الْخُطَبُ الْمِنْبَرِيَّةُ
فِي
التَّوْحِيدِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
((الْخُطْبَةُ السَّادِسَةُ))
((شُرُوطُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَنَوَاقِضُهَا))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ هِيَ أَعْظَمُ الْكَلَامِ))
فَإنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الوَحْدَانِيَّةِ، أَجَلُّ شَهَادَةٍ عَلَى أَجَلِّ مَشْهُودٍ عَلَيهِ، وَيَكْفِي فِي بَيَانِ فَضْلِ شَهَادَةِ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- شَهِدَ بِهَا لِنَفْسِهِ، وَاستَشْهَدَ عَلَيْهَا العُدُولَ مِن خَلْقِهِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
فَاستَشْهَدَ سُبْحَانَهُ بنَفْسِهِ -وَهُو أَجَلُّ شَاهِدٍ-، ثُمَّ بِخِيَارِ خَلْقِهِ وَهُم مَلَائكَتُهُ وَالعُلَمَاءُ مِن عِبَادِهِ، عَلَى أَجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وَأَعظَمِهِ، وَأكبَرِهِ، وَهُو شَهَادَةُ أنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو.
وَالكَلِمَةُ الطَّيبَةُ، كَلِمَةُ التَّوحِيدِ، هِي خَيْرُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّونَ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: ((خَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا والنَّبِيُّونَ مِن قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُو عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)) .
وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَثْقَلُ مِن السَّمَواتِ وَالأرْضِ.
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ، وَلَا يَزِنُهَا شَيْءٌ؛ وَإِنَّمَا تَرْجُحُ كُلَّ شَيْءٍ.
((شُرُوطُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))
عِبَادَ اللهِ! الرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، بَلْ أَنْ يَشْهَدُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَعْتَقِدُوا ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ.
فَلَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا.
فَالْمُرَادُ مِنْهُمُ:
*الْعِلْمُ بِمَعْنَاهَا.
*وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا.
*وَالْبُعْدُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا.
وَالْمُنَافِقُونَ قَالُوهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوهَا بِقُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): لَا تَنْفَعُ قَائِلَهَا إِلَّا بِاجْتِمَاعِ سَبْعَةِ شُرُوطٍ، وَهِيَ: ((الْعِلْمُ، وَالْيَقِينُ، وَالْإِخْلَاصُ، وَالصِّدْقُ، وَالْمَحَبَّةُ، وَالِانْقِيَادُ، وَالْقَبُولُ)).
وَقَدْ جَمَعَهَا بَعْضُهُم فِي قَوْلِهِ:
عِلْمٌ يَقِينٌ وَإِخْلَاصٌ وَصِدْقُكَ مَعْ *** مَحَبَّةٍ وَانْقِيَادٍ وَالْقَبُولِ لَهَا
وَمَنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ هَذِهِ الشُّرُوطِ؛ لَمْ يَنْفَعْهُ النُّطْقُ بِهَا، وَكَمَا قَالَ السَّلَفُ: ((مَنْ أَتَى بِمِفْتَاحٍ لَا أَسْنَانَ لَهُ؛ لَمْ يُفْتَحْ لَهُ)) .
وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمِفْتَاحُ عَامِلًا إِذَا كَانَتْ لَهُ أَسْنَانٌ.
فَـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ كُلُّ مِفْتَاحٍ لَابُدَّ لَهُ مِنْ أَسْنَانٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ شُرُوطِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ لِأَنَّ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لَا تَنْفَعُ قَائِلَهَا إِلَّا إِذَا عَلِمَ مَعْنَاهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَحَقَّقَ شُرُوطَهَا، وَاجْتَنَبَ نَوَاقِضَهَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ حَافِظٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «السُّلَّمِ» :
مَنْ قَالَهَا مُعْتَقِدًا مَعْنَاهَا *** وَكَانَ عَامِلًا بِمْقُتَضَاهَا
فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَمَاتَ مُؤْمِنًا *** يُبْعَثُ يَوْمَ الْحَشْرِ نَاجٍ آمِنًا
فَإِنَّ مَعْنَاهَا الَّذِي عَلَيْهِ *** دَلَّتْ يَقِينًا وَهَدَتْ إِلَيْهِ
أَنْ لَيْسَ بِالْحَقِّ إِلَهٌ يُعْبَدُ *** إِلَّا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْمُتَفَرِّدُ
بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَبِالتَّدْبِيرِ *** جَلَّ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ
وَبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ قَدْ قُيَّدَتْ *** وَفِي نُصُوصِ الْوَحْيِ حَقًّا وَرَدَتْ
فَإِنَّهُ لَمْ يَنْـتَفِعْ قَائِلُهَا *** بِالنُّطْقِ إِلَّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُهَا
الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَالْقَبُولُ *** وَالِانْقِيَادُ فَادْرِ مَا أَقُولُ
فَهَذِهِ هِيَ شرُوطُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ قَائِلَهَاَ إِلَّا بِتَحَقُّقِهَا.
فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ قَائِلُهَا *** بِالنُّطْقِ إِلَّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُهَا
الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَالْقَبُولُ *** وَالِانْقِيَادُ فَادْرِ مَا أَقُولُ
وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّةْ *** وَفَّقَكَ اللهُ لِمَا أَحَبَّه
وَأَمَّا تَفْصِيلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ -عِبَادَ اللهِ-:
فأَوَّلُهَا: الْعِلْمُ -الْعِلْمُ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))-: بَمَعْنَاهَا نَفْيًا وَإثباتا، وَالْعِلْمُ بِمَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنْ عَمَلٍ.
فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ معنى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ بَاطِلَةٌ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْعِلْمِ؛ فَهُوَ عَالِمٌ بِمَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَضِدُّ الْعِلْمِ: الْجَهْلُ؛ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَ إِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، بَلْ يَرَى جَوَازَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]
فَأَوَّلُ شُرُوطِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): الْعِلْمُ بِمَعْنَاهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَمَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعَمَلِ عِلْمًا يُنَافِي الْجَهَالَةَ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]؛ أي: شَهِدَ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: أَيْ يَعْلَمُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَعْنَى مَا نَطَقُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ.
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
فَالَّذِي يَقُولُ ((لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ)) وَلَا يُحَقِّقُ شُرُوطَهَا؛ لَا تَنْفَعُهُ وَإِنْ قَالَهَا دَهْرًا طَوِيلًا..
فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي يُنَافِي الْجَهْلَ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي -مِنْ شُرُوطِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))-: فَالْيَقِينُ:
وَهُوَ أَنْ يَنْطِقَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ يَقِينٍ جَازِمٍ يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إِلَيْهِ دُونَ تَسَرُّبِ شَيْءٍ مِنَ الشُّكُوكِ، وَيَعْتَقِدَ صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَحَقِّيَّةِ إِلَهِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ مَا عَدَاهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّأَلُّهِ وَالتَّعَبُّدِ.
فَإِنْ شَكَّ فِي شَهَادَتِهِ، أَوْ تَوَقَّفَ فِي بْطُلَانِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ -كَأَنْ يَقُولُ: أَجْزِمُ بِأُلُوهِيَّةِ اللهِ، وَلَكِنَّنِي مُتَرَدِّدٌ بِبُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ غَيْرِهِ-؛ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَمْ تَنْفَعْهُ.
قَالَ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4].
وَمَدَحَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ -أَيْضًا- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15].
فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ الْيَقِينُ الْمُنَافِي لِلشَّكِّ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ لَا يَلْقَى اللهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
فَلَا بُدَّ مِنَ الْيَقِينِ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ لَقِيتَ وَرَاءَ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ؛ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» .
فَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
عَبْدَ اللهِ! عَلَيْكَ أَنْ تُحَقِّقَ تَوْحِيدَكَ؛ فَلَيْسَ عَمَلٌ بِنَافِعِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَوْحِيدُكَ مُحَقَّقًا، كَمَا لَوْ أَنَّكَ صَلَّيْتَ بِدُونِ طُهُورٍ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكَ لَا تُعَدُّ صَلَاةً فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ، وَكَذَا مَهْمَا أَتَيْتَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَتَزَلَّفُ بِهِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّهُ حَابِطٌ مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْقَبُولُ:
يَعْنِي: أَنْ يَقْبَلَ كُلَّ مَا اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ؛ فَيُصَدِّقَ بِالْأَخْبَارِ، وَيُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ عَنْ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ، وَيَقْبَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَا يَرُدُّ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَجْنِيَ عَلَى النُّصُوصِ بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ وَالتَّحْرِيفِ الَّذِي نَهَى اللهُ عَنْهُ.
وَضِدُّ الْقَبُولِ: الرَّدُّ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ مَنْ يَعْلَمُ مَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَيُوقِنُ بِمَدْلُولِهَا، فَيَأْتِي بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَبِالشَّرْطِ الثَّانِي، وَلَكِنَّهُ يَرُدُّهَا كِبْرًا وَحَسَدًا.
وَهَذِهِ حَالُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ النَّصَارَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وَيَدْخُلُ فِي رَدِّ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) -أَيْضًا- بِنَقْضِ الشَّرْطِ الثَّالِثِ مِنْ شُرُوطِهَا مَنْ يَعْتَرِضُ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ عَلَى بَعْضِ الْحُدُودِ وَيَرُدُّهَا؛ كَالَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى حَدِّ السَّرِقَةِ، وَالَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى حَدِّ الزِّنَا، وَالَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ!!
وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الرَّدِّ وَعَدَمِ الْقَبُولِ لِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الِانْقِيَادُ الْمُنَافِي لِلتَّرْكِ:
وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْقَادَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ.
وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ: أَنَّ الْقَبُولَ إِظْهَارُ صِحَّةِ مَعْنَى ذَلِكَ بِالْقَوْلِ؛ فَيَقْبَلُهُ، وَيُعْلِنُ ذَلِكَ نُطْقًا بِاللِّسَانِ.
وَأَمَّا الِانْقِيَادُ: فَهُوَ الِاتِّبَاعُ بِالْأَفْعَالِ.
وَيَلْزَمُ مِنْهُمَا جَمِيعًا الِاتِّبَاعُ؛ يَعْنِي أَنْ يَقْبَلَ وَيُعْلِنَ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يَعْمَلَ وَيَأْتِيَ بِالِاتِّبَاعِ بِالِانْقِيَادِ ظَاهِرًا.
فَإِذَا أَتَى بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا حَقًّا، وَيَكُونُ قَدِ انْقَادَ لِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
فَالِانْقِيَادُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ، وَعَدَمُ التَّعَقُّبِ لِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54].
وَمِنَ الِانْقِيَادِ -أَيْضًا- لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ: الرِّضَا بِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ دُونَ تَعَقُّبٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ؛ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا أَنْزَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَقَع فِيهِ التَّحَاكُمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَمَّا خَاصَمَ الْأَنْصَارِيُّ الزُّبَيْرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ -أَيْ: فِي مَسِيلِ الْمَاءِ الَّذِي يَرْوِي الزَّرْعَ-؛ فَقَضَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُمَا بِالْفَضْلِ، وَقَالَ: ((اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ)).
فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَرْجَعَهُ مِنَ الْفَضْلِ إِلَى الْعَدْلِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((يَا زُبَيْرُ، اسْقِ ثُمَّ أَمْسِكِ الْمَاءَ حَتَّى يَضْرِبَ الْجَدْرَ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ)) .
هَذَا أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِرَيِّ أَرْضٍ أَوْ سُقْيَا زَرْعٍ، وَقَعَ فِيهِ التَّحَاكُمُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَكَيْفَ بِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ؟!!
وَكَيْفَ بِمَسَائِلِ الْعَقِيدَةِ؟!!
وَكَيْفَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ؟!!
فَإِذَا عَلِمَ أَحَدٌ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) فَقَدْ جَاءَ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا أَيْقَنَ بِهَا فَقَدْ جَاءَ بِالشَّرْطِ الثَّانِي، وَإِذَا قَبِلَهَا فَقَدْ جَاءَ بِالشَّرْطِ الثَّالِثِ. وَلَكِنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْقَدْ وَلَمْ يُذْعِنْ لَهَا، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ.
وَمِنْ عَدَمِ الِانْقِيَادِ: تَرْكُ التَّحَاكُمِ لِشَرِيعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَاسْتِبْدَالُهَا بِالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ هُوَ: الصِّدْقُ:
الصِّدْقُ مَعَ اللهِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إِيمَانِهِ، صَادِقًا فِي عَقِيدَتِهِ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ فِي كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ؛ فَالصِّدْقُ أَسَاسُ الْأَقْوَالِ.
وَمِنَ الصِّدْقِ: أَنْ يَصْدُقَ فِي دَعْوَتِهِ، وَأَنْ يَبْذُلَ الْجُهْدَ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَفِي حِفْظِ حُدُودِ اللهِ، قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وَقَدْ وَرَدَ اشْتِرَاطُ الصِّدْقِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ صَادِقًا بِهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْباَنِيُّ فِي «صَحِيحِ الْجَامِعِ»، وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ ﷺ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ .
ضِدُّ الصِّدْقِ: الْكَذِبُ.
فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَاذِبًا فِي إِيمَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُؤْمِنًا، بَلْ هُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ.
وَحَالُ هَذَا الْمُنَافِقِ أَشَدُّ مِنْ حَالِ الْكَافِرِ الَّذِي يُظْهِرُ الْكُفْرَ، فَإِنْ قَالَ الشَّهَادَةَ بِلِسَانِهِ، وَأَنْكَرَ مَدْلُولَهَا بِقَلْبِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُنْجِيهِ؛ بَلْ يَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي عِدَادِ الْمُنَافِقِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].
فَهَا هُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَشَهِدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ؛ فَقَالَ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}.
وَمِمَّا يُنَافِي الصِّدْقَ فِي الشَّهَادَةِ تَكْذِيبُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، أَوْ تَكْذِيبُ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ ﷺ.
فَالشَّرْطُ الْخَامِسُ مِنْ شُرُوطِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): الصِّدْقُ الْمُنَافِي لِلْكَذِبِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ السَّادِسُ: فَالْإِخْلَاصُ:
وَهُوَ تَصْفِيَةُ الْإِنْسَانِ عَمَلَهُ بِصَالِحِ النِّيَّةِ عَنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ الرَّدِيَّةِ، وَمِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ.
وَذَلِكَ بِأَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ، لَيْسَ فِيهَا شَائِبَةُ رِيَاءٍ أَوْ سُمْعَةٍ، أَوْ قَصْدُ نَفْعٍ، أَوْ غَرَضٌ شَخْصِيٌّ، أَوْ شَهْوَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ خَفِيَّةٌ.
قَالَ تَعَالَى: {أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» .
فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِخْلَاصِ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ عِتْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله)).
وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- -مُحْبِطًا لِأَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
*وَالشَّرْطُ السَّابِعُ مِنْ شُرُوطِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): الْمَحَبَّةُ:
الْمَحَبَّةُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ -كَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))-، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَلِمَا اقْتَضَتْهُ مِنْ شُرُوطِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))
فَيُحِبُّ اللهَ، وَيُحِبُّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَيُقَدِّمُ مَحَبَّةَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) عَلَى كُلِّ مَحَبَّةٍ، وَيَقُومُ بِشُرُوطِ الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا؛ فَيُحِبُّ اللهَ مَحَبَّةً مَقْرُونَةً بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.
وَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ مِنَ الْأَمْكِنَةِ: كَمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْمَسَاجِدِ عُمُومًا.
وَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْأَزْمِنَةِ: كَرَمَضَانَ، وَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَغَيْرِهَا.
وَيُحِبُّ مَنْ أَحَبَّهُمُ اللهُ مِنَ الْأَشْخَاصِ: كَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ.
وَمَا أَحَبَّهُ اللهُ مِنَ الْأَفْعَالِ: كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ.
وَمَا أَحَبَّهُ اللهُ مِنَ الْأَقْوَالِ: كَالذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَمِنَ الْمَحَبَّةِ: أَنْ يَكْرَهَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَادِقًا فِي مَحَبَّةِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا للهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ مُحِبٌّ لِأَعْدَاءِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُبْغِضٍ لِأَعْدَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَمِنَ الْمَحَبَّةِ: أَنْ يَكْرَهَ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ، فَيَكْرَهُ الْكُفَّارَ وَيُبْغِضُهُمْ وَيُعَادِيهِمْ، وَيَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَبُ عَدُوًّا للهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَادَى للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِذَا كَانَ الْأَخُ عَدُوًّا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَّخَذَ عَدُوًّا.. الْأَخُ وَالْعَشِيرَةُ، وَالِابْنُ وَالزَّوْجَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ عَدُوًّا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَارِفًا عَنْ ذِكْرِهِ، فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا تَتِمُّ إِلَّا بِبُغْضِهِ وَإِلَّا بِمُعَادَاتِهِ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا.. )). الْحَدِيثَ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
ضِدُّ الْمَحَبَّةِ: الْكَرَاهِيَةُ، الْكَرَاهِيَةُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَمَا اقْتَضَتْهُ، أَوْ مَحَبَّةُ غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- شَأْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُحِبُّونَ اللهَ: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}؛ فَهُمْ يُحِبُّونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَيُحِبُّونَ غَيْرَهُ مِثْلَ مَحَبَّتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ سَمَّاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ظَالِمِينَ، وَالظُّلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الشِّرْكِ؛ فَهَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ.
وَالدَّلِيلُ: قَوْلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْكُفَّارِ؛ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ مَحَبَّتُهُمْ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَيْئًا؛ إِذْ أَحَبُّوا مَعَهُ غَيْرَهُ، فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ خَالِدِينَ فِيهَا: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.
وَمِمَّا يُنَافِي الْمَحَبَّةَ أَيْضًا: بُغْضُ الرَّسُولِ ﷺ.
وَمِمَّا يُنَافِي الْمَحَبَّةَ: مُوَالَاةُ أَعْدَاءِ اللهِ.
وَمِمَّا يُنَافِي الْمَحَبَّةَ: مُعَادَاةُ أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِمَّا يُنَافِي كَمَالَ الْمَحَبَّةِ: الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ.
فَهَذِهِ -عِبَادَ اللهِ- هِيَ شُرُوطُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، مَنْ لَمْ يُحَصِّلْهَا، وَمَنْ لَمْ يُتِمَّهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ فَإِنَّ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لَا تَنْفَعُهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِذَا جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَا أَسْنَانَ لَهُ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ، وَلَمْ يَنْفَعْكَ مِفْتَاحُكَ شَيْئًا.
فَـ ((لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ)) سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ.
وَلِهَذَا قِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَقَالَ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)) .
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَمُقْتَضٍ لِذَلِكَ.
((لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ)) سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ؛ لِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
((تَعَلَّمُوا التَّوْحِيدَ.. فَالْجَنَّةُ غَالِيَةٌ!!))
عَلَى الْمُسْلِم أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ، إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ، فِيهَا مِنَ الْقُصُورِ وَالْأَنْهَارِ وَالنَّعِيمِ وَاللَّذَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ وَأَعْلَى ذَلِكَ النَّعِيمِ رُؤْيَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَإِذَا كُنْتَ تَرَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مَنْ يَغْتَرِبُ عَنْ وَطَنِهِ سِنِينَ عَدَدًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَصِّلَ مَالًا؛ لِيَعُودَ بِهِ إِلَى وَطَنِهِ لِيَبْنِيَ بَيْتَهُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مَهْمَا تَأَنَّقَ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى بَعْدَ حِينٍ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ، الْجَنَّةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي إِذَا نَزَلَهَا الْعَبْدُ لَمْ يَتَمَنَّ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهَا: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108]؛ أَيْ: تَحَوُّلًا.
وَأَمَّا مَا دُونَ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ الْفَاخِرَةِ وَالْقُصُورِ الْعَامِرَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْمُتَعِ الزَّائِلَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا حَصَّلَهَا، وَمَكَثَ فِيهَا زَمَانًا، تَمَنَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَنْفَقَ سَنَوَاتٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعِدَّ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ الْمُتَعِ مِنْ شَيْءٍ؛ تَضْرِبُهُ الْأَمْرَاضُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتِحيُط بِهِ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْكُرُوبُ، حَتَّى يَدْلُفَ إِلَى الْقَبْرِ غَيْرَ حَمِيدٍ!!
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُضَحِّي بِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ سَنَوَاتِ شَبَابِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَصِّلَ مَالًا مَعَ الْغُرْبَةِ، وَمَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَذَلَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودَ لِيَبْنِيَ بَيْتًا عَلَى أَيِّ صُورَةٍ كَانَتْ!!
فَهَذِهِ هِيَ الْجَنَّةُ، وَهِيَ قِيعَانٌ -أَيْ: كَالْأَرْضِ الْفَلَاةِ- وَغِرَاسُهَا: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).. سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ ،وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحُ النَّجَاةِ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَلَيْسَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: ((بَلَى، وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمَفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ)) .
هَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ شُرُوطُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، لَا تَنْفَعُ عَبْدًا إِلَّا إِذَا اسْتَكْمَلَهَا وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا.
عِلْمٌ يَقِينٌ وَإِخْلَاصٌ وَصِدْقُكَ مَعْ *** مَحَبَّةٍ وَانْقِيَادٍ وَالْقَبُولِ لَهَا
فَهَذِهِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ.
فَاعْرِفْهَا، وَحَقِّقْهَا، وَاعْمَلْ بِهَا؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِي نَاقِضٍ مِنْ نَوَاقِضِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالتَّمَسُّكَ بِهِ، وَالْحَذَرَ مِمَّا يُخَالِفُهُ.
وَبَعَثَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ لِلدَّعْوَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَعَرَضَ عَنْهُ فَقَدْ ضَلَّ، وَحَذَّرَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَاتٍ مِنْ أَسْبَابِ الرِّدَّةِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نَوَاقِضُ الْإِسْلَامِ))
فَـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لَيْسَتْ كَلِمَةً يَأْتِي بِهَا بِاللِّسَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، سَبِيلٌ لِلْوُصُولِ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ الْغَايَةُ أَيْضًا؛ فَهِيَ وَسِيلَةٌ وَغَايَةٌ مَعًا.
لِأَجْلِهَا خَلَقَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَاعْرِفْهَا، وَأَحِبَّهَا، وَأَخْلِصْ فِيهَا، وَاتَّبِعْهَا، وَلَا تُمَارِ فِيهَا، وَاعْرِفْ مَا يَنْقُضُهَا.
ثُمَّ حَاذِرْ مِنْ جِهَةِ النَّوَاقِضِ؛ حَتَّى لَا تَلْقَى اللهَ رَبَّكَ مُلَوَّثًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَحَتَّى تَلْقَاهُ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ شِرْكٍ، وَحِينَئِذٍ تُفْلِحُ وَتَرْبَحُ، فَقَدْ أَتَاكَ رَبُّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ.
وَكَـمْ مِمَّنْ يَقُولُهَا مِمَّنْ لَا يَبْلُغُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَقُولُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) بِلِسَانِهِ، وَيَنْقُضُهَا بِفَعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ!!
لَقَدْ مَرَّ -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَّا إِذَا عَلِمَ مَعْنَاهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَحَقَّقَ شُرُوطَهَا، وَاجْتَنَبَ نَوَاقِضَهَا.
وَقَدْ مَرَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهَا، وَكَذَلِكَ مَا مَعْنَى أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهَا؛ وَهَذِهِ نَوَاقِضُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَمِنْ أَخْطَرِ النَّوَاقِضِ وَأَكْثَرِهَا وُقُوعًا، عَشْرَةُ نَوَاقِضَ:
*أَوَّلُهُاَ: الشِّرْكُ فِي عِبَادَةِ اللهِ:
قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وَمِنْ ذَلِكَ: هَذَا الشِّرْكُ الَّذِي يَنْقُضُ عَقْدَ الْإِسْلَامِ، وَيُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ: دُعَاءُ الْأَمْوَاتِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، وَالنَّذْرُ لَهُمْ، وَالذَّبْحُ لَهُمْ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ نَوَاقِضِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
*النَّاقِضُ الثَّانِي: مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ، وَيَسْأَلُهُمُ الشَّفَاعَةَ، ويَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ؛ فَهَذَا قَدْ كَفَرَ إِجْمَاعًا:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22-23].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107-106].
فَمَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ، وَيَسْأَلُهُمُ الشَّفَاعَةَ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ، وَيَخَافُ مِنْهُمْ خَوْفَ السِّرِّ؛ فَقَدْ كَفَرَ إِجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
*النَّاقِضُ الثَّالِثُ: مَنْ لَمْ يُكَفِّرِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ؛ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ:
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
فَلَمْ يَقِفِ الرَّسُولُ ﷺ عِنْدَ حُدُودِ قَوْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَإِنَّمَا ضَمَّ إِلَيْهَا شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ: ((وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ))؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا: أَنْ يَقُولَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنْ يَكْفُرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ)).
*النَّاقِضُ الرَّابِعُ مِنْ نَوَاقِضِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ هَدْيَ غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ أَكْمَلُ مِنْ هَدْيِهِ، أَوْ أَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِهِ -كَالَّذِينَ يُفَضِّلُونَ حُكْمَ الطَّوَاغِيتِ عَلَى حُكْمِهِ ﷺ- ؛ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْأَنْظِمَةَ وَالْقَوَانِينَ الَّتِي يَسُنُّهَا النَّاسُ أَفْضَلُ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَنَّهَا مُسَاوِيَةٌ لَهَا، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَاكُمُ إِلَيْهَا -وَلَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ-، أَوْ أَنَّ نِظَامَ الْإِسْلَامِ لَا يَصْلُحُ تَطْبِيقُهُ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي تَخَلُّفِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَحْصُرُ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَتَدَخَّلَ الدِّينُ فِي سَائِرِ شُئُونِ الْحَيَاةِ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ -أَيْضًا-: مَنْ يَرَى أَنَّ إِنْفَاذَ حُكْمِ اللهِ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، أَوْ بِرَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَأَنَّهُ وَحْشِيَّةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْهَا ذَوْقُ النَّاسِ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ -أَيْضًا-: كُلُّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِغَيْرِ شَرِيعَةِ اللهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، أَوْ فِي الْحُدُودِ، أَوْ فِي غَيْرِهِمَا -وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ-؛ فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ قَدِ اسْتَبَاحَ مَا حَرَّمَ اللهُ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، ذَلِكَ كَمَا فِي الزِّنَا، وَالْخَمْرِ، وَالرِّبَا، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ شَرِيعَةِ اللهِ؛ فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا إِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ لِهَوًى فِي نَفْسِهِ، أَوْ جَهْلٍ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ حُكْمَ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ الْوَاجِبُ؛ فَهَذَا فَعَلَ كَبِيرَةً مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَأَتَى عَظِيمَةً مِنْ عَظَائِمِ الْإِثْمِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.
إِنَّ فِتْنَةَ الْعَصْرِ فِي التَّكْفِيرِ بِلَا مُوجِبٍ، وَإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَالتَّكِأَةُ الَّتِي يَتَّكِئُ عَلَيْهَا الْمُكَفِّرونَ عَلَى اخْتِلَافِ مَشَارِبِهِمْ وَتَنَوِّعِ انْتِمَاءَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ جَمِيعًا إِلَى حَمْأَةٍ مُنْتِنَةٍ وَاحِدَةٍ, وَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
التَّكِأَةُ الَّتِي يَتَّكِئُ عَلَيْهَا الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ فِي هَذِهِ الْبَابَةِ هِيَ: ((الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ))، وَفِي هَذَا الْعَصْرِ: ((الْحُكْمُ بِالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ)).
وَقَدْ سُئِلَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ فِي فَتْوَاهَا رَقْمِ: (وَاحِدٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِئَةٍ وَخَمْسَةِ آلْافِ بِالْإِجَابَةِ عَلَى السُّؤَالِ الْحَادِي عَشَرَ (فَتْوَى رَقْم 5741 بِالْإِجَابَةِ عَلَى السُّؤَالِ 11)).
وَنَصُّهَا كَالْآتِي:
السُّؤَالُ: مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ هَلْ هُوَ مُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ كُفْرًا أَكْبَرَ؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ. وَبَعْدُ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
لَكِنْ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَهُ جَائِزًا؛ فَهُوَ كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَظُلْمٌ أَكْبَرُ، وَفِسْقٌ أَكْبَرُ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.
أَمَّا إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الرِّشْوَةِ، أَوْ لِمَقْصِدٍ آخَرَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ آثِمٌ، يُعْتَبَرُ كَافِرًا كُفْرًا أَصْغَرَ، وَفَاسِقًا فِسْقًا أَصْغَرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمِلَّةِ كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
((عَبْدُ اللهِ بْنُ غُدَيَّان - عَبْدُ الرَّزَّاق عَفِيفي - عَبْدُ الْعَزِيز بْنُ بَاز)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْحُكْمَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يَشْمَلُ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْسِ السُّلْطَةِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِي وَلَكَ؛ فَكُلُّ مُخَالَفَةٍ خَالَفْتَهَا؛ لَمْ تَحْكُمْ فِيهَا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ!!
الرَّجُلُ الَّذِي تَتَهَتَّكُ بَنَاتُهُ وَنِسَاؤُهُ تَحْتَ عَيْنِهِ، وَبِمَعْرِفَتِهِ، وَبِعِلْمِهِ، وَبِإِنْفَاقِهِ، هَلْ هَذَا حَكَمَ فِيهِنَّ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِنَّ؛ سَتْرًا لَهُنَّ، وَحِيَاطَةً لِجَنَابِهِنَّ، وَتَعْلِيمًا لَهُنَّ دِينَ رَبِّهِنَّ؟!!
فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ، فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ!!
الَّذِي لَا يُخْرِجُ زَكَاتَهُ، وَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ بِإِخْرَاجِهَا؛ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ!!
فَمِنَ الْخَطَلِ أَنْ يُعَلَّقَ ذَلِكَ فِي رَأْسِ مَنْ كَانَ عَلَى قِمَّةِ السُّلْطَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْجَمِيعِ.
الْكُلُّ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ دِينَ اللهِ.
إِنْ فَعَلْنَا؛ فَلَا مُجْتَمَعَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَسْعَدُ مِنَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ إِسْلَامًا صَحِيحًا، بِعَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ ثَابِتَةٍ، وَإِنَابَةٍ ظَاهِرَةٍ بَاقِيَةٍ، وَاتِّبَاعٍ كَامِلٍ شَامِلٍ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
*وَأَمَّا النَّاقِضُ الْخَامِسُ: فَمَنْ أَبْغَضَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ -وَلَوْ عَمِلَ بِهِ- ؛ فَإِذَا عَمِلَ بِهِ وَهُوَ مُبْغِضٌ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَ تَعَالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]
فَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَحْوَ مَا أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُحِبَّهُ، أَنْ يُحِبَّ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَأَنْ يُحِبَّ مَا فَرَضَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ.
فَإِنْ كَرِهَ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَكَرِهَ مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ -وَلَوْ عَمِلَ بِهِ-؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُطَهَّرَةِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
النَّاقِضُ السَّادِسُ: مَنِ اسْتَهْزَأَ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ، أَوْ ثَوَابِ اللهِ، أَوْ عِقَابِهِ، كَفَرَ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66].
مَنِ اسْتَهْزَأَ بِاللهِ، أَوْ بِالرَّسُولِ، أَوْ بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِالدِّينِ، أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِالْعُلَمَاءِ مِنْ أَجْلِ عِلْمِهِمْ، أَوِ اسْتَهْزَأَ بِأَيِّ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوِ اسْتَهْزَأَ بِالْمَسَاجِدِ، أَوْ بِالْأَذَانِ، أَوْ بِاللِّحْيَةِ، أَوْ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، فَهُوَ كَافِرٌ.
النَّاقِضُ السَّابِعُ: السِّحْرُ؛ فَهُوَ نَاقِضٌ لِلْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمِنْهُ الصَّرْفُ، وَمِنْهُ الْعَطْفُ.
فَأَمَّا الصَّرْفُ: فَهُوَ عَمَلٌ سِحْرِيٌّ، يُقْصَدُ مِنْهُ التَّسَبُّبُ فِي مَنْعِ شَخْصٍ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، أَوْ صَرْفِهِ عَنْ زَوْجَتِهِ.
وَأَمَّا الْعَطْفُ فَهُوَ: عَمَلٌ سِحْرِيٌّ، يُقْصَدُ مِنْهُ التَّسَبُّبُ فِي تَحْبِيبِ الْمَرْأَةِ أَوِ الرَّجُلِ إِلَى الْآخَرِ عَنْ طَرِيقِ السِّحْرِ.
فَمَنْ فَعَلَهُ -أَيْ: هَذَا السِّحْرَ- أَوْ رَضِيَ بِهِ، كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
*الثَّامِنُ مِنْ نَوَاقِضِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مُظَاهَرَةُ الْمُشْرِكِينَ وَمُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
*النَّاقِضُ التَّاسِعُ مِنْ نَوَاقِضِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَسَعُهُ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
فَلَا دِينَ حَقٌّ سِوَى دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
*النَّاقِضُ الْعَاشِرُ: الْإِعْرَاضُ عَنْ دِينِ اللهِ؛ لَا يَتَعَلَّمُهُ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
((اعْرِفُوا نَوَاقِضَ الْإِسْلَامِ لِتَحْذَرُوهَا!))
عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ النَّوَاقِضُ الْعَشْرَةُ تَنْقُضُ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَتُخْرِجُ مَنْ أَتَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ النَّوَاقِضَ؛ حَتَّى يَتَوَقَّاهَا، وَحَتَّى يَحْذَرَهَا، وَلِكَيْ لَا يَقَعَ فِيهَا.
وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ النَّوَاقِضِ بَيْنَ الْهَازِلِ وَالْجَادِّ، وَالْخَائِفِ وَالْعَابِثِ -إِلَّا الْمُكْرَهَ-؛ فَلَهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْهَزْلُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوِ الْعَبَثُ بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ نَاقِلٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَهُوَ نَاقِضٌ مِنْ نَوَاقِضِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66-65].
وَكُلُّ هَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ خَطَرًا، وَمِنْ أَكْثَرِ مَا يَكُونُ وُقُوعًا.
فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَخَافَ مِنْهُ علَى نَفْسِهِ، وَأَنْ يَعُوذَ بِاللهِ مِنْ مُوجِبَاتِ ذَلِكَ وَمِنْ غَضَبِ اللهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَأَنْ يَعْرِفَ نَوَاقِضَ الْإِسْلَامِ؛ لِيَحْذَرَهَا وَلِيُحَذِّرَ مِنْهَا.
وَلْيَحْذَرِ الْمُسْلِمُ مِنْ تَنْزِيلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ مِنْ غَيْرِ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ؛ فَيُكَفِّرَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَدْخُلَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ».
وَلْيَعْلَمِ الْمُسْلِمُ أَنَّ تَكْفِيرَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِهِ؛ فَلْيَتَّقِ اللهَ أَقْوَامٌ!!
وَاللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَسْأَلُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ الْحَنِيفِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَهُ الْكَرِيمَ.
((احْذَرُوا مِنْ تَنْزِيلِ أَحْكَامِ التَّكْفِيرِ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ!))
هَذِهِ النَّوَاقِضُ تُخْرِجُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنْ فَلْيَحْذَرِ الْمْسُلِمُ مِنْ تَنْزِيلِهَا عَلَى الْمُعَيَّنِينَ؛ لِأَنَّكَ تَقُولُ بِإِطْلَاقٍ وَعُمُومٍ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَقَدْ كَفَرَ، وَلَكِنْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ هَلْ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ، مِنْ غَيْرِ مَا تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ، وَلَا انْتِفَاءِ مَوَانِعَ، وَلَا إِقَامَةِ حُجَّةٍ؟!!
هَذَا لَيْسَ مِنْ مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا مِنْ مِنْهَاجِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَضَائِقِ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ؛ هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ تَنْزِيلِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُعَيَّنِ.
فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الشِّرْكِ أَوِ الْكُفْرِ أَوِ اللَّعْنِ عَلَى مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ وَغَيْرِهَا لَهُ أَسْبَابٌ وَلَهُ مَوَانِعُ؛ فَلَا نَقُولُ لِمَنْ أَكَلَ الرِّبَا: مَلْعُونٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ حُلُولِ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِ؛ كَالْجَهْلِ مَثَلًا، أَوِ الشُّبْهَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ الشِّرْكُ لَا نُطْلِقُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ شِرْكًا؛ فَقَدْ تَكُونُ الْحُجَّةُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ عُلَمَائِهِمْ.
((وَمَنْ يَأْمَنُ مِنَ الْبَلَاءِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؟!!))
عِبَادَ اللهِ! يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَوَقَّى نَوَاقِضَ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يَخَافَ الْوُقُوعَ فِيهَا، وَأَلَّا يَرْكَنَ إِلَى نَفْسِهِ مُزَكِّيًا إِيَّاهَا، زَاعِمًا أَنَّهُ مُجَانِبٌ لَهَا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعَلُّمِهَا؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَمَا يَشَاءُ، وَقَدْ يَضِلُّ الْمُهْتَدِي بَعْدَ الْهُدَى، وَيَزِيغُ الْمُسْتَقِيمُ بَعْدَ السَّدَادِ.
وَالْمُسْلِمُ الشَّحِيحُ بِدِينِهِ، الْحَرِيصُ عَلَى آخِرَتِهِ، لَا يَأْمَنُ الزَّيْغَ وَالضَّلَالَ، فَكَمْ مِنْ تَقِيٍّ فَجَرَ وَانْتَكَسَ، وَكَمْ مِنْ عَالِمٍ ضَلَّ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَقِيمٍ انْحَرَفَ، وَاللهُ الْعَاصِمُ مِنَ الضَّلَالِ، لَا يَعْصِمُ مِنْهُ غَيْرُهُ.
وَهَذَا إِمَامُ الْحُنَفَاءِ وَخَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَقَدْ كَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ، وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، يَقُولُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35-36].
فَإِبْرَاهِيمُ يَسْأَلُ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ وَبَنِيهِ فِي جَانِبٍ، وَالْأَصْنَامَ فِي جَانِبٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَإِبْرَاهِيمُ مَعْصُومٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَكِنَّهُ الْحِرْصُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَمُجَانَبَةِ الشِّرْكِ.
وَنَحْنُ أَوْلَى مِنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالتَّوَقِّي وَالْحَذَرِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ النُّخَعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمَنْ يَأْمَنُ مِنَ الْبَلَاءِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!!))
وَهَذَا يُوجِبُ لِلْقَلْبِ الْحَيِّ أَنْ يَخَافَ مِنَ الشِّرْكِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنْ يَتَوَّفَانَا مُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُلْحِقَنَا بِالصَّالِحِينَ، وَأَنْ يُحْسِنَ لَنَا الْخِتَامَ أَجْمَعِينَ.