((اتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الْأَثَرِ
وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ يَقُولُونَ: مَرَّ وَهَذَا الْأَثَرُ!))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((دَلَائِلُ أَهَمِّيَّةِ آثَارِ الْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ))
فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يُحْيِي الْأَمْوَاتَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَمَا سَنُّوا مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ، وَكُلَّ شَيْءٍ حَفِظَهُ وَعَدَّهُ وَأَثْبَتَهُ فِي أَصْلٍ عَظِيمٍ؛ لِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِآخِرَتِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَيَكْتُبُ -جَلَّ وَعَلَا- آثَارَ كَسْبِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَذَلِكَ بِمَا سَنُّوهُ مِنَ السُّنَنِ الْحَسَنَةِ أَوِ السَّيِّئَةِ؛ لِأَنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَحْصَى وَعَدَّ وَأَثْبَتَ فِي أَصْلٍ عَظِيمٍ كُلَّ شَيْءٍ، وَكُلُّ أَمْرٍ وَاضِحٌ جَلِيٌّ مُظْهَرٌ لِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
لَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَكْتُبُ لِلْمَرْءِ مَا قَدَّمَ فِي حَيَاتِهِ، وَآثَارَ أَعْمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12].
(({إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} أَيْ: نَبْعَثُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِنُجَازِيَهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوهَا وَبَاشَرُوهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ، {وَآثَارَهُمْ} وَهِيَ آثَارُ الْخَيْرِ وَآثَارُ الشَّرِّ الَّتِي كَانُوا هُمُ السَّبَبَ فِي إِيجَادِهَا فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ وَفَاتِهِمْ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ.
فَكُلُّ خَيْرٍ عَمِلَ بِهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ عِلْمِ الْعَبْدِ وَتَعْلِيمِهِ أَوْ نُصْحِهِ، أَوْ أَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ نَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ عِلْمٍ أَوْدَعَهُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِينَ، أَوْ فِي كُتُبٍ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ عَمِلَ خَيْرًا؛ مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ زَكَاةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إِحْسَانٍ، فَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ، أَوْ عَمِلَ مَسْجِدًا، أَوْ مَحَلًّا مِنَ الْمَحَالِّ الَّتِي يَرْتَفِقُ بِهَا النَّاسُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا مِنْ آثَارِهِ الَّتِي تُكْتَبُ لَهُ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الشَّرِّ؛ وَلِهَذَا: ((مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
وَهَذَا الْمَوْضِعُ يُبَيِّنُ لَكَ عُلُوَّ مَرْتَبَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى سَبِيلِهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَطَرِيقٍ مُوَصِّلٍ إِلَى ذَلِكَ، وَنُزُولَ دَرَجَةِ الدَّاعِي إِلَى الشَّرِّ، الْإِمَامِ فِيهِ، وَأَنَّهُ أَسْفَلُ الْخَلِيقَةِ، وَأَشَدُّهُمْ جُرْمًا، وَأَعْظَمُهُمْ إِثْمًا.
{وَكُلَّ شَيْءٍ}: مِنَ الْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ وَغَيْرِهَا {أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أَيْ: كِتَابٍ هُوَ أُمُّ الْكُتُبِ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُ الْكُتُبِ الَّتِي تَكُونُ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 83-84].
((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبِرًا عَنْ مَسْأَلَةِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} يَقُولُ: رَبِّ هَبْ لِي نُبُوَّةً {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يَقُولُ: وَاجْعَلْنِي رَسُولًا إِلَى خَلْقِكَ؛ حَتَّى تُلْحِقَنِي بِذَلِكَ بِعِدَادِ مَنْ أَرْسَلْتَهُ مِنْ رُسُلِكَ إِلَى خَلْقِكَ، وَائْتَمَنْتَهُ عَلَى وَحْيِكَ، وَاصْطَفَيْتَهُ لِنَفْسِكَ، وَاجْعَلْ لِي فِي النَّاسِ ذِكْرًا جَمِيلًا، وَثَنَاءً حَسَنًا بَاقِيًا فِيمَنْ يَجِيءُ مِنَ الْقُرُونِ بَعْدِي)).
((دَعَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّهُ فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} أَيْ: عِلْمًا كَثِيرًا أَعْرِفُ بِهِ الْأَحْكَامَ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَأَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ الْأَنَامِ، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}: مِنْ إِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} أَيِ: اجْعَلْ لِي ثَنَاءَ صِدْقٍ مُسْتَمِرًّا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَوَهَبَ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ مَا كَانَ بِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَلْحَقَهُ بِإِخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَهُ مَحْبُوبًا مَقْبُولًا مُعَظَّمًا مُثْنًى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 108-110])).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5].
((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا قَدَّمَتْ لِذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ يَنْفَعُهُ، وَأَخَّرَتْ وَرَاءَهُ مِنْ شَيْءٍ سَنَّهُ فَعُمِلَ بِهِ، مَا أَخَّرَ: هُوَ مَا سَنَّهُ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ مِمَّا إِذَا عَمِلَ بِهِ الْعَامِلُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْعَامِلِ بِهَا، أَوْ وِزْرِهِ)).
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].
((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: يُخْبَرُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ، يَعْنِي: يَوْمَ يُجْمَعُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فَيُكَوَّرَانِ، {بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}.
ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُنَبَّأُ بِكُلِّ مَا قَدَّمَ أَمَامَهُ مِمَّا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فِي حَيَاتِهِ، وَأَخَّرَ بَعْدَهُ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ مِمَّا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، كَذَلِكَ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ عَمِلَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَخَّرَ بَعْدَهُ مِنْ عَمَلٍ كَانَ عَلَيْهِ فَضَيَّعَهُ فَلَمْ يَعْمَلْهُ مِمَّا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَلَمْ يُخَصِّصِ اللهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُنَبَّأُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
((وَحَمَلُوا وِزْرَهُمْ وَوِزْرَ مَنِ انْقَادَ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَيْ: مِنْ أَوْزَارِ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ إِلَّا مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ، فَيَحْمِلُونَ إِثْمَ مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ فَكُلٌّ مُسْتَقِلٌّ بِجُرْمِهِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مَا عَرَفُوا، {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أَيْ: بِئْسَ مَا حَمَلُوا مِنَ الْوِزْرِ الْمُثْقِلِ لِظُهُورِهِمْ مِنْ وِزْرِهِمْ وَوِزْرِ مَنْ أَضَلُّوهُ)).
وَكَذَلِكَ أَوْلَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُشَرَّفَةُ اهْتِمَامًا عَظِيمًا بِآثَارِ الْأَعْمَالِ؛ لِحَثِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ؛ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَيْرُ مَا يُخَلِّفُ الرَّجُلُ مِنْ بَعْدِهِ ثَلَاثٌ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ تَجْرِي يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا، وَعِلْمٌ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)).
((وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ)): كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ عَمِلَهُ فَأَخَذَ عَلَيْهِ ثَوَابًا، وَتَحَصَّلَ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى أَجْرٍ؛ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَجْرِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -أَيْضًا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِمَّا يَلْحِقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَعَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ -أَوِ: الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: (({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.. إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ}، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
قَالَ: ((فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا؛ بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((جُمْلَةُ صِفَاتٍ طَيِّبَةِ الْأَثَرِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ))
لَقَدْ أَرْشَدَ الْإِسْلَامُ إِلَى أَنْ يَجْتَهِدَ الْمُسْلِمُ فِي التَّحَلِّي بِصِفَاتٍ طَيِّبَةٍ، وَخِصَالٍ حَمِيدَةٍ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي فِعْلِ الصَّالِحَاتِ، وَالنَّافِعِ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِيَتْرُكَ أَثَرًا حَسَنًا طَيِّبًا فِي النَّاسِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَكْسِبَ أَجْرَ مَا تَرَكَهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَدُومُ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ لَهُ أَنْ يَدُومَ، وَهَذَا مِنْ إِكْرَامِ اللهِ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ.
إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ..
إِذَا كَانَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ مُقِيمًا..
وَكَانَ لِلْخَيْرِ مُوَاصِلًا..
وَكَانَ عَلَى الْبِرِّ مُقْبِلًا..
وَكَانَ فِي الْخَيْرَاتِ بَاذِلًا..
إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَطُوبَى، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى.
إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ مَبْذُولَةً لِلَّهِ..
إِذَا كَانَ الْمَرْءُ سَاعِيًا إِلَى اللَّهِ..
إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ حَرِيصًا عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ..
إِذَا كَانَتِ النَّزَوَاتُ بَعِيدَةً..
وَالشَّهَوَاتُ مُضْمَحِلَّةً..
إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى رَبِّهِ مُقْبِلًا..
وَعَنِ الشَّهَوَاتِ مُدْبِرًا..
وَلِهَذَا الدِّينِ بَاذِلًا؛ فَمَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ؟! مَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمُوتَ؟!
أَلَا إِنَّهَا الْبِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِلْحَيَاةِ الْحَقِّ!
((مَرَّ وَهَذَا أَثَرُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ!))
وَخُذْ لَكَ زَادَيْنِ مِنْ سِيرَةٍ = وَمِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ يُدَّخَر
وَكُنْ فِي الطَّرِيقِ عَفِيفَ الْخُطَا = شَرِيفَ السَّمَاعِ كَرِيمَ النَّظَر
وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ = يَقُولُونَ مَرَّ وَهَذَا الْأَثَر
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِطِيبِ أَثَرِ الْمَرْءِ بَعْدَ مَمَاتِهِ: الْعَقِيدَةَ الصَّحِيحَةَ، أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَأَنْ يَسْتَقِيمَ فِي حَيَاتِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ؛ فَالْعَقِيدَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ كُبْرَى تَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ:
* أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أُرْسِلُوا بِالدَّعْوَةِ لِلْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
* وَتَحْقِيقُ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَإِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ هُوَ الْغَايَةُ الْأُولَى مِنْ خَلْقِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
* وَقَبُولُ الْأَعْمَالِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْعَبْدِ، وَكَمَالُ أَعْمَالِهِ عَلَى كَمَالِ التَّوْحِيدِ؛ فَأَيُّ نَقْصٍ فِي التَّوْحِيدِ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، أَوْ يُنْقِصُهُ عَنْ كَمَالِهِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمُسْتَحَبِّ.
* وَالنَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ ابْتِدَاءً أَوْ مَآلًا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ، مِمَّا يُبْرِزُ أَهَمِّيَّةَ تَعَلُّمِهَا وَاعْتِقَادِهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الصَّحِيحِ.
قَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
* فَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ تُحَدِّدُ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَخَالِقِهِ؛ مَعْرِفَةً، وَتَوْحِيدًا، وَعِبَادَةً شَامِلَةً للهِ -تَعَالَى-؛ بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالْمُرَاقَبَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالتَّقْوَى وَالْإِنَابَةِ، وَرِعَايَةً تَامَّةً مِنَ اللهِ لِلْعَبْدِ؛ نُطْفَةً، وَصَغِيرًا، وَكَبِيرًا، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، رِزْقًا وَإِنْعَامًا، وَحِفْظًا وَعِنَايَةً وَإِحْسَانًا.
* وَالسَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا أَسَاسُهَا الْعِلْمُ بِاللهِ -تَعَالَى-؛ فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فَوْقَ كُلِّ حَاجَةٍ، فَلَا رَاحَةَ وَلَا طُمَأْنِينَةَ إِلَّا بِأَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
* وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ تُجِيبُ عَنْ جَمِيعِ التَّسَاؤُلَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى ذِهْنِ الْعَبْدِ، وَمِنْ ذَلِكَ: صِفَةُ الْخَالِقِ، وَمَبْدَأُ الْخَلْقِ وَنِهَايَتُهُ، وَغَايَتُهُ، وَالْعَوَالِمُ الْكَائِنَةُ فِي هَذَا الْوُجُودِ، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهَا، وَمَوْضُوعُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.
* وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: تَرْكِيزُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى مَوْضُوعِ الْعَقِيدَةِ بَيَانًا وَتَقْرِيرًا، وَتَصْحِيحًا وَإِيضَاحًا وَدَعْوَةً.
* وَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ سَبَبُ الظُّهُورِ وَالنَّصْرِ، وَسَبَبُ الْفَلَاحِ فِي الدَّارَيْنِ؛ فَالطَّائِفَةُ الْمُتَمَسِّكَةُ بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ هِيَ الطَّائِفَةُ الظَّاهِرَةُ وَالنَّاجِيَةُ وَالْمَنْصُورَةُ الَّتِي لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَذَلَهَا وَلَا مَنْ خَالَفَهَا، قال ﷺ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ)).
وَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ مَا يَعْصِمُ الْمُسْلِمَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِمَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ عَقَائِدَ وَأَفْكَارٍ فَاسِدَةٍ.
وَفِي الْجُمْلَةِ؛ فَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ الْأَسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدِّينُ، وَتَصِحُّ مَعَهُ الْأَعْمَالُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ وَمَا جَاءَ بِمَعْنَاهَا -وَهُوَ كَثِيرٌ- عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تُقْبَلُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ خَالِصَةً مِنَ الشِّرْكِ.
وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اهْتِمَامُ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- بِإِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ أَوَّلًا؛ فَأَوَّلُ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَقْوَامَهُمْ هُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَقَدْ بَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ عَامًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ بِنَاءُ الدِّينِ.
وَقَدِ احْتَذَى الدُّعَاةُ وَالْمُصْلِحُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ حَذْوَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَكَانُوا يَبْدَؤُونَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِصْلَاحِ الْعَقِيدَةِ، ثُمَّ يَتَّجِهُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ بِبَقِيَّةِ أَوَامِرِ الدِّينِ.
إِنَّ لِلْعَقِيدَةِ دَوْرًا مُهِمَّا فِي صِنَاعَةِ الْمُسْلِمِ النَّاجِحِ الَّذِي يُسْهِمُ إِسْهَامَاتٍ إِيجَابِيَّةً فِي بِنَاءِ مُجْتَمَعِهِ؛ فَالْعَقِيدَةُ هِيَ أَسَاسُ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَأَسَاسُ صَلَاحِ الْأُسَرِ وَالْأَفْرَادِ، وَإِذَا صَلَحَتْ عَقِيدَةُ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَقُومُ بِدَوْرٍ فَعَّالٍ فِي صِنَاعَةِ مُجْتَمَعٍ إِسْلَامِيٍّ مُتَمَيِّزٍ؛ فَيَكُونُ لِذَلِكَ أَثَرٌ طَيِّبٌ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ.
((وَهَذِهِ عَقِيدَتُنَا -عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ- عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهِيَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
* الْإِيمَانُ بِاللهِ:
* فَنُؤْمِنُ بِرُبُوبِيَّةِ اللهِ -تَعَالَى-، أَيْ: بِأَنَّهُ الرَّبُّ، الْخَالِقُ، الْمَالِكُ، الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ.
وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْخَلْقِ، وَالْمُلْكِ، وَالتَّدْبِيرِ.
تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِأَفْعَالِهِ.
* وَنُؤْمِنُ بِأُلُوهِيَّةِ اللهِ -تَعَالَى-، أَيْ: بِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ.
تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَيْ: بِأَنَّ لَهُ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةَ الْعُلْيَا.
تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- بِمَا سَمَّى وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ، وَنَفْيِ مَا نَفَاهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
الْإِيمَانُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ:
* وَنُؤْمِنُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ، أَيْ: بِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَلَا فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
* نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22-24].
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ لَهُ الْخَلْقُ وَالتَّدْبِيرُ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقًا وَتَدْبِيرًا؛ فَهُوَ الْخَالِقُ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 11-12].
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6].
كُلُّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ إِنْسَانٍ وَغَيْرِ إِنْسَانٍ؛ أَيُّ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ رِزْقُهَا عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، هُوَ الَّذِي يَتَكَفَّلُ بِهِ.
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].
{مَفَاتِحُ}: جَمْعُ (مِفْتَاح)، وَفِيهَا قَوْلَانِ: إِمَّا الْمِفْتَاحُ الَّذِي تُفْتَحُ بِهِ الْأَبْوَابُ، وَإِمَّا الْمَكَانُ الَّذِي يُفْتَحُ، يَعْنِي: مُسْتَوْدَعَاتُ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا تَشْمَلُ الْجَمِيعَ.
وَالْغَيْبُ: مَا كَانَ غَائِبًا، وَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ؛ لَكِنَّ الْغَيْبَ الْمُطْلَقَ عِلْمُهُ خَاصٌّ بِاللهِ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ: {عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَاذَا يَكْسِبُ غَدًا، وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلْ سَيَحْصُلُ أَوْ لَا.
وَيُسْتَفَادُ -أَيْضًا- أَنَّ مَنِ ادَّعَى عِلْمَ الْغَيْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ سَوَاءٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، وَتَكْذِيبُ الْقُرْآنِ كُفْرٌ صُرَاحٌ.
الْإِيمَانُ بِصِفَةِ الْكَلَامِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ مَتَى شَاءَ كَيْفَ شَاءَ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} [النساء: 164].
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143].
{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {لَقُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
الْإِيمَانُ بِصِفَةِ الْكَلَامِ: هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ إِذَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ، وَكَلَامُهُ بِصَوْتٍ، وَهَذَا الصَّوْتُ لَيْسَ كَأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، سَمِعَهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمَنْ أَذِنَ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَيُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُكَلِّمُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْكَلَامُ بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَبِلَا وَاسِطَةٍ؛ كَكَلَامِهِ -تَعَالَى- لِمُوسَى، وَمُحَمَّدٍ، وَآدَمَ، وَحَوَّاءَ، وَجِبْرِيلَ.
الْإِيمَانُ بِأَنَّ كَلِمَاتِ اللهِ أَتَمُّ الْكَلِمَاتِ وَأَكْمَلُهَا:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ كَلِمَاتِهِ أَتَمُّ الْكَلِمَاتِ؛ صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَحْكَامِ، وَحُسْنًا فِي الْحَدِيثِ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115].
وَقَالَ: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ كَلَامُ اللهِ -تَعَالَى-، تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، وَأَلْقَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ، فَنَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192-195].
عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
مَا وَجْهُ كَوْنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ؟
الْجَوَابُ: وَجْهُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وَكَلَامُ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ.
الْإِيمَانُ بِصِفَةِ الْعُلُوِّ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4].
وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 3].
وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ: عُلُوُّهُ عَلَيْهِ بِذَاتِهِ عُلُوًّا خَاصًّا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ إِلَّا هُوَ.
مَعْنَى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، بَائِنٌ مِنْهُمْ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ.
الْإِيمَانُ بِصِفَتَيِ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ -تَعَالَى- مَعَ خَلْقِهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، يَعْلَمُ أَحْوَالَهُمْ، وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ، وَيَرَى أَفْعَالَهُمْ، وَيُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ، يَرْزُقُ الْفَقِيرَ، وَيَجْبُرُ الْكَسِيرَ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَانَ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً؛ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُمْ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
لَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الْحُلُولِيَّةُ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ!
وَنَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ أَوْ ضَالٌّ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ اللهَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ.
الْجَمْعُ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ:
1* أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِمَا؛ بِأَنَّهُ عَالٍ، وَبِأَنَّهُ مَعَنَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ اللهُ لِنَفْسِهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ أَبَدًا.
2* أَنَّ الْعُلُوَّ لَا يُنَافِي الْمَعِيَّةَ؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا زِلْنَا نَسِيرُ وَالْقَمَرُ مَعَنَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَعُدُّونَ مَقُولَتَهُمْ هَذِهِ تَنَاقُضًا.
3* أَنَّ كَوْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّ هَذَا جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، فَفِي حَقِّ الْخَالِقِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي حَقِّ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- لَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ.
وَمَعِيَّةُ اللهِ -تَعَالَى- لِخَلْقِهِ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي تَشْمَلُ كُلَّ أَحَدٍ؛ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَدَلِيلُهَا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4].
وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْإِحَاطَةَ بِالْخَلْقِ؛ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسَمْعًا وَبَصَرًا، وَسُلْطَانًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَالْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ: وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ، وَالْحِفْظَ، وَالتَّوْفِيقَ، وَالْحِمَايَةَ مِنَ الْمَهَالِكِ.
وَالْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
الَّذِي لَا يَلِيقُ بِاللهِ -تَعَالَى- أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ الْمَعِيَّةَ الِاخْتِلَاطُ وَالْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ، كَمَا قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ!
وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَ هَذَا الْقَوْلُ الْمُبْتَدَعُ الضَّالُّ صَارَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: هُوَ مَعَنَا بِعِلْمِهِ، فَفَسَّرُوا الْمَعِيَّةَ بِلَازِمِهَا؛ وَهُوَ الْعِلْمُ، عَلَى أَنَّ لَازِمَ الْمَعِيَّةِ لَيْسَ الْعِلْمَ فَقَطْ، بَلْ هُوَ مَعَنَا بِعِلْمِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَسُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ.
بَيَانُ أَنَّ اللهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ:
* وَنُؤْمِنُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ: أَنَّهُ ((يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)).
فِي الْحَدِيثِ: إِثْبَاتُ صِفَةِ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ نُزُولًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، نُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نُشَبِّهُهُ بِنُزُولِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَفِيهِ -أَيْضًا- إِثْبَاتُ الْعُلُوِّ للهِ ذِي الْجَلَالِ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْعُلُوِّ.
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَأْتِي يَوْمَ الْمَعَادِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ} [الفجر: 21-23].
{وَجَاءَ رَبُّكَ} يَعْنِي: بَعْدَ دَكِّ الْأَرْضِ، وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّنَا نُؤْمِنُ بِالنُّصُوصِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَنَقُولُ: جَاءَ اللهُ نَفْسُهُ؛ وَلَكِنْ عَلَى أَيِّ كَيْفِيَّةٍ؟ اللهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَدَبُ مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَنْ نَقُولَ: يَجِيءُ بِوَجْهٍ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَلَا نَعْلَمُ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ شَيْئًا.
الْإِيمَانُ بِصِفَةِ الْإِرَادَةِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ -تَعَالَى-: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ إِرَادَتَهُ -تَعَالَى- نَوْعَانِ:
- كَوْنِيَّةٌ: يَقَعُ بِهَا مُرَادُهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا لَهُ، وَهِيَ الَّتِي بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
{إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ} [هود: 34].
- وَشَرْعِيَّةٌ: لَا يَلْزَمُ بِهَا وُقُوعُ الْمُرَادِ، وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ فِيهَا إِلَّا مَحْبُوبًا لَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27].
الْإِيمَانُ بِأَنَّ إِرَادَةَ اللهِ الشَّرْعِيَّةَ وَالْكَوْنِيَّةَ تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ -تَعَالَى-:
- وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْكَوْنِيَّ وَالشَّرْعِيَّ تَابِعٌ لِحِكْمَتِهِ؛ فَكُلُّ مَا قَضَاهُ كَوْنًا أَوْ تَعَبَّدَ بِهِ خَلْقَهُ شَرْعًا فَإِنَّهُ لِحِكْمَةٍ، وَعَلى وَفْقِ الْحِكْمَةِ؛ سَوَاءٌ عَلِمْنَا مِنْهَا مَا نَعْلَمُ، أَوْ تَقَاصَرَتْ عُقُولُنَا عَنْ ذَلِكَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8].
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللهَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ عَلِمْتَ أَنَّ مَا قَدَّرَهُ فَهُوَ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ، إِنْ أَدْرَكْتَهَا فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهَا فَسَلِّمِ الْأَمْرَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُهَا -عَزَّ وَجَلَّ-.
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ يُحِبُّ وَيُحَبُّ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحِبُّ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمْ يُحِبُّونَهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
{وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
{وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ يَرْضَى رِضًا حَقِيقِيًّا، وَيَكْرَهُ كُرْهًا حَقِيقِيًّا:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَرْضَى مَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَيَكْرَهُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْهَا: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
{وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].
فَاللهُ -تَعَالَى- مَوْصُوفٌ بِالرِّضَا، وَهُوَ يَرْضَى عَنِ الْعَمَلِ، وَيَرْضَى عَنِ الْعَامِلِ، وَرِضَا اللهِ -سُبْحَانَهُ- صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لَهُ -تَعَالَى-، وَهِيَ فِي نَفْسِهِ، لَيْسَتْ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَدَّعِيهِ أَهْلُ التَّعْطِيلِ، وَهِيَ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَشِيئَتِهِ -تَعَالَى-، أَيْ: أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَصِفَةُ الْكَرَاهَةِ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَرَاهَةُ اللهِ -تَعَالَى- تَكُونُ لِلْعَمَلِ، وَتَكُونُ لِلْعَامِلِ -أَيْضًا-.
الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ يَغْضَبُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْغَضَبَ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَغْضَبُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْغَضَبَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَغَيْرِهِمْ: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6].
{وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ اللهَ مَوْصُوفٌ بِالْغَضَبِ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْكَافِرِينَ وَغَيْرِ الْكَافِرِينَ، وَالْغَضَبُ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ.
وَغَضَبُ الْخَالِقِ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
الْإِيمَانُ بِصِفَةِ الْوَجْهِ للهِ -تَعَالَى-:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ للهَ -تَعَالَى- وَجْهًا مَوْصُوفًا بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ: {وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].
وَجْهُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ صِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةِ، للهِ وَجْهٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، نُؤْمِنُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَخْبَرَنَا عَنْهُ، وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ وَلَكِنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ لِكَيْفِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِحَاطَةَ لَنَا بِذَلِكَ.
{ذُو الْجَلالِ} أَيْ: ذُو الْعَظَمَةِ، {وَالإكْرَامِ} مِنْهُ لِلنَّاسِ، وَمِنَ النَّاسِ لَهُ؛ فَهُوَ مُكْرِمٌ لِعِبَادِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ بِالثَّوَابِ، وَهُوَ مُكْرَمٌ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ، وَيَتَذَلَّلُونَ لَهُ.
إِثْبَاتُ صِفَةِ الْيَدَيْنِ للهِ -تَعَالَى-:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ للهِ -تَعَالَى- يَدَيْنِ كَرِيمَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
الْإِيمَانُ بِأَنَّ للهِ -تَعَالَى- عَيْنَيْنِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ للهِ -تَعَالَى- عَيْنَيْنِ اثْنَتَيْنِ حَقِيقِيَّتَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37]، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).
السُّبُحَاتُ: الْبَهَاءُ وَالْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ.
((لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)): لَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِبَصَرِ اللهِ مُنْتَهًى، وَلَكِنَّهُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُبْصَرَ لَهُ مُنْتَهًى دُونَ الْبَصَرِ.
وَأَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَيْنِ اثْنَتَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الدَّجَّالِ: ((إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ)).
الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى-: {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
هَاتَانِ آيَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُرَى؛ فَمَتَى يُرَى؟
أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا يُرَى يَقَظَةً أَبَدًا؛ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا يَحْتَمِلُونَ النَّظَرَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ أَبْدَانَهُمْ ضَعِيفَةٌ لَا تَحْتَمِلُ.
أَمَّا رُؤْيَةُ اللهِ -تَعَالَى- فِي الْآخِرَةِ فَمُمْكِنَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُونَ فِي عَالَمٍ آخَرَ، تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُهُمْ عَنْ حَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
الْإِيمَانُ بِأَنَّ صِفَاتِ اللهِ ثُبُوتِيَّةٌ وَمَنْفِيَّةٌ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِكَمَالِ صِفَاتِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]؛ لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا؛ لِكَمَالِ عَدْلِهِ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ؛ لِكَمَالِ رِقَابَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ؛ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
* وَبِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ تَعَبٌ وَلَا إِعْيَاءٌ؛ لِكَمَالِ قُوَّتِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38]، أَيْ: مِنْ تَعَبٍ وَلَا إِعْيَاءٍ.
حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ:
* وَنُؤْمِنُ بِثُبُوتِ كُلِّ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ لَكِنَّنَا نَتَبَرَّأُ مِنَ مَحْظُورَيْنِ عَظِيمَيْنِ، هُمَا:
- التَّمْثِيلُ: أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ: صِفَاتُ اللهِ -تَعَالَى- كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
- وَالتَّكْيِيفُ: أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ: كَيْفِيَّةُ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى- كَذَا وَكَذَا.
وَنُؤْمِنُ بِانْتِفَاءِ كُلِّ مَا نَفَاهُ اللهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ نَفَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ، وَأَنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتًا لِكَمَالِ ضِدِّهِ، وَنَسْكُتُ عَمَّا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ.
وَنَرَى أَنَّ السَّيْرَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَرْضٌ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ أَوْ نَفَاهُ عَنْهَا -سُبْحَانَهُ- فَهُوَ خَبَرٌ أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلًا، وَأَحْسَنُ حدَيِثًا، وَالْعِبَادُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.
وَمَا أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ أَوْ نَفَاهُ عَنْهُ فَهُوَ خَبَرٌ أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِ، وَأَنْصَحُ الْخَلْقِ، وَأَصْدَقُهُمْ، وَأَفْصَحُهُمْ.
فَفِي كَلَامِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ كَمَالُ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالْبَيَانِ، فَلَا عُذْرَ فِي رَدِّهِ، أَوِ التَّرَدُّدِ فِي قَبُولِهِ.
وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -تَعَالَى- تَفْصِيلًا أَوْ إِجْمَالًا، إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا فَإِنَّنَا فِي ذَلِكَ عَلَى كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا مُعْتَمِدُونَ، وَعَلَى مَا سَارَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى مِنْ بَعْدِهِمْ سَائِرُونَ.
* وَنَرَى وُجُوبَ إِجْرَاءِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَحَمْلِهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا اللَّائِقَةِ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَنَتَبَرَّأُ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَرِّفِينَ لَهَا، الَّذِينَ صَرَفُوهَا إِلَى غَيْرِ مَا أَرَادَ اللهُ بِهَا وَرَسُولُهُ ﷺ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمُعَطِّلِينَ لَهَا، الَّذِينَ عَطَّلُوهَا عَنْ مَدْلُولِهَا الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمُغَالِينَ فِيهَا، الَّذِينَ حَمَلُوهَا عَلَى التَّمْثِيلِ، أَوْ تَكَلَّفُوا لِمَدْلُولِهَا التَّكْيِيفَ.
* وَنَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ فَهُوَ حَقٌّ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وَلِأَنَّ التَّنَاقُضَ فِي الْأَخْبَارِ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَهَذَا مُحَالٌ فِي خَبَرِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ.
وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-، أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، أَوْ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا؛ فَذَلِكَ لِسُوءِ قَصْدِهِ، وَزَيْغِ قَلْبِهِ؛ فَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَلْيَنْزِعْ عَنْ غَيِّهِ.
وَمَنْ تَوَهَّمَ التَّنَاقُضَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى-، أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، أَوْ بَيْنَهُمَا؛ فَذَلِكَ إِمَّا لِقِلَّةِ عِلْمِهِ، أَوْ قُصُورِ فَهْمِهِ، أَوْ تَقْصِيرِهِ فِي التَّدَبُّرِ؛ فَلْيَبْحَثْ عَنِ الْعِلْمِ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّدَبُّرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ فَلْيَكِلِ الْأَمْرَ إِلَى عَالِمِهِ، وَلْيَكُفَّ عَنْ تَوَهُّمِهِ، وَلْيَقُلْ كَمَا يَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا تَنَاقُضَ فِيهِمَا، وَلَا بَيْنَهُمَا، وَلَا اخْتِلَافَ.
الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ:
* وَنُؤْمِنُ بِمَلَائِكَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُمْ: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27].
* خَلَقَهُمُ اللهُ -تَعَالَى-، فَقَامُوا بِعِبَادَتِهِ، وَانْقَادُوا لِطَاعَتِهِ: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19-20].
* خَلَقَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ نُورٍ، كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
* حَجَبَهُمُ اللهُ عَنَّا فَلَا نَرَاهُمْ، وَرُبَّمَا كَشَفَهُمْ لِبَعْضِ عِبَادِهِ؛ فَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ، لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، وَتَمَثَّلَ جِبْرِيلُ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، فَخَاطَبَتْهُ وَخَاطَبَهَا، وَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعِنْدَهُ الصَّحَابَةُ بِصُورَةِ رَجُلٍ لَا يُعْرَفُ، وَلَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، شَدِيدِ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدِ سَوَادِ الشَّعْرِ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَخَاطَبَ النَّبِيَّ ﷺ، وَخَاطَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ أَنَّهُ جِبْرِيلُ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ أَعْمًالًا كُلِّفُوا بِهَا:
فَمِنْهُمْ: جِبْرِيلُ الْمُوَكَّلُ بِالْوَحْيِ، يَنْزِلُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ.
وَمِنْهُمْ: مِيكَائِيلُ الْمُوَكَّلُ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ.
وَمِنْهُمْ: إِسْرَافِيلُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ حِينَ الصَّعْقِ وَالنُّشُورِ.
وَمِنْهُمْ: مَلَكُ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَمِنْهُمْ: مَلَكُ الْجِبَالِ الْمُوَكَّلُ بِهَا.
وَمِنْهُمْ: مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ.
وَمِنْهُمْ مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِالْأَجِنَّةِ فِي الْأَرْحَامِ، وَآخَرُونَ مُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ، وَآخَرُونَ مُوَكَّلُونَ بِكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ، لِكُلِّ شَخْصٍ مَلَكَانِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17-18].
وَآخَرُونَ مُوَكَّلُونَ بِسُؤَالِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى مَثْوَاهُ، يَأْتِيهِ مَلَكَانِ يَسْأَلَانِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، فَـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وَمِنْهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23-24].
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فِي السَّمَاءِ يَدْخُلُهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ)).
* الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ كُتُبًا؛ حُجَّةً عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمَحَجَّةً لِلْعَامِلِينَ، يُعَلِّمُونَهُمْ بِهَا الْحِكْمَةَ وَيُزَكُّونَهُمْ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَنْزَلَ مَعَ كُلِّ رَسُولٍ كِتَابًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
وَنَعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ:
1* (التَّوْرَاةُ) الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَلَى مُوسَى ﷺ، وَهِيَ أَعْظَمُ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44].
2* (الْإِنْجِيلُ) الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى عِيسَى ﷺ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَمُتَمِّمٌ لَهَا: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
{وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50].
3* (الزَّبُورُ) الَّذِي آتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- دَاوُدَ ﷺ.
4* (صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
صُحُفُ مُوسَى قِيلَ: إِنَّهَا التَّوْرَاةُ، وَقِيلَ: غَيْرُهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ؛ وَلَكِنْ نَقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ} [الأعلى: 19].
5* الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، فَكَانَ: {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
فَنَسَخَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَتَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ عَنْ عَبَثِ الْعَابِثِينَ وَزَيْغِ الْمُحَرِّفِينَ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ لِأَنَّهُ سَيَبْقَى حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أَمَّا الْكُتُبُ السَّابِقَةُ فَإِنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ بِأَمَدٍ يَنْتَهِي بِنُزُولِ مَا يَنْسَخُهَا، وَيُبَيِّنُ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ تَحْرِيفٍ وَتَغْيِيرٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ مَعْصُومَةً مِنْهُ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِيهَا التَّحْرِيفُ وَالزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46].
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79].
{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنام: 91].
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 78-79].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}.. إِلَى قَوْلِهِ: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [مريم: 15-17].
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هُوَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ، وَأَهَمُّ الْكُتُبِ، وَأَنْفَعُهَا وَأَقْوَمُهَا.
اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-:
أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ -تَعَالَى-، مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
* الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ:
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَعَثَ إِلَى خَلْقِهِ رُسُلًا: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ، وَآخِرَهُمْ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [لنساء: 163].
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
* وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ نُوحٌ، وَعِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَهُمُ الْمَخْصُوصُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [لأحزاب: 7].
* وَنَعْتَقِدُ أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ حَاوِيَةٌ لِفَضَائِلِ شَرَائِعِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ الْمَخْصُوصِينَ بِالْفَضْلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ بَشَرٌ مَخْلُوقُونَ، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ شَيْءٌ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ نُوحٍ -وَهُوَ أَوَّلُهُمْ-: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود: 31].
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا -وَهُوَ آخِرُهُمْ- أَنْ يَقُولَ: {لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50].
وَأَنْ يَقُولَ: {لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188].
وَأَنْ يَقُولَ: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21-22].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ، أَكْرَمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالرِّسَالَةِ، وَوَصَفَهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِهِمْ، وَفِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ فِي أَوَّلِهِمْ نُوحٍ: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3].
وَقَالَ فِي آخِرِهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
وَقَالَ فِي رُسُلٍ آخَرِينَ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45].
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17].
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30].
وَقَالَ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَتَمَ الرِّسَالَاتِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ شَرِيعَتَهُ ﷺ هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
وَقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وَقَوْلِهِ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
- وَنَرَى أَنَّ مَنْ زَعَمَ الْيَوْمَ دِينًا قَائِمًا مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ؛ مِنْ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ، أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَهُوَ كَافِرٌ، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ.
- وَنَرَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ؛ حَتَّى بِرَسُولِهِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ مُتَّبِعٌ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، فَجَعَلَهُمْ مُكَذِّبِينَ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ نُوحًا رَسُولٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 150-151].
- وَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَهُ، أَوْ صَدَّقَ مَنِ ادَّعَاهَا فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ للهِ، وَرَسُولِهِ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلنَّبِيِّ ﷺ خُلَفَاءَ رَاشِدِينَ خَلَفُوهُ فِي أُمَّتِهِ عِلْمًا، وَدَعْوَةً، وَوِلَايَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَأَحَقَّهُمْ بِالْخِلَافَةِ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
وَهَكَذَا كَانُوا فِي الْخِلَافَةِ قَدرًا كَمَا كَانُوا فِي الْفَضِيلَةِ، وَمَا كَانَ اللهُ -تَعَالَى- وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ لِيُوَلِّي عَلَى خَيْرِ الْقُرُونِ رَجُلًا وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَجْدَرُ بِالْخِلَافَةِ.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ الْمَفْضُولَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَتَمَيَّزُ بِخِصِّيصَةٍ يَفُوقُ فِيهَا مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْفَضْلَ الْمُطْلَقَ عَلَى مَنْ فَضَلَهُ؛ لِأَنَّ مُوجِبَاتِ الْفَضْلِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ.
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
* وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ: الصَّحَابَةُ، ثُمَّ التَّابِعُونَ، ثُمَّ تَابِعُوهُمْ، وَبِأَنَّهُ: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
* وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الْفِتَنِ فَقَدْ صَدَرَ عَنْ تَأْوِيلٍ اجْتَهَدُوا فِيهِ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُصِيبًا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُخْطِئًا فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ.
* وَنَرَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ نَكُفَّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ، فَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، وَأَنْ نُطَهِّرَ قُلُوبَنَا مِنَ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ} [الحديد: 10].
وَقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى- فِينَا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
* الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ:
* وَنُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي لَا يَوْمَ بَعْدَهُ، حِينَ يُبْعَثُ النَّاسُ أَحْيَاءً لِلْبَقَاءِ؛ إِمَّا فِي دَارِ النَّعِيمِ، وَإِمَّا فِي دَارِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
- فَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ: إِحْيَاءُ اللهِ -تَعَالَى- الْمَوْتَى حِينَ يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68]، فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً بِلَا نِعَالٍ، عُرَاةً بِلَا ثِيَابٍ، غُرْلًا بِلَا خِتَانٍ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].
- وَنُؤْمِنُ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ تُعْطَى بِالْيَمِينِ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ الظُّهُورِ بِالشِّمَالِ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا} [الانشقاق: 7-12].
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13-14].
- وَنُؤْمِنُ بِالْمَوَازِينِ تُوضَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 102-104].
{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].
- وَنُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى لِرَسُولِ اللهِ ﷺ خَاصَّةً، يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- بِإِذْنِهِ؛ لِيَقْضِيَ بَيْنَ عِبَادِهِ حِينَ يُصِيبُهُمْ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، فَيَذْهَبُونَ إِلَى آدَمَ، ثُمَّ نُوحٍ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.
- وَنُؤْمِنُ بِالشَّفَاعَةِ فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَخْرُجُوا مِنْهَا، وَهِيَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَغَيْرِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَبِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ، بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
- وَنُؤْمِنُ بِحَوْضِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، وَآنِيَتُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ حُسْنًا وَكَثْرَةً، يَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أُمَّتِهِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَ ذَلِكَ.
هَلْ لِبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ أَحْوَاضٌ؟
الْجَوَابُ: أَنَّ لَهُمْ أَحْوَاضًا، لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ؛ لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَوْضَ الْكَبِيرَ الْوَاسِعَ الْأَعْظَمَ هُوَ حَوْضُ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأَنَّ أُمَّتَهُ أَكْثَرُ الْأُمَمِ، فَهُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ.
- وَنُؤْمِنُ بِالصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى جَهَنَّمَ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَيَمُرُّ أَوَّلُهُمْ كَالْبَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرِّحَالِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: ((يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ))، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، فَيَأْتِي مَنْ يَزْحَفُ، وَفِي حَافَّتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ، تَأْخُذُ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ.
- وَنُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَخْبَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَهْوَالِهِ -أَعَانَنَا اللهُ عَلَيْهَا-.
- وَنُؤْمِنُ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَهِيَ لِلنَّبِيِّ ﷺ خَاصَّةً.
- وَنُؤْمِنُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ فَالْجَنَّةُ دَارُ النَّعِيمِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وَالنَّارُ دَارُ الْعَذَابِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ، فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى الْبَالِ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29].
وَهُمَا مَوْجُودَتَانِ الْآنَ، وَلَنْ تَفْنَيَا أَبَدَ الْآبِدِينَ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11].
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 64-66].
- وَنَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِكُلِّ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَمِنَ الشَّهَادَةِ بِالْعَيْنِ: الشَّهَادَةُ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ عَيَّنَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِالْوَصْفِ: الشَّهَادَةُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَوْ تَقِيٍّ.
- وَنَشْهَدُ بِالنَّارِ لِكُلِّ مَنْ شَهِدَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالْوَصْفِ: فَمِنَ الشَّهَادَةِ بِالْعَيْنِ: الشَّهَادَةُ لِأَبِي لَهَبٍ، وَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيٍّ، وَنَحْوِهِمَا، وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِالْوَصْفِ: الشَّهَادَةُ لِكُلِّ كَافِرٍ، أَوْ مُشْرِكٍ شِرْكًا أَكْبَرَ، أَوْ مُنَافِقٍ.
- وَنُؤْمِنُ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَهِيَ سُؤَالُ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، فَـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.
- وَنُؤْمِنُ بِنَعِيمِ الْقَبْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
وَنُؤْمِنُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِلظَّالِمِينَ الْكَافِرِينَ: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.
فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ، وَأَلَّا يُعَارِضَهَا بِمَا يُشَاهِدُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ لَا تُقَاسُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا؛ لِظُهُورِ الْفَرْقِ الْكَبِيرِ بَيْنَهَا، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
* الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ:
* وَنُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَهُوَ تَقْدِيرُ اللهِ -تَعَالَى- لِلْكَائِنَاتِ حَسْبَمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ.
وَلِلْقَدَرِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْعِلْمُ، فَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، عَلِمَ مَا كَانَ، وَمَا يَكُونُ، وَكَيْفَ يَكُونُ بِعِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ الْأَبَدِيِّ، فَلَا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ بَعْدَ جَهْلٍ، وَلَا يَلْحَقُهُ نِسْيَانٌ بَعْدَ عِلْمٍ.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِتَابَةُ، فَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَشِيئَةُ، فَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ شَاءَ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا يَكُونُ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: الْخَلْقُ، فَنُؤْمِنُ بِأَنَّ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 62-63].
وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعُ شَامِلَةٌ لِمَا يَكُونُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- نَفْسِهِ، وَلِمَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ، فَكُلُّ مَا يَقُومُ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ أَقْوَالٍ أَوْ أَفْعَالٍ أَوْ تُرُوكٍ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ للهِ -تَعَالَى-، مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ، وَاللهُ -تَعَالَى- قَدْ شَاءَهَا وَخَلَقَهَا: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28-29].
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137].
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
- وَلَكِنَّنَا مَعَ ذَلِكَ نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً، بِهِمَا يَكُونُ الْفِعْلُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ أُمُورٌ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46].
فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ إِتْيَانًا بِمَشِيئَتِهِ، وَإِعْدَادًا بِإِرَادَتِهِ.
الثَّانِي: تَوْجِيهُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى الْعَبْدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ وَقُدْرَةٌ لَكَانَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ أَمْرٌ تَأْبَاهُ حِكْمَةُ اللهِ -تَعَالَى- وَرَحْمَتُهُ، وَخَبَرُهُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
الثَّالِثُ: مَدْحُ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَذَمُّ الْمُسِيءِ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَإِثَابَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا يَسْتَحِقُّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْفِعْلَ يَقَعُ بِإِرَادَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ لَكَانَ مَدْحُ الْمُحْسِنِ عَبَثًا، وَعُقُوبَةُ الْمُسِيءِ ظُلْمًا، وَاللهُ -تَعَالَى- مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَبَثِ وَالظُّلْمِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَرْسَلَ الرُّسُلَ: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، وَلَوْلَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يَقَعُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ مَا بَطَلَتْ حُجَّتُهُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ كُلَّ فَاعِلٍ يُحِسُّ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ أَوْ يَتْرُكُهُ بِدُونِ أَيِّ شُعُورٍ بِإِكْرَاهٍ؛ فَهُوَ يَقُومُ وَيَقْعُدُ، وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، وَيُسَافِرُ وَيُقِيمُ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ، وَلَا يَشْعُرُ بِأَنَّ أَحَدًا يُكْرِهُهُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يُفَرِّقُ تَفْرِيقًا وَاقِعِيًّا بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ الشَّيْءَ بِاخْتِيَارِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَيْهِ مُكْرِهٌ، وَكَذَلِكَ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا حَكِيمًا، فَلَمْ يُؤَاخِذِ الْفَاعِلَ بِمَا فَعَلَهُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللهِ -تَعَالَى-.
- وَنَرَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْعَاصِي الْمُحْتَجِّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ بِقَدَرِ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِأَنَّ الْعَاصِيَ يُقْدِمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدَّرَهَا عَلَيْهِ؛ إِذْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ قَدَرَ اللهِ -تَعَالَى- إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ مَقْدُورِهِ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِحُجَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا الْمُحْتَجُّ بِهَا حِينَ إِقْدَامِهِ عَلَى مَا اعْتَذَرَ بِهَا عَنْهُ؟! وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ -تَعَالَى- هَذِهِ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148].
وَنَقُولُ لِلْعَاصِي الْمُحْتَجِّ بِالْقَدَرِ: لِمَاذَا لَمْ تُقْدِمْ عَلَى الطَّاعَةِ مُقَدِّرًا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ كَتَبَهَا لَكَ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الْجَهْلِ بِالْمَقْدُورِ قَبْلَ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْكَ؟!
وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ الصَّحَابَةَ: ((بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ))؛ قَالُوا: ((أَفَلَا نَتَّكِلُ وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟)). قَالَ: ((لَا، اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)).
وَنَقُولُ لِلْعَاصِي الْمُحْتَجِّ بِالْقَدَرِ: لَوْ كُنْتَ تُرِيدُ السَّفَرَ لِمَكَّةَ وَكَانَ لَهَا طَرِيقَانِ، أَخْبَرَكَ الصَّادِقُ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَخُوفٌ صَعْبٌ، وَالثَّانِي آمِنٌ سَهْلٌ؛ فَإِنَّكَ سَتَسْلُكُ الثَّانِي، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْلُكَ الْأَوَّلَ وَتَقُولُ: إِنَّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيَّ، وَلَوْ فَعَلْتَ لَعَدَّكَ النَّاسُ فِي قِسْمِ الْمَجَانِينِ.
وَنَقُولُ لَهُ -أَيْضًا-: لَوْ عُرِضَ عَلَيْكَ وَظِيفَتَانِ، إِحْدَاهُمَا ذَاتُ مُرَتَّبٍ أَكْثَرَ؛ فَإِنَّكَ سَوْفَ تَعْمَلُ فِيهَا دُونَ النَّاقِصَةِ؛ فَكَيْفَ تَخْتَارُ لِنَفْسِكَ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ مَا هُوَ الْأَدْنَى، ثُمَّ تَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ؟!
وَنَقُولُ لَهُ -أَيْضًا-: نَرَاكَ إِذَا أُصِبْتَ بِمَرَضٍ جِسْمِيٍّ طَرَقْتَ بَابَ كُلِّ طَبِيبٍ لِعِلَاجِكَ، وَصَبَرْتَ عَلَى مَا يَنَالُكَ مِنْ أَلَمِ عَمَلِيَّةِ الْجِرَاحَةِ، وَعَلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ؛ فَلِمَاذَا لَا تَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ قَلْبِكَ بِالْمَعَاصِي؟!
- وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ الشَّرَّ لَا يُنْسَبُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-؛ لِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)).
فَنَفْسُ قَضَاءِ اللهِ -تَعَالَى- لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ رَحْمَةٍ وَحِكْمَةٍ.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الشَّرُّ فِي مُقْتَضَيَاتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ الَّذِي عَلَّمَهُ الْحَسَنَ: ((وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ)).
فَأَضَافَ الشَّرَّ إِلَى مَا قَضَاهُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الشَّرَّ فِي الْمُقْتَضَيَاتِ لَيْسَ شَرًّا خَالِصًا مَحْضًا، بَلْ هُوَ شَرٌّ فِي مَحَلِّهِ مِنْ وَجْهٍ، خَيْرٌ مِنْ وَجْهٍ، أَوْ شَرٌّ فِي مَحَلِّهِ، خَيْرٌ فِي مَحَلٍّ آخَرَ.
فَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ: مِنَ الْجَدْبِ، وَالْمَرَضِ، وَالْفَقْرِ، وَالْخَوْفِ شَرٌّ؛ لَكِنَّهُ خَيْرٌ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ وَرَجْمُ الزَّانِي شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّارِقِ وَالزَّانِي فِي قَطْعِ الْيَدِ، وَإِزْهَاقِ النَّفْسِ؛ لَكِنَّهُ خَيْرٌ لَهُمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، حَيْثُ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُمَا، فَلَا يُجْمَعُ لَهُمَا بَيْنَ عُقُوبَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ -أَيْضًا- خَيْرٌ فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ حِمَايَةَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ.
* ثَمَرَاتُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ:
هَذِهِ الْعَقِيدَةُ السَّامِيَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الْعَظِيمَةِ تُثْمِرُ لِمُعْتَقِدِهَا ثَمَرَاتٍ جَلِيلَةً كَثِيرَةً:
* فَالْإِيمَانُ بِاللهِ -تَعَالَى- وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ يُثْمِرُ لِلْعَبْدِ مَحَبَّةَ اللهِ وَتَعْظِيمَهُ الْمُوجِبَيْنِ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْقِيَامُ بِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ يَحْصُلُ بِهِمَا كَمَالُ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ:
أَوَّلًا: الْعِلْمُ بِعَظَمَةِ خَالِقِهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقُوَّتِهِ، وَسُلْطَانِهِ.
ثَانِيًا: شُكْرُهُ -تَعَالَى- عَلَى عِنَايَتِهِ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ وَكَّلَ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِهِمْ، وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ.
ثَالِثًا: مَحَبَّةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا قَامُوا بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ:
أَوَّلًا: الْعِلْمُ بِرَحْمَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَعِنَايَتِهِ بِخَلْقِهِ؛ حَيْثُ أَنْزَلَ لِكُلِّ قَوْمٍ كِتَابًا يَهْدِيهِمْ بِهِ.
ثَانِيًا: ظُهُورُ حِكْمَةِ اللهِ -تَعَالَى-؛ حَيْثُ شَرَعَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَا يُنَاسِبُهَا، وَكَانَ خَاتَمَ هَذِهِ الْكُتُبِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ مُنَاسِبًا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمَكَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثَالِثًا: شُكْرُ نِعْمَةِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ:
أَوَّلًا: الْعِلْمُ بِرَحْمَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَعِنَايَتِهِ بِخَلْقِهِ؛ حَيْثُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أُولَئِكَ الرُّسُلَ الْكِرَامَ لِلْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ.
ثَانِيًا: شُكْرُهُ -تَعَالَى- عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى.
ثَالِثًا: مَحَبَّةُ الرُّسُلِ، وَتَوْقِيرُهُمْ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ -تَعَالَى-، وَخُلَاصَةُ عَبِيدِهِ، قَامُوا للهِ بِعِبَادَتِهِ وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ:
أَوَّلًا: الْحِرْصُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى-؛ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْبُعْدُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ؛ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
ثَانِيًا: تَسْلِيَةُ الْمُؤْمِنِ عَمَّا يَفُوتُهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ:
أَوَّلًا: الِاعْتِمَادُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- عِنْدَ فِعْلِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَالْمُسَبِّبَ كِلَاهُمَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ.
ثَانِيًا: رَاحَةُ النَّفْسِ وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ ارْتَاحَتِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ الْقَلْبُ، وَرَضِيَ بِقَضَاءِ الرَّبِّ، فَلَا أَحَدَ أَطْيَبُ عَيْشًا وَأَرْيَحُ نَفْسًا وَأَقْوَى طُمَأْنِينَةً مِمَّنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ.
ثَالِثًا: طَرْدُ الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ بِمَا قَدَّرَهُ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالنَّجَاحِ، فَيَشْكُرُ اللهَ -تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ، وَيَدَعُ الْإِعْجَابَ.
رَابِعًا: طَرْدُ الْقَلَقِ وَالضَّجَرِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمُرَادِ أَوْ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللهِ -تَعَالَى- الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَحْتَسِبُ الْأَجْرَ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ اللهُ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23].
فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَأَنْ يُحَقِّقَ لَنَا ثَمَرَاتِهَا، وَيَزِيدَنَا مِنْ فَضْلِهِ، وَأَلَّا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
((مَرَّ وَهَذَا أَثَرُ عِبَادَتِهِ!))
إِنَّ الِاجْتِهَادَ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ؛ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ للهِ فِي أَدَائِهَا، وَإِفْرَادِهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ طِيبِ أَثَرِ الْمَرْءِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ كُتُبَ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ مَا تَزَالُ تَذْكُرُ فِي صَفْحَاتِهَا النَّاصِعَةِ عُبَّادًا وَزُهَّادًا اتَّصَفُوا بِالسَّلَامَةِ فِي الْمَنْهَجِ وَالْعَقِيدَةِ، وَالِاجْتِهَادِ مَعَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ.
لَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّتِيجَةَ الَّتِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ إِذَا مَا أَكْثَرَ مِنَ النَّوَافِلِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ -وَهَذَا فِي تَحْصِيلِ الْمَحْبُوبِ-، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ -وَهَذَا فِي الْوِقَايَةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ-))، فَجَعَلَ لَهُ الْخَيْرَ بِحَذَافِيرِهِ لَمَّا أَتَى بِمُوجِبِ مَحَبَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَازِمِهَا.
فَالْإِتْيَانُ بِمَا افْتَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ شَفْعُ ذَلِكَ بَعْدُ بِالْإِكْثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ.. سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْكِفَايَةِ بِالْمَحَبَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثَمَرَةً وَنَتِيجَةً.
وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاضَلُ فِي جِنْسِهَا؛ فَلَيْسَتِ الْفَرَائِضُ كَالنَّوَافِلِ، فَجِنْسُ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ جِنْسِ النَّوَافِلِ، ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَتَفَاضَلُ بِالنَّوْعِ؛ فَالصَّلَاةُ مِنَ الْفَرَائِضِ هِيَ أَفْضَلُ مَا افْتَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي نَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهِيَ -أَيْضًا- تَتَفَاضَلُ نَوْعًا كَمَا تَفَاضَلَتْ جِنْسًا.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ الْعَبْدُ إِلَيْهِ بِأَحَبَّ مِمَّا افْتَرَضَ عَلَيْهِ؛ أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِنْسَانُ مَا فَرَضَ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ، يَأْتِي بِهَا مُقِيمًا إِيَّاهَا كَمَا جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِفَرَائِضِ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِهَا أَصْلًا، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ: ((ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ))، فَجَعَلَهُ غَيْرَ آتٍ بِالْفَرِيضَةِ أَصْلًا: ((فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ))؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ مَا افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ كَمَا افْتَرَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَإِذَا مَا أَتَى بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ النَّوَافِلِ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَمَا يَزَالُ)): وَهَذَا مِنْ أَفْعَالِ الِاسْتِمْرَارِ، ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)).
أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ أَرَادُوا أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالُوا: أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ تُؤَوِّلُونَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ))، فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تُؤَوِّلُونَ فَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ سَمْعَ الْعَبْدِ، وَبَصَرَهُ، وَيَدَهُ، وَرِجْلَهُ، فَأَنْتُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَتَكُونُوا -حِينَئِذٍ- مِنَ الْمُجَسِّمِينَ.
وَإِمَّا أَنْ تُؤَوِّلُوا كَمَا نُؤَوِّلُ وَلَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَعَلَيْهِ؛ فَيُفْتَحُ الْبَابُ أَمَامَ الْمُؤَوِّلِينَ لِلتَّأْوِيلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: أَنْتُمْ لَمْ تَفْهَمُوا اللُّغَةَ، وَلَمْ تُحْسِنُوا التَّعَامُلَ مَعَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: نَأْخُذُ الْأَحَادِيثَ وَالْآيَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا؛ مَا هُوَ ظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ؟
هَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضُ صِفَةِ الْعَبْدِ؟!
السَّمْعُ بَعْضُ صِفَاتِ الْعَبْدِ، وَالْبَصَرُ بَعْضُ صِفَاتِ الْعَبْدِ، وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ أَبْعَاضٌ لِلْعَبْدِ؛ فَهَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ السَّمَاعِ؟!
نَحْنُ نَقُولُ -نَحْنُ أَهْلَ السُّنَّةِ- نَقُولُ: إِنَّنَا نَأْخُذُ النُّصُوصَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا الْمُرَادَةِ مِنْ غَيْرِ مَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَجْسِيمٍ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ كِتَابَ اللهِ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَظَاهِرُ النَّصِّ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ السَّلِيمِ عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ اللُّغَوِيِّ وَعَلَى حَسَبِ التَّرَاكِيبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ الشَّرِيفُ؛ فَإِنَّكَ عِنْدَمَا تَسْمَعُ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ))؛ لَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الشَّرِيفِ عَلَى حَسَبِ السِّيَاقِ وَالتَّرْكِيبِ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقَرِّرُ أَنَّهُ صَارَ بَعْضَ صِفَاتِ الْعَبْدِ؛ وَلَا أَنَّهُ صَارَ بَعْضَ أَبْعَاضِ الْعَبْدِ؟!
حَاشَا وَكَلَّا!
بَلِ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ هَذَا النَّصِّ -وَهُوَ ظَاهِرُهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالتَّرْكِيبُ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ بِهَا كِتَابَهُ، وَأَنْطَقَ بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ-: أَنَّهُ يُسَدِّدُهُ؛ يُسَدِّدُ سَمْعَهُ، ((كُنْتُ سَمْعَهُ)) بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَلْتَزِمُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَيُسَدِّدُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ؛ فَلَا يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَلَا يَمْتَدُّ السَّمْعُ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمْتَدَّ السَّمْعُ إِلَيْهِ، وَلَا تَمْتَدُّ الْيَدُ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ أَنْ تَمْتَدَّ الْيَدُ إِلَيْهِ، وَلَا تَنْتَقِلُ الرِّجْلُ بِخَطْوٍ إِلَّا إِلَى مَا أَحَلَّ اللهُ انْتِقَالَ الْخَطْوِ إِلَيْهِ.
فَهَذَا هُوَ التَّسْدِيدُ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ بِلَا تَأْوِيلٍ.
وَشَيْءٌ آخَرُ: أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: التَّأْوِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ هُوَ الدَّلِيلُ.
فَالْأَمْرُ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ- يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الْعَظِيمِ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) يَعْنِي: سَدَّدْتُ سَمْعَهُ؛ وَلِذَلِكَ إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ مُقْبِلًا عَلَى سَمَاعِ الْخَنَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَيْفَ وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ: ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ))، وَهَذَا لَا يَفْتُرُ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَلَا مَا بَيْنَ ذَلِكَ عَنْ سَمَاعِ الْخَنَا وَالْمُوبِقَاتِ وَمَا حَرَّمَ اللهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْبُوبٍ للهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحْبُوبًا للهِ لَصَدَقَ عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ))، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَدُّ بَصَرُهُ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ، فَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ مُقْبِلًا عَلَى النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْبُوبٍ للهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا وَجَدْتَهُ بَاطِشًا سَاعِيًا إِلَى الْمُنْكَرَاتِ، مُقْبِلًا عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْبُوبٍ للهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَالَ: ((فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ يَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)).
وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمْرًا كَبِيرًا يَقُولُ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)).
وَهِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَتْ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَرَدِّدِينَ الْحَيَارَى، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ هَاهُنَا بَيْنَ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَمْرٍ مَحْبُوبٍ لِلْعَبْدِ، فَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ، هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ؛ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَيُحِبُّ الْحَيَاةَ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: ((وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)).
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيَّنَ لَنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَحْبُوبًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا إِذَا حَصَّلْتَ أَسْبَابَ الْمَحَبَّةِ، وَمِمَّا ذُكِرَ فِي هَذَا النَّصِّ: أَنْ تَأْتِيَ بِالْفَرَائِضِ وَافِيَةً، ثُمَّ تَأْتِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالنَّوَافِلِ كَثِيرَةً، ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ..)) جَاءَهُ التَّوْفِيقُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْكِفَايَةُ -كِفَايَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ-، وَتَوْفِيقُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَبْدِ ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ مَحَبَّةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْعَبْدِ، وَلَهَا أَسْبَابُهَا بِتَحْصِيلِهَا.
فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ..
مَحَبَّةُ اللهِ سَبَبٌ لِلذِّكْرِ الْحَسَنِ لِلْعَبْدِ وَالْقَبُولِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَثَرَ ذَلِكَ يَمْتَدُّ إِلَى بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ.
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ تَحَقُّقِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ! إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ ينَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ)). هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ مِثْلَ مَا مَرَّ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ! إِنِّي أُحِبُّ عَبْدِي فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي فِي السَّمَاءِ: يَا أَهْلَ السَّمَاءِ! إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ اللهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ! إِنِّي أُبْغِضُ عَبْدِي فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ)).
هَذِهِ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ تَحَقُّقِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ: الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ.
((مَرَّ وَهَذَا أَثَرُ خُلُقِهِ الْحَسَنِ!))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ بَقَاءَ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ، وَاسْتِمْرَارَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ لِلْعَبْدِ بَعْدَ رَحِيلِهِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ يَخْتَصُّ اللهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِمَّنْ بَذَلُوا الْخَيْرَ وَالْبِرَّ، وَنَشَرُوا الْإِحْسَانَ، وَنَفَعُوا الْخَلْقَ، وَجَمَعُوا مَعَ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحَ، وَمَكَارِمَ الْخِصَالِ، وَجَمِيلَ الْخِلَالِ؛ فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ لِلْعَبْدِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ فَضَائِلُهُم = وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ
لَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ شَيْءٍ يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الْعَالِيَةِ وَعَلَى ذِرْوَةِ السَّنَامِ، وَمَدَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.
وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).
وَكَانَ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ)).
إِنَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ يَبْلُغُ الرَّجُلُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ.
وَهَذِهِ بَعْضُ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ فِيهَا بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ، وَالْخِصَالِ الْفَاضِلَةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} وَمِنَ الْقَوْلِ الْحَسَنِ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْعِلْمَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَالْبَشَاشَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ طَيِّبٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ}.
هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِهَا، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إِسَاءَتِهِ؛ وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمُ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].
((وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ)).
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَوْلَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ عَلَمًا عَلَى الْأَخْلَاقِ، وَكَمَالِ الْقِيَمِ، وَشِيَمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ يَحْمِلُونَ الْهِدَايَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالنُّورَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ -الزَّعِيمُ هَاهُنَا: الضَّامِنُ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ -رَبَضُ الْجَنَّةِ: مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا، تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيِ: الْجَدَلَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَهَا فَقَالَ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ)).
قَالَتْ: ((أَلَيْسَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟)).
قَالَ: ((بَلَى)).
قَالَتْ: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ كَانَ الْقُرْآنَ».
وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ؟».
قَالُوا: ((بَلَى)).
قَالَ: «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ: كَفُّ الْأَذَى؛ وَهَذَا مِمَّا يُذْكَرُ بِهِ الْمَرْءُ بَعْدَ مَوْتِهِ..
لَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ تُؤَكِّدُ عَلَى حُرْمَةِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّاسِ عَامَّةً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ الْوَعِيدَ وَالزَّجْرَ الشَّدِيدَ لِمَنْ تَعَمَّدَ أَذِيَّةَ الْمُسْلِمِ بِأَيِّ نَوْعٍ أَوْ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ الْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِيَّةِ؛ فَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْإِيذَاءِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
فَهَذَا فِي النَّهْيِ عَنِ الْإِيذَاءِ.
وَالْإِيذَاءُ يَشْمَلُ الْإِيذَاءَ بِالْقَوْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالْفِعْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالتَّرْكِ.
حَرَّمَ الدِّينُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَذَى وَالْإِضْرَارِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْيَدِ، أَمْ بِاللِّسَانِ، أَمْ بِالتَّسَبُّبِ، أَمْ بِالْمُبَاشَرَةِ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ قَوْلُهُ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)).
إِنَّ أَذِيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ عَظِيمَةٌ، وَإِثْمَهَا عَظِيمٌ!
مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ: أَلَّا يُؤْذِيَهُ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا شَدِيدًا، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فَضْلَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي تَنْحِيَةِ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْأَذَى يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ، أَوْ يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِمْ.
النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ حَالَ الْمُسْلِمِ فِي كَمَالِ إِسْلَامِهِ فَيَقُولُ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا عَنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ)).
قَالَ: ((اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ)).
وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ ((إِمَاطَةَ الْأَذَى شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ)) فِيمَا صَحَّ عَنْهُ ﷺ.
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ)).
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْرَهُ أَنْ يَصِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ وَمِنَ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَذًى بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يُحِبُّهُ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: ((النَّاسُ رَجُلَانِ؛ مُؤْمِنٌ فَلَا تُؤْذِهِ، وَجَاهِلٌ فَلَا تُجَاهِلْهُ)).
النَّاسُ إِمَّا مُؤْمِنٌ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الصِّنْفَ الْآخَرَ؛ وَهُوَ الْجَاهِلُ، فَالْجَاهِلُ يَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُجَاهِلَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ».
قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ، أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ». وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ)).
فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا)).
فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)).
قَالُوا: ((وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ: كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟
قَالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: ((فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَكَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ، كَفُّ الشَّرِّ عَنْهُمْ صَدَقَةٌ يَأْتِي بِهَا الْكَافُّ.
ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي ((سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)) عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ: ((أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ الْعِلْمَ كُلَّهُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لَازِمًا أَمْرَ جَمَاعَتِهِمْ فَافْعَلْ)).
((الْأَثَرُ الطَّيِّبُ بَعْدَ الْمَمَاتِ لِلْعِلْمِ وَالدَّعْوَةِ وَالصَّدَقَاتِ))
إِنَّ الْأَخْيَارَ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ يَفْقِدُهُمُ النَّاسُ؛ بِسَبَبِ آثَارِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَأَعْمَالِهِمُ النَّافِعَةِ، وَإِحْسَانِهِمْ إِلَى الْخَلْقِ، وَهُنَاكَ أَعْمَالٌ يَبْقَى لِلْعَبْدِ أَجْرُهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ وَرَحِيلِهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ طَالِبِ نَجَاةٍ أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهَا، وَأَلَّا يُفَوِّتَهَا، وَأَنْ يَضْرِبَ فِيهَا بِسَهْمٍ وَنَصِيبٍ قَدْرَ جُهْدِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ [أَشْيَاءٍ]، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَيْرُ مَا يُخَلِّفُ الرَّجُلُ مِنْ بَعْدِهِ ثَلَاثٌ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ تَجْرِي يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا، وَعِلْمٌ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)).
((وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ)): كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ عَمِلَهُ فَأَخَذَ عَلَيْهِ ثَوَابًا وَتَحَصَّلَ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى أَجْرٍ؛ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَجْرِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -أَيْضًا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِمَّا يَلْحِقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإسْنَادٍ حَسَنٍ.
الصَّدَقَاتُ الْجَارِيَةُ وَالْأَوْقَافُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ لِلْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ، قال ﷺ: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةِ [أَشْيَاءٍ]، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ)).
((إِنَّ مِمَّا يَلْحِقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟)).
قَالَ: ((إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)).
قَالَ: ((فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ؛ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ)).
قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: ((غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا)).
الْوَلَدُ الصَّالِحُ مِمَّا يَنْفَعُ وَالِدَيْهِ نَفْعًا عَظِيمًا بَعْدَ مَوْتِهِمَا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَجْعَلُ لَلْعَبْدِ وَلَدًا صَالِحًا فِي الدُّنْيَا، يَتَأَتَّى مِنْهُ دُعَاءٌ صَالِحٌ فِي الْآخِرَةِ، يَصِلُ إِلَيْهِ فِيهَا أَجْرُهُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ -مِنْهَا-: أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو اللهَ لَهُ)).
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ بِالدُّعَاءِ لِأَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا هُوَ اسْتِمْرَارٌ لِحَيَاتِهِ هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.
فَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَلْمَرْءِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ, وَزُخْرًا لَهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ, ثُمَّ يَكُونُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفْعًا فِي الدَّرَجَاتِ.
وَهَذَا زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا ذَكَرًا صَالِحًا، يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ وَلِيًّا مِنْ بَعْدِهِ، وَيَكُونُ نَبِيًّا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَوْلَادِ.
وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعَبْدِهِ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا صَالِحًا، جَامِعًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَامِدِ الشِّيَمِ، فَرَحِمَهُ رَبُّهُ وَاسْتَجَابَ دَعْوَتَهُ.
فَبَشَّرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى يَدِ الْمَلَائِكَةِ بِيَحْيَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَمَّاهُ اللَّهُ لَهُ (يَحْيَى)، وَكَانَ اسْمًا مُوَافِقًا لِمُسَمَّاهُ: يَحْيَا حَيَاةً حِسِّيَّةً، فَتَتِمُّ بِهِ الْمِنَّةُ، وَيَحْيَا حَيَاةً مَعْنَوِيَّةً وَهِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 4-7].
قَالَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: وَإِنِّي خِفْتُ أَقَارِبِي وَعَصَبَتِي أَلَّا يُحْسِنُوا خِلَافَتِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي، فَيُفْسِدُوا فِي مَرَاكِزِ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا أَجِدُ فِيهِمْ رَجُلًا صَالِحًا مُؤَهَّلًا لِأَنْ يَكُونَ وَارِثًا مُحَافِظًا عَلَى شَرَائِعِ الدِّينِ وَتَعْلِيمَاتِهِ.
وَكَانَتِ امْرَأَتِي فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ؛ فَأَعْطِنِي مِنْ مَحْضِ فَضْلِكَ الْوَاسِعِ، وَقُدْرَتِكَ الْبَاهِرَةِ وَارِثًا مِنْ ذُرِّيَّتِي، وَمُعِينًا يَتَوَلَّانِي.
يَرِثُ الْعِلْمَ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِ الدِّينِ مِنْ بَعْدِي، وَيَرِثُ -مِنْ بَعْضِ آلِ يَعْقُوبَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- النُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ، وَاجْعَلْهُ رَبِّ بَرًّا تَقِيًّا كَثِيرًا الرِّضَا عَنْكَ فِيمَا تَجْرِي بِهِ مَقَادِيرُكَ، مَرْضِيًّا عِنْدَكَ قَوْلًا وَفِعْلًا.
فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ؛ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا! إِنَّا لِعَظِيمِ رُبُوبِيِّتِنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ اسْمُهُ يَحْيَى، لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِاسْمِهِ، وَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ شَبِيهًا فِي صِفَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُورِثُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ -بِإِذْنِ اللهِ-، وَالْأَثَرَ الطَّيِّبَ، وَالذِّكْرَ الْجَمِيلَ، وَالثَّنَاءَ الْحَسَنَ: نَشْرُ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، خَاصَّةً الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ فَإِذَا انْقَطَعَتِ الْأَعْمَالُ بِالْمَوْتِ، وَطُوِيَتْ صَحِيفَةُ الْعَبْدِ؛ فَأَهْلُ الْعِلْمِ حَسَنَاتُهُمْ تَتَزَايَدُ كُلَّما انْتُفِعَ بِإِرْشَادِهِمْ وَاهْتُدِيَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ؛ فَحَقِيقٌ بِالْعَاقِلِ الْمُوَفَّقِ أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ نَفَائِسَ أَوْقَاتِهِ، وَجَوَاهِرَ عُمُرِهِ، وَأَنْ يُعِدَّهُ لِيَوْمِ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ.
((إِنَّ دَرَجَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ وَالرَّبَّانِيَّةِ وَوِرَاثَةِ النُّبُوَّةِ وَخِلَافَةِ الرِّسَالَةِ هِيَ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِهَا وَشَرَفِهَا إِلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ بِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ أَوْ عَلَّمَ غَيْرَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مَا دَامَ ذَلِكَ جَارِيًا فِي الْأُمَّةِ عَلَى آبَادِ الدُّهُورِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ: ((وَاللهِ! لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)).
وَصَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)).
وَصَحَّ عَنْهُ ﷺ -أَيْضًا- أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)).
وَصَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
وَعَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)).
وَعَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ عَظِيمٍ وَافِرٍ)).
وَعَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا)).
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِائَتَيْ دَلِيلٍ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ، فَيَا لَهَا مِنْ مَرْتَبَةٍ مَا أَعْلَاهَا، وَمَنْقَبَةٍ مَا أَجَلَّهَا وَأَسْنَاهَا، أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ مَشْغُولًا بِبَعْضِ أَشْغَالِهِ، أَوْ فِي قَبْرِهِ قَدْ صَارَ أَشْلَاءً مُتَمَزِّقًا وَأَوْصَالًا مُتَفَرِّقَةً، وَصُحُفُ حَسَنَاتِهِ مُتَزَايِدَةٌ يُمْلَى فِيهَا الْحَسَنَاتُ كُلَّ وَقْتٍ، وَأَعْمَالُ الْخَيْرِ مُهْدَاةٌ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ!
تِلْكَ -وَاللهِ- الْمَكَارِمُ وَالْغَنَائِمُ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافِسِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَعَلَيْهِ يَحْسُدُ الْحَاسِدُونَ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَحَقِيقٌ بِمَرْتَبَةٍ هَذَا شَأْنُهَا أَنْ تُنْفَقَ نَفَائِسُ الْأَنْفَاسِ عَلَيْهَا، وَيَسْبِقُ السَّابِقُونَ إِلَيْهَا، وَتُوَفَّرُ عَلَيْهَا الْأَوْقَاتُ، وَتَتَوَجَّهُ نَحْوَهَا الطَّلَبَاتُ -فَنَسْأَلُ اللهَ الَّذِى بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ كُلِّ خَيْرٍ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْنَا خَزَائِنَ رَحْمَتِهِ، وَيَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ-.
وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ يُدْعَوْنَ عُظَمَاءَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ فَذَلِكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ.
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعُدُولُ حَقًّا بِتَعْدِيلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَهُمْ؛ إِذْ يَقُولُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ سَنَدَ بَعْضُهَا بَعْضًا: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولٌ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)).
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ فِي ((الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ)): ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِى جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنَ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى، وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَمِنْ ضَالٍّ جَاهِلٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ، وَأَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللهِ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ)).
إِنَّ التَّوْحِيدُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، إِذَا مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ وَكَمُلَ تَوْحِيدُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ؛ فَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ.
قَالَ اللهُ تَعَالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ تَدْعُوهُمْ لِلِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَتِكَ: هَذِهِ طَرِيقِي الَّتِي أَدْعُو إِلَيْهَا -وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ وَدِينُ الْإِسْلَامِ- عَلَى عِلْمٍ جَلِيٍّ وَاضِحٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَحُجَجٍ بُرْهَانِيَّةٍ قَاطِعَةٍ، أَنَا وَمَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَنَحْنُ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ الْعِلْمِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الَّذِي هُوَ فِي الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ بِمَثَابَةِ الْبَصَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ الْحِسِّيَّةِ.
فَلَسْنَا مُجْبِرِينَ وَلَا مُكْرِهِينَ أَحَدًا عَلَى الْإِيمَانِ، إِنَّمَا نَحْنُ دُعَاةٌ فَقَطْ، وَلَا نَنْصُرُ الْحَقَّ الرَّبَّانِيَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا بِالْأَكَاذِيبِ.
وَأُنَزِّهُ اللهَ -تَعَالَى- عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ.
وَقُلْ يَا رَسُولَ اللهِ: وَمَا أَنَا وَلَا كُلُّ مَنْ آمَنَ اتَّبَعَنِي اتِّبَاعًا صَحِيحًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللهِ غَيْرَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ فِي إِلَهِيَّتِهِ.
الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَزْكَى الْأَعْمَالِ وَأَفْضَلِ الْمُهِمَّاتِ؛ لِأَنَّهَا وَظِيفَةُ الرُّسُلِ - عَلَيِهُم الصَلَاةُ وَالسَلَام-، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أُجُورٌ عَظِيمَةٌ يَنَالُهَا الدُّعَاةُ إِذَا أَخْلَصُوا النِّيَّةَ للهِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، [لَا يُنْقِصُ] ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَيَا لَهَا مِنْ بِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ لِمَنْ عَقَلَهَا!
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ؛ لِيَلْحَقَ بِرَكْبِ الدُّعَاةِ الْمُصْلِحِينَ؛ لِأَنَّكَ إِنْ دَلَلْتَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْخَيْرِ فَعَمِلُوا بِهِ، فَلَكَ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، فَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَعَطِيَّةٌ جَلِيلَةٌ، لِمَنْ فقَهَهَا.
وَدَعْوَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَتْبَاعِهِ تَرْتَكِزُ عَلَى أَمْرَيْنِ، هُمَا:
* الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ للهِ فِي الدَّعْوَةِ؛ رَاغِبِينَ فِي نَفْعِ الْخَلْقِ وَإِصْلَاحِهِمْ، لَا يَقْصِدُونَ بِدَعْوَتِهِمْ تَحْصِيلَ مَالٍ، وَلَا رِئَاسَةٍ، وَلَا طَلَبِ مَدْحٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}؛ وَهَذَا مَدْلُولُ شَهَادَةِ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّكِيزَةُ الْأُولَى.
* وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَالْعِلْمُ وَالْبَصِيرَةُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} لَا إِلَى غَيْرِهِ، لَا إِلَى حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ، وَلَا لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَإِنَّمَا أَدْعُو إِلَى اللهِ {عَلَى بَصِيرَةٍ}.
فَتَكُونُ الدَّعْوَةُ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِ اللهِ، يَسْتَضِيءُ الدُّعَاةُ بِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَى بَصِيرَةٍ}.
وَهَذَا مِنْ مَدْلُولِ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّبِعَ طَرِيقَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِأَنْ يُخْلِصَ للهِ فِي دَعْوَتِهِ، وَأَنْ يَعْتَنِيَ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْمَعَايِبِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يُنَزِّهَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ}.
وَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ؛ قَالَ تَعَالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى اللهِ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ؛ مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ، وَأَنْ يُنَزِّهَ اللهَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ وَالسُّكْنَى.
هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ هِيَ قَانُونُ الدُّعَاةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
(({قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي} الْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الشَّرْعِ: عِبَادَةً، وَدَعْوَةً إِلَى اللهِ.
{سَبِيلِي}؛ أَيْ: طَرِيقِي.
{أَدْعُو}: حَالٌ مِنَ الْيَاءِ فِي قَوْلِهِ: {سَبِيلِي}، وَيُحْتَمُل أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ تِلْكَ السَّبِيلِ.
{إِلَى اللَّهِ}: لِأَنَّ الدُّعَاةَ إِلَى اللهِ يَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
1- دَاعٍ إِلَى اللهِ.
2- وَدَاعٍ إِلَى غَيْرِهِ.
فَالدَّاعِي إِلَى اللهِ -تَعَالَى- هُوَ: الْمُخْلِصُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُوصِلَ النَّاسَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-.
وَالدَّاعِي إِلَى غَيْرِهِ: قَدْ يَكُونُ دَاعِيًا إِلَى نَفْسِهِ، يَدَعْو إِلَى الْحَقِّ لِأَجْلِ أَنْ يُعَظَّمَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُحْتَرَمَ، وَلِهَذَا تَجِدُهُ يَغْضَبُ إِذَا لَمْ يَفْعَلِ النَّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَلَا يَغْضَبُ إِذَا ارْتَكَبُوا نَهْيًا أَعْظَمَ مِنْهُ، لَكِنْ لَمْ يَدْعُ هُوَ إِلَى تَرْكِهِ، فَارْتَكَبُوهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِمَّا دَعَا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يُطِيعُوهَ غَضِبَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطِيعُوهُ، فَكَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ هُوَ لَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَقَدْ يَكُونُ دَاعِيًا إِلَى كَبِيرِهِ كَمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الدُّوَلِ مِنْ عُلَمَاءِ الضَّلَالِ، مِنْ عُلَمَاءِ الدُّوَلِ لَا عُلَمَاءِ الْمِلَلِ، يَدْعُونَ إِلَى كُبَرَائِهِمْ.
مَنْ دَعَا إِلَى اللهِ ثُمَّ رَأَى النَّاسَ فَارِّينَ مِنْهُ، فَلَا يَيْأَسُ، وَلَا يَتْرُكُ الدَّعْوَةَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ، فَوَ اللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
يَعْنِي: أَنَّ اهْتِدَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْ قَبَائِلِ الْيَهُودِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، فَإِذَا دَعَا إِلَى اللهِ وَلَمْ يُجَبْ، فَلْيَكُنْ غَضَبُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يُتَّبَعْ، لَا لِأَنَّهُ لَمْ يُجَبْ.
فَإِذَا كَانَ يَغْضَبُ لِهَذَا، فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَإِذَا اسْتَجَابَ وَاحِدٌ كَفَى، وَإِذَا لَمْ يَسْتَجِبْ أَحَدٌ فَقَدْ أَبْرَأَ ذِمَّتَهُ أَيْضًا، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ».
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ للهِ.. هِيَ أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ نَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
أَصْلُ الْإِسْلَامِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ مُقْتَضَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُمْ بِجِهَادِهِمْ هِدَايَةَ الْخَلْقِ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ»؛ ادْعُهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، إِلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
فَهَذَا الْجِهَادُ كُلُّهُ مِنْ أَجْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَهُ كَيْفَ يَدْعُوهُمْ؛ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَيَجِبُ دَعْوَتُهُمْ قَبْلَ قِتَالِهِمْ.
وَقَدْ أَمَر النَّبِيُّ ﷺ عَلِيًّا: إِنْ هُمْ أَجَابُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِمَا يَجِبُ مِنْ شَرَائِعِهِمُ الَّتِي لَابُدَّ لَهُمْ مِنْ فِعْلِهَا؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
عَلَيْنَا أَنْ نَحْرِصَ عَلَى هِدَايَةِ الْكُفَّارِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالشَّقَاءِ وَالضَّيَاعِ وَالضَّلَالِ فِي الدُّنْيَا؛ وَفِي هَذَا أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ حَلَفَ النَّبِيُّ ﷺ تَرْغِيبًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ فَقَالَ: ((فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ))؛ أَيْ: هِدَايَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى يَدَيْكَ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْإِبِلِ الْحُمْرُ؛ وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِهَا لِأَنَّهَا أَنْفَسُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا مَثَلٌ لِلتَّقْرِيبِ إِلَى الْأَذْهَانِ؛ وَإِلَّا فَنَعِيمُ الْآخِرَةِ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا.
«لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا».
((احْذَرْ أَنْ تَمُرَّ وَلَا أَثَرَ طَيِّبَ لَكَ!))
عِبَادَ اللهِ! احْذَرُوا أَنْ تَمُرُّوا وَلَا أَثَرَ طَيِّبَ لَكُمْ؛ فَإِنَّ الْفَاجِرَ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ؛ فَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29].
(({فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} أَيْ: لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تَصْعَدُ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ فَتَبْكِي عَلَى فَقْدِهِمْ، وَلَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِقَاعٌ عَبَدُوا اللهَ فِيهَا فَقَدَتْهُمْ؛ فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا أَلَّا يُنْظَرُوا وَلَا يُؤَخَّرُوا؛ لِكُفْرِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ)).
(({فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}: لَمَّا أَتْلَفَهُمُ اللهُ وَأَهْلَكَهُمْ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَيْ: لَمْ يُحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُؤْسَ عَلَى فِرَاقِهِمْ، بَلْ كُلٌّ اسْتَبْشَرَ بِهَلَاكِهِمْ وَتَلَفِهِمْ حَتَّى السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ؛ لِأَنَّهُمْ مَا خَلَّفُوا مِنْ آثَارِهِمْ إِلَّا مَا يُسَوِّدُ وُجُوهَهُمْ وَيُوجِبُ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةَ وَالْمَقْتَ مِنَ الْعَالَمِينَ.
{وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} أَيْ: مُمْهَلِينَ عَنِ الْعُقُوبَةِ، بَلِ اصْطَلَمَتْهُمْ فِي الْحَالِ)).
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: ((مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)).
قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟)).
فَقَالَ: ((الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((مُرَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: ((مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ))، ثُمَّ فَسَّرَهُ: بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْفَاجِرَ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَوْتَى قِسْمَانِ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، وَنَصَبُ الدُّنْيَا: تَعَبُهَا.
وَأَمَّا اسْتِرَاحَةُ الْعِبَادِ مِنَ الْفَاجِرِ مَعْنَاهُ: انْدِفَاعُ أَذَاهُ عَنْهُمْ، وَأَذَاهُ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا: ظُلْمُهُ لَهُمْ، وَمِنْهَا ارْتِكَابُهُ لِلْمُنْكَرَاتِ؛ فَإِنْ أَنْكَرُوهَا قَاسَوْا مَشَقَّةً مِنْ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا نَالَهُمْ ضَرَرُهُ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ أَثِمُوا، وَاسْتِرَاحَةُ الدَّوَابِّ مِنْهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهَا وَيَضُرُّ بِهَا وَيُحَمِّلُهَا مَا لَا تُطِيقُهُ، وَيُجِيعُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتِرَاحَةُ الْبِلَادِ وَالشَّجَرِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُمْنَعُ الْقَطْرَ بِمُصِيبَتِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَغْصِبُهَا وَيَمْنَعُهَا حَقَّهَا مِنَ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ)).
((أَعْلَى النَّاسِ ذِكْرًا وَأَطْيَبُهُمْ أَثَرًا فِي التَّارِيخِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ أَرْفَعَ النَّاسِ قَدْرًا، وَأَبْقَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَطْيَبَهُمْ أَثَرًا، وَأَعْظَمُهُمْ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُمْ لِلْخَلْقِ نَفْعًا عَبْرَ تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهِ: النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ مُحَمَّدٌ ﷺ الَّذِي قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].
((أَيْ: أَعْلَيْنَا قَدْرَكَ، وَجَعَلْنَا لَكَ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ الْعَالِي، الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَلَا يُذْكَرُ اللهُ إِلَّا ذُكِرَ مَعَهُ رَسُولُهُ ﷺ، كَمَا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسَلَامِ، وَفِي الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالْخُطَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَعْلَى اللهُ بِهَا ذِكْرَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَلَهُ فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ بَعْدَ اللهِ -تَعَالَى-، فَجَزَاهُ اللهُ عَنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ)).
مُحَمَّدٌ ﷺ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ رَبُّهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
فَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يُرْسِلُ مُحَمَّدًا ﷺ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَجْمَعِينَ قَاطِبَةً، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْأَنَاسِيِّ، وَرَحْمَةً لِلْجِنِّ، وَرَحْمَةً لِلْبَهَائِمِ؛ بَلْ وَرَحْمَةً لِلْجَمَادَاتِ، وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانُوا يَأْتُونَ قَوْمَهُمْ بِالْبَشَارَةِ وَالنَّذَارَةِ، فَإِذَا مَا أَطَاعُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ أَنْجَاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا مَا تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا، وَرَدُّوا الْأَمْرَ عَلَى نَبِيِّهِمْ وَرَسُولِهِمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَيْهِمْ؛ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ، إِلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ النَّبِيَّ ﷺ لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَمَنْ أَطَاعَ النَّبِيَّ أَحْيَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى الْحَيَاةِ الْأَطْيَبِ فِي الْآخِرَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَنِعْمَ دَارُ الْقَرَارِ.
وَمَنْ عَصَى النَّبِيَّ ﷺ؛ لَمْ يُصِبْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْخَسْفِ، وَلَمْ يُصِبْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْمَسْخِ، وَلَمْ يُنْزِلِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ طُوفَانًا مُتَفَجِّرًا مِنْ أَطْوَاءِ الْأَرْضِ، وَمُنْهَمِرًا مِنْ طَيَّاتِ السَّمَاءِ، وَلَمْ يُسَلِّطِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِمُ الصَّيْحَةَ، بَلْ يُنْذِرُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُنْظِرُهُمْ حَتَّى يَقْدُمُوا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوَفِّيَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِمَا قَدَّمَ؛ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَالْإِحْسَانُ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَالسُّوأَى.
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، رَحْمَةً شَامِلَةً عَامَّةً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ-.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَكْمَلَ خَلْقَهُ وَخُلُقَهُ ﷺ، فَجَاءَ ﷺ زِينَةَ الْأَبْصَارِ وَبَهْجَةَ الْقُلُوبِ، وَجَاءَ ﷺ مِلْءَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، حَبِيبًا قَرِيبًا لِلْأَفْئِدَةِ الْمُطِيعَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي تَسْلُكُ نَهْجَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالَّتِي تَسِيرُ فِي الْحَيَاةِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً، ثُمَّ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَجًى فِي حُلُوقِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَذًى فِي أَعْيُنِ الَّذِينَ لَا يُسْلِمُونَ، ثُمَّ مَرَدُّهُمْ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُنَاكَ يَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ!!
أَكْمَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَأَمَّا الظَّاهِرُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِيهِ مَا لَا يُحْصَى، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّكَ إِذَا مَا نَظَرْتَ فِي وَجْهِهِ ﷺ؛ دَلَّكَ مَظْهَرُهُ عَلَى مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مَخْبَرُهُ ﷺ.
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ = لَكَانَ مَظْهَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
ﷺ.
وَأَمَّا بَاطِنُهُ.. وَأَمَّا مَخْبَرُهُ؛ فَخُذْ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِهِ ﷺ مِنْ تِلْكَ الشَّمَائِلِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي هِيَ عَزِيزَةٌ فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَالَّتِي يَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حِلْيَةً وَزِينَةً؛ بَلْ يَجْعَلُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ الْعَدْنَانُ ﷺ: ((إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ)).
النَّبِيُّ ﷺ قِيلَ فِي وَصْفِهِ: ((أَشَدُّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ﷺ)).
أَمَّا خِصَالُ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي حَلَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا خُلُقَهُ؛ فَأَمْرٌ فَوْقَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي فِيهِ الْعَجَبُ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُكُمْ -مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ- أَنْ تَجْعَلُوا النَّبِيَّ أُسْوَةً لَكُمْ ﷺ، {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ، وَأَخْلَاقِهِ، وَثِقَتِهِ بِاللهِ، وَثَبَاتِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَقِتَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَكُلِّ جُزْئِيَّاتِ سُلُوكِهِ فِي الْحَيَاةِ.. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ، وَخَصْلَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ حَقِّهَا أَنْ يُؤْتَسَى وَيُقْتَدَى بِهَا لِمَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ مُرْتَقِبًا ثَوَابَ اللهِ، وَيَرْجُو السَّعَادَةَ الْخَالِدَةَ يَوْمَ الدِّينِ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ».
النَّبِيُّ ﷺ مَاذَا يَقُولُ فِيهِ القَائِلُونَ؟!!
وَبِمَاذَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ؟!! وَقَدْ وَصَفَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَدَحَهُ بِخَيْرِ مِدْحَةٍ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4].
بَشَرٌ مِنَ الْبَشَرِ، اصْطَفَاهُ اللهُ وَأَكْرَمُهُ! وَجَعَلَهُ خَلِيلَهُ، وَخَاتَمَ أَنْبِيَائِهِ، وَصَفْوَةَ رُسُلِهِ، وَأَحَبَّ الخَلْقِ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ!!
بَشَرٌ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، لَمْ يَعْتَمِلْ فِي صَدْرِهِ خَاطِرُ سُوءٍ أَبَدًا!!
وَالْوَاحِدُ مِنَّا يُحَاوِلُ مَا يُحَاوِلُ فِي سَبِيلِ تَحْصِيلِ بَعْضِ كَمَالَاتِ نَفْسِهِ، وَتَعْزِيزِ فُؤَادِهِ بِبَعْضِ الْقِيَمِ الثَّابِتَةِ وَالْأُصُولِ الرَّاسِخَةِ مِنَ المَكَارِمِ المُنِيفَةِ وَالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، يُحَاوِلُ مَا يُحَاوِلُ جَاهِدًا، وَيَفْشَلُ فِي كُلِّ حِينٍ!!
يَا لَلَّه!
مَا أَعْظَمَهُ!
وَمَا أَكْرَمَهُ!
وَمَا أَجَلَّهُ!
وَمَا أَحْلَمَهُ ﷺ!
نَبِيٌّ مِنَ الْبَشَرِ، هُوَ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ، لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ عَوْرَاءَ قَطُّ، لَمْ يَجُلْ فِي ضَمِيرِهِ خَاطِرُ سُوءٍ قَطُّ، وَلَا جَالَ بِخَيَالِهِ خَاطِرُ شَرٍّ قَطُّ، مُسْتَقِيمٌ عَلَى الْجَادَّةِ، لَا تُحْصَى لَهُ هَفْوَةٌ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا.
وَقَدْ أُحْصِيَتْ حَيَاتُهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ مِيلَادِهِ إِلَى وَفَاتِهِ، فَمَا عُرِفَتْ لَهُ هَفْوَةٌ، وَلَا أُحْصِيَتْ عَلَيْهِ زَلَّةٌ ﷺ، هُوَ الْمَثَلُ الْكَامِلُ، وَالأُسْوَةُ الشَّرِيفَةُ، وَالْقُدْوَةُ المُنِيفَةُ؛ فَانْهَلْ مِنْ أَخْلَاقِهِ، عَسَى أَنْ يَرْحَمَكَ اللهُ!!
لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- النَّبِيَّ ﷺ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَحَبَاهُ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْآدَابِ السَّامِيَةِ وَجَوَامِعِ الْمُثُلِ وَالْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فَكَانَ ﷺ نِعْمَ الْقُدْوَةُ لِأُمَّتِهِ وَلِلْإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
(({وَكَذَلِكَ} حِينَ أَوْحَيْنَا إِلَى الرُّسُلِ قَبْلَكَ {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}: وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، سَمَّاهُ رُوحًا؛ لِأَنَّ الرُّوحَ يَحْيَا بِهَا الْجَسَدُ، وَالْقُرْآنُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ وَالْأَرْوَاحُ، وَتَحْيَا بِهِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ وَالْعِلْمِ الْغَزِيرِ.
وَهُوَ مَحْضُ مِنَّةِ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي}؛ أَيْ: قَبْلَ نُزُولِهِ عَلَيْكَ {مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}؛ أَيْ: لَيْسَ عِنْدَكَ عِلْمٌ بِأَخْبَارِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَلَا إِيمَانٌ وَعَمَلٌ بِالشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، بَلْ كُنْتَ أُمِّيًّا لَا تَخُطُّ وَلَا تَقْرَأُ، فَجَاءَكَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} يَسْتَضِيئُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ، وَيَعْرِفُونَ بِهِ الْحَقَائِقَ، وَيَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أَيْ: تُبَيِّنُهُ لَهُمْ، وَتُوَضِّحُهُ وَتُنِيرُهُ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، وَتَنْهَاهُمْ عَنْ ضِدِّهِ، وَتُرَهِّبُهُمْ مِنْهُ)).
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
((الْمُرَادُ بِالْأُمِّيِّينَ: الَّذِينَ لَا كِتَابَ عِنْدَهُمْ وَلَا أَثَرَ رِسَالَةٍ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَامْتَنَّ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ مِنَّةً عَظِيمَةً أَعْظَمَ مِنْ مِنَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَادِمُونَ لِلْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَكَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، يَتَعَبَّدُونَ لِلْأَشْجَارِ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَحْجَارِ، وَيَتَخَلَّقُونَ بِأَخْلَاقِ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ، يَأْكُلُ قَوِيُّهُمْ ضَعِيفَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ بِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ، فَبَعَثَ اللهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَأَوْصَافَهُ الْجَمِيلَةَ وَصِدْقَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} الْقَاطِعَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، {وَيُزَكِّيهِمْ} بِأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَيُفَصِّلَهَا لَهُمْ، وَيَزْجُرَهُمْ عَنِ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}؛ أَيْ: عِلْمَ الْقُرْآنِ وَعِلْمَ السُّنَّةِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى عُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَكَانُوا بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيمِ وَالتَّزْكِيَةِ مِنْهُ أَعْلَمَ الْخَلْقِ؛ بَلْ كَانُوا أَئِمَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَأَكْمَلَ الْخَلْقِ أَخْلَاقًا، وَأَحْسَنَهُمْ هَدْيًا وَسَمْتًا، اهْتَدَوْا بِأَنْفُسِهِمْ، وَهَدَوْا غَيْرَهُمْ؛ فَصَارُوا أَئِمَّةَ الْمُهْتَدِينَ وَقَادَةَ الْمُتَّقِينَ، فَلِلَّهِ عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ هَذَا الرَّسُولِ ﷺ أَكْمَلُ نِعْمَةٍ وَأَجَلُّ مِنْحَةٍ)).
فَلْتَجْعَلُوا النَّبِيَّ أُسْوَتَكُمْ فِي خِصَالِهِ، وَفِي خِلَالِهِ، وَفِي سَجَايَاهُ الَّتِي كَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَاهُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:
اتْرُكْ عِنْدَ النَّاسِ أَطْيَبَ الْأَثَرِ
وَكُنْ رَجُلًا إِنْ أَتَوْا بَعْدَهُ يَقُولُونَ: مَرَّ وَهَذَا الْأَثَرُ!