((الِاتِّحَادُ قُوَّةٌ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ أَقْوَى مِنْ كُلِّ رَابِطَةٍ))
فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِخْوَةٌ فِي دِينِ اللهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ أَقْوَى مِنْ كُلِّ رَابِطَةٍ وَصِلَةٍ؛ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا أَنْسَابَ بَيْنَكُمْ؛ وَلَكِنَّ الْأَخِلَّاءَ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ، فَنَمُّوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- هَذِهِ الْأُخُوَّةَ، وَقَوُّوا تِلْكَ الرَّابِطَةَ بِفِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ لَكُمْ وَرَسُولُهُ، وَاغْرِسُوا فِي قُلُوبِكُمُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَأَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ، وَمَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللهِ، وَوَالَى فِي اللهِ، وَعَادَى فِي اللهِ؛ فَإِنَّمَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللهِ بِذَلِكَ.
((الْأَمْرُ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ))
((لَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى الِائْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ، وَنَهَى عَنِ التَّعَادِي وَالِافْتِرَاقِ، وَمِمَّا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ الْجَلِيلِ: التَّنَاصُحُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَالنَّصِيحَةُ الَّتِي بَيَّنَهَا مُجْمَلَةً وَمُفَصَّلَةً.
وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
وَقَالَ ﷺ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ يَأْمُرُ بِكُلِّ مَا يُقَوِّي الْأُلْفَةَ، وَيَزِيدُ فِي الْمَحَبَّةِ، وَيَدْفَعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا فِي الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّفَاقِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَالثَّمَرَاتِ الْجَلِيلَةِ، وَالْبَرَكَةِ وَالْقُوَّةِ، وَلِمَا فِي ضِدِّهِ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
يَعْنِي: تَخِيبُ وَتَذْهَبُ رُوحُكُمُ الْحَقِيقِيَّةُ وَمَعْنَوِيَّتُكُمُ النَّافِعَةُ.
وَقَدْ جَمَعَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرَ بِالسَّعْيِ لِتَحْصِيلِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالثَّبَاتِ، وَالصَّبْرِ، وَالِاجْتِمَاعِ، وَعَدَمِ التَّنَازُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَبِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ -أَيْضًا- وَالْمَادِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
فَمَتَى امْتَثَلَ الْمُسْلِمُونَ أَمْرَ اللهِ فَسَعَوْا فِي حُصُولِ الِاتِّفَاقِ، وَإِزَالَةِ الْعَدَاوَاتِ وَأَسْبَابِهَا، وَكَانُوا يَدًا وَاحِدَةً فِي السَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ، وَمُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ، وَبِتَحْصِيلِ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِكُلِّ مَقْدُورٍ وَمُسْتَطَاعٍ، وَكَانَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ؛ مَتَى عَمِلُوا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَلَ لَهُمْ قُوَّةٌ عَظِيمَةٌ يَسْتَدْفِعُونَ بِهَا الْأَعْدَاءَ، وَيَسْتَجْلِبُونَ بِهَا الْمَصَالِحَ وَالْمَنَافِعَ، وَعَادَ صَلَاحُ ذَلِكَ إِلَى دِينِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ وَأَفْرَادِهِمْ، وَلَمْ يَزَالُوا فِي رُقِيٍّ مُطَّرِدٍ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَمَتَى أَخَلُّوا بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ دِينُهُمْ عَادَ الضَّرَرُ الْعَظِيمُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ.
وَقَدْ وَعَدَ اللهُ الْعِزَّ وَالنَّصْرَ لِمَنْ قَامُوا بِالتَّقْوَى، وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا دِينُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105])).
((الِاتِّحَادُ قُوَّةٌ وَسُبُلُ تَحْقِيقِهِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَكُونُ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَحْصُلُ لَهَا قُوَّةٌ وَلَا عِزَّةٌ حَتَّى تَرْتَبِطَ بِالرَّوَابِطِ الدِّينِيَّةِ، حَتَّى تَكُونَ كَمَا وَصَفَهَا نَبِيُّهَا ﷺ بِقَوْلِهِ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَقَدْ أَرْسَتِ الشَّرِيعَةُ أُسُسَ تِلْكَ الرَّوَابِطِ وَالْأَوَاصِرِ، فَشَرَعَ اللهُ وَرَسُولُهُ لِلْأُمَّةِ مَا يُؤَلِّفُ بَيْنَهَا، وَيُقَوِّي وَحْدَتَهَا، وَيَحْفَظُ كَرَامَتَهَا وَعِزَّتَهَا، وَيَجْلِبُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَ أَبْنَائِهَا.
* شَرَعَ لِلْأُمَّةِ أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ؛ فَالسَّلَامُ يَغْرِسُ الْمَحَبَّةَ، وَيُقَوِّي الْإِيمَانَ، وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَلْيَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ أَخُوهُ بِجَوَابٍ يَسْمَعُهُ فَيَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: أَهْلًا وَسَهْلًا، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا حَتَّى يَقُولَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ.
* وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَالتَّفَرُّقَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِمَعْصِيَةٍ، أَوْ مَوْصُومًا بِبِدْعَةٍ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ.
وَقَالَ ﷺ: ((تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى اللهِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيَغْفِرُ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا؛ إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيَقُولُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
* وَشَرَعَ لِلْأُمَّةِ أَنْ يَعُودَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِذَا مَرِضَ؛ فَعِيَادَةُ الْمَرْضَى تَجْلِبُ الْمَوَدَّةَ، وَتُرَقِّقُ الْقَلْبَ، وَتَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَالثَّوَابِ، فَمَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَمَنْ عَادَ أَخَاهُ لَمْ يَزَلْ فِي جَنَى الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ.
وَيَنْبَغي لِمَنْ عَادَ الْمَرِيضَ أَلَّا يُطِيلَ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ يَرْغَبُ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُذَكِّرَهُ بِمَا أَعَدَّ اللهُ لِلصَّابِرِينَ مِنَ الثَّوَابِ، وَمَا فِي الْمَصَائِبِ مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ لِكُلِّ كُرْبَةٍ فُرْجَةً، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابَ التَّوْبَةِ، وَبَابَ الْخُرُوجِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَاغْتِنَامِ الْوَقْتِ بِالذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ، وَيُرْشِدُهُ إِلَى مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْوُضُوءِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، أَوِ التَّيَمُّمِ، وَكَيْفَ يُصَلِّي؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى يَجْهَلُونَ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ.
وَلَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ تَذْكِيرِ الْمَرِيضِ وَإِرْشَادِهِ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ قَدْ رَقَّتْ نَفْسُهُ، وَخَشَعَ قَلْبُهُ، فَهُوَ إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالتَّوْجِيهِ وَالْإِرْشَادِ قَرِيبٌ.
* وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].
وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْخَيْرُ: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ)).
إِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ رَأْبٌ لِلصَّدْعِ، وَلَمٌّ لِلشَّعَثِ، وَإِصْلَاحٌ لِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَثَوَابٌ عَظِيمٌ لِمَنِ ابْتَغَى بِهِ وَجْهَ اللهِ.
إِنَّ الْمُوَفَّقَ إِذَا رَأَى بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةً وَتَبَاعُدًا سَعَى بَيْنَهُمَا فِي إِزَالَةِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَاعُدِ حَتَّى يَكُونَا صَدِيقَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ وَأَخَوَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ.
* وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَالتَّشَاوُرِ بَيْنَهُمْ فِي أُمُورِهِمْ؛ حَتَّى تَتِمَّ الْأُمُورُ، وَتَنْجَحَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ؛ فَإِنَّ الْآرَاءَ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ الْفَهْمِ وَالدِّرَايَةِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ تَحَقَّقَ الْخَيْرُ، وَزَالَ الشَّرُّ -بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْقَاعِدَةَ الْأَصِيلَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْعَوْا فِي كُلِّ أَمْرٍ يُؤَلِّفُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَيَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ، وَيُوَحِّدُ رَأْيَهُمْ، وَأَنْ يُنَابِذُوا كُلَّ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ؛ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَهْجُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَإِنَّكَ لَتَرَى بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ حَرِيصًا عَلَى الْخَيْرِ، وَجَادًّا فِي فِعْلِهِ؛ لَكِنْ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ فِي هَجْرِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَجْلِ أَغْرَاضٍ شَخْصِيَّةٍ، وَمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ أَسْمَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ تُؤَثِّرَ الْأَغْرَاضُ الشَّخْصِيَّةُ أَوِ الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي الصِّلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهِ.
* وَحَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوقِعَ أَحَدٌ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ، وَيَسْعَى فِي الْإِفْسَادِ، يَأْتِي إِلَى شَخْصٍ فَيَقُولُ لَهُ: قَالَ فِيكَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، فَيُلْقِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بِنَمِيمَتِهِ هَذِهِ أَصْبَحَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، الْمُتَعَرِّضِينَ لِعُقُوبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ))
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ-)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ كَسَائِرِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، فِيهِ الْخَبَرُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ.
وَيَتَضَمَّنُ الْحَدِيثُ الْحَثَّ مِنْهُ عَلَى مُرَاعَاةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَأَنْ يَكُونُوا إِخْوَانًا مُتَرَاحِمِينَ، مُتَحَابِّينَ مُتَعَاطِفِينَ، يُحِبُّ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّةِ الْجَامِعَةِ لِمَصَالِحِهِمْ كُلِّهِمْ، وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ؛ فَإِنَّ الْبُنْيَانَ الْمَجْمُوعَ مِنْ أَسَاسَاتٍ وَجُدْرَانٍ مُحِيطَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَجُدْرَانٍ تُحِيطُ بِالْمَنَازِلِ الْمُخْتَصَّةِ، وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ سُقُوفٍ وَأَبْوَابٍ وَمَصَالِحَ وَمَنَافِعَ؛ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَقُومُ بِمُفْرَدِهِ حَتَّى يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ.
وَالْمُسْلِمُونَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَيُرَاعُوا قِيَامَ دِينِهِمْ وَشَرَائِعِهِ، وَمَا يُقَوِّمُ ذَلِكَ وَيُقَوِّيهِ، وَيُزِيلُ مَوَانِعَهُ وَعَوَارِضَهُ، فَالْفُرُوضُ الْعَيْنِيَّةُ يَقُومُ بِهَا كُلُّ مُكَلَّفٍ، لَا يَسَعُ مُكَلَّفًا قَادِرًا تَرْكُهَا أَوِ الْإِخْلَالُ بِهَا، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ يُجْعَلُ فِي كُلِّ فَرْضٍ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ تَحْصُلُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ، وَيَتِمُّ بِهِمُ الْمَقْصُودُ الْمَطْلُوبُ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْجِهَادِ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122].
وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 104].
وَأَمَرَ -تَعَالَى- بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ فَالْمُسْلِمُونَ قَصْدُهُمْ وَمَطْلُوبُهُمْ وَاحِدٌ، وَهُوَ قِيَامُ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمُ الَّتِي لَا يَتِمُّ الدِّينُ إِلَّا بِهَا، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَسْعَى فِي تَحْقِيقِ مُهِمَّتِهَا بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُهَا وَيُنَاسِبُ الْوَقْتَ وَالْحَالَ، وَلَا يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِعَقْدِ الْمُشَاوَرَاتِ، وَالْبَحْثِ عَنِ الْمَصَالِحِ الْكُلِّيَّاتِ، وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ تُدْرَكُ، وَكَيْفِيَّةِ الطُّرُقِ إِلَى سُلُوكِهَا، وَإِعَانَةِ كُلِّ طَائِفَةٍ لِلْأُخْرَى فِي رَأْيِهَا وَقَوْلِهَا وَفِعْلِهَا، وَفِي دَفْعِ الْمُعَارَضَاتِ وَالْمُعَوِّقَاتِ عَنْهَا.
فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَتَعَلَّمُ، وَطَائِفَةٌ تُعَلِّمُ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَخْرُجُ إِلَى الْجِهَادِ بَعْدَ تَعَلُّمِهَا لِفُنُونِهِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تُرَابِطُ وَتُحَافِظُ عَلَى الثُّغُورِ وَمَسَالِكِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَشْتَغِلُ بِالصِّنَاعَاتِ الْمُخْرِجَةِ لِلْأَسْلِحَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِكُلِّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَشْتَغِلُ بِالْحِرَاثَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَالْمَكَاسِبِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالسَّعْيِ فِي الْأَسْبَابِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَشْتَغِلُ بِدَرْسِ السِّيَاسَةِ وَأُمُورِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، وَمَا يَنْبَغِي عَمَلُهُ مَعَ الْأَعْدَاءِ مِمَّا يَعُودُ إِلَى مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَتَرْجِيحُ أَعْلَى الْمَصَالِحِ عَلَى أَدْنَاهَا، وَدَفْعُ أَعْلَى الْمَضَارِّ بِالنُّزُولِ إِلَى أَدْنَاهَا، وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْأُمُورِ، وَمَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ وَمَرَاتِبِهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ يَسْعَوْنَ كُلُّهُمْ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ مُتَسَاعِدِينَ مُتَسَانِدِينَ، يَرَوْنَ الْغَايَةَ وَاحِدَةً وَإِنْ تَبَايَنَتِ الطُّرُقُ، وَالْمَقْصُودَ وَاحِدًا وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْوَسَائِلُ إِلَيْهِ.
فَمَا أَنْفَعَ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَرْشَدَ فِيهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ أُمَّتَهُ إِلَى أَنْ يَكُونُوا كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.
وَلِهَذَا حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُقَوِّي هَذَا الْأَمْرَ، وَيُوجِبُ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا بِهِ يَتِمُّ التَّعَاوُنُ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَنَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَتَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ؛ حَتَّى عُدَّ هَذَا أَصْلًا عَظِيمًا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ، وَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَتَرْجِيحُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَجِبُ السَّعْيُ إِلَيْهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ.
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُحَقِّقَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا الْأَصْلَ، وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَيَجْعَلَهُمْ يَدًا وَاحِدَةً عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَعَادَاهُمْ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ الْحَكِيمُ وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.
((كَفُّ الْأَذَى وَثَمَرَاتُهُ))
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ)).
قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ جَمَعَ إِلَى أَدَاءِ حُقُوقِ اللهِ -تَعَالَى- أَدَاءَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَفَّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَأَفْضَلُ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ جَمَعَ إِلَى هِجْرَانِ وَطَنِهِ هِجْرَانَ مَا حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ)).
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ -وَحَذَفَ الْمَفْعُولَ تَعْظِيمًا لِكَثْرَتِهِ-، وَتَصَّدَّقُ -وَحَذَفَ الْمُصَّدَّقَ بِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَثْرَتِهِ وَوَفْرَتِهِ-، إِنَّ فُلَانَةَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)).
قَالُوا: ((وَفُلَانَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ -جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْأَقِطِ، وَالْأَقِطُ هُوَ الْجُبْنُ الْمُجَفَّفُ يُتَخَّذُ مِنْ مَخِيضِ لَبَنِ الْغَنَمِ-، وَفُلَانَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
وَهَكَذَا تَوَارَدَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ أَذِيَّةَ الْخَلْقِ تُسْقِطُ الْحَسَنَاتِ الْعَظِيمَةَ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: ((غَزَوْتُ مَعَ أَبِي الصَّائِفَةَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَعَلَيْنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَنَزَلْنَا عَلَى حِصْنِ سِنَانٍ، فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، فَقَامَ أَبِي فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ غَزْوَةَ كَذَا وَكَذَا، فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ، وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ، فَبَعَثَ نَبِيُّ اللهِ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ: ((أَنَّ مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلَا جِهَادَ لَهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ)).
فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْأَقْوِيَاءِ الْقَادِرِينَ أَنْ يَسْتَهِينُوا بِالضُّعَفَاءِ الْعَاجِزِينَ؛ لَا فِي أُمُورِ الْجِهَادِ وَالنُّصْرَةِ، وَلَا فِي أُمُورِ الرِّزْقِ وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْكَسْبِ.
بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَبَسْطُ الرِّزْقِ بِأَسْبَابِ الضُّعَفَاءِ؛ بِتَوَجُّهِهِمْ وَدُعَائِهِمْ، وَاسْتِنْصَارِهِمْ وَاسْتِرْزَاقِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْمَقَاصِدُ نَوْعَانِ:
* نَوْعٌ يُشَاهَدُ بِالْحِسِّ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ، وَبِحُصُولِ الْغِنَى وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ.
وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَيَعْقِلُونَ بِهِ حُصُولَ النَّصْرِ وَالرِّزْقِ؛ حَتَّى وَصَلَتِ الْحَالُ بِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، وَوَصَلَتْ بِغَيْرِهِمْ إِلَى أَنْ يَتَضَجَّرُوا بِعَوَائِلِهِمُ الَّذِينَ عُدِمَ كَسْبُهُمْ، وَفُقِدَتْ قُوَّتُهُمْ.
وَهَذَا كُلُّهُ قِصَرُ نَظَرٍ، وَضَعْفُ إِيمَانٍ، وَقِلَّةُ ثِقَةٍ بِوَعْدِ اللهِ وَكِفَايَتِهِ، وَنَظَرٌ لِلْأُمُورِ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا.
* النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْمَقَاصِدُ: أَسْبَابٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ قُوَّةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ فِي حُصُولِ الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَمَالُ الثِّقَةِ بِهِ، وَقُوَّةُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَقْوَى جِدًّا مِنَ الضُّعَفَاءِ الْعَاجِزِينَ الَّذِينَ أَلْجَأَتْهُمُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ يَعْلَمُوا حَقَّ الْعِلْمِ أَنَّ كِفَايَتَهُمْ وَرِزْقَهُمْ وَنَصْرَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْعَجْزِ، فَانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ وَتَوَجَّهَتْ إِلَى اللهِ، فَأَنْزَلَ لَهُمْ مِنْ نَصْرِهِ وَرِزْقِهِ مِنْ دَفْعِ الْمَكَارِهِ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْقَادِرُونَ، وَيَسَّرَ لِلْقَادِرِينَ بِسَبَبِهِمْ مِنَ الرِّزْقِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي حِسَابٍ؛ فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ لِكُلِّ أَحَدٍ رِزْقًا مُقَدَّرًا.
وَقَدْ جَعَلَ أَرْزَاقَ هَؤُلَاءِ الْعَاجِزِينَ عَلَى أَيْدِي الْقَادِرِينَ، وَأَعَانَ الْقَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَخُصُوصًا مَنْ قَوِيَتْ ثِقَتُهُمْ بِاللهِ، وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ لِثَوَابِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَفْتَحُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالرِّزْقِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِبَالٍ، وَلَا دَارَ لَهُمْ فِي خَيَالٍ؛ فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ كَانَ رِزْقُهُ مُقَتَّرًا، فَلَمَّا كَثُرَتْ عَائِلَتُهُ وَالْمُتَعَلِّقُونَ بِهِ وَسَّعَ اللهُ لَهُ الرِّزْقَ مِنْ جِهَاتٍ وَأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ قَدَرِيَّةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَمِنْ جِهَةِ وَعْدِ اللهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]، وَمِنْ جِهَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ: ((اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ أَرْزَاقَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ تَوَجَّهَتْ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِمْ، وَكَانَتْ عَلَى يَدِهِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ يَدَ الْمُعْطِي هِيَ الْعُلْيَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَعُونَةَ مِنَ اللهِ تَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْمَؤُونَةِ، فَالْمَعُونَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَؤُونَةِ، وَالْبَرَكَةُ تُشَارِكُ كُلَّ مَا كَانَ لِوَجْهِهِ، وَمُرَادًا بِهِ ثَوَابُهُ، وَمِنْ جِهَةِ إِخْلَاصِ الْعَبْدِ للهِ، وَتَقَرُّبِهِ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ، كُلَّمَا أَنْفَقَ تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ لَهُ -تَعَالَى- فَهُوَ مُبَارَكٌ، وَمِنْ جِهَةِ قُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَثِقَةِ الْمُنْفِقِ، وَطَمَعِهِ فِي فَضْلِ اللهِ وَبِرِّهِ، وَالطَّمَعُ وَالرَّجَاءُ مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ.
وَمِنْ جِهَةِ دُعَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ اللهَ إِنْ قَامُوا وَإِنْ قَعَدُوا وَفِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ لِمَنْ قَامَ بِكِفَايَتِهِمْ، وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ قَوِيٌّ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وَكُلُّ هَذَا مُجَرَّبٌ مُشَاهَدٌ، فَتَبًّا لِلْمَحْرُومِينَ، وَمَا أَجَلَّ رِبْحَ الْمُوَفَّقِينَ!
((خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِإِخْوَانِهِ))
((وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّاسَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ دَرَجَاتٌ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَعْلَاهُمْ دَرَجَةً مَنْ سَعَى فِي الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ أَسْفَلَهُمْ مَنْ هُوَ بِالْعَكْسِ.
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُبَارَكًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، بَاذِلًا مُسْتَطَاعَهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَلَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا.
* فَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ: تَعْلِيمُ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَبَثُّهَا؛ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا.
* وَمِنْ ذَلِكَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَحِلْمٍ وَحِكْمَةٍ.
* وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَسُنَّ الْعَبْدُ سُنَّةً حَسَنَةً، وَيَشْرَعَ مَشْرُوعًا طَيِّبًا نَافِعًا يَتْبَعُهُ النَّاسُ فِيهِ، ((فَكُلُّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، كَمَا أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَإِنَّ عَلَيْهِ وِزْرَهَا وَوِزْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
* وَمِنْ ذَلِكَ: بَذْلُ النَّصِيحَةِ النَّافِعَةِ فِي الدِّينِ وَفِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ النَّاصِحِينَ مَفَاتِيحُ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقُ لِلشَّرِّ، وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ عِنْدَ اخْتِلَاطِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ أَنْ يَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ فِي إِشْغَالِهِمْ بِالْخَيْرِ، وَأَنْ تَكُونَ مَجَالِسُهُ لَا تَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ، أَوْ مِنْ تَخْفِيفِ شَرٍّ وَدَفْعِهِ بِحَسَبِ مَقْدُورِهِ؛ فَكَمْ حَصَلَ لِلْمُوَفَّقِ مِنْ خَيْرَاتٍ وَخَيْرٍ وَثَوَابٍ، وَكَمِ انْدَفَعَ بِهِ مِنْ شُرُورٍ كَثِيرَةٍ، وَعِمَادُ ذَلِكَ رَغْبَةُ الْعَبْدِ فِي الْخَيْرِ، وَفِي نَفْعِ الْعِبَادِ، فَمَتَى كَانَتِ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُصَمِّمَةً عَلَى السَّعْيِ بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ، وَاسْتَعَانَ بِاللهِ فِي ذَلِكَ، وَأَتَى الْأُمُورَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَكْسَبُ خَيْرًا، وَيَغْنَمُ ثَوَابًا.
وَضِدُّ ذَلِكَ عَدَمُ رَغْبَةِ الْعَبْدِ فِي الْخَيْرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُهُ خَيْرًا كَثِيرًا؛ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَادِمًا لِلنُّصْحِ لِلْعِبَادِ، لَا يَقْصِدُ نَفْعَهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَرُبَّمَا قَصَدَ إِضْرَارَهُمْ وَغِشَّهُمْ لِأَغْرَاضٍ نَفْسِيَّةٍ، أَوْ عَقَائِدَ فَاسِدَةٍ؛ فَقَدْ أَتَى بِالسَّبَبِ الْأَعْظَمِ لِحُصُولِ الْمَضَرَّاتِ، وَتَفْوِيتِ الْخَيْرَاتِ، وَكَانَ هَذَا الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِفْتَاحٌ لِلشَّرِّ، مِغْلَاقٌ لِلْخَيْرِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ فَتْحًا لِلْخَيْرَاتِ، وَإِغْلَاقًا لِلشُّرُورِ وَالسَّيِّئَاتِ: الْإِيمَانُ التَّامُّ بِالرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا آمَنَ بِهِ إِيمَانًا تَامًّا، وَفَهِمَ كَلَامَهُ وَمُرَادَهُ تَحَقَّقَ مَا قَالَهُ قَطْعًا، وَعَلِمَ أَنَّ مَا نَاقَضَ ذَلِكَ أَوْ خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ! فَهَذَا يُغْلِقُ عَلَى الْعَبْدِ أَبْوَابًا مِنَ الشُّرُورِ فَتَحَهَا أَهْلُ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، عَارَضُوا بِهَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ التَّامَّ وَفَهْمَ مُرَادِ الرَّسُولِ تَمَامًا يَرُدُّ كُلَّ مَا نَاقَضَهُ؛ سَوَاءٌ تَمَكَّنَ الْمُؤْمِنُ مِنْ حَلِّ تِلْكَ الشُّبْهَةِ الَّتِي عُورِضَ بِهَا الْحَقُّ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ الْحَقَّ يَقِينًا بِلَا تَرَدُّدٍ، فَمُحَالٌ مَعَ هَذَا أَنْ يَقُومَ شَيْءٌ يَنْقُضُ هَذَا الدِّينَ وَالْيَقِينَ.
وَهَذَا أَصْلٌ نَافِعٌ جِدًّا قَرَّرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِ)).
* ((فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا أَتَاهُ سَائِلٌ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ قَالَ: ((اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ)).
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَضَمِّنٌ لِأَصْلٍ كَبِيرٍ وَفَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ؛ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي أُمُورِ الْخَيْرِ؛ سَوَاءٌ أَثْمَرَتْ مَقَاصِدُهَا وَنَتَائِجُهَا، أَوْ حَصَلَ بَعْضُهَا، أَوْ لَمْ يَتِمَّ مِنْهَا شَيْءٌ؛ وَذَلِكَ كَالشَّفَاعَةِ لِأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ وَمَنْ تَعَلَّقَتْ حَاجَاتُهُمْ بِهِمْ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَمْتَنِعُ مِنَ السَّعْيِ فِيهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ قَبُولَ شَفَاعَتِهِ، فَيُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ خَيْرًا كَثِيرًا مِنَ اللهِ، وَمَعْرُوفًا عِنْدَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ فَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَصْحَابَهُ أَنْ يُسَاعِدُوا أَصْحَابَ الْحَاجَةِ بِالشَّفَاعَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ، لِيَتَعَجَّلُوا الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا)).
فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ مَحْبُوبَةٌ للهِ، وَمَرْضِيَّةٌ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} [النساء: 85].
وَمَعَ تَعَجُّلِهِ لِلْأَجْرِ الْحَاضِرِ فَإِنَّهُ -أَيْضًا- يَتَعَجَّلُ الْإِحْسَانَ وَفِعْلَ الْمَعْرُوفِ مَعَ أَخِيهِ، وَيَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ يَدٌ.
وَأَيْضًا فَلَعَلَّ شَفَاعَتَهُ تَكُونُ سَبَبًا لِتَحْصِيلِ مُرَادِهِ مِنَ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوْ لِبَعْضِهِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ.
فَالسَّعْيُ فِي أُمُورِ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ تَحْصُلَ أَوْ لَا تَحْصُلَ خَيْرٌ عَاجِلٌ، وَتَعْوِيدٌ لِلنُّفُوسِ عَلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَتَمْهِيدٌ لِلْقِيَامِ بِالشَّفَاعَاتِ الَّتِي يُتَحَقَّقُ أَوْ يُظَنُّ قَبُولُهَا، وَفِيهِ السَّعْيُ فِي كُلِّ مَا يُزِيلُ الْيَأْسَ؛ فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالسَّعْيَ عُنْوَانٌ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فِي حُصُولِ الْمُرَادِ، وَضِدَّهُ بِضِدِّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ:
- دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي تَوْجِيهِ النَّاسِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ.
- وَأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ قَبُولُهَا إِلَّا أَنْ يَشْفَعَ فِي إِيصَالِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَوْ لَمْ يُشْفَعْ فِيهِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ مَعَ الشَّفَاعَةِ.
- وَفِيهِ: رَحْمَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي حُصُولِ الْخَيْرِ لِأُمَّتِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهَذَا فَرْدٌ مِنْ آلَافٍ مُؤَلَّفَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ ﷺ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ لَمْ تَنَلْهَا الْأُمَّةُ إِلَّا عَلَى يَدِهِ وَبِوَسَاطَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ لِدَفْعِ الشُّرُورِ وَالْأَضْرَارِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِكُلِّ طَرِيقٍ؛ فَلَقَدْ بَلَّغَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الْأُمَّةَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ-.
وَقَوْلُهُ: ((وَلْيَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ)): قَضَاؤُهُ -تَعَالَى- نَوْعَانِ:
* قَضَاءٌ قَدَرِيٌّ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ، بَلْ يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَجَمِيعَ الْحَوَادِثِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ.
* وَأَخَصُّ مِنْهُ: الْقَضَاءُ الْقَدَرِيُّ الدِّينِيُّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا الَّذِي يُقْضَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي؛ إِذْ هُوَ ﷺ عَبْدٌ رَسُولٌ، قَدْ وَفَّى مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ، وَكَمَّلَ مَرَاتِبَ الرِّسَالَةِ، فَكُلُّ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَهَدْيِهِ وَأَخْلَاقِهِ عُبُودِيَّةٌ للهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْبُوبَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ ﷺ شَيْءٌ مُبَاحٌ مَحْضٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا أَجْرَ؛ فَضْلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَأْمُورٍ، وَهَذَا شَأْنُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ الَّذِي اخْتَارَهُ ﷺ مَرْتَبَتَهُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ؛ حِينَ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مَلَكًا، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا)).
((جَمْعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ جِهَادٌ))
((قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: ١٠٣].
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: ٦٢-٦٣].
وَقَالَ: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: ٩-١٠].
وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.
فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ: السَّعْيَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ؛ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فِي جَمْعِ أَفْرَادِهِمْ وَشُعُوبِهِمْ، وَفِي رَبْطِ الصَّدَاقَةِ وَالْمُعَاهَدَاتِ بَيْنَ حُكُومَاتِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ.
وَمِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ: أَنْ يَتَصَدَّى لِهَذَا الْأَمْرِ جَمِيعُ طَبَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَسَائِرِ الْأَفْرَادِ مِنْهُمْ، كُلُّ أَحَدٍ يَجِدُّ بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ.
فَمَتَى كَانَتْ غَايَةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةً وَهِيَ (الْوَحْدَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ)، وَسَلَكُوا السُّبُلَ الْمُوصِلَةَ إِلَيْهَا، وَدَافَعُوا جَمِيعَ الْمَوَانِعِ الْمُعَوِّقَةِ وَالْحَائِلَةِ دُونَهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلُوا إِلَى النَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ.
وَمِمَّا يُعِينُ عَلَى هَذَا -أَيْ: عَلَى جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَكُونُوا وَحْدَةً وَاحِدَةً-: الْإِخْلَاصُ وَحُسْنُ الْقَصْدِ فِيمَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ سَعْيٍ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنَ الْجِهَادِ -السَّعْيُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَفِي اتِّحَادِهِمْ وَتَوْحِيدِ صَفِّهِمْ شُعُوبًا وَحُكُومَاتٍ؛ هَذَا السَّعْيُ مِنَ الْجِهَادِ-، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِمَّا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ وَإِلَى ثَوَابِهِ.
وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ مُشْتَرَكَةٌ؛ فَالْمَصَالِحُ الْكُلِّيَّاتُ الْعَامَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَصَالِحِ الْجُزْئِيَّاتِ الْخَاصَّةِ.
وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَجْعَلُوا الِاخْتِلَافَ فِي الْمَذَاهِبِ أَوِ الْأَنْسَابِ أَوِ الْأَوْطَانِ دَاعِيًا إِلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ; فَالرَّبُّ وَاحِدٌ، وَالدِّينُ وَاحِدٌ، وَالطَّرِيقُ لِإِصْلَاحِ الدِّينِ وَصَلَاحِ جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدٌ، وَالرَّسُولُ الْمُرْشِدُ لِلْعِبَادِ وَاحِدٌ؛ فَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ وَاحِدَةً.
فَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ السَّعْيُ التَّامُّ لِتَحْقِيقِ الْأُخُوَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالرَّابِطَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، فَمَتَى عَلِمُوا وَتَحَقَّقُوا ذَلِكَ، وَسَعَى كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَقْدُورِهِ، وَاسْتَعَانُوا بِاللهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، وَسَلَكُوا طُرُقَ الْمَنَافِعِ وَأَبْوَابَهَا، وَلَمْ يُخْلِدُوا إِلَى الْكَسَلِ وَالْخَوَرِ وَالْيَأْسِ؛ نَجَحُوا وَأَفْلَحُوا؛ فَإِنَّ الْكَسَلَ وَالْخَوَرَ وَالْيَأْسَ مِنْ أَعْظَمِ مَوَانِعِ الْخَيْرِ؛ فَإِنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلدِّينِ وَلِلْجِهَادِ الْحَقِيقِيِّ.
فَمَنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكَسَلُ وَالْخَوَرُ لَمْ يَنْهَضْ لِمَكْرُمَةٍ، وَمَنْ أَيِسَ مِنْ تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِ انْشَلَّتْ حَرَكَاتُهُ وَمَاتَ وَهُوَ حَيٌّ.
وَهَلْ أَخَّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إِلَّا تَفَرُّقُهُمْ، وَالتَّعَادِي بَيْنَهُمْ، وَخَوَرُهُمْ، وَتَقَاعُدُهُمْ عَنْ مَصَالِحِهِمْ وَالْقِيَامِ بِشُؤُونِهِمْ حَتَّى صَارُوا عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ؟! وَدِينُهُمْ قَدْ حَذَّرَهُمْ عَنْ هَذَا أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي مُقَدِّمَةِ الْأُمَمِ فِي الْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى الْخَيْرِ، وَالطَّمَعِ فِي إِدْرَاكِهِ، وَقُوَّةِ الثِّقَةِ بِاللهِ فِي تَحْقِيقِ مَطَالِبِهِمْ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِمْ، وَكَمَالِ التَّصْدِيقِ بِوَعْدِ اللهِ لَهُمْ بِالنَّصْرِ إِذَا نَصَرُوهُ، وَبِالنَّجَاحِ إِذَا سَلَكُوا سُبُلَهُ، وَبِالْإِعَانَةِ وَالتَّسْدِيدِ إِذَا كَمُلَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَيْهِ: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: ١٠٤])).
مِنْ أَعْظَمِ أَلْوَانِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ وِحْدَةً وَاحِدَةً، وَأَنْ يَتَجَمَّعُوا قَلْبًا وَقَالَبًا، وَإِنَّ التَّوْحِيدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَنْ يَكُونَ إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ.
فَتَوْحِيدُ صُفُوفِهِمْ لَنْ يَكُونَ إِلَّا بِتَوْحِيدِهِمْ رَبَّهُمْ، فَإِذَا وَحَّدُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَوْحِيدًا صَحِيحًا بَرِيئًا مِنَ الشِّرْكِ، وَالشَّكِّ، وَالشُّبْهَةِ، وَالْبِدْعَةِ؛ فَلَا شَكَّ -إِنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- أَنَّ صُفُوفَهُمْ سَتَكُونُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ وِجْهَتَهُمْ صَارَتْ وَاحِدَةً، وَلِأَنَّ قُلُوبَهُمْ صَارَتْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هَذِهِ هِيَ الْوَسِيلَةُ لِلْوُصُولِ إِلَى هَذَا اللَّوْنِ مِنْ أَلْوَانِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ مِنْ أَجْلِ تَوْحِيدِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ شُعُوبًا وَحُكُومَاتٍ.
((الِاتِّحَادُ وَالتَّعَاوُنُ فِي الْجِهَادِ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ))
((قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢].
فَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.
وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّعَاوُنُ عَلَى جَمِيعِ الْوَسَائِلِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي يُتَّقَى بِهَا ضَرَرُ الْأَعْدَاءِ؛ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ بِالْأَسْلِحَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْوَقْتِ، وَتَعَلُّمِ الصَّنَائِعِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالسَّعْيِ فِي تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: ٦٠].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: ٧١].
فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِعْدَادُ بِكُلِّ الْمُسْتَطَاعِ مِنْ قُوَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَصِنَاعِيَّةٍ، وَتَعَلُّمِ الْآدَابِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَالنِّظَامِ النَّافِعِ، وَالرَّمْيِ وَالرُّكُوبِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يُدْرِكُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاتِّخَاذِ الْحُصُونِ الْوَاقِيَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ الْمُعْتَدِينَ -فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَحَادِيثَ مُتَنَوِّعَةٍ- بِالنَّفْسِ، وَالْمَالِ، وَالرَّأْيِ، وَفِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ، وَفِي كُلِّ الْأَحْوَالِ.
وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ أَمْرٌ بِهِ وَبِكُلِّ أَمْرٍ يُعِينُ عَلَيْهِ وَيُقَوِّيهِ وَيُقَوِّمُهُ، وَأَخْبَرَ بِمَا لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَمَا يَدْفَعُ اللهُ بِهِ مِنْ أَصْنَافِ الشُّرُورِ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْعِزِّ وَالتَّمْكِينِ وَالرِّفْعَةِ، وَمَا فِي تَرْكِهِ وَالزُّهْدِ فِيهِ مِنَ الذُّلِّ وَالضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَتَوَعُّدِ النَّاكِلِينَ عَنْهُ بِالْخِذْلَانِ وَالسُّقُوطِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي تَقْوِيَةِ مَعْنَوِيَّاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى التَّآلُفِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي وَالِافْتِرَاقِ.
وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْجِهَادِ هُوَ الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ فِي كُلِّ أَمْرٍ يُقَوِّي الْمُسْلِمِينَ وَيُصْلِحُهُمْ، وَيَلُمُّ شَعَثَهُمْ، وَيَضُمُّ مُتَفَرِّقَهُمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عُدْوَانَ الْأَعْدَاءِ أَوْ يُخَفِّفُهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَوَسِيلَةٍ)).
الْجِهَادُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ الْمُسْلِمُ بِهِ عِنْدَ حُدُودِ الْجِلَادِ، وَاسْتِعْمَالِ السِّنَانِ وَالسَّيْفِ فِي مُقَاتَلَةِ الْأَعْدَاءِ.
((الْجِهَادُ نَوْعَانِ: جِهَادٌ يُقْصَدُ بِهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ وَإِصْلَاحُهُمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَآدَابِهِمْ، وَجَمِيعِ شُؤُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي تَرْبِيَتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ أَصْلُ الْجِهَادِ وَقِوَامُهُ، وَعَلَيْهِ يَتَأَسَّسُ النَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ جِهَادٌ يُقْصَدُ بِهِ دَفْعُ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُلْحِدِينَ وَجَمِيعِ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَمُقَاوَمَتُهُمْ.
وَهَذَا نَوْعَانِ:
* جِهَادٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ وَاللِّسَانِ.
* وَجِهَادٌ بِالسِّلَاحِ الْمُنَاسِبِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ.
هَذَا مُجْمَلُ أَنْوَاعِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْصِيلِ)).
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ)): ((وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ نَوْعَيْنِ:
* جِهَادٌ بِالْيَدِ وَالسِّنَانِ، وَهَذَا الْمُشَارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ.
وَالثَّانِي: الْجِهَادُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَهَذَا جِهَادُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُوَ جِهَادُ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْجِهَادَيْنِ؛ لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ، وَشِدَّةِ مُؤْنَتِهِ، وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِ، قَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَة الْفُرْقَانِ -وَهِي مَكِّيَّةٌ-: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 51-52].
فَهَذَا جِهَادٌ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْجِهَادَيْنِ، وَهُوَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ -أَيْضًا-؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَدُوَّهُمْ مَعَهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْقُرْآنِ)).
يُرِيدُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِكَفِّ الْأَيْدِي، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بِالْقِتَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ -وَهِيَ مَكِّيَّةٌ-: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَهَذَا جِهَادٌ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْجِهَادَيْنِ: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
ثُمَّ احْتَرَزَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ لَمْ يَكُنْ قَدْ ظَهَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ؛ لِذَلِكَ قَالَ: ((وَهُوَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ -أَيْضًا-؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَدُوَّهُمْ مَعَهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ بِالْحُجَّةِ وَالْقُرْآنِ))؛ لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، فَتَجْرِي عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ وَإِنْ كَانُوا يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَبِيلَ اللهِ هِيَ الْجِهَادُ، وَطَلَبُ الْعِلْمِ، وَدَعْوَةُ الْخَلْقِ بِهِ إِلَى اللهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُعَاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((عَلَيْكُمْ بِطَلَبِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ للهِ خَشْيَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ))؛ وَلِهَذَا قَرَنَ -سُبْحَانَهُ- بَيْنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ وَالْحَدِيدِ النَّاصِرِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، فَذَكَرَ الْكِتَابَ وَالْحَدِيدَ؛ إِذْ بِهِمَا قِوَامُ الدِّينِ، كَمَا قِيلَ:
فَمَا هُوَ إِلَّا الْوَحْيُ أَوْ حَدُّ مُرْهَفِ = تُمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدَعِي كُلِّ مَائِلِ
فَهَذَا شِفَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَاقِلِ = وَهَذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ
-فَالْكِتَابُ شِفَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَاقِلٍ، وَالْحَدِيدُ دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ-.
وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ يُسَمَّى سَبِيلَ اللهِ؛ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَوْلَهُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59] بِالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّهُمُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، هَؤُلَاءِ -يَعْنِي: الْأُمَرَاء- بِأَيْدِيهِمْ، وَهَؤُلَاءِ -يَعْنِي: الْعُلَمَاء- بِأَلْسِنَتِهِمْ؛ فَطَلَبُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ مِنْ أَعْظَمِ سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: ((طَالِبُ الْعِلْمِ كَالْغَادِي الرَّائِحِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-).
وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((إِذَا جَاءَ الْمَوْتُ طَالِبَ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ -أَيْ: عَلَى حَالِ طَلَبِ الْعِلْمِ-؛ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ)).
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ((مَنْ رَأَى الْغُدُوَّ وَالرَّوَاحَ إِلَى الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ)).
فَالْحَاصِلُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ أَنَّهُ قَسَّمَ الْجِهَادَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
* إِلَى جِهَادٍ بِاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ وَبِالْحُجَّةِ بِالْقُرْآنِ.
* وَجِهَادٍ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ.
وَجَعَلَ الْأَوَّلَ أَعْلَى الْقِسْمَيْنِ، وَهُوَ جِهَادُ الْحُجَّةِ، وَهُوَ جِهَادُ الْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ جِهَادُ الْأَئِمَّةِ.
وَزَادَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- هَذَا الْأَصْلَ بَسْطًا فِي ((زَادِ الْمَعَادِ)) فَقَالَ: ((لَمَّا كَانَ الْجِهَادُ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَقُبَّتَهُ، وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا لَهُمُ الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا، فَهُمُ الْأَعْلَوْنَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلِّهَا، فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجَنَانِ، وَالدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ، وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا.
وَأَمَرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ، وَقَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 51-52]، فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفَّارِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ.
وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجَّةِ؛ وَإِلَّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التَّوْبَةِ: 73].
وَهَذَا الْجِهَادُ جِهَادُ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَوَرَثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ، وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْأَقَلِّينَ عَدَدًا فَهُمُ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقِّ مَعَ شِدِّةِ الْمُعَارِضِ؛ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ؛ كَانَ لِلرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ- مِنْ ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، وَكَانَ لِنَبِيِّنَا -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمُّهُ.
وَلَمَّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَنْ جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ)) وَصَحَّحَهُ، وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهُ الْأَلْبَانِيُّ؛ كَانَ جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ، وَأَصْلًا لَهُ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَيُحَارِبْهَا فِي اللَّهِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ، مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ، لَمْ يُجَاهِدْهُ، وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللَّهِ؟! بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِ حَتَّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ.
فَهَذَانِ عَدُوَّانِ قَدِ امْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا، وَبَيْنَهُمَا عَدُوٌّ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إِلَّا بِجِهَادِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبِّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا، وَيُخَذِّلُهُ وَيُرْجِفُ بِهِ، وَلَا يَزَالُ يُخَيِّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنَ الْمَشَاقِّ، وَتَرْكِ الْحُظُوظِ، وَفَوْتِ اللَّذَّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوَّيْنِ إِلَّا بِجِهَادِهِ، فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلَ لِجِهَادِهِمَا؛ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فَاطِرٍ: 6]، وَالْأَمْرُ بِاِتِّخَاذِهِ عَدُوًّا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَدُوٌّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا، وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ؛ امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَابْتِلَاءً، فَأَعْطَى اللَّهُ الْعَبْدَ مَدَدًا وَعُدَّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا لِهَذَا الْجِهَادِ، وَأَعْطَى أَعْدَاءَهُ مَدَدًا وَعُدَّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا، وَبَلَا -أَيِ: اخْتَبَرَ- أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أَخْبَارَهُمْ، وَيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيَتَوَلَّى رُسُلَهُ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الشَّيْطَانَ وَحِزْبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 20]، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [مُحَمَّدٍ: 4]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31].
فَأَعْطَى عِبَادَهُ الْأَسْمَاعَ، وَالْأَبْصَارَ، وَالْعُقُولَ، وَالْقُوَى، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَمَدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْأَنْفَالِ: 12]، وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَوْنِ لَهُمْ عَلَى حَرْبِ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَزَالُوا مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَلِمَعْصِيَتِهِمْ لَهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤَيِّسْهُمْ وَلَمْ يُقَنِّطْهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا أَمْرَهُمْ، وَيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ، وَيَعُودُوا إِلَى مُنَاهَضَةِ عَدُوِّهِمْ فَيَنْصُرَهُمْ عَلَيْهِ، وَيُظْفِرَهُمْ بِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ، وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ، وَمَعَ الصَّابِرِينَ، وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ يُدَافِعُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يُدَافِعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؛ بَلْ بِدِفَاعِهِ عَنْهُمُ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَلَوْلَا دِفَاعُهُ عَنْهُمْ لَتَخَطَّفَهُمْ عَدُوُّهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ.
وَهَذِهِ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ وَعَلَى قَدْرِهِ، فَإِنْ قَوِيَ الْإِيمَانُ قَوِيَتِ الْمُدَافَعَةُ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ، كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَكَمَا أَنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ؛ فَحَقُّ جِهَادِهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ لِلَّهِ، فَيَكُونَ كُلُّهُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ، وَيُجَاهِدُ شَيْطَانَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ، وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، وَارْتِكَابِ نَهْيِهِ؛ فَإِنَّهُ يَعِدُ الْأَمَانِيَّ، وَيُمَنِّي الْغُرُورَ، وَيَعِدُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَيَنْهَى عَنِ التُّقَى وَالْهُدَى وَالْعِفَّةِ وَالصَّبْرِ، وَأَخْلَاقِ الْإِيمَانِ كُلِّهَا، فَجَاهَدَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ، وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، فَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْجِهَادَيْنِ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ وَعُدَّةٌ يُجَاهِدُ بِهَا أَعْدَاءَ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ -فِيمَا هُوَ خَارِجَ نَفْسِهِ، لَا أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْخَارِجِ مَا يَكُونُ خَارِجَ وَطَنِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ جِهَادَ النَّفْسِ، ثُمَّ أَرَادَ جِهَادَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ أَرَادَ جِهَادَ الْعَدُوِّ الْخَارِجِيِّ الَّذِي هُوَ سِوَى النَّفْسِ وَسِوَى الشَّيْطَانِ- بِقَلْبِهِ، وَلِسَانِهِ، وَيَدِهِ، وَمَالِهِ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)).
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا -أَيْضًا-؛ أَنَّ الْعَلَّامَةَ ابْنَ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- ذَكَرَ أَنَّ الْجِهَادَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
- جِهَادُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ.
- وَجِهَادُ الْعَبْدِ الْعَدُوَّ الْخَارِجِيَّ.
- وَجِهَادُ الْعَبْدِ شَيْطَانَهُ.
إِذَنْ؛ عُرِفَ هَذَا، فَإِذَا عُرِفَ فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
- جِهَادُ النَّفْسِ.
- وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ.
- وَجِهَادُ الْكُفَّارِ.
- وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ.
((التَّوْحِيدُ سَبِيلُ وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ))
((قَالَ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: ٢٣].
هَذَا نَعْتُ رِجَالِ الدِّينِ: الصِّدْقُ الْكَامِلُ فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ؛ مِنَ الْقِيَامِ بِدِينِهِ، وَإِنْهَاضِ أَهْلِهِ، وَنَصْرِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَقَالٍ، وَمَالٍ، وَبَدَنٍ، وَظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ.
وَمِنْ وَصْفِهِم: الثَّبَاتُ التَّامُّ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالصَّبْرِ، وَالْمُضِيُّ فِي كُلِّ وَسِيلَةٍ بِهَا نَصْرُ الدِّينِ، فَمِنْهُمُ الْبَاذِلُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمُ الْبَاذِلُ لِمَالِهِ، وَمِنْهُمُ الْحَاثُّ لِإِخْوَانِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِكُلِّ مُسْتَطَاعٍ مِنْ شُؤُونِ الدِّينِ، وَالسَّاعِي بَيْنَهُمْ بِالنَّصِيحَةِ وَالتَّأْلِيفِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمِنْهُمُ الْمُنَشِّطُ بِقَوْلِهِ وَجَاهِهِ وَحَالِهِ، وَمِنْهُمُ الْفَذُّ الْجَامِعُ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
فَهَؤُلَاءِ رِجَالُ الدِّينِ وَخِيَارُ الْمُسْلِمِينَ، بِهِمْ قَامَ الدِّينُ، وَبِهِ قَامُوا، وَهُمُ الْجِبَالُ الرَّوَاسِي فِي إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، لَا يَرُدُّهُمْ عَنْ هَذَا الْمَطْلَبِ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِ صَادٌّ، تَتَوَالَى عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ وَالْكَوَارِثُ فَيَتَلَقَّوْنَهَا بِقُلُوبٍ ثَابِتَةٍ وَصُدُورٍ مُنْشَرِحَةٍ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ وَالْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.
وَأَمَّا الْآخَرُونَ، وَهُمُ الْجُبَنَاءُ الْمُرْجِفُونَ؛ فَبِعَكْسِ حَالِ هَؤُلَاءِ، لَا تَرَى مِنْهُمْ إِعَانَةً قَوْلِيَّةً وَلَا فِعْلِيَّةً وَلَا جِدِّيَّةً، قَدْ مَلَكَهُمُ الْبُخْلُ وَالْجُبْنُ وَالْيَأْسُ، وَفِيهِمُ السَّاعِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِإِيقَاعِ الْعَدَاوَاتِ وَالْفِتَنِ وَالتَّفْرِيقِ.
فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَضَرُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَدُوِّ الظَّاهِرِ الْمُحَارِبِ؛ بَلْ هُمْ سِلَاحُ الْأَعْدَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
قَالَ -تَعَالَى- فِيهِمْ وَفِي أَشْبَاهِهِمْ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٧] أَيْ: يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ تَغْرِيرًا أَوِ اغْتِرَارًا.
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُمْ خَطِيرٌ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي اضْطُرَّ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَى التَّعَلُّقِ بِكُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ، وَإِلَى مَنْ يُعِينُهُمْ وَيُنَشِّطُهُمْ.
فَهَؤُلَاءِ الْمُفْسِدُونَ يُثَبِّطُونَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ، وَيُخَدِّرُونَ أَعْصَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَيِّسُونَهُمْ مِنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي أَسْبَابِ الرُّقِيِّ، وَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَلَا يُجْدِي نَفْعًا.
فَهَؤُلَاءِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَا دِينَ صَحِيحًا، وَلَا شَهَامَةَ دِينِيَّةً وَلَا قَوْمِيَّةً وَلَا وَطَنِيَّةً -وَلَيْسَتْ بِدَعْوَةٍ إِلَى قَوْمِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ نَظَرٌ إِلَى أَحْوَالِ أَقْوَامٍ مِنَ الْمُعَاصِرِينَ يَدَّعُونَ الْقَوْمِيَّةَ وَالْوَطَنِيَّةَ، ثُمَّ هُمْ فِي الْمُنْتَهَى يُخَذِّلُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا تَنَزُّلٌ مَعَ هَؤُلَاءِ، نَفْيٌ عَنْهُمْ مَا اتَّصَفُوا بِهِ وَوَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْقَابِ، وَمِنْ هَذَا الِانْتِسَابِ مِنَ الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ-، لَا دِينَ صَحِيحًا، وَلَا عَقْلَ رَجِيحًا.
فَلْيَعْلَمْ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفِ النَّاسَ إِلَّا وُسْعَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ، وَأَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً؛ فَقَدْ كَانَ لَهُ ﷺ حَالَانِ فِي الدَّعْوَةِ وَالْجِهَادِ، أَمْرٌ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا يَلِيقُ بِهَا وَيُنَاسِبُهَا:
* أَمْرٌ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ بِالْمُدَافَعَةِ، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ قِتَالِ الْيَدِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ الْمُرْبِي عَلَى الْمَصْلَحَةِ.
* وَأَمْرٌ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى أَنْ يَسْتَدْفِعَ شُرُورَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الْقُوَّةِ، وَأَنْ يُسَالِمَ مَنْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ مُسَالَمَتَهُ، وَيُقَاوِمَ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ بَلِ الضَّرُورَةُ مُحَارَبَتَهُمْ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الِاقْتِدَاءُ بِنَبِيِّهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ عَيْنُ الصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ)).
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ مُنُوا بِجُمْلَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمُخَذِّلِينَ الْمُرْجِفِينَ، لَا عِلْمَ وَلَا حِلْمَ، لَا دِينَ صَحِيحًا، وَلَا عَقْلَ رَجِيحًا؛ حَتَّى صَارَ مِنَ السَّائِدِ الْمَعْهُودِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ -فَهُوَ مَعْهُودٌ سَمَاعُهُ عِنْدَهُمْ، وَمَعْهُودٌ نُطْقُهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ-: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ، وَأَنَّنَا مَهْمَا حَاوَلْنَا وَمَهْمَا فَعَلْنَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ نُدْرِكَ مَنْ سَبَقَنَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ نَسْبِقَهُ، وَقَدْ أَخْلَدُوا إِلَى الْأَرْضِ، وَرَضُوا بِهَذَا الْفَرْضِ الَّذِي قَدْ فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ الْمُخَذِّلُونَ الْمُرْجِفُونَ؛ حَتَّى صَارَ كَالْعَقِيدَةِ الثَّابِتَةِ وَالِاعْتِقَادِ الْمُلَازِمِ!
وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا أَمَرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ أَمَرَ بِإِعْدَادِ مَا يُسْتَطَاعُ، وَلَمْ يُكَلِّفِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَسْتَطِيعُونَ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّرْبِيَةِ الْإِيمَانِيَّةِ قَبْلَ الْعُدَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ؛ فَالْعُدَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ الْقَلْبِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى هَذِهِ الْعُدَّةِ الْقِتَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَهْتَمُّونَ بِهَذَا الْأَوَّلِ الَّذِي يُؤَسَّسُ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بَعْدُ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى التَّرْبِيَةِ الْإِيمَانِيَّةِ؛ لِذَلِكَ تَتَخَالَفُ وُجْهَاتُهُمْ، وَتَتَضَارَبُ وُجْهَاتُهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ قَدْ تَنَازَعَتْهُمْ ثَارَاتُهُمْ، وَصَارُوا شِيَعًا، وَسَارَ كُلٌّ فِي سَبِيلٍ، فَتَضَارَبَتْ وُجْهَاتُهُمْ تَبَعًا لِتَضَارُبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ تَرَبَّوْا تَرْبِيَةً إِيمَانِيَّةً صَحِيحَةً، وَحَازُوا الْعُدَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ؛ لَكَانَتْ وِجْهَتُهُمْ وَاحِدَةً؛ -فَكَمَا مَرَّ- أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَمِنْ أَسْمَى أَنْوَاعِهِ: أَنْ يُبْذَلَ الْمَجْهُودُ بِصِدْقٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْمُسْلِمُونَ شُعُوبًا وَحُكُومَاتٍ، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ.
فَهَذَا كُلُّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَسَّسَ إِلَّا عَلَى الْيَقِينِ الصَّحِيحِ، وَالتَّوْحِيدِ السَّلِيمِ فِي الْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ عَائِدًا إِلَى الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، إِلَى سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ مِنْ صَحَابَةِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ، الَّذِينَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ، اعْتِقَادُهُمْ وَاحِدٌ؛ حَتَّى لَمَّا وَقَعَ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الِاخْتِلَافِ لَمْ يَشْهَدْهُ مَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِينَ، وَأَمَّا جُمْلَتُهُمْ -وَهُمْ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ-؛ فَاعْتَزَلُوا هَذَا الْأَمْرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، وَأَيْضًا لَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ؛ الَّذِينَ شَارَكُوا فِيهِ كَانُوا عَلَى قُلُوبٍ نَقِيَّةٍ وَنَصِيحَةٍ سَوِيَّةٍ، فَهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا لِلْمُلْكِ.
وَمَا كَانَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَضَعُ فِي خَاطِرِهِ -لِأَنَّ لِسَانَهُ نَفَى ذَلِكَ- أَنَّهُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِالْخِلَافَةِ مِنْ عَلِيٍّ، بَلْ إِنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا يَدْرِي لَهَا وَجْهًا؛ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يَطْلُبُ حُكْمَهُ وَفَتْوَاهُ، هَذَا مَعْرُوفٌ مُسَلَّمٌ.
فَهَذَا الِاتِّحَادُ فِي الْأَبْدَانِ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِاتِّحَادِ الْقُلُوبِ وَالْجَنَانِ، فَإِذَا جَاءَ التَّوْحِيدُ تَوَحَّدَتِ الْأَبْدَانُ، وَتَوَحَّدَتِ الْوِجْهَةُ، وَصَارَ الْأَمْرُ دَانِيَ الْقِطَافِ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
((آنَ أَوَانُ الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ!))
((أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! عَلَيْكُمْ بِلُزُومِ مَا حَثَّكُمْ عَلَيْهِ دِينُكُمْ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالِائْتِلَافِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ.
عَلَيْكُمْ بِعَمَلِ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْقُلُوبِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْعَدَاوَاتِ وَالضَّغَائِنَ الَّتِي لَا تُكْسِبُ إِلَّا شَرًّا.
احْذَرُوا سَمَاسِرَةَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ يُلْقُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بُذُورَ الْعَدَاوَةِ وَالشِّقَاقِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا هُوَ غِلٌّ وَنِفَاقٌ.
الْمُسْلِمُ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ وَاتِّفَاقِ أَمْرِهِمْ، وَيُحَذِّرُ غَايَةَ التَّحْذِيرِ مِنْ تَدَابُرِهِمْ وَافْتِرَاقِهِمْ، وَمَا طَمِعَ الْأَعْدَاءُ وَتَسَلَّطُوا إِلَّا بِسِلَاحِ الْفُرْقَةِ الْفَتَّاكِ، وَلَا اسْتَعْمَرُوا أَقْطَارَ الْمُسْلِمِينَ وَسَيْطَرُوا عَلَى مَصَالِحِهِمْ إِلَّا بَعْدَمَا انْحَلَّتْ مَعْنَوِيَّتُهُمُ الَّتِي هِيَ الْحِصْنُ الْحَصِينُ، الْوَاقِيَةُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْإِشْرَاكِ.
يَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! قُوا أَنْفُسَكُمْ وَقَوْمَكُمْ مَصَارِعَ الْهَلَاكِ، وَتَسَابَقُوا إِلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ مِنْ هُوَّةِ الدَّمَارِ، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْأَعْدَاءَ إِذَا كُنْتُمْ يَدًا وَاحِدَةً يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ التَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ وَالْإِكْبَارِ؟!
فَمَا زَالُوا يُلْقُونَ بَيْنَكُمُ الشِّقَاقَ وَالْفُرْقَةَ، وَيَضْرِبُونَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ؛ حَتَّى قَضَوْا عَلَى مُعْظَمِ مُقَوِّمَاتِكُمْ، وَمَا بَقِيَ إِلَّا رَمَقُ حَيَاةٍ إِنْ أَنْتُمْ عَالَجْتُمُوهَا، وَسَعَيْتُمْ فِي تَنْمِيَتِهَا وَتَقْوِيَتِهَا؛ رُجِيَتْ لَكُمُ السَّلَامَةُ وَالْأَمْنُ عَلَى مُسْتَقْبَلِكُمْ.
وَقَدْ آنَ الْأَوَانُ لِلْجِدِّ، وَشَدِّ الْمِئْزَرِ، وَالتَّعَاضُدِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ حُكُومَاتِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَقَدْ وَقَفُوا عَلَى الدَّاءِ، وَعَرَفُوا كَيْفِيَّةَ الطَّرِيقِ إِلَى الْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ.
وَقَدْ تَقَارَبَ مَا بَيْنَ حُكُومَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَاضْطَرَّتْهُمُ الْأَحْوَالُ إِلَى انْضِمَامِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْوَحِيدُ لِعِزِّهِمْ، وَنَرْجُو اللهَ أَنْ يُوَفِّقَهُمْ لِلْعَمَلِ النَّاجِحِ وَالسَّعْيِ النَّافِعِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! أَنْتُمُ الْآنَ فِي مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فَإِمَّا تَمَسُّكٌ بِدِينِكُمْ، وَاجْتِمَاعٌ بِهِ يَحْصُلُ الْفَلَاحُ، وَإِمَّا إِعْرَاضٌ وَتَفَكُّكٌ لَا يُرْجَى بَعْدَهُ عِزٌّ وَلَا نَجَاحٌ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! قُومُوا للهِ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ، وَاطْمَعُوا وَاثِقِينَ بِنَصْرِ اللهِ؛ فَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ الْمُتَّقِينَ، وَهُوَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
طُوبَى لِلرِّجَالِ الْمُخْلِصِينَ، وَا شَوْقَاهُ إِلَى الْأَلِبَّاءِ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُنْهِضُونَ هِمَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَ مَسَالِكَ الشَّرِّ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ، يَسْعَوْنَ فِي تَقْرِيبِ الْقُلُوبِ، وَيُجَاهِدُونَ حَقَّ الْجِهَادِ فِي هَذَا السَّبِيلِ، دَأْبُهُمُ الْقِيَامُ بِدِينِ اللهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِعِبَادِ اللهِ، كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَقْدُورِهِ؛ هَذَا بِتَعْلِيمِهِ وَكَلَامِهِ، وَهَذَا بِوَعْظِهِ وَإِرْشَادِهِ، وَهَذَا بِقُوَّتِهِ وَمَالِهِ، وَهَذَا بِجَاهِهِ وَتَوْجِيهِهِ إِلَى السَّبِيلِ النَّافِعِ، قَدْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُمْ، وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهُمْ؛ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)).
فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ أَوَّلِ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَلْتَمَّ شَمْلُ أُمَّتِنَا، وَأَنْ يَتَآلَفَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنْ يَتَعَاوَنُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الِاتِّحَادُ قُوَّةٌ