((بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ!))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((فَضْلُ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي الْإِسْلَامِ))
فَفِي فَضْلِ حُسْنِ الْخُلُقِ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُثْنِيًا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟)).
فَسَكَتَ الْقَوْمُ.
فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
قَالَ الْقَوْمُ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)).
وَ ((يُدْرِكُ الْمُؤْمِنُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)).
وَخِيَارُ النَّاسِ أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا.
وَمِنْ هُنَا كَانَ اكْتِسَابُ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ خَيْرًا مِنَ اكْتِسَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا، وَالْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَفْضَلُ الطُّرُقِ وَأَسْهَلُهَا وَأَيْسَرُهَا لِلتَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ ﷺ، الَّذِي كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خَلْقًا وَخُلُقًا؛ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، وَيُحْسِنُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ أُصُولُ الْأَخْلَاقِ.
فَعَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ ﷺ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ؛ إِلَّا مَا خَصَّهُ اللهُ بِهِ، فَذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ؛ كَالنُّبُوَّةِ، وَالْوَحْيِ، وَنِكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ، وَحُرْمَةِ نِكَاحِ نِسَائِهِ بَعْدَهُ، وَحُرْمَةِ الْأَكْلِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَعَدَمِ إِرْثِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ بِهِ ﷺ.
وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وَقَالَ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ!))
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ أَفْضَلَ خَلْقِهِ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ ﷺ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَلَّا يُقَابِلَهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، وَلَكِنْ يَدْفَعُ إِسَاءَتَهُمْ بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْجَزَاءِ.
النَّبِيُّ ﷺ عَامَلَهُ الْكُفَّارُ أَسْوَءَ مُعَامَلَةٍ، لَا هُمُ الَّذِينَ رَاعَوْا فِيهِ ذِمَّةً، وَلَا رَاعَوْا فِيهِ رَحِمًا، وَلَا رَاعَوْا لَهُ كَرَامَةً لِحَسَبٍ وَنَسَبٍ وَمَا أَشْبَهَ، بَلْ ضَرَبُوا بِهَذَا كُلِّهِ عُرْضَ الْحَائِطِ، وَاجْتَهَدُوا فِي إِيذَاءِ النَّبِيِّ ﷺ؛ حَتَّى هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَاسْتَعَدُّوا لَهُ، فَنَجَّاهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمَعَ ذَلِكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الَّذِي خَلَقَهُ وَأَدَّبَهُ وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ يَقُولُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
((هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ؛ وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمُ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.
وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ: أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: مَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلِمْنَا عَنْهُمْ، وَأَمْهَلْنَاهُمْ، وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ)).
وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 33-35].
((هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْمُتَقَرِّرِ، أَيْ: لَا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلًا -أَيْ: كَلَامًا وَطَرِيقَةً وَحَالَةً- مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ بِتَعْلِيمِ الْجَاهِلِينَ، وَوَعْظِ الْغَافِلِينَ وَالْمُعْرِضِينَ، وَمُجَادَلَةِ الْمُبْطِلِينَ، بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَتَحْسِينِهَا مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالزَّجْرُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْبِيحُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُوجِبُ تَرْكَهُ؛ خُصُوصًا مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَصْلِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَتَحْسِينِهِ، وَمُجَادَلَةِ أَعْدَائِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا يُضَادُّهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: تَحْبِيبُهُ إِلَى عِبَادِهِ بِذِكْرِ تَفَاصِيلِ نِعَمِهِ، وَسَعَةِ جُودِهِ، وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ، وَذِكْرِ أَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ.
وَمِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ: التَّرْغِيبُ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْحَثُّ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ إِلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى عُمُومِ الْخَلْقِ، وَمُقَابَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ، وَالْأَمْرُ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْوَعْظُ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي أَوْقَاتِ الْمَوَاسِمِ، وَالْعَوَارِضِ، وَالْمَصَائِبِ بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْحَالَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَنْحَصِرُ أَفْرَادُهُ مِمَّا تَشْمَلُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالتَّرْهِيبِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَيْ: مَعَ دَعْوَتِهِ الْخَلْقَ إِلَى اللَّهِ بَادَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُرْضِي رَبَّهُ، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أَيِ: الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، السَّالِكِينَ فِي طَرِيقِهِ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَمَامُهَا لِلصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى تَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْوِرَاثَةُ التَّامَّةُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا أَنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ قَوْلًا: مَنْ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الضَّالِّينَ السَّالِكِينَ لِسُبُلِهِ.
وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ارْتَفَعَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَنَزَلَتِ الْأُخْرَى إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ مَرَاتِبُ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّهَا مَعْمُورَةٌ بِالْخَلْقِ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ، وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ}؟!
ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ؛ فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ، وَتَرَكَ خِطَابَكَ؛ فَطَيِّبْ لَهُ الْكَلَامَ، وَابْذُلْ لَهُ السَّلَامَ، فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصَلَتْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا} أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ؛ فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!
فَإِذَا صَبَرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعِ قَدْرِهِ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ؛ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)).
((وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ!))
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا دَوَامًا الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ يُفْسِدُ وَيُلْقِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ بِوَسَاوِسِهِ وَتَسْوِيلَاتِهِ؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا ظَاهِرَ الْعَدَاوَةِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].
((وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبُوهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
وَأَمَّا إِخْوَانُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي ضِدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا؛ فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، وَيُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ)).
وَفِي الْآيَةِ: الْأَمْرُ بِحُسْنِ الْعُشْرَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَلِينِ الْجَانِبِ.
((وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ!))
لَقَدْ حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الِاقْتِرَابَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ -الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ قَبْلَ الْحُلُمِ-؛ فَلَا يَقْرَبْ وَلِيُّ يَتِيمٍ أَوْ وَصِيٌّ عَلَيْهِ مَالَهُ إِلَّا بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ الثَّابِتَةِ؛ كَالْأَرَضِينَ، وَالدُّورِ، وَالْأَغْرَاسِ، وَتَثْمِيرِ الْمَنْقُولِ، وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ فِيهِ؛ فَلْيُحْفَظْ مَالُ الْيَتِيمِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152].
((هَذَا مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْيَتِيمِ الَّذِي فَقَدَ وَالِدَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ غَيْرُ عَارِفٍ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِهَا؛ أَنْ أَمَرَ أَوْلِيَاءَهُ بِحِفْظِهِ، وَحِفْظِ مَالِهِ، وَإِصْلَاحِهِ، وَأَلَّا يَقْرَبُوهُ {إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: مِنَ التِّجَارَةِ فِيهِ، وَعَدَمِ تَعْرِيضِهِ لِلْأَخْطَارِ، وَالْحِرْصِ عَلَى تَنْمِيَتِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَدٌّ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْيَتِيمُ أَشُدَّهُ، أَيْ: بُلُوغَهُ وَعَقْلَهُ وَرُشْدَهُ، فَإِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ زَالَتْ عَنْهُ الْوِلَايَةُ، وَصَارَ وَلِيَّ نَفْسِهِ، وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6])).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ دُونَ سِنِّ الْحُلُمِ إِلَّا اقْتِرَابًا وَمُبَاشَرَةً بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ بِتَنْمِيَةِ مَالِهِ، وَحِفْظِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْيَتِيمُ كَمَالَ عَقْلِهِ وَرُشْدِهِ، وَيُمْكِنَهُ الْقِيَامُ بِمَصَالِحِ مَالِهِ.
((وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ!))
إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا الكِتَابُ العَزِيزُ وَالسُّنَّةُ المُشَرَّفَةُ: الجِدَالَ وَالمِرَاءَ وَالمُخَاصَمَةَ.
وَالجَدَلُ: دَفْعُ المَرْءِ خَصْمَهُ عَنْ إِفْسَادِ قَوْلِهِ بِحُجَّةٍ أَوْ شُبْهَةٍ، أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ، وَهُوَ الخُصُومَةُ فِي الحَقِيقَةِ.
وَالجِدَالُ: عِبَارَةٌ عَنْ مِرَاءٍ يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ المَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا.
قَالَ المُنَاوِيُّ: ((هُوَ مِرَاءٌ يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ المَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا)).
وَقِيلَ: ((هُوَ التَّخَاصُمُ بِمَا يَشْغَلُ عَنْ ظُهُورِ الحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ)).
وَقَالَ الكَفَوِيُّ: ((هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَفْعِ المَرْءِ خَصْمَهُ عَنْ فَسَادِ قَوْلِهِ بِحُجَّةٍ أَوْ شُبْهَةٍ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُنَازَعَةِ غَيْرِهِ)).
وَالمُجَادَلَةُ: هِيَ المُنَازَعَةُ فِي المَسْأَلَةِ العِلْمِيَّةِ لِإِلْزَامِ الخَصْمِ؛ سَوَاءٌ كَانَ كَلَامُهُ فَاسِدًا أَوْ لَا.
وَالجِدَالُ قَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا إِذَا تَعَلَّقَ بِإِظْهَارِ الحَقِّ، وَقَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
(({ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}: يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَدْعُوَ الْخَلْقَ إِلَى اللهِ {بِالْحِكْمَةِ}: وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أَيْ: بِمَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْوَقَائِعِ بِالنَّاسِ، ذَكِّرْهُمْ بِهَا لِيَحْذَرُوا بَأْسَ اللهِ -تَعَالَى-.
{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: مَنِ احْتَاجَ مِنْهُمْ إِلَى مُنَاظَرَةٍ وَجِدَالٍ فَلْيَكُنْ بِالْوَجْهِ الْحَسَنِ؛ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَحُسْنِ خِطَابٍ، كَمَا قَالَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، فَأَمَرَهُ -تَعَالَى- بِلِينِ الْجَانِبِ، كَمَا أَمَرَ مُوسَى وَهَارُونَ (سلم2) حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه: 44])).
وَقَدْ يَكُونُ الجِدَالُ مَذْمُومًا إِذَا شَغَلَ عَنْ ظُهُورِ الحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ، وَهَذَا هُوَ المَقْصُودُ بِقَوْلِهِ ﷺ: ((مَا أُوتِيَ الجَدَلَ قَوْمٌ إِلَّا ضَلُّوا)).
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الكَبَائِرِ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنْ كَانَ الجِدَالُ لِلوُقُوفِ عَلَى الحَقِّ وَتَقْرِيرِهِ كَانَ مَحْمُودًا، وَإِنْ كَانَ الجِدَالُ فِي مُدَافَعَةِ الحَقِّ، أَوْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ كَانَ مَذْمُومًا، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ تُنَزَّلُ النُّصُوصُ الوَارِدَةُ فِي إِبَاحَتِهِ وَذَمِّهِ)).
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
((أَيْ: لِيَكُنْ دُعَاؤُكَ لِلْخَلْقِ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ المُسْتَقِيمِ المُشْتَمِلِ عَلَى العِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ {بِالحِكْمَةِ} أَيْ: كُلُّ أَحَدٍ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَفَهْمِهِ، وَقَبُولِهِ وَانْقِيَادِهِ.
وَمِنَ الحِكْمَةِ: الدَّعْوَةُ بِالعِلْمِ لَا بِالجَهْلِ، وَالبَدْءُ بِالأَهَمِّ فَالأَهَمِّ، وَبِالأَقْرَبِ إِلَى الأَذْهَانِ وَالفَهْمِ، وَبِمَا يَكُونُ قَبُولُهُ أَتَمَّ، وَبِالرِّفْقِ وَاللِّينِ.
فَإِنِ انْقَادَ بِالحِكْمَةِ وَإِلَّا فَلْيَنْتَقِلْ مَعَهُ بِالدَّعْوَةِ بِالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَهُوَ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ المَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، إِمَّا بِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الأَوَامِرُ مِنَ المَصَالِحِ وَتَعْدَادُهَا، وَالنَّوَاهِي مِنَ المَضَارِّ وَتَعْدَادُهَا.
وَإِمَّا بِذِكْرِ إِكْرَامِ مَنْ قَامَ بِدِينِ اللَّهِ، وَإِهَانَةِ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ.
وَإِمَّا بِذِكْرِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلطَّائِعِينَ مِنَ الثَّوَابِ العَاجِلِ وَالآجِلِ، وَمَا أَعَدَّ لِلْعَاصِينَ مِنَ العِقَابِ العَاجِلِ وَالآجِلِ.
فَإِنْ كَانَ المَدْعُوُّ يَرَى أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ حَقٌّ، أَوْ كَانَ دَاعِيَةً إِلَى البَاطِلِ؛ فَيُجَادَلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَهِيَ الطُّرُقُ الَّتِي تَكُونُ أَدْعَى لِاسْتِجَابَتِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا.
وَمِنْ ذَلِكَ: الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ بِالأَدِلَّةِ الَّتِي كَانَ يَعْتَقِدُهَا؛ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ المَقْصُودِ، وَأَلَّا تُؤَدِّيَ المُجَادَلَةُ إِلَى خِصَامٍ أَوْ مُشَاتَمَةٍ تَذْهَبُ بِمَقْصُودِهَا، وَلَا تَحْصُلُ الفَائِدَةُ مِنْهَا، بَلْ يَكُونُ القَصْدُ مِنْهَا هِدَايَةَ الخَلْقِ إِلَى الحَقِّ، لَا المُغَالَبَةَ وَنَحْوَهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أَيْ: عَلِمَ السَّبَبَ الَّذِي أَدَّاهُ إِلَى الضَّلَالِ، وَعَلِمَ أَعْمَالَهُ المُتَرَتِّبَةَ عَلَى ضَلَالَتِهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَيْهَا، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أَيْ: عَلِمَ أَنَّهُمْ يَصْلُحُونَ لِلْهِدَايَةِ فَهَدَاهُمْ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ فَاجْتَبَاهُمْ)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].
((يَنْهَى -تَعَالَى- عَنْ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ الْمُجَادِلِ، أَوْ بِغَيْرِ قَاعِدَةٍ مَرْضِيَّةٍ، وَأَلَّا يُجَادِلُوا إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ بِحُسْنِ خُلُقٍ، وَلُطْفٍ، وَلِينِ كَلَامٍ، وَدَعْوَةٍ إِلَى الْحَقِّ وَتَحْسِينِهِ، وَرَدٍّ عَنِ الْبَاطِلِ وَتَهْجِينِهِ بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ مُوَصِّلٍ لِذَلِكَ، وَأَلَّا يَكُونَ الْقَصْدُ مِنْهَا مُجَرَّدَ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ، بَلْ يَكُونُ الْقَصْدُ بَيَانَ الْحَقِّ وَهِدَايَةَ الْخَلْقِ؛ إِلا مَنْ ظَلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنْ ظَهَرَ مِنْ قَصْدِهِ وَحَالِهِ أَنَّهُ لَا إِرَادَةَ لَهُ فِي الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاغَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، فَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِي جِدَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا ضَائِعٌ.
{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} أَيْ: وَلْتَكُنْ مُجَادَلَتُكُمْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَأُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِرَسُولِكُمْ وَرَسُولِهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَلَا تَكُنْ مُنَاظَرَتُكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ الْقَدْحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ، يَقْدَحُ بِجَمِيعِ مَا مَعَهُمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْوَاجِبِ وَآدَابِ النَّظَرِ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَرُدَّ مَا مَعَ الْخَصْمِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيَقْبَلَ مَا مَعَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَرُدَّ الْحَقَّ لِأَجْلِ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ بِنَاءَ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فِيهِ إِلْزَامٌ لَهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْكُتُبُ، وَتَقَرَّرَتْ عِنْدَ الْمُتَنَاظِرَيْنِ، وَثَبَتَتْ حَقَائِقُهَا عِنْدَهُمَا، وَكَانَتِ الْكُتُبُ السَّابِقَةُ وَالْمُرْسَلُونَ مَعَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ ﷺ قَدْ بَيَّنَتْهَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرَتْ بِهَا؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ التَّصْدِيقُ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا، وَالرُّسُلِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ.
فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: نُؤْمِنُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْفُلَانِيُّ دُونَ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي صَدَّقَ مَا قَبْلَهُ، فَهَذَا ظُلْمٌ وَهَوًى، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ بِالتَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَذَّبَ الْقُرْآنَ الدَّالَّ عَلَيْهَا، الْمُصَدِّقَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ؛ فَإِنَّهُ مُكَذِّبٌ لِمَا زَعَمَ أَنَّهُ بِهِ مُؤْمِنٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ طَرِيقٍ تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّةُ أَيِّ نَبِيٍّ كَانَ فَإِنَّ مِثْلَهَا وَأَعْظَمَ مِنْهَا دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكُلَّ شُبْهَةٍ يُقْدَحُ بِهَا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَإِنَّ مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا إِلَى نُبُوَّةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُهَا فِي غَيْرِهِ فَثُبُوتُ بُطْلَانِهَا فِي حَقِّهِ ﷺ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أَيْ: مُنْقَادُونَ مُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ إِلَهًا، وَآمَنَ بِجَمِيعِ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَانْقَادَ لِلَّهِ، وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ؛ فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنِ انْحَرَفَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ الشَّقِيُّ)).
((الْجِدَالُ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ))
وَالجِدَالُ وَالمِرَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالدِّفَاعُ عَنِ البَاطِلِ وَأَهْلِهِ مِنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
فَالجَدَلُ فِي اللُّغَةِ -كَمَا مَرَّ-: مُقَابَلَةُ الحُجَّةِ بِالحُجَّةِ.
وَالمُجَادَلَةُ: المُنَاظَرَةُ وَالمُخَاصَمَةُ.
جَاءَ فِي ((المِصْبَاحِ)): ((جَدِلَ الرَّجُلُ جَدَلًا فَهُوَ جَدِلٌ، إِذَا اشْتَدَّتْ خُصُومَتُهُ، وَجَادَلَ مُجَادَلَةً وَجِدَالًا: إِذَا خَاصَمَ بِمَا يُشْغِلُ عَنْ ظُهُورِ الحَقِّ وَوُضُوحِ الصَّوَابِ، فَهَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ فِي مُقَابَلَةِ الأَدِلَّةِ لِظُهُورِ أَرْجَحِهَا، وَهُوَ مَحْمُودٌ إِذَا كَانَ لِلوُقُوفِ عَلَى الحَقِّ؛ وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ)).
وَالمِرَاءُ: الجِدَالُ، وَهُوَ مَصْدَرُ: مَارَى يُمَارِي.
قَالَ فِي ((المِصْبَاحِ)): ((مَارَيْتُهُ أُمَارِيهِ مُمَارَاةً وَمِرَاءً، جَادَلْتُهُ، وَيُقَالُ: مَارَيْتُهُ -أَيْضًا- إِذَا طَعَنْتَ فِي قَوْلِهِ تَزْيِيفًا لِلقَوْلِ، وَتَصْغِيرًا لِلقَائِلِ، وَلَا يَكُونُ المِرَاءُ إِلَّا اعْتِرَاضًا، بِخِلَافِ الجِدَالِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً وَاعْتِرَاضًا)).
وَمِنِ اسْتِعْمَالَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ لِلْمِرَاءِ بِمَعْنَى المُجَادَلَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22].
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 4-6].
((يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالمُرَادُ بِالمُجَادَلَةِ هُنَا: المُجَادَلَةُ لِرَدِّ آيَاتِ اللَّهِ، وَمُقَابَلَتِهَا بِالبَاطِلِ، فَهَذَا مِنْ صَنِيعِ الكُفَّارِ.
أَمَّا المُؤْمِنُونَ فَيَخْضَعُونَ لِلحَقِّ لِيُدْحِضُوا بِهِ البَاطِلَ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَغْتَرَّ بِحَالَةِ الإِنْسَانِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَظُنَّ أَنَّ إِعْطَاءَ اللَّهِ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} أَيْ: تَرَدُّدُهُمْ فِيهَا بِأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَالمَكَاسِبِ، بَلِ الوَاجِبُ عَلَى العَبْدِ أَنْ يَعْتَبِرَ النَّاسَ بِالحَقِّ، وَيَنْظُرَ إِلَى الحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَزِنَ بِهَا النَّاسَ، وَلَا يَزِنَ الحَقَّ بِالنَّاسِ، كَمَا عَلَيْهِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا عَقْلَ.
ثُمَّ هَدَّدَ مَنْ جَادَلَ بِآيَاتِ اللَّهِ لِيُبْطِلَهَا، كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ، الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَتَجَمَّعُوا عَلَى الْحَقِّ لِيُبْطِلُوهُ، وَعَلَى الْبَاطِلِ لِيَنْصُرُوهُ، وَأَنَّهُ بَلَغَتْ بِهِمُ الْحَالُ، وَآلَ بِهِمُ التَّحَزُّبُ إِلَى أَنَّهُ: {هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ}: مِنَ الْأُمَمِ {بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أَيْ: يَقْتُلُوهُ، وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ للرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ قَادَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ، الَّذِينَ مَعَهُمُ الْحَقُّ الصِّرْفُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ، هَمُّوا بِقَتْلِهِمْ؛ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ وَالشَّقَاءِ إِلَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ؟!
وَلِهَذَا قَالَ فِي عُقُوبَتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ: {فَأَخَذْتُهُم} أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ وَتَحَزُّبِهِمْ {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}: كَانَ أَشَدَّ الْعِقَابِ وَأَفْظَعَهُ، إِنْ هُوَ إِلَّا صَيْحَةٌ أَوْ حَاصِبٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَأْمُرُ الْأَرْضَ أَنْ تَأْخُذَهُمْ، أَوِ الْبَحْرَ أَنْ يُغْرِقَهُمْ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ.
{وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: كَمَا حَقَّتْ عَلَى أُولَئِكَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الضَّلَالِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهَا كَلِمَةُ الْعَذَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ})).
((الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُصُومَةِ))
الْمِرَاءُ: هُوَ طَعْنٌ فِي كَلَامِ الْغَيْرِ لِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَبِطَ بِهِ غَرَضٌ سِوَى تَحْقِيرِ الْغَيْرِ، وَإِظْهَارِ مَزِيَّةِ الْكِيَاسَةِ.
وَالْجِدَالُ: عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا.
وَالْمُجَادَلَةُ: عِبَارَةٌ عَنْ إِفْحَامِ الْغَيْرِ، وَتَعْجِيزِهِ، وَقَصْدِ ذَلِكَ، وَتَنْقِيصِهِ بِالْقَدْحِ فِي كَلَامِهِ، وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْقُصُورِ وَالْجَهْلِ فِيهِ.
وَالْخُصُومَةُ: لَجَاجٌ فِي الْكَلَامِ لِيُسْتَوْفَى بِهِ مَالٌ أَوْ حَقٌّ مَقْصُودٌ، وَذَلِكَ تَارَةً يَكُونُ ابْتِدَاءً، وَتَارَةً يَكُونُ اعْتِرَاضًا، وَالْمِرَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاعْتِرَاضٍ عَلَى كَلَامٍ سَبَقَ، فَالْخُصُومَةُ وَرَاءَ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ.
((النَّهْيُ عَنِ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
وَفِي الشَّرْعِ تَرْهِيبٌ شَدِيدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالْخِصَالِ الْمَرْذُولَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ؛ وَبِخَاصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البَقَرَةِ: ٢٠٤-٢٠٥].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مَرْيَمَ: ٩٧].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزُّخْرُفِ: ٥٧-٥٩].
((يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} أَيْ: نُهِيَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَجُعِلَتْ عِبَادَتُهُ بِمَنْزِلَةِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ؛ {إِذَا قَوْمُكَ}: الْمُكَذِّبُونَ لَكَ {مِنْهُ} أَيْ: مِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ {يَصِدُّونَ} أَيْ: يُسْرِفُونَ فِي خُصُومَتِهِمْ لَكَ، وَيَصِيحُونَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غَلَبُوا فِي حُجَّتِهِمْ وَأَفْلَجُوا.
{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يَعْنِي: عِيسَىٰ (سلم)، حَيْثُ نُهِيَ عَنْ عِبَادَةِ الْجَمِيعِ، وَشُورِكَ بَيْنَهُمْ بِالْوَعِيدِ عَلَىٰ مَنْ عَبَدَهُمْ، وَنَزَلَ -أَيْضًا- قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٨].
وَوَجْهُ حُجَّتِهِمُ الظَّالِمَةِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَكَ وَعِنْدَنَا -يَا مُحَمَّدُ- أَنَّ عِيسَىٰ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ الَّذِينَ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ؛ فَلِمَ سَوَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْنَامِ فِي النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْجَمِيعِ؟!
فَلَوْلَا أَنَّ حُجَّتَكَ بَاطِلَةٌ لَمْ تَتَنَاقَضْ.
وَلِمَ قُلْتَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، وَهَذَا اللَّفْظُ -بِزَعْمِهِمْ- يَعُمُّ الْأَصْنَامَ وَعِيسَىٰ؛ فَهَلْ هَذَا إِلَّا تَنَاقُضٌ؟ وَتَنَاقُضُ الْحُجَّةِ دَلِيلٌ عَلَىٰ بُطْلَانِهَا.
هَذَا أَنْهَىٰ مَا يُقَرِّرُونَ بِهِ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي فَرِحُوا بِهَا وَاسْتَبْشَرُوا، وَجَعَلُوا يَصُدُّونَ وَيَتَبَاشَرُونَ.
وَهِيَ -وَلِلَّهِ الْحَمْدُ- مِنْ أَضْعَفِ الشُّبَهِ وَأَبْطَلِهَا؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ اللَّهِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْمَسِيحِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ حَقٌّ لِلَّهِ -تَعَالَى-، لَا يَسْتَحِقُّهَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ؛ لَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَلَا الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ، وَلَا مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْخَلْقِ.
فَأَيُّ شُبْهَةٍ فِي تَسْوِيَةِ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ عِيسَىٰ وَغَيْرِهِ؟!
وَلَيْسَ تَفْضِيلُ عِيسَىٰ (سلم)، وَكَوْنُهُ مُقَرَّبًا عِنْدَ رَبِّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَىٰ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}؛ فَالنُّبُوَّةُ وَالْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَنْعَمَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَيْهِ.
{وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}: يَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَىٰ إِيجَادِهِ مِنْ دُونِ أَبٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}.
فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}: أَنَّ (مَا) اسْمٌ لِمَا لَا يَعْقِلُ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَسِيحُ وَنَحْوُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا وَأَوْثَانًا، وَلَا يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اللهَ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، فَلَا شَكَّ أَنَّ عِيسَى وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ دَاخِلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ)).
وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: ((خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ؛ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ)).
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -عِنْدَ مُسْلِمٍ- قَالَ: ((فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ، مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا)).
قَالَ النَّوَوِيُّ: ((رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ -هُوَ بِالْقَافِ-، وَمَعْنَاهُ: يَطْلُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ الْمُحِقُّ، وَفِيهِ: أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ وَالْمُنَازَعَةَ مَذْمُومَةٌ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ)).
وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- لِحَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي مَرَّ بِقَوْلِهِ: ((بَابُ: رَفْعِ مَعْرِفَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِتَلَاحِي النَّاسِ)).
قَالَ الْحَافِظُ: ((أَيْ: بِسَبَبِ تَلَاحِي النَّاسِ، وَقَيَّدَ الرَّفْعَ بِـ (مَعْرِفَةٍ)؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا لَمْ تُرْفَعْ -يَعْنِي: لَيْلَةَ الْقَدْرِ- أَنَّهَا لَمْ تُرْفَعْ أَصْلًا وَرَأْسًا؛ بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ)).
وَعَنْ عَائِشَةَ (ض1) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((الْأَلَدُّ)): الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ.
وَ ((الْخَصِمُ)): الَّذِي يَحُجُّ مَنْ يُخَاصِمُهُ.
قَالَ الْحَافِظُ: ((الْأَلَدُّ: الشَّدِيدُ اللَّدَدِ، أَيِ: الْجِدَالِ، مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّدِيدَيْنِ، وَهُمَا: صَفْحَتَا الْعُنُقِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْجِهَاتِ أَخَذَ فِي الْخُصُومَةِ قَوِيَ، وَالْخَصِمُ، أَيْ: الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ)).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ بَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَتَذَاكَرُ، يَنْزِعُ هَذَا بِآيَةٍ، وَيَنْزِعُ هَذَا بِآيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: ((يَا هَؤُلَاءِ! بِهَذَا بُعِثْتُمْ، أَمْ بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟! لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَلَهُ شَوَاهِدُ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ))، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58])). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَتَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ)). وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَ «رَبَضُ الْجَنَّةِ» -بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ-: هُوَ مَا حَوْلَهَا، فَالرَّبَضُ هُنَا: حَوَالَيِ الْجَنَّةِ وَأَطْرَافُهَا، لَا فِي وَسَطِهَا.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِيهِ: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ)): ((فِي رَبَضِ)) -بِفَتْحَتَيْنِ- أَيْ: حَوَالَيِ الْجَنَّةِ وَأَطْرَافِهَا، لَا فِي وَسَطِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ: خَارِجًا عَنِ الْجَنَّةِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَنَّةِ فِي حَوَالِيِّهَا.
وَ «مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ» -بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْمَدِّ- أَيِ: الْجِدَالَ؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقَعَ صَاحِبُهُ فِي اللَّجَاجِ الْمُوقِعِ فِي الْبَاطِلِ.
وَقَوْلُهُ: «وَمَنْ حَسَّنَ» مِنَ التَّحْسِينِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ)).
وَ «الْبَيْتُ» هُنَا: هُوَ الْقَصْرُ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُهُ: «أَنَا زَعِيمٌ» يَعْنِي: أَنَا ضَامِنٌ وَكَفِيلٌ وَمُلْتَزِمٌ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا.
وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يُوسُف: 72] يَعْنِي: أَنَا مُلْتَزِمٌ بِحِمْلِ الْبَعِيرِ لِمَنْ أَتَى بِصُوَاعِ الْمَلِكِ.
{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} يَعْنِي: بِهَذَا الَّذِي وَعَدْتُ بِهِ، وَهَذَا الْجُعْلُ الَّذِي جُعِلَ أَنَا مُلْتَزِمٌ بِهِ.
وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَا كَفِيلٌ وَضَامِنٌ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» يَعْنِي: الْمُجَادَلَةَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ وَالشِّقَاقِ وَالْوَحْشَةِ، فَالْإِنْسَانُ يَبْتَعِدُ عَنْهَا؛ حَتَّى تَسْلَمَ الْقُلُوبُ، وَحَتَّى تُصَفَّى النُّفُوسُ.
وَقَوْلُهُ: «وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا»؛ فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ عَلَى الصِّدْقِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْكَذِبِ، فَمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَلَوْ كَانَ عَنْ طَرِيقِ الْمَزْحِ فَإِنَّهُ مَوْعُودٌ بِهَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ بَيْتٌ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُهُ: «وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ»: هَذَا مَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ إِيرَادِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَنْزِلَةِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ.
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَعَلَى أَهَمِّيَّتِهِ.
وَالْجِدَالُ وَالْمِرَاءُ لَيْسَا مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي شَيْءٍ، وَقَدْ يَكُونَانِ مَمْدُوحَيْنِ إِذَا قُصِدَ بِهِمَا تَأْيِيدُ الْحَقِّ، أَوْ إِبْطَالُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ يَكُونَانِ فَرْضَ عَيْنٍ كَمَا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ مَا الدِّفَاعُ عَنِ الْحَقِّ، أَوْ إِبْطَالُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ يَكُونَانِ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ، وَيَتَبَنَّى بَيَانَ مَصَالِحِهَا، وَيَكْشِفُ وُجُوهَ الْبَاطِلِ، وَيُزَيِّفُ مَقَاصِدَهُ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 104].
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
((الْجِدَالُ بِالْحَقِّ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ))
وَالْجِدَالُ بِالْحَقِّ مِنْ وَظَائِفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالْمُصْلِحِينَ؛ لِإِنَارَةِ سُبُلِ الْخَيْرِ، وَتَزْيِيفِ مَسَالِكِ الشَّرِّ.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
وَالْجِدَالُ بِالْحَقِّ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِهَذَا أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
فَقَالَ: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
وَقَالَ: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَقَدْ أَخَذَ اللهُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ بَيَانِ الْحَقِّ، وَتَعْلِيمِ النَّاسِ الْخَيْرَ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 87].
((النَّهْيُّ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّخَاصُمِ))
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالتَّخَاصُمِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وَقالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118-119].
وَقَالَ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} {الأنفال: 46].
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ خِلَافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((كِلَاكُمَا مُحسِنٌ، لَا تَختَلِفُوا؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَ ((هَيْشَاتُ الْأَسْوَاقِ)): اخْتِلَاطُهَا، وَالْمُنَازَعَةُ وَالْخُصُومَاتُ، وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ، وَاللَّغَطُ، وَالْفِتَنُ الَّتِي فِي الْأَسْوَاقِ.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَرَآنَا حِلَقًا، فَقَالَ: ((مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟!)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَ ((عِزِينَ)) أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ جَمَاعَةً جَمَاعَةً.
وَمَعْنَاهُ: النَّهْيُّ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِمَاعِ؛ حَتَّى عِنْدَ الْجُلُوسِ.
((مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟!)).
وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ تَفَرَّقُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَودِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ)).
قَالَ: ((فَلَمْ يَنْزِلُوا بَعْدُ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ حَتَّى لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَالِاخْتِلَافُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْحَيَاةِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ وَاقِعٌ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ؛ لِقَولِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119].
وَالِافْتِرَاقُ وَالِاخْتِلَافُ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُكَلَّفُونَ شَرْعًا بِالْأَخْذِ بِأَسْبَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وَأَهَمُّ أَسْبَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْخِلَافِ: الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ الْمَتِينِ، وَرَدُّ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ فِيهِمَا: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وَالِاخْتِلَافُ وَالتَّنَازُعُ وَالتَّخَاصُمُ مَذْمُومٌ شَرْعًا، لَا يَجُوزُ فِي أَيِّ عَمَلٍ أَوْ حَالٍ، وَهَذَا يَظْهَرُ لِمَنْ تَدَبَّرَ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا التَّفَرُّقِ فِي الْأَبْدَانِ عِنْدَ النُّزُولِ فِي مَكانٍ، وَفِي الْأُمُورِ الْحَيَاتِيَّةِ الْعَادِيَّةِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَتَلْبِيسِهِ؛ أَفَلَا يَكُونُ التَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؟!
وَأَمَّا الْمَظْلُومُ الَّذِي يَنْصُرُ حُجَّتَهُ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ لَدَدٍ، وَإِسْرَافٍ، وَزِيَادَةِ لَجَاجٍ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، مِنْ غَيْرِ قَصْدِ عِنَادٍ وَإِيذَاءٍ؛ فَفِعْلُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ؛ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ مَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ فَإِنَّ ضَبْطَ اللِّسَانِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ مُتَعَذِّرٌ.
((الْخِلَافُ الْمَحْمُودُ لَا يَمَسُّ وَحْدَةَ الْمُسْلِمِينَ))
((إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهَا لَمْ يَكُنْ فِي أُصُولِ دِينِهَا وَمَصَادِرِهِ الْأَصِيلَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِلَافُ فِي أَشْيَاءَ لَا تَمَسُّ وَحْدَةَ الْمُسْلِمِينَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ.
مِنَ الْمَعْلُومِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا فَهِمُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ بَيَّنَ هَذَا الدِّينَ بَيَانًا شَافِيًا كَافِيًا لَا يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى بَيَانٍ؛ لِأَنَّ الْهُدَى بِمَعْنَاهُ يُنَافِي الضَّلَالَةَ بِكُلِّ مَعَانِيهَا، وَدِينُ الْحَقِّ بِمَعْنَاهُ يُنَافِي كُلَّ دِينٍ بَاطِلٍ لَا يَرْتَضِيهِ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَرَسُولُ اللَّهِ بُعِثَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَكَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِهِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- يَرْجِعُونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَيْهِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ؛ سَوَاءً فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، أَوْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ حُكْمُهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا لَهَا.
وَمَا أَكْثَرَ مَا نَقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلَهُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ كَذَا، فَيُجِيبُ اللَّهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ بِالْجَوَابِ الشَّافِي، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إِلَى النَّاسِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4].
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَلَكِنْ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ﷺ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا تَقْضِي عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِ مَصَادِرِهَا؛ وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ سَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضَ أَسْبَابِهِ.
وَنَحْنُ جَمِيعًا نَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ الْمَوْثُوقِ بِعِلْمِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ وَدِينِهِمْ يُخَالِفُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ ﷺ عَنْ عَمْدٍ وَقَصْدٍ؛ لِأَنَّ مَنِ اتَّصَفُوا بِالْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَائِدُهُمُ الْحَقَّ، وَمَنْ كَانَ رَائِدُهُ الْحَقَّ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُيَسِّرُهُ لَهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 22].
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ} [الليل: 5-7].
((أَسْبَابُ خِلَافِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْفُرُوعِ))
إِنَّ الْأَئِمَّةَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْهُمُ الْخَطَأُ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَا فِي الْأُصُولِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا الْخَطَأُ أَمْرٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
الْإِنْسَانُ ضَعِيفٌ فِي عِلْمِهِ وَإِدْرَاكِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي إِحَاطَتِهِ وَشُمُولِهِ؛ وَلِذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ الْخَطَأُ مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَنَحْنُ نُجْمِلُ مَا أَرَدْنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَطَأِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ السَّبْعَةِ، مَعَ أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، وَبَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَالْإِنْسَانُ الْبَصِيرُ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْرِفُ أَسْبَابَ الْخِلَافِ الْمُنْتَشِرَةَ، نُجْمِلُهَا بِمَا يَأْتِي:
* السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْمُخَالِفَ الَّذِي أَخْطَأَ فِي حُكْمِهِ.
* السَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَ الرَّجُلَ؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثِقْ بِنَاقِلِهِ.
* السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ؛ وَلَكِنَّهُ نَسِيَهُ.
* السَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ، وَفَهِمَ مِنْهُ خِلَافَ الْمُرَادِ.
* السَّبَبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ؛ لَكِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّاسِخِ.
* السَّبَبُ السَّادِسُ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.
* السَّبَبُ السَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ الْعَالِمُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، أَوْ يَسْتَدِلَّ اسْتِدْلَالًا ضَعِيفًا.
((مَوْقِفُنَا مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ الْمَوْثُوقِينَ))
إِنَّ النَّاسَ بِسَبَبِ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَقْرُوءَةِ وَالْمَرْئِيَّةِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَوِ اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْوَسَائِلِ صَارُوا يَتَشَكَّكُونَ، وَيَقُولُونَ: مَنْ نَتَّبِعُ؟!
تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ = فَمَا يَدْرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: مَوْقِفُنَا مِنْ هَذَا الْخِلَافِ -وَأَعْنِي بِهِ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَوْثُوقُونَ عِلْمًا وَدِيَانَةً، لَا مَنْ هُمْ مَحْسُوبُونَ عَلَى الْعِلْمِ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْتَبِرُ هَؤُلَاءِ عُلَمَاءَ، وَلَا نَعْتَبِرُ أَقْوَالَهُمْ مِمَّا يُحْفَظُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَلَكِنَّنَا نَعْنِي بِهِ الْعُلَمَاءَ الْمَعْرُوفِينَ بِالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ- مَوْقِفُنَا مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
1* كَيْفَ خَالَفَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مَا يَقْتَضِيهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ؟
وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ، وَبِمَا لَمْ نَذْكُرْهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ يَظْهَرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ؛ حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَبَحِّرًا فِي الْعِلْمِ.
٢* مَا مَوْقِفُنَا مِنَ اتِّبَاعِهِمْ؟ وَمَنْ نَتَّبِعُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ؟
أَيَتَّبِعُ الْإِنْسَانُ إِمَامًا لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ الصَّوَابُ مَعَ غَيْرِهِ كَعَادَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلْمَذَاهِبِ، أَمْ يَتَّبِعُ مَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ؟
الْجَوَابُ هُوَ الثَّانِي؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِالدَّلِيلِ أَنْ يَتَّبِعَ الدَّلِيلَ وَلَوْ خَالَفَ مَنْ خَالَفَ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ فِعْلًا وَتَرْكًا بِكُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ؛ فَقَدْ شَهِدَ لِغَيْرِ الرَّسُولِ بِخَصَائِصِ الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمَ قَوْلِهِ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَلَا أَحَدَ إِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ سِوَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَلَكِنْ يَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّنَا لَا نَزَالُ فِي دَوَّامَةِ مَنِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَنْبِطَ الْأَحْكَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ؟
هَذِهِ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَارَ يَقُولُ: أَنَا صَاحِبُهَا، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، نَعَمْ، مِنْ حَيْثُ الْهَدَفُ وَالْأَصْلُ هُوَ جَيِّدٌ؛ أَنْ يَكُونَ رَائِدَ الْإِنْسَانِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ؛ لَكِنْ كَوْنُنَا نَفْتَحُ الْبَابَ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ أَنْ يَنْطِقَ الدَّلِيلَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ وَفَحْوَاهُ، فَنَقُولُ: أَنْتَ مُجْتَهِدٌ تَقُولُ مَا شِئْتَ، هَذَا يَحْصُلُ فِيهِ فَسَادُ الشَّرِيعَةِ، وَفَسَادُ الْخَلْقِ وَالْمُجْتَمَعِ.
وَالنَّاسُ يَنْقَسِمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
١* عَالِمٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَفَهْمًا.
٢* طَالِبُ عِلْمٍ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ؛ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ ذَلِكَ الْمُتَبَحِّرِ.
٣* عَامِّيٌّ لَا يَدْرِي شَيْئًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ لَهُ الْحَقَّ أَنْ يَجْتَهِدَ وَأَنْ يَقُولَ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ مَا كَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عِنْدَهُ مَهْمَا خَالَفَهُ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وَهَذَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ.
أَمَّا الثَّانِي: الَّذِي رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا؛ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْأَوَّلِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِذَا أَخَذَ بِالْعُمُومَاتِ وَالْإِطْلَاقَاتِ وَبِمَا بَلَغَهُ؛ وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرِزًا فِي ذَلِكَ، وَأَلَّا يُقَصِّرَ عَنْ سُؤَالِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ، وَقَدْ لَا يَصِلُ عِلْمُهُ إِلَى شَيْءٍ خَصَّصَ مَا كَانَ عَامًّا، أَوْ قَيَّدَ مَا كَانَ مُطْلَقًا، أَوْ نَسَخَ مَا يَرَاهُ مُحْكَمًا، وَهُوَ لَا يَدْرِي بِذَلِكَ.
أَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43-44].
فَوَظِيفَةُ هَذَا أَنْ يَسْأَلَ؛ وَلَكِنْ مَنْ يَسْأَلُ؟ فِي الْبَلَدِ عُلَمَاءُ كَثِيرُونَ، وَكُلٌّ يَقُولُ: إِنَّهُ عَالِمٌ، أَوْ كُلٌّ يُقَالُ عَنْهُ: إِنَّهُ عَالِمٌ؛ فَمَنِ الَّذِي يَسْأَلُ؟!
هَلْ نَقُولُ: يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَحَرَّى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ فَتَسْأَلَهُ، ثُمَّ تَأْخُذَ بِقَوْلِهِ، أَوْ نَقُولُ: اسْأَلْ مَنْ شِئْتَ مِمَّنْ تَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْمَفْضُولُ قَدْ يُوَفَّقُ لِلْعِلْمِ فِي مَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَا يُوَفَّقُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَعْلَمُ؟
اخْتَلَفَ فِي هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ يَرَاهُ أَوْثَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ عُلَمَاءِ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي أُصِيبَ بِمَرَضٍ فِي جِسْمِهِ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ لِمَرَضِهِ مَنْ يَرَاهُ أَقْوَى مَعْرِفَةً فِي أُمُورِ الطِّبِّ فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ دَوَاءُ الْقُلُوبِ، فَكَمَا أَنَّكَ تَخْتَارُ لِمَرَضِكَ مَنْ تَرَاهُ أَقْوَى فَكَذَلِكَ هُنَا يَجِبُ أَنْ تَخْتَارَ مَنْ تَرَاهُ أَقْوَى عِلْمًا؛ إِذْ لَا فَرْقَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَقْوَى عِلْمًا قَدْ لَا يَكُونُ أَعْلَمَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِعَيْنِهَا، وَيُرَشِّحُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ النَّاسَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ (ض3) كَانُوا يَسْأَلُونَ الْمَفْضُولَ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ.
وَالَّذِي أَرَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ يَسْأَلُ مَنْ يَرَاهُ أَفْضَلَ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ قَدْ يُخْطِئُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَمَنْ هُوَ مَفْضُولٌ قَدْ يُصِيبُ فِيهَا الصَّوَابَ، فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَالْأَرْجَحُ: أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ؛ لِعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ وَدِينِهِ)).
((فُشُوُّ الْجِدَالِ وَالْعَقْلِيَّاتِ الْجَدَلِيَّةِ))
هَذِهِ الْآفَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي ضُرِبَتْ بِهَا الْمُجْتَمَعَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ سَبَبٌ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيشِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْفَوْضَى، وَصَارَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ، وَصَارَ النَّاسُ مُخْتَلِفِينَ، صَارُوا عِزِينَ، وَكُلٌّ يَنْصُرُ رَأْيَهُ، لَا يَحِيدُ عَنْ رَأْيِهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأُهُ وَاضِحًا، وَزَيْفُهُ لَائِحًا.
وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْأَمْرَ عَادَ إِلَى كِتَابِ اللهِ، وَإِلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ؛ لَوَقَعَ الِائْتِلَافُ، وَلَحَلَّتِ الْأُلْفَةُ، وَلَرُفِعَ النِّزَاعُ، وَلَعَادَتِ الْأُمُورُ إِلَى طَبَائِعِهَا الشَّرْعِيَّةِ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي الْمُجْتَمَعِ الَّذِي يَتَمَسَّكُ بِهِدَايَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَتْ عَقْلِيَّتُهُ جَدَلِيَّةً؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَصِفُهُ بِأَنَّ عَقْلِيَّتَهُ جَدَلِيَّةٌ، فَهُوَ لَا يَدَعُ أَمْرًا يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلَّا وَجَادَلَ فِيهِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْجِدَالَ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَقَائِقِ الْمُسَلَّمَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الْبَدَهِيَّةِ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا مَرَدَ عَلَى الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالنِّزَاعِ فَلَا يَدَعُ أَمْرًا قَطُّ إِلَّا وَجَادَلَ فِيهِ!
فَأَصْحَابُ الْعَقْلِيَّاتِ الْجَدَلِيَّةِ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِيمَنْ حَوْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُ فِي الْأُسَرِ -مَثَلًا- لَوْ كَانَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ الْأَصْلِيَّيْنِ ذَا عَقْلِيَّةٍ جَدَلِيَّةٍ؛ فَقَلَّمَا تَسْتَقِيمُ الْأُسْرَةُ، وَإنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ كُلٌّ عِنْدَ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ.
وَفِي أَدَبِيَّاتِ الْعَوَامِّ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: ((النِّقَارُ يُخَرِّبُ الدِّيَارَ))، فَهَذَا مَلْحُوظٌ وَوَاقِعٌ؛ فَإِنَّ النَّاسَ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي كَأَنَّهَا مِنَ الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وأَنَّ مَا يَقَعُ مِنَ الشِّجَارِ وَالنِّزَاعِ فِي بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ يُؤَدِّي حَتْمًا إِلَى خَرَابِهِ.
لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا خَرَجَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِتَعْيِينِ عَيْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، بِحَيْثُ لَا يُعَنِّي الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ فِي تَطْلَابِهَا؛ اسْتَبَّ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، احْتَقَّ فُلَانٌ وَفُلَانٌ -كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ- قَالَ: ((فَرُفِعَتْ)) يَعْنِي: فَرُفِعَ عِلْمُ تَعْيِينِهَا تَعَيُّنًا صَارِمًا حَاسِمًا، بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَمْرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ: ((الْتَمِسُوهَا فِي السَّابِعَةِ، فِي التَّاسِعَةِ))، ((الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ))، وَيَكُونَ خَيْرًا لِأَصْحَابِ الْهِمَمِ، وَأَمَّا الضِّعَافُ مِنْ أَمْثَالِنَا فَلَا شَكَّ أَنَّ تَحْدِيدَ عَيْنِهَا بِقَطْعٍ وَيَقِينٍ يَكُونُ خَيْرًا عَظِيمًا؛ وَلَكِنْ رُفِعَ هَذَا الْخَيْرُ فِي تَعْيِينِ عَيْنِهَا، وَلَمْ تُرْفَعْ بِذَاتِهَا، لَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ وَالشِّجَارُ وَالِاحْتِقَاقُ وَالنِّزَاعُ وَالْمُمَارَاةُ؛ فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى صِدْقِ قَوْلِ الْعَوَامِّ فِيمَا وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ أَنَّ ((النِّقَارَ يُخرِّبُ الدِّيَارَ)).
وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ بَيْتًا ذَا سَلَامٍ وَسُكُونٍ، وَسَكِينَةٍ وَصَفَاءٍ، وَتَعَامُلٍ بِرِفْقٍ لَا عُنْفَ فِيهِ إِلَّا وَوَجَدْتَهُ مَحَلًّا لِلسَّكِينَةِ، وَمَبَاءَةً لِلرَّحْمَةِ، وَمُبَوَّءًا لِنُزُولِ الْخَيْرَاتِ عَلَيْهِ، مَعَ مَا يَحُلُّ بِهِ مِنَ الْبَرَكةِ تَظْهَرُ فِي حَوَائِطِهِ، وَفِي أَرْضِهِ، فِي جُدْرَانِهِ، فِي أَثَاثِهِ، فِي كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا كَانَ قَدِ ابْتُلِيَ بِتِلْكَ الْعَقْلِيَّةِ الْجَدَلِيَّةِ أَنْ يُمْسِكَ لِسَانَهُ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَيْهِ أَلَّا يَتَكَلَّمَ إِلَّا فِيمَا يُحْسِنُ.
وَاللهُ مِنْ وَرَاءِ الْقَصْدِ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
((عِلَاجُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْمُخَاصَمَةِ))
مَا هُوَ عِلَاجُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْمُخَاصَمَةِ؟
عِلَاجُ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ: ((يَكْسِرَ الْكِبْرَ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى إِظْهَارِ فَضْلِهِ، وَالسَّبُعِيَّةَ الْبَاعِثَةَ لَهُ عَلَى تَنْقِيصِ غَيْرِهِ)).
فَإِنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ بِإِمَاطَةِ أَسْبَابِهَا، وَسَبَبُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ مَا ذُكِرَ، ثُمَّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ تَجْعَلُهُ عَادَةً وَطَبْعًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ النَّفْسِ، وَيَعْسُرَ الصَّبْرُ عَنْهُ.
رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: ((لِمَ آثَرْتَ الِانْزِوَاءَ وَالْعُزْلَةَ؟)).
قَالَ: ((لِأُجَاهِدَ نَفْسِي بِتَرْكِ الْجِدَالِ)).
قَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: ((احْضُرِ الْمَجَالِسَ، وَاسْتَمِعْ مَا يُقَالُ، وَلَا تَتَكَلَّمْ)).
قَالَ دَاوُدُ: ((فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَمَا رَأَيْتُ مُجَاهَدَةً أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْهَا)).
وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ الْخَطَأَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كَشْفِهِ؛ تَعَسَّرَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا.
وَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ: ((مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ))؛ لِشِدَّةِ ذَلِكَ عَلَى النَّفْسِ، وَأَكْثَرُ مَا يَغْلِبُ ذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- فِي تَقْرِيرِ الْحُجَجِ وَالْعَقَائِدِ؛ فَإِنَّ الْمِرَاءَ طَبْعٌ، فَإِذَا ظَنَّ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ ثَوَابًا اشْتَدَّ عَلَيْهِ حِرْصُهُ، وَتَعَاوَنَ الطَّبْعُ وَالشَّرْعُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ خَطَأٌ مَحْضٌ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَإِذَا رَأَى مُبْتَدِعًا تَلَطَّفَ فِي نُصْحِهِ فِي خَلْوَةٍ، لَا بِطَرِيقِ الْجِدَالِ؛ فَإِنَّ الْجِدَالَ يُخَيِّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا حِيلَةٌ مِنْهُ فِي التَّلْبِيسِ، وَأَنَّ ذَلِكَ صَنْعَةٌ يَقْدِرُ الْمُجَادِلُونَ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ عَلَى أَمْثَالِهَا لَوْ أَرَادُوا، فَتَسْتَمِرُّ الْبِدْعَةُ فِي قَلْبِهِ بِالْجَدَلِ وَتَتَأَكَّدُ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ النُّصْحَ لَا يَنْفَعُ اشْتَغَلَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَهُ، وَإِذَا كَانَ دَاعِيَةً إِلَى بِدْعَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَذِّرَ مِنْهُ، وَأَنْ يُشَهِّرَ بِهِ، وَأَنْ يُنَفِّرَ عَنْهُ.
وَكُلُّ مَنِ اعْتَادَ الْمُجَادَلَةَ مُدَّةً، وَأَثْنَى النَّاسُ عَلَيْهِ، وَوَجَدَ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِهِ عِزًّا وَقَبُولًا؛ قَوِيَتْ فِيهِ هَذِهِ الْمُهْلِكَاتُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ عَنْهَا نُزُوعًا؛ إِذِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْغَضَبِ، وَالْكِبْرِ، وَالرِّيَاءِ، وَحُبِّ الْجَاهِ، وَالتَّعَزُّزِ بِالْفَضْلِ، وَآحَادُ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَشُقُّ مُجَاهَدَتُهَا؛ فَكَيْفَ بِمَجْمُوعِهَا؟!
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ)).
وَالْمَعْنَى: أَنْ يَتَمَارَى اثْنَانِ فِي آيَةٍ يَجْحَدُهَا أَحَدُهُمَا وَيَدْفَعُهَا، أَوْ يَصِيرُ فِيهَا إِلَى الشَّكِّ؛ فَذَلِكَ هُوَ الْمِرَاءُ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، وَأَمَّا التَّنَازُعُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ؛ فَقَدْ تَنَازَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْمِرَاءَ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ هُوَ الْجُحُودُ وَالشَّكُّ، كَمَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [الحج: 55].
وَنَهَى السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- عَنِ الْجِدَالِ فِيهِ وَالتَّنَاظُرِ؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى رَدِّ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ الِاعْتِقَادَاتُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يُوصَفُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ.
((سَبِيلُ التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ))
وَقَدْ وَصَفَ الرَّاغِبُ -رَحِمَهُ اللهُ- سَبِيلَ التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ اللَّجَاجِ لَا الْحِجَاجِ، وَمَعَ أَهْلِ الْمِرَاءِ وَالْعِنَادِ، فَقَالَ: ((إِذَا ابْتُلِيتَ بِمُهَارِشٍ مُمَاحِكٍ مُنَاوِشٍ قَصْدُهُ اللَّجَاجُ لَا الْحِجَاجُ، وَمُرَادُهُ مُنَاوَأَةُ الْعُلَمَاءِ، وَمُمَارَاةُ السُّفَهَاءِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ جَهَنَّمَ)).
قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَاهُ مُعِدًّا لِلْخِلَافِ كَأَنَّهُ = بِرَدٍّ عَلَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ
فَحَقُّكَ أَنْ تَفِرَّ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَاوِدِ وَالْأُسُودِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِنْ مُزَاوَلَتِهِ بُدًّا فَكَابِرْ إِنْكَارَهُ الْحَقَّ بِإِنْكَارِكَ الْبَاطِلَ، وَدِفَاعَهُ الصِّدْقَ بِدِفَاعِكَ الْكَذِبَ، مُعْتَبِرًا فِي ذَلِكَ:
قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [ النمل: 50].
وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَكَرَ اللهُ} [ آل عمران: 54].
وَقَوْلَهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الْمُنَافِقِينَ: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14-15].
وَكَذَلِكَ انْظُرْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وَبَالِغْ فِي ذَلِكَ مَعَهُ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُعَرِّجَ مَعَهُ إِلَى بَثِّ الْحِكْمَةِ، وَأَنْ تَذْكُرَ لَهُ شَيْئًا مِنَ الْحَقَائِقِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ لَهُ قَلْبًا طَاهِرًا لَائِقًا لِلْحِكْمَةِ، وَقَدْ قَالَ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ))؛ فَإِنَّ لِكُلِّ تُرْبَةٍ غَرْسًا، وَلِكُلِّ بِنَاءٍ أُسًّا، وَمَا كُلُّ الرُّؤُوسِ تَسْتَحِقُّ التِّيجَانَ، وَلَا كُلُّ طَبِيعَةٍ تَسْتَحِقُّ إِفَادَةَ الْبَيَانِ.
وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاقْتَصِرْ مَعَهُ عَلَى إِقْنَاعٍ يَبْلُغُهُ فَهْمُهُ؛ فَقَدْ قِيلَ: كَمَا أَنَّ لُبَّ الثِّمَارِ مُبَاحٌ لِلنَّحْلِ، وَالتِّبْنَ مَعْدُودٌ لِلْأَنْعَامِ؛ كَذَلِكَ لُبُّ الْحِكْمَةِ مُعَدٌّ لِذَوِي الْأَلْبَابِ، وَقُشُورُهَا مَجْعُولَةٌ لِلْأَنْعَامِ، وَكَمَا أَنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَشُمَّ الْأَخْشَمُ رَيْحَانًا؛ فَمُحَالٌ أَنْ يُفِيدَ الْحِمَارُ بَيَانًا)).
((آدَابُ الْجِدَالِ وَالْمُجَادِلِ))
وَقَدْ فَصَّلَ الْخَطِيبُ -رَحِمَهُ اللهُ- آدَابَ الْمُجَادِلِ، وَآدَابَ الْجِدَالِ، فَقَالَ: ((يَنْبَغِي لِلْمُجَادِلِ:
* أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى جِدَالِهِ تَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
*ويُخِلِصُ النِّيَّةَ فِي جِدَالِه؛ بِأَنْ يَبْتَغِيَ بِهِ وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-، وَلْيَكُنْ قَصْدُهُ فِي نَظَرِهِ إِيضَاحَ الْحَقِّ، وَتَثْبِيتَهُ دُونَ الْمُغَالَبَةِ لِلْخَصْمِ.
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ، وَتَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَحِفْظٌ، وَمَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيَّنَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِي أَمْ لِسَانِهِ)).
* وَيَبْنِي أَمْرَهُ عَلَى النَّصِيحَةِ لِدِينِ اللَّهِ، وَلِلَّذِي يُجَادِلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَجْمَعُ فِي الدِّينِ، مَعَ أَنَّ النَّصِيحَةَ وَاجِبَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ
فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ)).
وَكَانَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَحْلِفُ وَيَقُولُ: ((مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا إِلَّا عَلَى النَّصِيحَةِ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ)).
* وَيَسْتَشْعِرُ المُجَادِلُ فِي مَجْلِسِهِ الْوَقَارَ، وَيَسْتَعْمِلُ الْهُدَي، وَحُسْنَ السَّمْتِ، وَطُولَ الصَّمْتِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْكَلَامِ، وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْ خَصْمِهِ فِي جِدَالِهِ كَلِمَةٌ كَرِهَهَا؛ أَغْضَى عَلَيْهَا، وَلَمْ يُجَازِهِ بِمِثْلِهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ض2) قَالَ: ((قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ -أَيِ: الْأَشْخَاصِ- الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ -أَيْ: يُقَرِّبُهُمْ- عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ الْقُرَّاءُ -وَهُمُ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَفْقَهُونَهُ- وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ -يَعْنِي: يُشَاوِرُهُمْ فِي أُمُورِهِ؛ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا-.
فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: ((يَا ابْنَ أَخِي! لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ)).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ)).
فَلَمَّا دَخَلَ عُيَيْنَةُ عَلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((هِيهْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ -وَقَوْلُهُ (هِيهْ): كَلِمَةُ زَجْرٍ وَرَدْعٍ، فَوَاجَهَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِهَذَا الْكَلَامِ-: هِيهْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ! مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ)).
فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ -أَيْ: هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ-.
فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: ((يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ)).
وَاللَّهِ! مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ)). أَخرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
*وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِحَضْرَةِ مَنْ يَشْهَدُ لِخَصْمِهِ بِالزُّورِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ إِذَا وَضَحَتْ لَدَيْهِ الْحُجَّةُ دَفَنَهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِقَامَتِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَةِ الْحَقِّ إِلَّا مَعَ الْإِنْصَافِ، وَتَرْكِ التَّعَنُّتِ وَالْإِجْحَافِ.
*وَيَكُونُ كَلَامُهُ يَسِيرًا جَامِعًا بَلِيغًا؛ فَإِنَّ التَّحَفُّظَ مِنَ الزَّلَلِ مَعَ الْإِقْلَالِ دُونَ الْإِكْثَارِ، وَفِي الْإِكْثَارِ -أَيْضًا- مَا يُخْفِي الْفَائِدَةَ، وَيُضَيِّعُ الْمَقْصُودَ، وَيُورِثُ الْحَاضِرِينَ الْمَلَلَ.
*وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي كَلَامِهِ عَالِيًا فَيَشُقُّ حَلْقَهُ، وَيَحْمِيَ صَدْرَهُ وَيَقْطَعُهُ، وَذَلِكَ مِنْ دَوَاعِي الْغَضَبِ، وَلَا يُخْفِي صَوْتَهُ إِخْفَاءً لَا يَسْمَعُهُ الْحَاضِرُونَ فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا، بَلْ يَكُونُ مُقْتَصِدًا بَيْنَ ذَلِكَ.
*وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِصْلَاحُ مِنْ مَنْطِقِهِ، وَتَجَنُّبُ اللَّحْنِ فِي كَلَامِهِ، وَالْإِفْصَاحُ عَنْ بَيَانِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ لَهُ فِي مُنَاظَرَتِهِ.
*وَيَنْبَغِي للمُجَادِلِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى مُطَالَعَةِ كُتُبِهِ عِنْدَ وَحْدَتِهِ، وَرِيَاضَةِ نَفْسِهِ فِي خَلْوَتِهِ بِذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَحِكَايَةِ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ؛ لِئَلَّا يِنْحَصِرَ فِي مَجَالِسِ النَّظَرِ إِذَا رَمَقَتْهُ أَبْصَارُ مَنْ حَضَرَ.
*وَلَا يَكُونُ رَخِيَّ الْبَالِ، قَصِيرَ الْهِمَّةِ؛ فَإِنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ صَعْبَةٌ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْجَدِّ وَالِاجْتِهَادِ.
*وَلَا يَسْتَحْقِرُ خَصْمَهُ لِصِغَرِهِ فَيُسَامِحُهُ فِي نَظَرِهِ، بَلْ يَكُونُ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّحَرُّزِ وَالِاسْتِظْهَارِ يُؤَدِّي إِلَى الضَّعْفِ وَالِانْقِطَاعِ.
*وَيَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ مُعْجَبًا بِكَلَامِهِ، مَفْتُونًا بِجِدَالِهِ؛ فَإِنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَمِنْهُ تَقَعُ الْمَعْصِيَةُ، وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ بَلِيَّةٍ.
*وَإِذَا وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ فِي أَوَّلِ كَلَامِ الْخَصْمِ فَلَا يَعْجَلْ بِالْحُكْمِ بِهِ؛ فَرُبَّمَا كَانَ فِي آخِرِهِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْغَرَضَ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْكَلَامُ.
* وَيَكُونُ نُطْقُهُ بِعِلْمٍ، وَإِنْصَاتُهُ بِحِلْمٍ، وَلَا يَعْجَلُ إِلَى جَوَابٍ، وَلَا يَهْجُمُ عَلَى سُؤَالٍ، وَيَحْفَظُ لِسَانَهُ مِنْ إِطْلَاقِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَمِنْ مُنَاظَرَتِهِ فِيمَا لَا يَفْهَمُ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إِلَى الْخَجَلِ وَالِانْقِطَاعِ، فَكَانَ فِيهِ نَقْصُهُ وَسُقُوطُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ)).
فَالْعُلَمَاءُ مِنْ سَلَفِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- لَمْ يَدَعُوا هَذَا الْبَابَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَتَقْعِيدٍ لِقَوَاعِدِهِ، وَتَأْصِيلٍ لِأُصُولِهِ.
وتَلْحَظُ أَنَّ مَدَارَ الْأَمْرِ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ هِيَ الْإِخْلَاصُ، فَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَخْلَصَ للهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَرَاعَى اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِقَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ، ثُمَّ ضَبَطَ ذَلِكَ عَلَى مِيزَانِ الشَّرْعِ الْأَغَرِّ بِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ لَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ كُلُّهَا، فَهَذَا كَالْمِيزَانِ الْعَامِّ، يَزِنُ بِهِ كُلَّ مَا يَعرِضُ لَهُ، أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ للهِ خَالِصًا.
وَلِذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ: ((مَا عَالَجْتُ شَيْئًا كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي، وَكَانُوا يُعَلِّمُونَنَا النِّيَّةَ كَمَا يُعَلِّمُونَنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)).
((لَا تُفْنِ عُمُرَكَ فِي الْجِدَالِ!))
لَا تُفْنِ عُمُرَكَ فِي الْجِدَالِ مُخَاصِمًا = إِنَّ الْجِدَالَ يُخِلُّ بِالْأَدْيَانِ
وَاحْذَرْ مُجَادَلَةَ الرِّجَالِ فَإِنَّهَا = تَدْعُو إِلَى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ
وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى الْجِدَالِ وَلَمْ تَجِدْ = لَكَ مَهْرَبًا وَتَلَاقَتِ الصَّفَّانِ
فَاجْعَلْ كِتَابَ اللهِ دِرْعًا سَابِغًا = وَالشَّرْعَ سَيْفَكَ وَابْدُ فِي الْمَيْدَانِ
وَالسُّنَّةَ الْبَيْضَاءَ دُونَكَ جُنَّةً = وَارْكَبْ جَوَادَ الْعَزْمِ في الْجَوَلَانِ
وَاثْبُتْ بِصَبْرِكَ تَحْتَ أَلْوِيَةِ الْهُدَى = فَالصَّبْرُ أَوْثَقُ عُدَّةِ الْإِنْسَانِ
وَاطْعَنْ بِرُمْحِ الْحَقِّ كُلَّ مُعَانِدٍ = للهِ دَرُّ الْفَارِسِ الطَّعَّانِ
وَاحْمِلْ بِسَيْفِ الصِّدْقِ حَمْلَةَ مُخْلِصٍ = مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيْرِ جَبَانِ
وَاحْذَرْ بِجُهْدِكَ مَكْرَ خَصْمِكَ إِنَّهُ = كَالثَّعْلَبِ الْبَرِّيِّ فِي الرَّوَغَانِ
أَصْلُ الْجِدَالِ مِنَ السُّؤَالِ وَفَرْعُهُ = حُسْنُ الْجَوَابِ بِأَحْسَنِ التِّبْيَانِ
لَا تَلْتَفِتْ عِنْدَ السُّؤَالِ وَلَا تُعِدْ = لَفْظَ السُّؤَالِ كِلَاهُمَا عَيْبَانِ
وَإِذَا غَلَبْتَ الْخَصْمَ لَا تَهْزَأْ بِهِ = فَالْعُجْبُ يُخْمِدُ جَمْرَةَ الْإِحْسَانِ
فَلَرُبَّمَا انْهَزَمَ الْمُحَارِبُ عَامِدًا = ثُمَّ انْثَنَى فَسَطَا عَلَى الْفُرْسَانِ
وَاسْكُتْ إِذَا وَقَعَ الْخُصُومُ وَقَعْقَعُوا = فَلَرُبَّمَا أَلْقَوْكَ في بَحْرَانِ
وَلَرُبَّمَا ضَحِكَ الْخُصُومُ لِدَهْشَةٍ = فَاثْبُتْ وَلَا تَنْكُلْ عَنِ الْبُرْهَانِ
فَإِذَا أَطَالُوا فِي الْكَلَامِ فَقُلْ لَهُمْ = إِنَّ الْبَلَاغَةَ لُجِّمَتْ بِبَيَانِ
لَا تَغْضَبَنَّ إِذَا سُئِلْتَ وَلَا تَصِحْ = فَكِلَاهُمَا خُلُقَانِ مَذْمُومَانِ
وَإِذَا انْقَلَبْتَ عَنِ السُّؤَالِ مُجَاوِبًا = فَكِلَاهُمَا لَا شَكَّ مُنْقَطِعَانِ
وَاحْذَرْ مُنَاظَرَةً بِمَجْلِسِ خِيفَةٍ = حَتَّى يُبَدَّلَ خِيفَةً بِأَمَانِ
نَاظِرْ أَدِيبًا مُنْصِفًا لَكَ عَاقِلًا = وَانْصِفْهُ أَنْتَ بِحَسْبِ مَا تَرَيَانِ
وَيَكُونُ بَيْنَكُمَا حَكِيمٌ حَاكِمًا = عَدْلًا إِذَا جِئْتَاهُ تَحْتَكِمَانِ
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَنَا مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالسَّكِينَةِ وَالصَّبْرِ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
***
((التَّحَرُّشُ آفَةٌ قَبِيحَةٌ))
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((آفَةُ التَّحَرُّشِ وَحِيَاطَةُ الْإِسْلَامِ لِعِفَّةِ الْمُجْتَمَعِ))
فَإِنَّ التَّحَرُّشَ مِنْ أَكْثَرِ الْجَرَائِمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فَتْكًا بِنَسِيجِ الْمُجْتَمَعِ وَأَمَانِهِ؛ فَهُوَ لَا يَمَسُّ ضَحَايَاهُ فَقَطْ، بَلْ يَهْدِمُ قِيَمَ الِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ، وَيُقَوِّضُ الثِّقَةَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَيُزَعْزِعُ الشُّعُورَ الْعَامَّ بِالْأَمْنِ، وَتَكْمُنُ خُطُورَتُهُ فِي أَنَّهُ يَتَجَاوَزُ الْفِعْلَ الْجَسَدِيَّ أَوِ اللَّفْظِيَّ لِيَصِيرَ سُلُوكًا عُدْوَانِيًّا مُمَنْهَجًا يَعْكِسُ انْحِرَافًا نَفْسِيًّا وَتَرْبَوِيًّا حَادًّا.
وَيُؤَكِّدُ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ أَنَّ كَرَامَةَ الْمَرْأَةِ مَصُونَةٌ، وَأَنَّ الْأَذَى اللَّفْظِيَّ أَوِ الْجَسَدِيَّ لَهَا يُعَدُّ عُدْوَانًا صَرِيحًا عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِحِفْظِهِ.
إِنَّ التَّحَرُّشَ آفَةٌ مُجْتَمَعِيَّةٌ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهَا.
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ دِينٌ كَامِلٌ، وَمَنْهَجٌ شَامِلٌ حَاطَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِيَاطَةٍ كَامِلَةٍ، فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نَقْصٍ وَلَا زِيَادَةٍ، أَكْمَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْأُمَّةِ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ بِهِ النِّعْمَةَ، وَجَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَقْبُولَ عِنْدَهُ، فَلَا يَقْبَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دِينًا غَيْرَهُ، وَلَا يَعْتَمِدُ دِينًا سِوَاهُ.
وَقَدْ حَاطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الدِّينَ فِي كَمَالِهِ، وَفِي عِفَّتِهِ، وَفِي طُهْرِهِ، وَفِي طَهَارَتِهِ؛ حَاطَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ كَامِلٍ، وَحَمَى حِمَاهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ مَا يَشِينُهُ، فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
وَهَذَا نَصٌّ فِيهِ مِنَ الزَّجْرِ مَا فِيهِ، وَهُوَ بِمَا فِيهِ مُوحٍ؛ بَلْ دَالٌّ بِنَصِّهِ بِظَاهِرِهِ، وَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى شَرْحٍ وَلَا إِلَى مَزِيدِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي نَطَقَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَدَّاهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي جَاءَهُ بِهِ أَمِينُ الْوَحْيِ جِبْرِيلُ مِنْ لَدُنْ رَبِّ الْعِزَّةِ، مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.
وَيَكْفِي أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُحِبُّونَ}.. {يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فَكَيْفَ بِالَّذِينَ يُشِيعُونَهَا فِعْلًا؟! وَكَيْفَ بِالَّذِينَ يَجْهَدُونَ فِي إِشَاعَتِهَا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَبِكُلِّ مُمْكِنٍ؟!
وَكَيْفَ بِالَّذِينَ يَبْذُلُونَ الْأَمْوَالَ وَالْجُهُودَ وَالْأَرْوَاحَ مِنْ أَجْلِ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي الَّذِينَ آمَنُوا؟! إِذَا كَانَ {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: مُؤْلِمٌ {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، دِينُ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ، أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَهُوَ دِينُ الْعِفَّةِ وَدِينُ الْعَفَافِ، يَنْفِي الْفَاحِشَةَ وَيُحَارِبُهَا وَيَسُدُّ الْمَسَالِكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهَا.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ عَنْ عِظَمِ فَضِيلَةِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الْخُلُقَ خُلُقَ الْإِسْلَامِ، وَخَلَّقَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَى.
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاءَ حَاجِزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي وَصْفِهِ فِي خُلُقِ الْحَيَاءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ: «أَنَّهُ كَانَ أَحْيَا مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ﷺ ».
((تَدَابِيرُ شَرْعِيَّةٌ تَمْنَعُ الْفَوَاحِشَ وَالتَّحَرُّشَ))
لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الْأَمْثَالَ بِأَطْهَرِ الْقُلُوبِ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
وَالضَّمِيرُ هَاهُنَا: يَعُودُ إِلَى الْأَصْحَابِ -أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ- وَإِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا سَأَلْتُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} أَيْ: سَأَلْتُمْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ {مَتَاعًا} فِيمَا يَكُونُ مِنْ أَوَانِي الدُّنْيَا الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي حَاجَاتِهَا.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}: مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ هَكَذَا عَلَى صَوْتٍ يُسْمَعُ وَإِجَابَةٍ تَأْتِي بِلَا مَزِيدٍ، {ذَٰلِكُمْ}: يَعْنِي ذَلِكُمُ السُّؤَالَ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ الْمَذْكُورِ؛ بِالسُّؤَالِ صَوْتًا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَلَا دُخُولٍ، {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، {وَقُلُوبِهِنَّ} يَا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ الْأَمِينِ.
فَهَذِهِ أَطْهَرُ الْقُلُوبِ طُرًّا؛ وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ السُّؤَالِ بِهَذَا الِاحْتِرَازِ الْمَتِينِ؛ لِأَنَّهُنَّ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ لِسَائِرِ النِّسَاءِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ لِسَائِرِ الرِّجَالِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].
فَأَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نِسَاءَ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ أَنَّهُنَّ لَسْنَ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْنَ اللهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}: بِاللِّينِ فِيهِ وَتَرْقِيقِ النَّبْرَةِ، فَنَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ؛ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.
كَيْفَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ أَنَّ فِي قَلْبِهِ مَرَضًا؟
فَإِنْ وَجَدَ عِنْدَ سَمَاعِ النَّغْمَةِ الَّتِي تَلِينُ بِهَا الْمَرْأَةُ وَتُرَقِّقَهَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ يَتَحَرَّكُ فِي قَلْبِهِ؛ فَفِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، فَالْفِرَارَ الْفِرَارَ، وَإِلَّا تَوَرَّطَ تَوَرُّطًا.
فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِعَدَمِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ مِنَ النِّسَاءِ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ أَلَّا تُرَقِّقَ صَوْتَهَا، وَأَلَّا تَلِينَ بِقَوْلِهَا، وَأَلَّا تَخْضَعَ بِالْقَوْلِ مَعَ غَيْرِ مَحَارِمِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ أَشْرَفَ النِّسَاءِ طُرًّا، وَهُنَّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-، مَعَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ بِمَا يَسُوءُ، وَلَا إِغْلَاظٍ وَلَا فُحْشٍ فِيهِ.
وَأَمَّا الْآنَ؛ فَإِنَّكَ تَرَى النِّسَاءَ يَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ مَعَ غَيْرِ الْمَحَارِمِ مَا لَا يَفْعَلْنَ مَعَ الْمَحَارِمِ؛ مَا لَا يَفْعَلْنَ مَعَ زَوْجٍ -مَعَ زَوْجٍ لَهُ حَقٌّ-، فَيَأْتِي الْخُضُوعُ بِالْقَوْلِ: فِي هَاتِفٍ يُهَاتَفُ بِهِ مَنْ لَا يَحِلُّ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعَهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَلَوْ كَانَ اسْتِفْتَاءً فِي دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَا لَلَّهِ كَمْ سُفِحَتْ أَعْرَاضٌ وَكَمِ انْتُهِكَتْ، وَكَمْ كُشِفَتْ سَوْآتٌ وَكَمْ عُرِّيَتْ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَحَارِمِ!!
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ».
قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟)).
قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ».
وَالْحَمْوُ: أَقَارِبُ الزَّوْجِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لِلزَّوْجَةِ؛ فَإِنَّ أُصُولَ الزَّوْجِ وَإِنْ عَلَتْ؛ هُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَكَذَلِكَ فُرُوعُهُ وَإِنْ سَفُلُوا؛ هُمْ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَأَمَّا الْحَوَاشِي؛ فَمِنَ الْأَجَانِبِ عَنِ الْمَرْأَةِ؛ كَالْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَأَتَّى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ.
-الْحَمْوُ ؟!
فَقَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»: أَيْ كَمَا يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَفِرَّ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ إِذَا مَا رَأَيْتَهَا نَازِلَةً عَلَيْكَ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَفِرَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ نِسَائِكَ وَأَقَارِبِكَ مِنَ الرِّجَالِ مِمَّنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمُ الْمَحْرَمِيَّةُ.
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا السِّتْرَ مَضْرُوبًا لِعَفَافٍ وَعِفَّةٍ وَطُهْرٍ وَطَهَارَةٍ، فَأَمَّا إِذَا مَا رُفِعَ؛ فَحِينَئِذٍ يَتَأَتَّى الْفُحْشُ وَالْفَاحِشَةُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَثِقَ بِنَفْسِهِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ كَائِنًا مَا كَانَ أَمْرُهُ، فَإِنَّ أَسْبَابَ الْغِوَايَةِ لَا تَنْضَبِطُ، وَإِنَّ الْمَخْذُولَ لَمَنْ خَذَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالْمَرْءُ إِذَا تَلَوَّثَتْ صَفْحَتُهُ بِالْوُقُوعِ فِي الزِّنَا وَالتَّوَرُّطِ فِي الْفَاحِشَةِ؛ فَقَدْ تَلَوَّثَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَاطِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَتَسَاهَلُونَ، فَلَا يَلُومَنَّ امْرُؤٌ إِلَّا نَفْسَهُ.
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} يَعْنِي: إِذَا أَتَتْ نَظْرَةُ الْفَجْأَةِ فَاصْرِفْ بَصَرَكَ، وَهَذَا وَاجِبٌ وَفَرْضٌ.
{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}: قَوْلًا وَاحِدًا؛ فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ تَبْعِيضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كُلٌّ يٌؤْتَى بِهِ كُلًّا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ.
{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ}، ثُمَّ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْعَيْنَيْنِ تَزْنِيَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: قَالَ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ».
تَحْسَبُ أَنَّ النَّظَرَ إِذَا مَا سُرِّحَ فِي مَحَارِمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَظَرًا؛ فِي صُورَةٍ صَامِتَةٍ مَطْبُوعَةٍ، أَوْ صُورَةٍ نَاطِقَةٍ مُشَاهَدَةٍ مُبْصَرَةٍ، تَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا كَنَزْتَهُ لِنَفْسِكَ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا حَصَّلْتَهُ لَكَ ذُخْرًا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ حُزْتَهُ لَدَيْكَ كَنْزًا مَكْنُوزًا؟!
وَاهِمٌ أَنْتَ يَا صَاحِبِي!!
وَأَمَرَ الْمُؤْمِنَاتِ بِذَلِكَ؛ أَنْ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ، وَأَنْ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.
ذَكَرَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ -أَيْ: مَسَّتْ عِطْرًا- وَخَرَجَتْ، فَكُلُّ عَيْنٍ تَنْظُرُ إِلَيْهِ زَانِيَةٌ؛ وَالْمَرْأَةُ إِذَا مَسَّتْ طِيبًا فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «فَهِيَ زَانِيَةٌ، وكُلُّ عَيْنٍ تَنْظُرُ إِلَيْهَا زَانِيَةٌ».
عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ (ض2) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ».
فَلَعَنَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُخَنَّثَ الَّذِي يَتَكَسَّرُ فِي كَلَامِهِ أَوْ لِبَاسِهِ أَوْ فِي مِشْيَتِهِ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، فَهَذَا مَلْعُونٌ بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَلَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَرْأَةَ الْمُتَرَجِّلَةَ، فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ مَلْعُونَةً، وَاللَّعْنُ: هُوَ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَدُعَاءُ النَّبِيِّ ﷺ مُسْتَجَابٌ؛ فَالْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ فِي كَلَامِهَا أَوْ فِي حَرَكَاتِهَا أَوْ فِي ثِيَابِهَا أَوْ فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهَا أَوْ فِي مُزَاحَمَتِهَا لِلرِّجَالِ بِكُلِّ سَبِيلٍ، هَذِهِ مَلْعُونَةٌ بِلَعْنَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نَظِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَعَنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ لَبِسَ لِبْسَةَ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ، وَمَنْ لَبِسَتْ لِبْسَةَ الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» فِي مَعْنَى مَا قَالَ ﷺ.
قَالَ ﷺ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا -يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مِنْ وُجُودٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَذَكَرَ: «وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا».
«وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ»: حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ قَدْ جَعَلَتِ السِّدَالَ قَائِمًا، فَلَا يُبْصَرُ مِنْهَا شَيْءٌ، كَاسِيَةٌ عَارِيَةٌ مِنَ التَّقْوَى بَاطِنًا؛ فَهِيَ دَاخِلَةٌ، أَوْ هِيَ كَاسِيَةٌ بِشُفُوفٍ تَشِفُّ وَثِيَابٍ تَصِفُ، ثُمَّ هِيَ كَاسِيَةٌ عَارِيَةٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ، قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ»: تُمِيلُ بِالْخَنَا، فَهِيَ مَائِلَةٌ عَنِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، «مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ»: وَالبُخْتُ: إِبِلٌ لَهَا سَنَامٌ يَمِيلُ بِقِمَّةِ الشَّعْرِ فِيهِ نَاحِيَةً، وَكَذَلِكَ تَجِدُ الْمَرْأَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَاسِيَةً عَارِيَةً، تَخْرُجُ بِثِيَابٍ إِلَى الْأَجَانِبِ مِنْ غَيْرِ الْمَحَارِمِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا قَطُّ.
وَعَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي آمَنَتْ بِرَبِّهَا وَسَتَرَتْ جَسَدَهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَلَا تَتَبَرَّجَ بِحِجَابِهَا، فَهَذَا شَيْءٌ شَائِنٌ لَا يَلِيقُ، وَالْحِجَابُ الْآنَ قَدْ تَبَرَّجَ، نَعَمْ صَارَ الْحِجَابُ يَحْتَاجُ حِجَابًا، فَقَدْ تَبَرَّجَ الْحِجَابُ!!
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا وَعَلَى الْمُسْلِمِ -وَعَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا- أَنْ يَعْرِفَ طَرِيقَهُ إِلَى رَبِّهِ، فَالْحَيَاةُ مُنْقَضِيَةٌ أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، مُنْقَضِيَةٌ، ثُمَّ هِيَ لَيْسَتْ عَلَى الشَّبَابِ تَدُومُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَوَرَّطَ فِي تِلْكَ الشَّهَوَاتِ عُوقِبَ دُنْيَا وَآخِرَةً إِنْ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ وَيَعُودُ إِلَى اللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَاقَبَ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ:
مَنْ يَزْنِ فِي امْرَأَةٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ *** فِي بَيْتِهِ يُـزْنَى بِغَيْرِ الدِّرْهَمِ
إِنَّ الزِّنَا دَيْنٌ فَإِنْ أَسْلَفْتَهُ *** كَانَ الْوَفَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ
وَالْمَرْأَةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: هِيَ أَشَدُّ فِتْنَةٍ تُرِكَتْ قَطُّ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَشَدُّ خَطَرًا عَلَى الرِّجَالِ، «مَا تَرَكْتُ فِتْنَةً هِيَ أَشَدُّ خَطَرًا عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ».
وَالْمَرْأَةُ مُكَرَّمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ دِينِ الطَّهَارَةِ، دِينِ الْعِفَّةِ؛ وَأَمَّا هَذَا الَّذِي يَحْدُثُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ –وَاللهِ- مُعَجِّلٌ بِالسُّقُوطِ فِي الْهَاوِيَةِ.
فَحُدُودُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَلَّا تُعْتَدَى، وَمَحَارِمُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَلَّا تُنْتَهَكَ وَإِلَّا فَهُوَ الدَّمَارُ وَهُوَ الْخَرَابُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ «إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا -أَيْ: أَنْزَلُوا- بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».
((سُبُلُ الْعِلَاجِ مِنْ دَاءِ التَّحَرُّشِ الْخَطِيرِ))
إِنَّ التَّحَرُّشَ دَاءٌ خَطِيرٌ، وَعَلَى مَنِ ابْتُلِيَ بِهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالنَّدَمِ، وَالْتِمَاسِ السُّبُلِ الَّتِي يُيَسِّرُ اللهُ لَهُ بِهَا مُجَانَبَةَ هَذَا الدَّاءِ الْوَبِيلِ، وَالشِّفَاءَ مِنْهُ.
مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَرْكِ التَّحَرُّشِ: الدُّعَاءُ، وَغَضُّ الْبَصَرِ، وَالتَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ؛ فَلِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ.
وَلَكِنَّ الدَّوَاءَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا إِذَا صَادَفَ مَحَلًّا قَابِلًا، فَإِذَا رَامَ الْمُبْتَلَى بِهَذَا الدَّاءِ الشِّفَاءَ، وسَعَى إِلَيْهِ سَعْيَهُ؛ وُفِّقَ لِمَا يُرِيدُ، وَأُعِينَ عَلَى بُلُوغِ الْمَقْصُودِ؛ وَإِلَّا اسْتَمَرَّ عَلَى بَلَائِهِ؛ بَلْ رُبَّمَا زَادَ شَقَاؤُهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّمَا يُوصَفُ الدَّوَاءُ لِمَنْ يَقْبَلُ؛ فَأَمَّا الْمُخَلِّطُ فَإِنَّ الدَّوَاءَ يَضِيعُ عِنْدَهُ)).
وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى تَرْكِهِ: الدُّعَاءُ، وَالتَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَصِدْقُ اللُّجْءِ إِلَيْهِ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ: غَضُّ الْبَصَرِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى مُسْتَحْسَنٍ فَوَجَدَ لَذَّةَ تِلْكَ النَّظْرَةِ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَصْرِفَ بَصَرَهُ)).
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَلَى مَنْ يُرِيدُ السَّلَامَةَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ عَمَّا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَلْيَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْغَضِّ نِيَّةٌ يَحْتَسِبُ بِهَا الْأَجْرَ، وَيَكْتَسِبُ بِهَا الْفَضْلَ، وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ مَنْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)).
مِمَّا يُعِينُ عَلَى التَّوْبَةِ: غَضُّ الْبَصَرِ؛ فَالْعَيْنُ مِرْآةُ الْقَلْبِ، وَإِطْلَاقُ الْبَصَرِ يُورِثُ الْمَعَاطِبَ، وَغَضُّ الْبَصَرِ يُورِثُ الرَّاحَةَ.
فَإِذَا غَضَّ الْعَبْدُ بَصَرَهُ غَضَّ الْقَلْبُ شَهْوَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَإِذَا أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَطْلَقَ الْقَلْبُ شَهْوَتَهُ.
قَالَ تَعَالَى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ} [النور: 30].
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَجَعَلَ -سُبْحَانَهُ- غَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ أَقْوَى تَزْكِيَةٍ لِلنُّفُوسِ، وَزَكَاةُ النُّفُوسِ تَتَضَمَّنُ زَوَالَ جَمِيعِ الشُّرُورِ؛ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَالظُّلْمِ، وَالشِّرْكِ، وَالْكَذِبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَوَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ نَظْرَةً فَعَلِقَ حُبُّهَا بِقَلْبِهِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ.
فَقَالَتْ لَهُ نَفْسُهُ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ، فَلَوْ أَعَدْتَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لَرَأَيْتَهَا دُونَ مَا فِي نَفْسِكَ فَسَلَوْتَ عَنْهَا.
فَهَلْ يَجُوزُ تَعَمُّدُ النَّظَرِ ثَانِيًا لِهَذَا الْمَعْنَى؟
فَكَانَ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ للهِ، لَا يَجُوزُ هَذَا؛ لِعَشْرَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ الْقَلْبِ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى الْعَبْدِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ، فَأَمَرَ بِمُدَاوَاتِهِ بِصَرْفِ النَّظَرِ، لَا بِتَكْرَارِ النَّظَرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الْأُولَى لَهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ الثَّانِيَةُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ دَاؤُهُ مِمَّا لَهُ، وَيَكُونُ دَوَاؤُهُ فِيمَا لَيْسَ لَهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الظَّاهِرَ قُوَّةُ الْأَمْرِ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ لَا تَنَاقُصُهُ، وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا رَآهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَا تَحْسُنُ الْمُخَاطَرَةُ بِالْإِعَادَةِ، أَيْ: بِتَكْرَارِ النَّظَرِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى مَا هُوَ فَوْقَ الَّذِي فِي نَفْسِهِ فَزَادَ عَذَابُهُ.
السَّادِسُ: أَنَّ إِبْلِيسَ عِنْدَ قَصْدِهِ لِلنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ يَقُومُ فِي رَكَائِبِهِ، فَيُزَيِّنُ لَهُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ لِتَتِمَّ الْبَلِيَّةُ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يُعَانُ عَلَى بَلِيَّتِهِ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ، وَتَدَاوَى بِمَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ جَدِيرٌ أَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْهُ الْمَعُونَةُ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَشَدُّ سُمًّا؛ فَكَيْفَ يتَدَاوَى مِنَ السُّمِّ بِالسُّمِّ؟!
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّ صَاحِبَ هذَا الْمَقَامِ فِي مَقَامِ مُعَامَلَةِ الْحَقِّ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي تَرْكِ مَحْبُوبٍ -كَمَا زَعَمَ-، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالَ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْضِيًا تَرَكَهُ؛ فَإِذَنْ يَكُونُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ غَرَضَهُ، لَا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَأَيْنَ مُعَامَلَةُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- بِتَرْكِ الْمَحْبُوبِ لِأَجْلِهِ؟!
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: يَتَبَيَّنُ بِضَرْبِ مَثَلٍ مُطَابِقٍ لِلْحَالِ، وَهُوَ:
أَنَّكَ إِذَا رَكِبْتَ فَرَسًا جَدِيدًا فَمَالَتْ بِكَ إِلَى دَرْبٍ ضَيِّقٍ لَا يَنْفُذُ، وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَدِيرَ فِيهِ لِلْخُرُوجِ، فَإِذَا هَمَّتْ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَاكْبَحْهَا لِئَلَّا تَدْخُلَ.
فَإِذَا دَخَلَتْ خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ فَصِحْ بِهَا، وَرُدَّهَا إِلى وَرَاءَ عَاجِلًا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ دُخُولُهَا.
فَإِذَا رَدَدْتَها إِلَى وَرَائِهَا سَهُلَ الْأَمْرُ، وَإِذَا تَوَانَيْتَ حَتَّى وَلَجَتْ، وَسُقْتَهَا دَاخِلًا، ثُمَّ قُمْتَ تَجْذِبُهَا بِذَنَبِهَا؛ عَسُرَ عَلَيْكَ أَوْ تَعَذَّرَ خُرُوجُهَا.
فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ طَرِيقَ تَخْلِيصِهَا سَوْقُهَا إِلَى دَاخِل؟!
فَكَذَلِكَ النَّظْرَةُ إِذَا أَثَّرَتْ فِي الْقَلْبِ؛ فَإِنْ عَجَّلَ الْحَازِمُ وَحَسَمَ الْمَادَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا سَهُلَ عِلَاجُهُ.
وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ، وَنَقَّبَ عَنْ مَحَاسِنِ الصُّوَرِ، وَنَقَلَهَا إِلَى قَلْبٍ فَارِغٍ فَنَقَشَهَا فِيهِ؛ تمَكَّنَتِ الْمَحَبَّةُ.
وَكُلَّمَا تَوَاصَلَتِ النَّظَرَاتُ كَانَتْ كَالْمَاءِ يَسْقِي الشَّجَرَةَ، فَلَا تَزَالُ شَجَرَةُ الْحُبِّ تَنْمَى حَتَّى يَفْسُدَ الْقَلْبُ، وَيُعْرِضَ عَنِ الْفِكْرِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، فَيَخْرُجُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْمِحَنِ، ويُوجِبُ ارْتِكَابَ الْمَحُظْورَاتِ وَالْفِتَنِ، وَيُلْقِي الْقَلْبَ فِي التَّلَفِ.
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا: أَنَّ النَّاظِرَ الْتَذَّتْ عَيْنُهُ بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ فَطَلَبَ الْمُعَاوَدَةَ؛ كَأَكْلِ الطَّعَامِ الَّذِي إِذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ لُقْمَةً، وَلَوْ أَنَّهُ غُصَّ بِهِ أَوَّلًا لَاسْتَرَاحَ قَلْبُهُ وَسَلِمَ.
قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ أَقْرَبَ الْوَسَائِلِ إِلَى الْمُحَرَّمِ اقْتَضَتِ الشَّرِيعَةُ تَحْرِيمَهُ، وَأَبَاحَتْهُ فِي مَوْضِع الْحَاجَةِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَا حَرُمَ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ.
قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ: ((فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَنَظَرُ الْفَجْأَةِ هِيَ النَّظْرَةُ الْأُولَى الَّتِي تَقَعُ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنَ النَّاظِرِ، فَمَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ الْقَلْبُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا نَظَرَ الثَّانِيَةَ تَعَمُّدًا أَثِمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ نَظَرِ الْفَجْأَةِ أَنْ يَصْرِفَ بَصَرَهُ، وَلَا يَسْتَدِيمَ النَّظَرَ؛ فَإِنَّ اسْتِدَامَتَهُ كَتَكْرِيرِهِ، وَأَرْشَدَ مَنِ ابْتُلِيَ بِنَظَرِ الْفَجْأَةِ أَنْ يُدَاوِيَهُ بِإِتْيَانِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَإِنَّ فِي ذَلِكَ التَّسَلِّيَ عَنِ الْمَطْلُوبِ بِجِنْسِهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ النَّظَرَ يُثِيرُ قُوَّةَ الشَّهْوَةِ، فَأَمَرَهُ بِتَنْقِيصِهَا بِإِتْيَانِ أَهْلِهِ.
فَفِتْنَةُ النَّظَرِ أَصْلُ كُلِّ فِتْنَةٍ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ)) )).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- مُبَيِّنًا فَوَائِدَ غَضِّ الْبَصَرِ: ((وَفِي غَضِّ الْبَصَرِ عِدَّةُ فَوَائِدَ:
إِحْدَاهَا: تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنَ الْحَسْرَةِ؛ فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ نَظَرَهُ دَامَتْ حَسْرَتُهُ، فَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْقَلْبِ إرْسَالُ الْبَصَرِ؛ فَإِنَّهُ يُرِيهِ مَا يَشْتَدُّ طَلَبُهُ، وَلَا صَبْرَ لَهُ عَنْهُ، وَلَا وُصُولَ لَهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ غَايَةُ أَلَمِهِ وَعَذَابِهِ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ((رَأَيْتُ جَارِيَةً فِي الطَّوَافِ كَأَنَّهَا مَهَاةٌ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَمْلَأُ عَيْنِي مِنْ مَحَاسِنِهَا.
فَقَالَتْ: يَا هَذَا مَا شَأْنُكَ؟
قُلْتُ: وَمَا عَلَيْكِ مِنَ النَّظَرِ؟
فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا = لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَسْلَمَتْكَ الْمَحَاجِرُ
رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ = عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ)).
وَالنَّظْرَةُ تَفْعَلُ فِي الْقَلْبِ مَا يَفْعَلُهُ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ جَرَحَتْهُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرَارَةِ مِنَ النَّارِ تُرْمَى فِي الْحَشِيشِ الْيَابِسِ، فَإِنْ لَمْ تَحْرِقْهُ كُلَّهُ أَحْرَقَتْ بَعْضَهُ.
كَمَا قِيلَ:
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ = وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَة فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا = فَتْكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرِ
وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا = فِي أَعْيُنِ الْغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَتَهُ = لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
وَالنَّاظِرُ يُرْمَى مِنْ نَظَرِهِ بِسِهَامٍ غَرَضُهَا قَلْبُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
تَزَوَّدَ مِنْهَا نَظْرَةً لَمْ تَدَعْ لَهُ فُؤَادًا وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَا قَدْ تَزَوَّدَا
فَلَمْ أَرَ مَقْتُولًا وَلَمْ أَرَ قَاتِلًا بِغَيْرِ سِلَاحٍ مِثْلَهَا حَيْنَ أَقْصَدَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَمَنْ كَانَ يُؤْتَى مِنْ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ فَإِنِّيَ مِنْ عَيْنِي أُتِيتُ وَمِنْ قَلْبِي
هُمَا اعْتَرَانِي نَظْرَةً ثُمَّ فِكْرَةً فَمَا أَبْقَيَا لِي مِنْ رُقَادٍ وَلَا لُبِّ
وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
وَأَنَا الَّذِي اجْتَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُهُ فَمَنِ الْمُطَالَبُ وَالْقَتِيلُ الْقَاتِلُ
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يُورِثُ الْقَلْبَ نُورًا، وَإِشْرَاقًا يَظْهَرُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ وَفِي الْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُورِثُهُ ظُلْمَةً تَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ وَجَوَارِحِهِ؛ وَلِهَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- ذَكَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- آيَةَ النُّورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] عَقِيبَ قَوْلِهِ: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30].
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يُورِثُ صِحَّةَ الْفِرَاسَةِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ النُّورِ وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَإِذَا اسْتَنَارَ الْقَلْبُ صَحَّتِ الْفِرَاسَةُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ تَظْهَرُ فِيهَا الْمَعْلُومَاتُ كَمَا هِيَ، وَالنَّظَرُ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ فِي الْمِرْآةِ.
فَإِذَا أَطْلَقَ الْعَبْدُ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ نَفْسُهُ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا، كَمَا قِيلَ:
مِرْآةُ قَلْبِكَ لَا تُرِيكَ صَلَاحَهُ وَالنَّفْسُ فِيهَا دَائِمًا تَتَنَفَّسُ
وَقَالَ شُجَاعٌ الْكِرْمَانِيُّ: ((مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَأَكَلَ مِنَ الْحَلَالِ؛ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ)).
وَكَانَ شُجَاعٌ لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُجَازِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ.
فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ عَوَّضَهُ اللهُ إِطْلَاقَ بَصِيرَتِهِ، فَلَمَّا حَبَسَ بَصَرَهُ للهِ أَطْلَقَ اللهُ نُورَ بَصِيرَتِهِ، وَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ فِي الْمَحَارِمِ حَبَسَ اللهُ عَنْهُ بَصِيرَتَهُ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يَفْتَحُ لِصَاحِبِهِ طُرُقَ الْعِلْمِ وَأَبْوَابَهُ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابَهُ، وَذَلِكَ سَبَبُ نُورِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَنَارَ ظَهَرَتْ فِيهِ حَقَائِقُ الْمَعْلُومَاتِ، وَانْكَشَفَ لَهُ بِسُرْعَةٍ، وَنَفَذَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ.
وَمَنْ أَرْسَلَ بَصَرَهُ تَكَدَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ، وَأَظْلَمَ، وَانْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَطُرُقُهُ.
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يُورِثُ الْقَلْبَ قُوَّةً وَثَبَاتًا وَشَجَاعَةً، فَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ سُلْطَانَ الْبَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ.
وَفِي الْأَثَرِ: ((إِنَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ)).
وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ ذُلِّ الْقَلْبِ وَضَعْفِهِ، ومَهَانَةِ النَّفْسِ وَحَقَارَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللهُ لِمَنْ آثَرَ هَوَاهُ عَلَى رِضَاهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ بِأَبْوَابِ الْمُلُوكِ، وَلَا يَجِدُونَهُ إِلَّا فِي طَاعَةِ اللهِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ مِنْ فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ: أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ سُرُورًا وَفَرْحَةً، وَانْشِرَاحًا أَعْظَمَ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ الْحَاصِلِ بِالنَّظَرِ؛ وَذَلِكَ لِقَهْرِهِ عَدُوَّهُ بِمُخَالَفَتِهِ، وَمُخَالَفَةِ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا كَفَّ لَذَّتَهُ، وَحَبَسَ للهِ شَهْوَتَهُ وَفِيهَا مَسَرَّةُ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ أَعَاضَهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- مَسَرَّةً وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْهَا.
كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: ((وَاللهِ! لَلَذَّةُ الْعِفَّةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ)).
وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا خَالَفَتْ هَوَاهَا أَعْقَبَهَا ذَلِكَ فَرَحًا وَسُرُورًا وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْ لَذَّةِ مُوَافَقَةِ الْهَوَى بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمْ، وَمِنْ هَاهُنَا يَمْتَازُ الْعَقْلُ مِنَ الْهَوَى.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يُخَلِّصُ الْقَلْبَ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ؛ فَإِنَّ الْأَسِيرَ هُوَ أَسِيرُ شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ، فَهُوَ كَمَا قِيلَ: طَلِيقٌ بِرَأْيِ الْعَيْنِ وَهُوَ أَسِيرُ.
وَمَتَى أَسَرَتِ الشَّهْوَةُ وَالْهَوَى الْقَلْبَ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُوُّهُ، فَسَامَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَصَارَ كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ: أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ بَابُ الشَّهْوَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى مُوَاقَعَةِ الْفِعْلِ، وَتَحْرِيمُ الرَّبِّ تَعَالَى وَشَرْعُهُ حِجَابٌ مَانِعٌ مِنَ الْوُصُولِ.
فَمَتَى هَتَكَ الْحِجَابَ ضَرِيَ، أَيِ: اعْتَادَ، وَأُولِعَ، وَتَجَرَّأَ، وَلَمْ تَقِفْ نَفْسُهُ مِنْهُ عِنْدَ غَايَةٍ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَقْنَعُ بِغَايَةٍ تَقِفُ عِنْدَهَا؛ ذَلِكَ أَنَّ لَذَّتَهَا فِي الشَّيْءِ الْجَدِيدِ، فَصَاحِبُ الطَّرْفِ لَا يُقْنِعُهُ التَّلِيدُ؛ وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ مَنْظَرًا، وَأَطْيَبَ مَخْبَرًا.
فَغَضُّ الْبَصَرِ يَسُدُّ هَذَا الْبَابَ الَّذِي عَجَزَتِ الْمُلُوكُ عَنِ اسْتِيفَاءِ أَغْرَاضِهِمْ فِيهِ.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ يُقَوِّي الْعَقْلَ، وَيَزِيدُهُ، وَيُثَبِّتُهُ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ وَإِرْسَالَهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ خِفَّةِ الْعَقْلِ وَطَيْشِهِ، وَعَدَمِ مُلَاحَظَتِهِ لِلْعَوَاقِبِ؛ فَإِنَّ خَاصَّةَ الْعَقْلِ مُلَاحَظَةُ الْعَوَاقِبِ، وَمُرْسِلُ النَّظَرِ لَوْ عَلِمَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ نَظَرِهِ عَلَيْهِ لَمَا أَطْلَقَ بَصَرَهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَبَبًا = حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ: أَنَّهُ يُخَلِّصُ الْقَلْبَ مِنْ سُكْرِ الشَّهْوَةِ وَرِقْدَةِ الْغَفْلَةِ؛ فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ الْغَفْلَةِ عَنِ اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُوقِعُ فِي سَكْرَةِ الْعِشْقِ.
كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عَنْ عُشَّاقِ الصُّوَرِ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
فَالنَّظَرُ كَأْسٌ مِنْ خَمْرٍ، وَالْعِشْقُ هُوَ سُكْرُ ذَلِكَ الشَّرَابِ، وَسُكْرُ الْعِشْقِ أَعْظَمُ مِنْ سُكْرِ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّ سَكْرَانَ الْخَمْرِ يُفِيقُ، وَأَمَّا سَكْرَانُ الْعِشْقِ فَقَلَّمَا يُفِيقُ إِلَّا وَهُوَ فِي عَسْكَرِ الْأَمْوَاتِ .
كَمَا قِيلَ:
سَكْرَانُ سُكْرَ هَوًى وَسُكْرَ مُدَامَةٍ = وَمَتى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَانِ)).
وَفَوَائِدُ غَضِّ الْبَصَرِ وَآفَاتُ إِرْسَالِهِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ فَقَطْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَحَرِيٌّ بِالْعَاقِلِ اللَّبِيبِ الَّذِي يُرِيدُ السَّلَامَةَ لِنَفْسِهِ، وَيَخْشَى الْمَعَاطِبَ عَلَيْهَا أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ، وَأَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ غَايَةَ الْمُجَاهَدَةِ.
فَعَصْرُنَا هَذَا عَصْرُ الْفِتَنِ؛ مِنْ مَجَلَّاتٍ، وَقَنَوَاتٍ فَضَائِيَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَصْعُبُ الْخَلَاصُ مِنْهُ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ، وَصِدْقِ تَوَكُّلٍ عَلَيْهِ، وَقُوَّةِ إِرَادَةٍ وَعَزِيمَةٍ.
((الْعَوْدَةَ.. الْعَوْدَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!))
عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعُودَ مِنْ قَرِيبٍ، وَأَنْ نَفْزَعَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ نَتْرُكَ الْمَعَاصِيَ جَانِبًا، وَأَنْ نُغَادِرَ هَذَا الْفُحْشَ الْفَاحِشَ الَّذِي تَعَجُّ بِهِ الدُّنْيَا.
اللَّهُمَّ اسْتُرْنَا بِسِتْرِكَ الْجَمِيلِ، وَاجْعَلْ تَحْتَ السِّتْرِ مَا يُرْضِيكَ؛ فَيَا طَالَمَا سَتَرْتَ عَلَى مَا لَا يُرْضِيكَ.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
المصدر: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ!