَلَيْهِ صَفْحًا، وَيَطْوِي عَنْهُ كَشْحًا.
وَإِنَّمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهِ وَيَهْضِبُ بَيْنَ شِدْقَيْهِ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ مَا يَتْلُوهُ؛ لِذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ عُكُوفٍ عَلَى مَعَانِيهِ.
وَكَذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، لَمْ يَحْفَظُوا الْقُرْآنَ إِلَّا عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، وَكَانُوا بِقَدَرِ اللهِ فِي الذَّوَاكِرِ حَافِظِينَ لَاقِطِينَ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يُمْكِنُ أَنْ يَعْكُفَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي ضَحْوَةٍ مِنْ نَهَارٍ، فَيَحْمِلَهَا، بَلْ رُبَّمَا سَمِعَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا هِيَ مَنْقُوشَةٌ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ، وَلَكِنْ ((تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا نَتَجَاوَزُهُنَّ؛ حَتَّى نَفْقَهَهُنَّ، وَنَعِيَهُنَّ، وَنَعْمَلَ بِهِنَّ، فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا))، بِهَا سَبَقُوا.
أَمَّا نَحْنُ؛ فَنُتْقِنُ جِدًّا قَضِيَّةَ التِّلَاوَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ الْكِتَابَ لِأَجْلِهِ مَا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ تَدَبُّرُهُ، إِنَّمَا أَنْزَلَهُ اللهُ؛ لِيُتَدَبَّرَ، وَلِيُنْظَرَ فِي مَعَانِيهِ، وَلِيُعْمَلَ بِمَا فِيهِ، لَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيلًا فَحَسْبُ، هَذَا أُولَى مَرَاتِبِ التِّلَاوَةِ وَأَدْنَاهَا، وَفَوْقَ ذَلِكَ حَقِيقَةُ التِّلَاوَةِ لِلْكِتَابِ المَجِيدِ.
لَقَدْ تَعَلَّمْنَا فِي رَمَضَانَ الْكَثِيرَ مِنَ الخَيْرِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الخَيْرِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الرُّشْدِ، وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَيْهِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَ اللهِ الْكَرِيمِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: وماذا بعد رمضان؟