أَيَّامُ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ

أَيَّامُ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ

((أَيَّامُ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((اللهُ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))

((فَإِنَّ اللهَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي رَحْمَتِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِصُنُوفِ النِّعَمِ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلًا؛ فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ كُلَّ حَيٍّ، وَعَمَّ إِحْسَانُهُ الْبَرَايَا، وَوَصَلَ جُودُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَلَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ.

وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ فَكَانَ صَاحِبَ الرَّحْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الْوَاسِعَةِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58].

فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ -تَعَالَى- وَإِحْسَانُهُ)).

وَسَمَّى -جَلَّ وَعَلَا- نَفْسَهُ ((((الرَّحْمَنَ))، وَهَذَا الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعُمُومِ إِحْسَانِهِ، وَجَزِيلِ بِرِّهِ، وَوَاسِعِ فَضْلِهِ)).

((وَ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ -سُبْحَانَهُ-.

وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ، فَـ((الرَّحْمَنُ)) لِلْوَصْفِ، وَ((الرَّحِيمُ)) لِلْفِعْلِ.

فَـ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِمْ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ((الرَّحْمَنَ)): هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَ((الرَّحِيمَ)): هُوَ الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ))؛ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، عَظِيمُهَا، بَلِيغُهَا وَوَاسِعُهَا.

وَرَحْمَةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَأَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ مَرْحُومُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَلَوْ لَا رَحْمَةُ اللهِ مَا أَكَلُوا وَمَا شَرِبُوا، وَمَا اكْتَسَوْا وَمَا سَكَنُوا؛ وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ؛ فَهَيَّأَ لَهُمْ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ مِنَ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ.

وَأَمَّا رَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ: فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَمِرُّ رَحْمَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَدْيَانُهُمْ.

((وَرَحْمَتُهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ كَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَحَيَاتِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَإِحْسَانِهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَضَبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ غَضْبَانًا دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ، بَلْ يَقُولُ رُسُلُهُ وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي ((حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ)) -وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ)).

كَذَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الْخَلْقُ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِبَدْءِ الْحِسَابِ؛ فَيَقُولُ كُلٌّ: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

فَالْغَضَبُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَصِفَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، صِفَاتُ الْفِعْلِ هِيَ الَّتِي إِذَا شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَتَى بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْفِعْلِ، وَمِنْهَا: الْغَضَبُ، وَمِنْهَا: الضَّحِكُ، وَمِنْهَا: الرِّضَا، وَمِنْهَا: النُّزُولُ، وَمِنْهَا: الِاسْتِوَاءُ؛ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَكُلُّ صِفَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.

وَأَمَّا صِفَاتُ الذَّاتِ: فَهِيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا اتِّصَافُ الذَّاتِ بِهَا، وَلَا تَنْفَكُّ هِيَ عَنِ الذَّاتِ، صِفَاتُ الذَّاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَالٍ، فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلذَّاتِ، وَمِنْهَا: صِفَةُ الرَّحْمَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْغَضَبِ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَغَضِبَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ غَضْبَانًا دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ؛ بَلْ ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

رَحْمَةُ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَغَضَبُهُ لَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَلَمْ يَكْتُبْ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَلَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ غَضَبًا وَانْتِقَامًا))، -سُبْحَانَهُ- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ اللَّيِّقُ بِشَأْنِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَكُنَّا جَمِيعًا خَاسِرِينَ هَالِكِينَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَمِنْ سَخَطِهِ، وَمِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَرْجُو رَحْمَتَهُ، وَكَرَمَهُ، وَفَضْلَهُ، وَلُطْفَهُ.

فَسُبْحَانَ رَبِّيَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَوَسِعَتْ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الْآنَاتِ وَاللَّحَظَاتِ، وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحْمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءُ الْمَحْرُومُونَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.

يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الْخَلَائِقَ رَحْمَةً=وَكِفَايَةً ذُو الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ، وَهُوَ خَبَرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْمَقَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَخَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَرَحْمَتُهُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ كُلِّ رَاحِمٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَوْلَادِنَا، وَأَنْفُسِنَا.

((فَكُلُّ رَاحِمٍ لِلْعَبْدِ فَاللهُ أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ؛ إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، لَوْ جُمِعَتْ رَحَمَاتُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَكَانَتْ رَحْمَةُ اللهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَا تَبْلُغُ هَذِهِ الرَّحْمَاتُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ، فَجَعَلَ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ؛ رَحْمَةً بِهِ وَحَنَانًا وَبِرًّا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرْحَمُهُ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَاللهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ بِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

أَرْحَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ: الْأُمُّ بِوَلَدِهَا؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ وَلَدَهَا لَا يُسَاوِيهَا شَيْءٌ مِنْ رَحْمَةِ النَّاسِ أَبَدًا؛ حَتَّى الْأَبُ لَا يَرْحَمُ أَوْلَادَهُ مِثْلَ أُمِّهِمْ فِي الْغَالِبِ.

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلِبُ تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟)).

قُلْنَا: ((لَا)) -وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ-.

فَقَالَ: ((اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟! فَهُوَ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الرَّفِيقَةِ بِهِ فِي حَمْلِهِ، وَرَضَاعِهِ، وَفِصَالِهِ.

كُلُّ الرَّاحِمِينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ رَحَمَاتُهُمْ كُلِّهِمْ؛ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ رَحْمَةِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ ﷺ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)) )).

هَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ.

وَأَمَّا الرَّحْمَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ، فَالرَّحْمَةُ صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ؛ حَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الرَّحْمَةِ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِعْمَالُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَرْحَمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ.

هُنَاكَ صِفَاتٌ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ بِاعْتِبَارٍ وَصِفَةَ فِعْلٍ بِاعْتِبَارٍ:

صِفَةُ الْخَلْقِ: صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ، فَذَاتُ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ وَلَا مَخْلُوقَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ، وَلَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ الْعَظِيمَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَبَرْئِهِمْ، وَتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ بِخَلْقِهِمْ؛ فَهِيَ -حِينَئِذٍ- تَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ.

كَذَلِكَ صِفَةُ الْكَلَامِ: فَذَاتُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرٍ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ؛ لِتَعَلُّقِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ.

هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي مَعَنَا: فِيهِ انْقِسَامُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ إِلَى مِائَةِ جُزْءٍ، جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.

صِفَةُ الْفِعْلِ: هِيَ الَّتِي تَقْبَلُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ.

وَأَمَّا صِفَةُ الذَّاتِ؛ فَهِيَ مَوْصُوفٌ بِهَا الذَّاتُ، لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ.

مَا مَرَّ ذِكْرُهُ بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ مِنْ سِلْسِلَة: ((مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى)) (الْمُحَاضَرَةُ الثَّالِثَةُ) - الْأَحَدُ 13 مِنْ رَجَبٍ 1433هـ / 3-6-2012م.

((عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ مَوْسِمُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحَمَاتِ))

 

لَقَدْ فَاضَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَرَفَعَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ؛ فَفَضَّلَ بَعْضَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ عَلَى بَعْضٍ، فَجَعَلَ الْأَيَّامَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَجَعَلَ أَفْضَلَهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَجَعَلَ أَفْضَلَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلَ اللَّيَالِي لَيَالِيَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَفْضَلُهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.

وَللهِ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٌ وَهِبَاتٌ يَمْتَنُّ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ فَهِيَ مَوْسِمٌ عَظِيمٌ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ يَتَرَقَّبُهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَشْتَاقُ إِلَيْهِ عِبَادُ اللهِ الْمُوَحِّدُونَ؛ رَفْعًا لِلدَّرَجَاتِ، وَسَدًّا لِلْخَلَلِ، وَاسْتِدْرَاكًا لِلنَّقْصِ، وَتَعْوِيضًا لِمَا فَاتَ؛ فَلْنَجْتَهِدْ فِيهَا، وَلْنَلْتَمِسْ رَحَمَاتِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ)).

قَالُوا: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟)).

قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَأَحْمَدُ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَرْجَى)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَزْكَى)).

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ شَهِدَ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهُ حَثَّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا.

وَفِيهِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مِنْهُ فِي غَيْرِهَا.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا وَكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تُضَاعَفُ فِي الْعَشْرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى)).

قِيلَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟)).

قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)). رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

إِنَّ إِدْرَاكَ هَذِهِ الْعَشْرِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُدْرِكُ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِ -بِتَوْفِيقِ اللهِ- عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ، وَاغْتِنَامِ الْأَجْرِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَشْعِرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَيَسْتَحْضِرَ عِظَمَ أَجْرِ الْعَمَلِ فِيهَا، وَيَغْتَنِمَ الْأَوْقَاتَ، وَأَنْ يُظْهِرَ لِهَذِهِ الْعَشْرِ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهَا مِنْ مَزِيدِ الطَّاعَاتِ.

وَهَذَا شَأْنُ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَ عَشَرَاتٍ: الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنَ الْمُحَرَّمِ)).

((وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا؛ حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ)).

فَاتَّقُوا اللهَ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَيْكُمْ بِمَوَاسِمِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَاتِ، وَاغْتَنِمُوهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَاتِ؛ فَإِنَّمَا عُمُرُ الْعَبْدِ مَا بَذَلَهُ فِي صَالِحِ الْأَعْمَالِ، وَتَقَرَّبَ فِيهِ إِلَى ذِي الْكَرَمِ وَالْجَلَالِ؛ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ تَمْضِي اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى يَأْتِيَ الْإِنْسَانَ أَجَلُهُ؟! فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُ حِينَ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ وَالْإِهْمَالُ.

فَاغْتَنِمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- هَذِهِ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي أَقْسَمَ اللهُ بِهَا فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ، وَتَمَيَّزَتْ بِفَضْلِ الطَّاعَاتِ فِيهَا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)) يَعْنِي: الْعَشْرَ.

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ قَوْل: ((اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ)).

أَكْثِرُوا مِنْ هَذَا الذِّكْرِ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ، وَارْفَعُوا بِذَلِكَ أَصْوَاتَكُمْ؛ تَعْظِيمًا للهِ، وَإِظْهَارًا لِلشَّعَائِرِ، وَلِتَشْهَدَ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا سَمِعَتْ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ.

وَأَكْثِرُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَالْإِحْسَانِ، وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا؛ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ.

فَهَذِهِ أَوْقَاتُ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ!

وَهَذِهِ أَوْقَاتُ إِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ!

هَذِهِ أَوْقَاتُ الْفَضَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّفَحَاتِ!

هَذِهِ أَوْقَاتُ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الْخَطَايَا وَالسَّيِّئَاتِ!

هَذِهِ أَيَّامُ الِاعْتِبَارِ، وَرَفْعِ الْحَوَائِجِ إِلَى اللهِ وَالشِّكَايَاتِ!

هَذِهِ أَيَّامُ ازْدِحَامِ الْوَافِدِينَ إِلَى بَيْتِ اللهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، يَسْلُكُونَ الطُّرُقَ جَوًّا وَبَرًّا وَبَحْرًا لِلْوُصُولِ إِلَى تِلْكَ الْمَشَاعِرِ الْمُعَظَّمَاتِ!

هَذِهِ أَيَّامُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَضَجِيجِ الْأَصْوَاتِ بِالدَّعَوَاتِ!

هَذِهِ مَوَاسِمُ الْأَرْبَاحِ لِذَوِي الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ وَالتِّجَارَاتِ!

فَخُذُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ تَعَالَى- مِنْ فَضَائِلِهَا بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّفْرِيطَ وَالْإِهْمَالَ؛ فَالْمُفَرِّطُ خَاسِرٌ!

فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ أَفْضَلُ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي غَيْرِهَا، وَمُضَاعَفَتُهَا أَكْثَرُ، وَالنَّوَافِلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ النَّوَافِلِ فِي غَيْرِهَا؛ لَكِنَّ نَوَافِلَ الْعَشْرِ لَيْسَتْ أَفْضَلَ مِنْ فَرَائِضِ غَيْرِهَا، فَالصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، وَكَذَا الصَّوْمُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرُ، وَالدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ إِلَى اللهِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَزِيَارَةُ الْمَرْضَى، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا، وَهَكَذَا.

وَفَضْلُ الْعَشْرِ وَالْعَمَلِ فِيهَا يَعُمُّ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ؛ لَكِنَّ لَيَالِيَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

وَأَيَّامُ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ.

وَتَجْتَمِعُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ لَا تَجْتَمِعُ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ الْحَجُّ، وَالْأُضْحِيَةُ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ.

((فَضَائِلُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَدَلَائِلُهَا))

* مِنْ فَضْلِ الْعَشْرِ: أَنَّ اللهَ أَقْسَمَ بِلَيَالِيهَا الْفَاضِلَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2].

((وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ: هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ)).

* وَمِنْ فَضْلِ الْعَشْرِ: أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الَّتِي شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- ذِكْرَهُ فِيهَا عَلَى مَا رَزَقَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، كَمَا قَالَ: {لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28].

وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.

وَهَذِهِ الْعَشْرُ هِيَ خَاتِمَةُ الْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ -أَشْهُرِ الْحَجِّ-، الَّتِي قَالَ -تَعَالَى- فِيهَا: (({الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وَهِيَ شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَعُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللهِ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ)).

* وَمِنْ فَضَائِلِ الْعَشْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَمَرَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- فِيهَا؛ مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

((كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا)).

* وَفِي الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ مُزْدَلِفَةَ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ قَوْلَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَقْسَمَ بِهِ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَالَ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((الْوَتْرُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعُ: يَوْمُ الذَّبْحِ)).

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَلَمَّا سُئِلَ الرَّسُولُ ﷺ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ قَالَ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَمِنْ فَضْلِ الْعَشْرِ: أَنَّ فِيهَا يَوْمَ عَرَفَةَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ وَغَنِيمَةٌ كُبْرَى؛ فَهُوَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ.

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ)).

فَقَالَ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)).

الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ عِنْدَ اللهِ؛ حَيْثُ إِنَّ صِيَامَهُ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، أَمَّا الْحَاجُّ فَلَا يُسَنُّ لَهُ صِيَامُهُ، بَلْ يُفْطِرُ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ ﷺ.

* مِنْ فَضْلِ الْعَشْرِ: أَنَّ فِيهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَيَوْمُ الْقَرِّ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَقَرُّونَ فِيهِ بِمِنَى بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالنَّحْرِ وَاسْتَرَاحُوا.

 ((مِنْ أَسْرَارِ الْحَجِّ الْعَظِيمَةِ))

((إِنَّ الْحَجَّ لَهُ شَأْنٌ آخَرُ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْحُنَفَاءُ الَّذِينَ ضَرَبُوا فِي الْمَحَبَّةِ بِسَهْمٍ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُحِيطَ بِهِ الْعِبَارَةُ، وَهُوَ خَاصَّةُ هَذَا الدِّينِ الْحَنِيفِ، وَمَعُونَةُ الصَّلَاةِ، وَسِرُّ قَوْلِ الْعَبْدِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَإِنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ.

وَهُوَ اسْتِزَارَةُ الْمَحْبُوبِ لِأَحِبَّائِهِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى بَيْتِهِ وَمَحَلِّ كَرَامَتِهِ، وَلِهَذَا إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَشِعَارُهُمْ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) إِجَابَةُ مُحِبٍّ لِدَعْوَةِ حَبِيبِهِ.

وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ مَوْقِعٌ عِنْدَ اللهِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرَ الْعَبْدُ مِنْهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَبِّهِ وَأَحْظَى عِنْدَهُ، فَهُوَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَقُولَ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) حَتَّى يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ.

وَسَائِرُ شَعَائِرِ الْحَجِّ مِمَّا شَهِدَتْ بِحُسْنِهِ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَعَلِمَتْ أَنَّ الَّذِي شَرَعَ هَذِهِ لَا حِكْمَةَ فَوْقَ حِكْمَتِهِ)) .

((إِنَّ الْحَاجَّ يَتَذَكَّرُ بِتَحْصِيلِ الزَّادِ زَادَ الْآخِرَةِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ فَاسِدَةً بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَلَا تَصْحَبُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ، كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يَفْسُدُ فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ السَّفَرِ، فَيَبْقَى صَاحِبُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ مُتَحَيِّرًا.

وَإِذَا فَارَقَ الْحَاجُّ وَطَنَهُ، وَدَخَلَ الْبَادِيَةَ، وَشَهِدَ تِلْكَ الْعَقَبَاتِ وَالصِّعَابَ وَالشَّدَائِدَ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ خُرُوجَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ إِلَى مِيقَاتِ الْقِيَامَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَهْوَالِ.

وَمِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَتَذَكَّرَ وَقْتَ إِحْرَامِهِ وَتَجَرُّدِهِ مِنْ ثِيَابِهِ أَنَّهُ يَلْبَسُ كَفَنَهُ، وَأَنَّهُ سَيَلْقَى رَبَّهُ بِزِيٍّ مُخَالِفٍ لِزِيِّ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يَأْتِي رَبَّهُ مُتَجَرِّدًا مِنَ الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا وَغُرُورِهَا، مَا مَعَهُ إِلَّا عَمَلُهُ؛ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.

وَإِذَا لَبَّى فَلْيَسْتَحْضِرْ بِتَلْبِيَتِهِ إِجَابَةَ اللهِ تَعَالَى؛ إِذْ قَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، وَلْيَرْجُ الْقَبُولَ، وَلْيَخْشَ عَدَمَ الْإِجَابَةِ، وَلْيَتَذَكَّرْ خَيْرَ مَنْ لَبَّى وَأَجَابَ النِّدَاءَ، مُحَمَّدًا ﷺ وَصَحَابَتَهُ الْكِرَامَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-، وَلْيَعْزِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاقْتِفَاءِ سُنَّتِهِ، وَاتِّبَاعِ طَرِيقِهِ.

وَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَرَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجُوَ الْأَمْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَنْ يَخْشَى أَلَّا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبِ عِنْدَ اللهِ، مُعَظِّمًا رَجَاءَهُ فِي رَبِّهِ، مُحْسِنًا ظَنَّهُ بِهِ.

فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ الْحَرَامَ اسْتَحْضَرَ عَظَمَةَ اللهِ فِي قَلْبِهِ، وَعَظُمَتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، وَازْدَادَ لَهُ هَيْبَةً وَإِجْلَالًا، وَشَكَرَ اللهَ تَعَالَى عَلَى تَبْلِيغِهِ رُتْبَةَ الْوَافِدِينَ إِلَيْهِ، وَلْيَسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ الطَّوَافِ بِهِ؛ فَإِنَّهُ صَلَاةٌ.

وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ فِي مِنًى، فَيَتَذَكَّرْ بِمَا يَرَى مِنَ ازْدِحَامِ الْخَلْقِ، وَارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهِمْ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ، فَلْيَتَذَكَّرْ بِذَلِكَ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ، وَاجْتِمَاعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالٍ وَشَدَائِدَ: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 10-13].

وَإِذَا جَاءَ رَمْيُ الْجِمَارِ؛ فَاقْصِدْ بِذَلِكَ الِانْقِيَادَ لِلْأَمْرِ، وَإِظْهَارَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ، وَامْتِثَالَ السُّنَّةِ، وَاتِّبَاعَ الطَّرِيقَةِ، وَتَقْدِيمَهَا عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ وَرَغَبَاتِهَا)) .

 ((مِنْ مَنَافِعِ الْحَجِّ وَثَمَرَاتِهِ))

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 27-29].

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}؛ أَيْ: أَعْلِمْهُم بِهِ وَادْعُهُمْ إِلَيْهِ، وَبَلِّغْ دَانِيهِمْ وَقَاصِيهِمْ فَرْضَهُ وَفَضِيلَتَهُ، فَإِنَّكَ إِذَا دَعَوْتَهُمْ أَتَوْكَ حُجَّاجًا وَعُمَّارًا.

{رِجَالًا}؛ أَيْ: مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ مِنَ الشَّوْقِ.

{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}؛ أَيْ: نَاقَةٍ ضَامِرٍ تَقْطَعُ الْمَهَامِهَ وَالْمَفَاوِزَ، وَتَواصِلُ السَّيْرَ حَتَّى تَأْتِيَ إِلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ.

{مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}؛ أَيْ: مِنْ كُلِّ بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَقَدْ فَعَلَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَدَعَوَا النَّاسَ إِلَى حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَأَبْدَيَا فِي ذَلِكَ وَأَعَادَا، وَقَدْ حَصَلَ مَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ؛ أَتَاهُ النَّاسُ رِجَالًا وَرُكْبَانًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.

ثُمَّ ذَكَرَ فَوَائِدَ زِيَارَةِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ مُرَغِّبًا فِيهِ؛ فَقَالَ:

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}؛ أَيْ: لِيَنَالُوا بَبَيْتِ اللهِ مَنَافِعَ دِينِيَّةً مِنَ الْعِبَادَاتِ الْفَاضِلَةِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِ، وَمَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةً مِنَ التَّكَسُّبِ وَحُصُولِ الْأَرْبَاحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكُلُّ هَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ كُلٌّ يَعْرِفُهُ.

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، وَهَذَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ أَيْ: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا؛ شُكْرًا للهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْهَا وَيَسَّرَهَا لَهُمْ، فَإِذَا ذَبَحْتُمُوهَا {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}؛ أَيْ: شَدِيدَ الْفَقْرِ.

{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}؛ أَيْ: يَقْضُوا نُسُكَهُمْ، وَيُزِيلُوا الْوَسَخَ وَالْأَذَى الَّذِي لَحِقَهُمْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.

{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} الَّتِي أَوْجَبُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدَايَا.

{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}؛ أَيِ: الْقَدِيمِ أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، الْمُعْتَقِ مِنْ تَسَلُّطِ الْجَبَابِرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالطَّوَافِ خُصُوصًا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَنَاسِكِ عُمُومًا لِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، وَلِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ وَمَا قَبْلَهُ وَسَائِلُ إِلَيْهِ.

وَلَعَلَّهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- لِفَائِدَةٍ أُخْرَى؛ وَهِيَ أَنَّ الطَّوَافَ مَشْرُوعٌ كُلَّ وَقْتٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ تَابِعًا لِنُسُكٍ أَمْ مُسَتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.

((يَوْمُ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَشْهُودِ، فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فِي يَوْمِ النَّحْرِ -يَوْمِ الْأَضْحَى- فَهُوَ يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمُ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِنَحْرِ وَذَبْحِ الْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيِّ فِي مَكَّةَ -زَادَهَا اللهُ تَشْرِيفًا-، وَكَذَلِكَ فِي عُمُومِ الْأَمْصَارِ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْقُرْبَانِ.

فَهَذَا يَوْمُ النَّحْرِ، هَذَا يَوْمُ الْأَضْحَى، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَعْمَالِ الْحَجِّ تَقَعُ فِيهِ.

فَفِي هَذَا الْيَوْمِ يَقُومُ إِخْوَانُكُمْ مِنَ الْحَجِيجِ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْحَرُونَ هَدْيَهُمْ أَوْ يَذْبَحُونَهُ، وَيَحْلِقُونَ رُؤُوسَهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالْحَلْقُ عِبَادَةٌ لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، ثُمَّ يَقُومُونَ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ -زِيَارَةِ الْكَرِيمِ فِي بَيْتِهِ- يَقُومُونَ بِزِيَارَةِ الْفَرْضِ، بِزِيَارَةِ الْإِفَاضَةِ.

فِي هَذَا الْيَوْمِ تَقَعُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ.

وَأَمَّا هَذَا الرُّكْنُ -وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ- فَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ الْأَكْبَرُ، سَبَقَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ؛ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، لِلتَّطَهُّرِ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْعُيُوبِ، مِنْ أَجْلِ التَّأَهُّلِ لِزِيَارَةِ الْكَرِيمِ فِي بَيْتِهِ.

فَإِنَّ الْحَجِيجَ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ؛ لِيَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَلِيُطَهِّرَهُمْ مِنْ عُيُوبِهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْفِرُونَ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يَبِيتُونَ لَيْلَتَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْفِرُونَ إِلَى مِنًى؛ لِرَجْمِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، ثُمَّ لِتَقْدِيمِ الْهَدْيِ وَالْقُرْبَانِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحَلْقِ الرُّؤُوسِ.

ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ، وَلِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ -فِي طَوَافِ زِيَارَةِ الْكَرِيمِ فِي بَيْتِهِ- وَحُقَّ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ طَهَّرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَأْهلِينَ مُؤَهَّلِينَ لِزِيَارَةِ بَيْتِ اللهِ الْعَظِيمِ، وَلِلطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَلِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.

فَهَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ الْقَرِّ)) ؛ وَهُوَ الْحَادِي عَشَرَ، وَفِيهِ يَقَرُّ الْحَجِيجُ، يَسْكُنُونَ بِمِنًى بَعْدَ أَنْ أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ لِمَنْ تَعَجَّلَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ لِمَنْ تَأَخَّرَ، وَهِيَ ((أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-)) ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((مَعَالِمُ مِنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَجَّ فِي الْإِسْلَامِ حَجَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.

وَقَدْ عَلَّلَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- ذَلِكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَلَاعَبُونَ بِالشُّهُورِ، وَكَانَ النَّسَأَةُ يُؤَخِّرُونَ وَيُقَدِّمُونَ؛ فَاخْتَلَّ مِيزَانُ السَّنَةِ عَمَّا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((إِنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ وَقَعَتْ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ)).

فَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَشَهِدَ الْمَوْسِمَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَأَخْبَرَ: ((أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)) .

وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَعَادَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْدَلَ أَحْوَالِهَا كَمَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ زَمَانَ التَّلَاعُبِ بِالْأَشْهُرِ قَدْ مَضَى وَلَنْ يَعُودَ.

وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ -وَكَانُوا قَدْ وَرِثُوا مِنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْحَجَّ- فَكَانُوا يَحُجُّونَ وَمَنْ حَجَّ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِتَلْبِيَتِهِمُ الشِّرْكِيَّةِ؛ لَيَلْغَطُوا بِذَلِكَ وَيُغَالِطُوا الْمُسْلِمِينَ فِي تَلْبِيَتِهِمُ التَّوْحِيدِيَّةِ: ((لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ))، فَكَانُوا يَقُولُونَ: ((لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ مَلَكْتَهُ وَمَا مَلَكَ!!)) .

وَأَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ((سُّورَةَ بَرَاءَة)) وَفِيهَا بَرَاءَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَلَمَّا مَضَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ وَتَوَجَّهَ بِالنَّاسِ إِلَى مَكَّةَ، أَتْبَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا لَحِقَ عَلِيٌّ بِأَبِي بَكْرٍ، قَالَ لَهُ الصِّدِّيقُ: أَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ؟

قَالَ: بَلْ مَأْمُورٌ، وَأَعْلَنَ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ الْمَوْسِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ؛ لِأَنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً كَمَا وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ، وَيَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي ثِيَابٍ ظَلَمْنَا فِيهَا أَحَدًا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُحِبُّ ذَلِكَ!!

وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَارِيًا؛ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَأَعْلَنَ فِي النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ: ((أَلَّا يَدْخُلَنَّ الْمَسْجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ)).

وَأَتَمَّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ، فَحَافَظَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ، وَلَمْ يَخْفِرْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأَمْضَى أَمْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْمُشْرِكِينَ، وَخَلَصَ الْبَيْتُ لِأَهْلِهِ، لِلْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ.

النَّبِيُّ ﷺ حَجَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَأَعْلَنَ فِي النَّاسِ أَنِّي حَاجٌّ؛ فَتَوَافَدَ النَّاسُ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِيَأْتَمُّوا بِهِ فِي الْمَوْسِمِ، وَلِيَتَعَلُّمُوا مِنْهُ الْمَنَاسِكَ ﷺ .

وَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ -وَكَانَ قَارِنًا-، فَاعْتَمَرَ ﷺ.

ثُمَّ إِنَّهُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ تَحَرَّكَ النَّبِيُّ ﷺ مُتَوَجِّهًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى (مِنًى)، فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَصَلَاةَ الصُّبْحِ، فِي كُلِّ ذَلِكَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَيَقْصُرُ الرُّبَاعِيَّةَ.

وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ -وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ- تَحَرَّكَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى ((وَادِي عُرَنَةَ))، وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ يُكَبِّرُ رَبَّهُ، وَيُعَظِّمُهُ، وَيُهَلِّلُهُ، وَيَدْعُوهُ، وَيَسْتَغْفِرُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ ﷺ خَطَبَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ خُطْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَكُلُّ خُطَبِهِ عَظِيمَةٍ.

ثُمَّ صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ عَرَفَةَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَصَلَاةَ الْعَصْرِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ يَقْصُرُ فِي الصَّلَاتَيْنِ، ثُمَّ دَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ إِلَى الصَّخْرَاتِ، فَجَعَلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- دَاعِيًا إِلَى أَنْ سَقَطَ الْقُرْصُ، ثُمَّ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ وَقَدْ أَرْدَفَ خَلْفَهُ ﷺ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

ثُمَّ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ يَمُدُّهَا يَقُولُ: ((السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ))، ((السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ)).

فَلَمَّا نَزَلَ الْمُزْدَلِفَةَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا مَعَ التَّأْخِيرِ وَقَصْرِ الْعِشَاءِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ، ثُمَّ قَامَ ﷺ لَمَّا دَنَا الْفَجْرُ، فَصَلَّى الصُّبْحَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ إِنَّهُ ﷺ تَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَدَعَا رَبَّهُ دُعَاءً طَوِيلًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا.

ثُمَّ أَرْدَفَ خَلْفَهُ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَدَفَعَ ﷺ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِلَى مِنًى، فَمَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِـ ((وَادِي مُحَسِّرٍ))، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي ((وَادِي مُحَسِّرٍ)) حَرَّكَ نَاقَتَهُ -يَعْنِي: أَسْرَعَ بِهَا-.

وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا مَرَّ بِمَكَانِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَهْلَكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ فِي ((وَادِي مُحَسِّرٍ))، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الطَّيْرَ الْأَبَابِيلَ؛ فَأَهْلَكَتْهُمْ شَرَّ مَهْلِكٍ، وَلَكِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ لَمْ يُصِبْهُمُ الْعَذَابُ وَالْهَلَاكُ وَالْإِهْلَاكُ بِـ ((وَادِي مُحَسِّرٍ)) وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي ((الْمُغَمَّسِ)).

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا مَرَّ بِدِيَارِ ثَمُودَ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْإِسْرَاعِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَعَذَّبَهُمْ، «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» .

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا ذَهَبُوا إِلَى هَذَا الْوَادِي -وَهُوَ وَادِي مُحَسِّرٍ- قَامُوا هُنَالِكَ يَتَفَاخَرُونَ بِآبَائِهِمْ.

ثُمَّ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ؛ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ نَحَرَ هَدْيَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى مَكَّةَ ﷺ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مِنًى فَبَقِيَ فِيهَا ﷺ أَيَّامَ مِنَى -وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ-.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ)) .

((وَصَايَا عَظِيمَةٌ فِي خُطَبِ حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ))

النَّبِيُّ ﷺ تَعَدَّدَتْ خُطَبُهُ فِي حَجِّةِ الْوَدَاعِ؛ فَخَطَبَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ خُطْبَتَهُ الْعَظِيمَةَ الْمَشْهُورَةَ، وَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَأَعَادَ بَعْضًا مِمَّا قَالَهُ فِي خُطْبَتِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ النَّفْر وَهُوَ أَوْسَطُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْلَمُ أَنَّ فِرَاقَهُمْ قَدْ دَنَا، وَأَنَّ لِقَاءَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ حَانَ؛ لِذَلِكَ قَالَ ﷺ فِي خُطْبَتِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ».

ثُمَّ اسْتَنْصَتَ النَّاسَ، وَكَانَ حَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ مِمَّنْ شَهِدَ مَعَهُ الْمَوْسِمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ (مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةً وَعُشْرُونَ أَلْفًا أَوْ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا) -عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ- كُلُّهُمْ مُوَحِّدٌ شَهِدَ الْمَوْسِمَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِيُؤَدِّيَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَلِيَتَعَلَّمَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْلَمُ دُنُوَّ أَجَلِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُبْلِغَ لَهُمْ فِي النَّصِيحَةِ.

وَفَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ فَخَطَبَهُمْ خُطْبَتَهُ الْجَامِعَةَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ -وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ- أَنْزَلَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَفِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ كَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ».

النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ الْعَظِيمَةِ -وَهِيَ حَجَّتُهُ الْمُنْفَرِدَةُ الْفَرِيدَةُ الَّتِي لَمْ يَحُجَّ غَيْرَهَا ﷺ- كَانَ يُوَدِّعُ النَّاسَ فَوَصَّاهُمْ وَأَبْلَغَ لَهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ، وَوَعَظَهُمْ، وَأَعْظَمَ لَهُمْ فِي الْمَوْعِظَةِ، وَآتَاهُمْ بِأُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ مُرَكَّزَةً مُصَفَّاةً فِي نِقَاطِ حَدَّدَهَا ﷺ.

وَصَّى النَّبِيُّ ﷺ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((أَلَا إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا؛ كِتَابَ اللهِ)) .

فَمَنْ رَجَعَ إِلَى كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَجَدَ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورَ وَاسْتَقَامَتْ أَقْدَامُهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

فِي خُطَبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ أَعْلَنَ ﷺ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا أَبَدِيًّا، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)) .

فَهُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، لَا يَحِلُّ أَبَدًا لِمُسْلِمٍ دَمُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ أَنْ يَجْرَحَهُ أَوْ يَقْطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، أَوْ أَنْ يُرِيقَ دَمَهُ، إِلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.

إِنَّ نَبِيَّنَا ﷺ قَدْ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ الْجَامِعَةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا شَيْءٌ وَاحِدٌ، قَلْبٌ يَنْبِضُ فِي أَجْسَادٍ شَتَّى.

بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْعَظِيمَ قَدْ وَحَّدَ الْمُسْلِمِينَ بِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ.

النَّبِيُّ ﷺ فِي فِقْرَةٍ مِنْ فِقْرَاتِ خُطْبَةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)) .

((لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا عَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)) .

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ -وَهِيَ دُوَيْبَةٌ كَالْخُنْفَسَاءِ- الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ» .

فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْعَلُهُمْ سَوَاسِيَةً كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَلَكِنَّ الْقُدُرَاتِ وَمَا أَعْطَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّاسِ مِنَ الْعَطِيَّاتِ.

فَذَلِكَ شَيْءٌ يَرْفَعِ اللهُ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ فَوْقَ بَعْضٍ؛ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتُّقَى، مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى، مِمَّا آتَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ النَّاسِ مِنْ عَظِيمِ الْخِلَالِ وَمَوْفُورِ الصِّفَاتِ.

عِبَادَ اللهِ! فِي مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ تَوْحِيدِ الْأُمَّةِ لَا تَجِدُهُ إِلَّا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ؛ بِزِيٍّ وَاحِدٍ تَعَبُّدًا لِرَبٍّ وَاحِدٍ، وَاتِّبَاعًا لِرَسُولٍ وَاحِدٍ لِكِتَابٍ وَاحِدٍ، وَوِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْبَلْدَةُ.. هِيَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ، وَكَعْبَةٌ بِقِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ.

كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ تَوْحِيدِ الْأُمَّةِ.

لَا يَخْدَعَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ.

((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ -أَيْ يَئِسَ عَلَى الْإِقْلَابِ الْمَكَانِيِّ- إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)) .

فَكُفُّوا تَحْرِيشَ الشَّيْطَانِ عَنْكُمْ!

تَوَادُّوا، تَنَاصَحُوا؛ فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ لَوْ عَلِمَهُ أَهْلُهُ، وَاللَّهِ لَكَانُوا أَسْعَدَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانُوا فِي قِلَّةٍ؛ وَإِنْ كَانُوا فِي عُدْمٍ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَجِدُونَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَالصَّحَابَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا مُقِلِّينَ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَنَامُ عَلَى الْحَصِيرِ يُؤَثِّرُ فِي جَنْبِهِ .

كَانَ ﷺ لَوْ أَرَادَ الْمُلْكَ قَادِرًا عَلَيْهِ مُعْطًى إِيَّاهُ؛ وَلَكِنْ رَدَّهُ ﷺ؛ وَفَضَّلَ أَنْ يَعِيشَ عَبْدًا نَبِيًّا؛ فَكَانَ سَيِّدًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يَعِيشُ لِنَفْسِهِ قَدْ يَعِيشُ مُسْتَرِيحًا وَلَكِنَّهُ يَعِيشُ صَغِيرًا، وَيَمُوتُ صَغِيرًا.

وَالَّذِي يَعِيشُ لِدِينِهِ يَعِيشُ لِآخِرَتِهِ؛ يَعِيشُ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِرْشَادِ الضَّالِّينَ وَهِدَايَةِ الْحَائِرِينَ يَعِيشُ كَبِيرًا وَيَمُوتُ كَبِيرًا، وَيُسَمَّى فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ كَبِيرًا رَبَّانِيًا.

 ((فَرْحَةُ عِيدٍ وَأُمَّةٌ مَكْلُومَةٌ!!))

وَالْيَوْمَ يَعُودُ عَلَيْنَا هَذَا الْعِيدُ فِي يَوْمٍ هُوَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ هَذَا هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَقَعُ فِيهِ كُبْرَيَاتُ أَعْمَالِ الْحَجِّ، فَفِي هَذَا الْيَوْمِ رَجْمُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، وَفِيهِ نَحْرُ الْهَدْيِ، وَفِيهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَفِيهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَهَذِهِ أَكْبَرُ أَعْمَالِ الْحَجِّ.

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي بِهَا مَجْمُوعَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ، فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ أَيَّامِ الْعَامِ.

لَا يَعُودُ الْعِيدُ عَلَى أُمَّةِ الْإِسْلَامِ وَفِيهَا فَرْحَةٌ تَنْبِضُ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْلَقُ عَلَى الْحُدُودِ مَعَ الدُّوَلِ الْكَافِرَةِ بَعْدَمَا يَخْتَارُونَ رِحْلَاتِ الْمَوْتِ، تَأْخُذُهُمُ الْأَمْوَاجُ حَتَّى يَلْتَهِمَهُمُ الْيَمُّ، وَمَنْ نَجَا مِنْهُمْ مِنَ الْمَوْتِ غَرَقًا؛ تَمَنَّى الْمَوْتَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ حَرَقًا؛ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ مِنَ الْعَنَتِ الْعَانِتِ، وَمِنَ الْمَشَقَّةِ الشَّاقَّةِ، وَمِنَ الْجَهْدِ الْجَاهِدِ مَا لَا تَتَحَمَّلُهُ الْجِبَالُ!!

وَطَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ فِي غَيِّهَا سَادِرَةٌ قَدْ أَدَّتْ إِلَى هَذَا الْوَضْعِ الْعَجِيبِ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مَا زَالَتْ تَتَوَاعَدُ، وَتَتَعَاهَدُ، وَتَتَعَاقَدُ عَلَى إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَتَشْرِيدِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةِ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمَاتِ الْحَرَائِرِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ فِي أَرْضِ سُورِيَّا الَّتِي لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ.

((سُنَنٌ عَظِيمَةٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْعِيدِ مِمَّا هُوَ خَاصٌّ بِهِ وَهُوَ الْأُضْحِيَّةُ، وَبَيَّنَ لَنَا ﷺ شُرُوطَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُضَحِّي، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ التَّضْحِيَةِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِالْأُضْحِيَّةِ فِي سِنِّهَا وَخُلُوِّهَا مِنَ الْعُيُوبِ.

فَهَذَا الَّذِي يُذْبَحُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ هُوَ الْأُضْحِيَّةُ، يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّهَا -كَمَا بَيَّنَ الْقُرْآنُ- إِنَّمَا تَكُونُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِنْ ضَأْنِهَا وَمَعْزِهَا.

وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ سِنَّهَا، فَالْإِبِلُ مَا بَلَغَ خَمْسَ سِنِينَ، وَالْبَقَرُ مَا بَلَغَ سَنَتَيْنِ، وَأَمَّا الْغَنَمُ: فَالْمَعْزُ مَا بَلَغَ سَنَةً، وَأَمَّا الضَّأْنُ فَمَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، لَا يُجْزِئُ مَا دُونَ ذَلِكَ .

وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ؛ مِنَ الْعَوَرِ الْبَيِّنِ، وَمِنَ الْعَرَجِ الْبَيِّنِ، وَمِنَ الْمَرَضِ الْبَيِّنِ، وَمِنَ الْعَجَفِ الَّذِي لَا يُنْقِي كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ .

فَلَا تُجْزِئُ أُضْحِيَّةٌ فِيهَا عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ، فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهَا مِنَ الْعَمَى وَالْكُسَاحِ وَمَا أَشْبَهَ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَا تَقَدَّمَ بِهَا لِرَبِّهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي بَيَّنَهُ الرَّسُولُ ﷺ .

عِبَادَ اللهِ! تَكْبِيرُ هَذَا الْعِيدِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَقِبِ الصَّلَاةِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، تَكْبِيرٌ بِعَقِبِ الصَّلَوَاتِ وَتَكْبِيرٌ مُطْلَقٌ، تَكْبِيرٌ مُطْلَقٌ فِي الشَّوَارِعِ، فِي الْبُيُوتِ، فِي الْأَسْوَاقِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ يُكَبِّرُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ))

أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: ((لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ -يَعْنِي: أَيَّامَ التَّشْرِيقِ-؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ: هِيَ الْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ، هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ.

وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي الْأَمْرِ بِعَدَمِ صِيَامِهَا أَنَّ الْمَزُورَ الْكَرِيمَ لَا يُجِيعُ أَضْيَافَهُ، وَالْحَجِيجُ ضُيُوفُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَنْهَى الْحَجِيجَ وَكَذَلِكَ سَائِرَ الْأُمَّةِ عَنْ صِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيَتَوَجَّهُ هَذَا إِلَى الْحَجِيجِ: ((لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَصَلَاةٍ)).

سُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ بِـ(أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) لِسَبَبَيْنِ:

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُجَّاجَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ يَبْدَءُونَ بَعْدَ أَنْ يُفِيضُوا مِنَ (الْمُزْدَلِفَةِ) بَعْدَ أَنْ يُسْفِرَ النَّهَارُ جِدًّا فَيُفِيضُونَ إِلَى (مِنَى) مِنْ أَجْلِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْحَرُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ.. فَيَكُونُ النَّحْرُ مَعَ الشُّرُوقِ، فَسُمِّيَتْ بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِهَذَا.

السَّبَبُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِـ(أَيَّامِ التَّشْرِيقِ)؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ذَبَحُوا الْهَدَايَا أَخَذُوا اللَّحْمَ فَعَلَّقُوهُ فِي مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ تُشْرِقُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ، فَهُوَ تَشْرِيقٌ لِلَّحْمِ؛ مِنْ أَجْلِ تَجْفِيفِهِ، وَهِيَ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ الْحِفْظِ لِلْأَغْذِيَةِ.. التَّجْفِيفُ.

فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ لِأَجْلِ تَشْرِيقِ اللَّحْمِ وَتَجْفِيفِهِ مِنْ أَجْلِ حِفْظِهِ.. سُمِّيَتْ بِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)).

((يَوْمُ الْقَرِّ)): هُوَ الْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ.. الْيَوْمُ الثَّانِي لِيَوْمِ النَّحْرِ.. الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْقَرِّ، الْحُجَّاجُ يَقَرُّونَ فِي (مِنَى) ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ذَلِكَ لِمَنْ تَأَخَّرَ؛ فَلِمَاذَا سُمِّيَ الْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَحْدَهُ بِيَوْمِ الْقَرِّ؟

الْحُجَّاجُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ يَأْتُونَ بِمُعْظَمِ الْمَنَاسِكِ؛ فَإِنَّهُمْ يُفِيضُونَ مِنَ (الْمُزْدَلِفَةِ) مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِلَى (مِنَى) يَرْجُمُونَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، ثُمَّ يَنْحَرُونَ الْهَدَايَا، ثُمَّ يَحْلِقُونَ رُؤُوسَهُمْ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ أَجْلِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى (مِنَى) فَيَقَرُّونَ فِيهَا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ فِي لَيْلَةِ الْحَادِي عَشَرَ يَقَرُّونَ فِي الْيَوْمِ الْحَادِي عَشَرَ.

سُمِّيَ بِيَوْمِ الْقَرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْرَ فِيهِ، لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَكَرَ هَذِهِ الْأَيَّامَ -أَيَّامَ التَّشْرِيقِ- فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ} [البقرة: 203].

فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ يَجُوزُ لِلْحَاجِّ إِذَا مَا كَانَ الزَّوَالُ أَنْ يَرْجُمَ الْجَمْرَاتِ الثَّلَاثَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ مِنْ مِنَى، يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ يَطُوفُ طَوَافَ الْوَدَاعِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ إِلَى أَهْلِهِ، أَوْ يَذْهَبُ إِلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ؛ لِأَنَّ الْمَنَاسِكَ بِذَلِكَ قَدِ انْتَهَتْ، وَإِذَا تَأَخَّرَ فَإِنَّهُ يَبْقَى الْيَوْمَ الثَّانِي عَشَرَ، وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَرْجُمُ ثُمَّ يَذْهَبُ، فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ}.

أَمَّا الْيَوْمُ الْحَادِي عَشَرَ فَلَا نَفْرَ فِيهِ؛ فَهُوَ يَوْمُ الْقَرِّ.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمُ النَّحْرِ -وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ يَوْمُ الْعِيدِ- ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ)).

هَذِهِ الْأَيَّامُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

وَهَذَا الذِّكْرُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْقَوْلِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ.. هَذَا الذِّكْرُ يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ ذِكْرٌ مُقَيَّدٌ، وَهُوَ ذِكْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ وَتَحْمِيدِهِ بِعَقِبِ الصَّلَوَاتِ؛ فَهَذَا ذِكْرٌ مُقَيَّدٌ.. مُقَيَّدٌ بِالصَّلَوَاتِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّلَوَاتُ فَرْضًا أَمْ كَانَتْ نَافِلَةً، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ الْمُقَيَّدَ إِنَّمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْفَرَائِضِ، فَهَذَا ذِكْرٌ مُقَيَّدٌ، بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُكَبِّرُهُ وَيُهَلِّلُهُ وَيَحْمَدُهُ.

وَالذِّكْرُ الْمُطْلَقُ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، يَكُونُ فِي الطُّرُقَاتِ، يَكُونُ فِي الْمَحَالِّ، يَكُونُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، يَذْكُرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].

فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَذْكُرَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ إِذَا مَا فَرَغَ الْحَجِيجُ مِنْ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ يَأْمُرُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالذِّكْرِ.

وَكَذَلِكَ شَرَعَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نَذْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ذِكْرًا مُقَيَّدًا بِعَقِبِ الصَّلَوَاتِ؛ وَهُوَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَالذِّكْرُ الْمُقَيَّدُ بِعَقِبِ الصَّلَوَاتِ يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَنْتَهِي بِصَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ إِنَّمَا يَبْدَأُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِذَلِكَ كَانَ آخِرُ الذِّكْرِ الْمُقَيَّدِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ لَكَانَ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ إِنَّمَا تَلْحَقُ بِيَوْمِهَا؛ بِمَعْنَى: أَنَّنَا فِي رَمَضَانَ إِذَا مَا ثَبَتَتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ أَوْ أَتْمَمْنَا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِشَعْبَانَ فَقَدْ دَخَلَ رَمَضَانُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، فَنَقُومُ لِنُصَلِّيَ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ، هَذَا رَمَضَانُ.

فَإِذَنِ؛ الْيَوْمُ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا يَبْدَأُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِذَلِكَ كَانَ التَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مُنْتَهِيًا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَهُوَ رَابِعُ أَيَّامِ الْعِيدِ.

هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّكْرِ الْمُقَيَّدِ.

الذِّكْرُ الْمُطْلَقُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ.

شَيْءٌ آخَرُ: أَنَّ أَيَّامَ الذَّبْحِ تَمْتَدُّ -أَيْضًا- مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ؛ يَعْنِي: لَا تَنْتَهِي مَعَ الذِّكْرِ الْمُقَيَّدِ، وَإِنَّمَا لَكَ أَنْ تَذْبَحَ الْأُضْحِيَّةَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَنْتَظِرَ حَتَّى تَسْمَعَ الْخُطْبَةَ، ثُمَّ تَشْرَعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ الْقُرْبَانِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، تَذْبَحُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَفِي الْيَوْمِ الْحَادِي عَشَرَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.

فَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ كُلُّهَا مَنْحَرٌ يَذْبَحُ فِيهَا الْإِنْسَانُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ.

الذَّبْحُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبْحِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَالثَّانِي خَيْرٌ مِنَ الثَّالِثِ؛ لِلتَّعْجِيلِ بِالطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَضْمَنُ حَيَاتَهُ.

وَالذَّبْحُ بِالنَّهَارِ خَيْرٌ مِنَ الذَّبْحِ بِاللَّيْلِ، حَتَّى إِنَّ الْإِمَامَ يَذْبَحُ فِي الْمُصَلَّى كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الرَّسُولُ ﷺ.

هَذِهِ الْأَيَّامُ الْعَظِيمَةُ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فِيهَا خَيْرُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ وَهُوَ الْحَادِي عَشَرَ، فَعَلَيْنَا أَلَّا نَظْلِمَ فِيهَا أَنْفُسَنَا، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِيهَا فِي الذِّكْرِ وَفِي الدُّعَاءِ وَفِي التَّقَرُّبِ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُذِيبَ قَسْوَةَ قُلُوبِنَا، لِأَنَّ فِي الْقُلُوبِ قَسَاوَةً لَا تُذِيبُهَا إِلَّا الْأَذْكَارُ، فِي الْقَلْبِ قَسْوَةٌ لَا يُذِيبُ هَذِهِ الْقَسْوَةَ سِوَى ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالَّذِي لَا يُدْمِنُ الذِّكْرَ لَا يَضْمَنُ أَلَّا يَقْسُوَ قَلْبُهُ، {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].

فَذِكْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَعْظَمُ مَا يُعِينُ عَلَى خُشُوعِ الْقَلْبِ وَتَوَجُّهِهِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذِكْرِهِ ذِكْرًا كَثِيرًا، فَأَمَرَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَبِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ: صَلُّوا كَثِيرًا، وَلَا: زَكُّوا كَثِيرًا، وَلَا: صُومُوا كَثِيرًا، وَلَكِنْ فِي ذِكْرِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَالَ: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42].

فَأَمَرَ بِإِكْثَارِ الذِّكْرِ، ((وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ)).

{يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].

هَؤُلَاءِ هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى فَهْمِ مَا يَنْفَعُهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَتَحْصِيلِ مَا بِهِ سَعَادَتُهُمْ وَنَجَاتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَهُمْ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ.

حَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَامَ عَلَى الْهَيْئَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ لَهُ هَيْئَةٌ نَبَوِيَّةٌ، كُلُّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى قَضَاءِ الْحَاجَةِ لَهُ هَيْئَةٌ نَبَوِيَّةٌ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ، فَالْمَرْءُ لَا يَكْشِفُ عَنْ سَوْءَتِهِ وَعَوْرَتِهِ إِلَّا عِنْدَ قُرْبِهِ مِنَ الْأَرْضِ؛ حَيَاءً مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُخَمِّرُ رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ حَيَاءً مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى، وَيَرْفَعُ عَقِبَ قَدَمِهِ الْيُمْنَى، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَحْشَاءُ مُنْصَبَّةً إِلَى جِهَةِ الْيَسَارِ، وَفِيهَا الْقَوْلُونُ الْحَوْضِيُّ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُدْفَعُ الْفَضَلَاتُ، وَهَذَا مُسَاعِدٌ جِدًّا عَلَى دَفْعِهَا وَتَسْهِيلِ قَضَاءِ ذَلِكَ -بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا--.

((كَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ يَقُولُ: يَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ لَوْ قَدَرَهَا النَّاسُ قَدْرَهَا))؛ مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ!

فَذِكْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ النَّوْمِ؛ يَنَامُ عَلَى وُضُوءٍ، يَنَامُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فِي بَدْءِ النَّوْمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا حَرَجَ أَنْ يَنَامَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، أَنْ يَنَامَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَلَكِنْ لَا يَنَامُ عَلَى بَطْنِهِ؛ فَإِنَّهَا نَوْمَةٌ يَكْرَهُهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَنَهَى عَنْهَا الرَّسُولُ ﷺ.

يَضَعُ رَاحَتَهُ الْيُمْنَى -كَفَّهُ- تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، يَأْتِي بِالْأَذْكَارِ -أَذْكَارِ النَّوْمِ-، فَإِذَا أَخَذَ النَّوْمُ بِمَعَاقِدِ عَيْنَيْهِ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ كَانَ مَا بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ ذِكْرًا مَكْتُوبًا لَهُ فِي صَحِيفَةِ حَسَنَاتِهِ وَمَحْسُوبًا لَهُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، لَا يَتَعَاظَمُهُ عَطَاءٌ.

يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَمَّا تَتَمَتَّعُ بِهِ مِنَ الْأَكْلِ وَمِنَ الشُّرْبِ يَقُولُ: ((إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا)).

وَيَكُونُ الْأَكْلُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

هَذِهِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَزِمَ الْمَنْهَجَ النَّبَوِيَّ، وَأَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَعْمَارِنَا؛ فَإِنَّ الْأَيَّامَ تَمُرُّ.. لَا أَقُولُ مَرَّ السَّحَابِ، فَهَذَا بَطِيءٌ، وَلَكِنَّهَا كَلَمْعِ الْبَرْقِ، الْعُمُرُ يَنْقَضِي، وَقِسْ مَا هُوَ آتٍ عَلَى مَا مَضَى!

مِنَّا مَنْ عَاشَ فَوْقَ النِّصْفِ قَرْنٍ، وَمِنَّا مَنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ أَوْ عَقْدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ عُقُودٍ، فَيَكُونُ فِي أَوَّلِ عَقْدِ التِّسْعِينَ الْعَقْدِ التَّاسِعِ مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ فِي الثَّمَانِينَ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ، قِسْ هَذَا الَّذِي مَرَّ؛ لِأَنَّكَ لَوْ سُئِلْتَ عَنْهُ لَقُلْتَ: إِنَّمَا مَرَّ عَلَيَّ كَغَمْضِ الْعَيْنِ، أَوْ رَفْعِ الْجَفْنِ، لَقَدْ مَرَّ سَرِيعًا، فَقِسْ مَا أَتَى وَلَنْ يَكُونَ كَمَا مَضَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ)).

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ وَضَعَ لَنَا حُدُودًا لِكُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ مِنْ قِبَلِ مَنْ يَعْبُدُهُ.. لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ مِنْ قِبَلِ سَيِّدِهِ، لَيْسَ حُرًّا يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، فَالسَّيِّدُ.. فَالْمَعْبُودُ.. فَالْإِلَهُ الْحَقُّ وَضَعَ فِي هَذَا الدِّينِ حُدُودًا لِكُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي الْفَرَحِ، الْفَرَحُ لَا يَكُونُ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا طُغْيَانًا وَلَا مَعْصِيَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نُزِعَتِ الْبَرَكَةُ، وَلَا تَأْتِي الْبَرَكَةُ إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ.

وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النُّصُوصِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ مِنْهَا: قَوْلُ الرَّسُولِ: ((مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)).

اجْعَلْ هَذَا الْقَانُونَ مِنْكَ دَائِمًا عَلَى ذُكْرٍ.. مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْخَيْرِ، مِنَ الْفَضْلِ، مِنَ الْغِنَى، مِنَ السَّتْرِ، مِنْ نَجَابَةِ الذُّرِّيَّةِ، مِنَ الْحِفْظِ وَالْكَلَاءَةِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، فِي التَّوْفِيقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَفِي الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((مَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ)).

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْفَى رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ، كَمَا أَخْفَى سَخَطَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَالْعَبْدُ رُبَّمَا أَذْنَبَ ذَنْبًا وَاحِدًا سَقَطَ بِهِ مِنْ عَيْنِ اللهِ.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا..)).

 وَفِي رِوَايَةٍ: ((يُضْحِكُ بِهَا جُلَسَاءَهُ))، كَمَا يَقُولُ السُّفَهَاءُ: إِنَّ الْقَافِيَةَ قَدْ حَبَكَتْ!

فَرُبَّمَا أَتَى بِالْكَلِمَةِ.. يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ -تَعَالَى- لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا إِلَى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)).

وَفِي الْمُقَابِلِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ))، يُدْخِلُهُ اللهُ بِهَا الْجَنَّةَ.

((لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا))، فَإِيَّاكَ أَنْ تَحْتَقِرَ ذَنْبًا، لَا تَنْظُرْ إِلَى حَقَارَةِ الذَّنْبِ، وَإِنَّمَا انْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ أَذْنَبْتَ وَخَرَجْتَ عَلَى قَانُونِهِ وَمِنْهَاجِهِ.

اشْغَلْ نَفْسَكَ بِنَفْسِكَ!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: أَيَّامُ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ
  مصر بين مطامع الأعداء وجحود الأبناء
  أَهَمِّيَّةُ الِاسْتِثْمَارِ فِي حَيَاتِنَا
  دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  شعار الفاتيكان .. النجاسة من الإيمان !!
  الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ لِرَفْعِ الْبَلَاءِ وَوُجُوبُ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْإِيمَانِ وَصِنَاعَةِ الرِّجَالِ
  الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ وَحَتْمِيَّةُ مُوَاجَهَةِ الْفَسَادِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَوَاجِبُنَا تِجَاهَ الْأَقْصَى
  مَفْهُومُ عَهْدِ الْأَمَانِ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان