اسْمُ اللهِ الرَّحِيمُ

اسْمُ اللهِ الرَّحِيمُ

((اسْمُ اللهِ الرَّحِيمُ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَحْمَةُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ))

((فَجَمِيعُ مَا فِيهِ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالسُّفْلِيُّ مِنْ حُصُولِ الْمَنَافِعِ وَالْمَحَابِّ وَالْمَسَارِّ وَالْخَيْرَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَمِنْ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، كَمَا أَنَّ مَا صُرِفَ عَنْهُمْ مِنَ الْمَكَارِهِ وَالنِّقَمِ وَالْمَخَاوِفِ وَالْأَخْطَارِ وَالْمَضَارِّ فَإِنَّهَا مِنْ رَحْمَتِهِ وَبِرِّهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ.

وَرَحْمَتُهُ -تَعَالَى- سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَغَلَبَتْهُ، وَظَهَرَتْ فِي خَلْقِهِ ظُهُورًا لَا يُنْكَرُ، حَتَّى مَلَأَتْ أَقْطَارَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَامْتَلَأَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ حَتَّى حَنَّتِ الْمَخْلُوقَاتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ الَّتِي نَشَرَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَوْدَعَهَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَحَتَّى حَنَّتِ الْبَهَائِمُ -الَّتِي لَا تَرْجُو نَفْعًا وَلَا عَاقِبَةً وَلَا جَزَاءً- عَلَى أَوْلَادِهَا، وَشُوهِدَ مِنْ رَأْفَتِهَا بِهِمْ وَشَفَقَتِهَا الْعَظِيمَةِ مَا يَشْهَدُ بِعِنَايَةِ بَارِيهَا وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، وَعَمَّتْ مَوَاهِبُهُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَسَّرَ لَهُمُ الْمَنَافِعَ وَالْمَعَايِشَ وَالْأَرْزَاقَ، وَرَبَطَهَا بِأَسْبَابٍ مُيَسَّرَةٍ وَطُرُقٍ سَهْلَةٍ؛ فَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.

وَعَلِمَ -تَعَالَى- مِنْ مَصَالِحِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَقَدَّرَ لَهُمْ مِنْهَا مَا لَا يُرِيدُونَ وَمَا لَا يَقْدِرُونَ، وَرُبَّمَا أَجْرَى عَلَيْهِمْ مَكَارِهَ تُوصِلُهُمْ إِلَى مَا يُحِبُّونَ؛ بَلْ رَحِمَهُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ، فَجَعَلَ الْآلَامَ كُلَّهَا خَيْرًا لِلْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ؛ ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ صُهَيْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

وَكَذَلِكَ ظَهَرَتْ رَحْمَتُهُ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ ظُهُورًا تَشْهَدُهُ الْبَصَائِرُ وَالْأَبْصَارُ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ أُولُوا الْأَلْبَابِ، فَشَرْعُهُ نُورٌ وَرَحْمَةٌ وَهِدَايَةٌ، وَقَدْ شَرَعَهُ مُحْتَوِيًا عَلَى الرَّحْمَةِ، وَمُوصِلًا إِلَى أَجَلِّ رَحْمَةٍ وَكَرَامَةٍ وَسَعَادَةٍ وَفَلَاحٍ، وَشَرَعَ فِيهِ مِنَ التَّسْهِيلَاتِ وَالتَّيْسِيرَاتِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّاتِ مَا يَدُلُّ أَكْبَرَ دَلَالَةٍ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ.

وَمَنَاهِيهِ كُلُّهَا رَحْمَةٌ؛ لِأَنَّهَا لِحِفْظِ أَدْيَانِ الْعِبَادِ، وَحِفْظِ عُقُولِهِمْ، وَأَعْرَاضِهِمْ، وَأَبْدَانِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ مِنَ الشُّرُورِ وَالْأَضْرَارِ؛ فَكُلُّ النَّوَاهِي تَعُودُ إِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ.

وَأَيْضًا الْأَوَامِرُ سَهَّلَهَا وَأَعَانَ عَلَيْهَا بِأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، وَأَسْبَابٍ قَدَرِيَّةٍ، وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ.

كَمَا أَنَّ النَّوَاهِيَ جَعَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْعَوَائِقِ وَالْمَوَانِعِ مَا يَحْجِزُ الْعِبَادَ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا إِلَّا مَنْ أَبَى وَشَرَدَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَشَرَعَ -أَيْضًا- مِنَ الرَّوَادِعِ وَالزَّوَاجِرِ وَالْحُدُودِ مَا يَمْنَعُ الْعِبَادَ وَيَحْجِزُهُمْ عَنْهَا، وَيُقَلِّلُ مِنَ الشُّرُورِ شَيْئًا كَثِيرًا.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَشَرْعُهُ وَأَمْرُهُ نَزَلَ بِالرَّحْمَةِ، وَاشْتَمَلَ عَلَى الرَّحْمَةِ، وَأَوْصَلَ إِلَى الرَّحْمَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالسَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ)).

((مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- (الرَّحْمَنُ) وَ(الرَّحِيمُ) ))

قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2-3].

مِنْ أَسْمَائِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (الرَّحْمَنُ) وَ(الرَّحِيمُ).

مَعْنَى اسْمِ اللهِ (الرَّحْمَنِ): ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَاهُ: ((ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الَّتِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِيهَا)).

 وَالَّذِي يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الِاشْتِقَاقِ فِي هَذَا الِاسْمِ: حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي يَحْكِي فِيهِ عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((أَنَا الرَّحْمَنُ، وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ)) يَعْنِي: قَطَعْتُهُ.

فَالرَّحْمَنُ: ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي وَسِعَتِ الْخَلْقَ فِي أَرْزَاقِهِمْ، وَأَسْبَابِ مَعَاشِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، وَعَمَّتِ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَالصَّالِحَ وَالطَّالِحَ، وَالْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ.

فَالرَّحْمَنُ يَعُمُّ الْجَمِيعَ.

وَأَمَّا الرَّحِيمُ فَخَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

وَقَدْ سَمَّى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الرِّزْقَ وَالْمَعَاشَ فِي كِتَابِهِ رَحْمَةً فَقَالَ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32].

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ} [الإسراء: 100].

(الرَّحِيمُ): فَعِيلٌ بِمَعْنَى: فَاعِلٌ، يَعْنِي بِمَعْنَى: رَاحِمٌ، وَبِنَاءُ فَعِيلٍ -أَيْضًا- لِلْمُبَالَغَةِ؛ كَعَالِمٍ وَعَلِيمٍ؛ وَلَكِنَّهَا فِي (رَحْمَنِ) أَشَدُّ مَا تَكُونُ مُبَالَغَةً وَدَلَالَةً عَلَى الِاتِّسَاعِ فِي الرَّحْمَةِ.

(( (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ): اسْمَانِ دَالَّانِ عَلَى أَنَّهُ -تَعَالَى- ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَمَّتْ كُلَّ حَيٍّ، وَكَتَبَهَا لِلْمُتَّقِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمُ الرَّحْمَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَمَنْ عَدَاهُمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْهَا)).

(الرَّحْمَنُ) مَعْنَاهُ: الْمُتَّصِفُ بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ.

وَصِيغَةُ (فَعْلَان) تَدُلُّ عَلَى السَّعَةِ وَالِامْتِلَاءِ؛ كَمَا تَقُولُ: (غَضْبَانُ) لِلَّذِي امْتَلَأَ غَضَبًا, وَ(شَبْعَانُ), وَمَا أَشْبَهَ.

(الرَّحِيمُ): يُطْلَقُ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَلَى غَيْرِهِ, وَمَعْنَاهُ: ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاصِلَةِ.

فَـ(الرَّحْمَنُ): ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ.

وَالرَّحِيمُ: ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاصِلَةِ.

فَإِذَا جُمِعَا صَارَ الْمُرَادُ بِالرَّحِيمِ: الْمُوصِلَ رَحْمَتَهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 21] .

«فَـ(الرَّحْمَنُ): دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ -سُبْحَانَهُ-, وَ(الرَّحِيمُ): دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ».

«فَالْأَوَّلُ لِلْوَصْفِ -(الرَّحْمَنُ) لِلْوَصْفِ-، وَ(الرَّحِيمُ) لِلْفِعْلِ؛ فَالْأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، وَالثَّانِي دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117], وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ: (رَحْمَنٌ)».

لَمْ يَجِئْ قَطُّ: (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحْمَنٌ)، أَوْ (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحْمَانًا)، وَإِنَّمَا جَاءَ: {رَحِيمًا}، وَجَاءَ {رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، «فَعُلِمَ أَنَّ (الرَّحْمَنَ) هُوَ: الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَأَنَّ (الرَّحِيمَ) هُوَ: الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ».

فَالرَّحْمَنُ: الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَالرَّحِيمُ: الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ.

((وَاسْمُهُ -تَعَالَى- (الرَّحْمَنُ) خَاصٌّ بِهِ، لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} [الْإِسْرَاءِ: ١١٠]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: ٤٥])).

 ((مَعْنَى الرَّحْمَةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا))

((الرَّحْمَةُ لُغَةً:

تَدُورُ مَادَّةُ (ر ح م) حَوْلَ مَعْنَى الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ وَالرَّأْفَةِ، يَقُولُ ابْنُ فَارِسٍ: ((الرَّاءُ وَالْحَاءُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ وَالرَّأْفَةِ، يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: رَحِمَهُ يَرْحَمُهُ إِذَا رَقَّ لَهُ وَتَعَطَّفَ عَلَيْهِ، وَالرَّحِمُ وَالْمَرْحَمَةُ وَالرَّحْمَةُ بِمَعْنًى)).

وَيَقُولُ الْجَوْهَرِيُّ: ((الرَّحْمَةُ: الرِّقَّةُ وَالتَّعَطُّفُ، وَالْمَرْحَمَةُ مِثْلُهُ، وَقَدْ رَحِمْتُهُ وَتَرَحَّمْتُ عَلَيْهِ، وَتَرَاحَمَ الْقَوْمُ: رَحِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرَجُلٌ مَرْحُومٌ وَمُرَحَّمٌ شُدِّدَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالرُّحْمُ -بِالضَّمَّةِ-: الرَّحْمَةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: ٨١].

وَالرَّحْمَةُ: الْمَغْفِرَةُ، وَقَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِ الْقُرْآنِ: {هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ٥٢] أَيْ: فَصَّلْنَاهُ هَادِيًا وَذَا رَحْمَةٍ.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: ١٧] أَيْ: أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِرَحْمَةِ الضَّعِيفِ وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِ، وَتَرَحَّمْتُ عَلَيْهِ أَيْ: قُلْتُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ)).

وَتُطْلَقُ الرَّحْمَةُ وَيُرَادُ الرِّزْقُ؛ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ مَنْظُورٍ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ قَوْلَهُ: ((قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها} [الإسراء: ٢٨] أَيْ: رِزْقٍ، {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} [هود: 9] أَيْ: رِزْقًا، {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ} [يونس: ٢١] أَيْ: حَيًّا وَخِصْبًا بَعْدَ مَجَاعَةٍ، وَأَرَادَ بِالنَّاسِ الْكَافِرِينَ.

وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ: دَعَا لَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَاسْتَرْحَمَهُ: سَأَلَهُ الرَّحْمَةَ.

وَسَمَّى اللهُ الْغَيْثَ رَحْمَةً؛ لِأَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَالرَّحَمُوتُ مِنَ الرَّحْمَةِ)).

وَالرَّحِمُ: عَلَاقَةُ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ رَحِمُ الْأُنْثَى رَحِمًا مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ مَا يُرْحَمُ وَيُرَقُّ لَهُ مِنْ وَلَدٍ.

وَمَعْنَى الرَّحْمَةِ اصْطِلَاحًا:

قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((هِيَ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ)).

وَقَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الرَّحْمَةُ: حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ تَعْرِضُ غَالِبًا لِمَنْ بِهِ رِقَّةُ الْقَلْبِ، وَتَكُونُ مَبْدَأَ لِلِانْعِطَافِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْإِحْسَانِ)).

مَعْنَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ((ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ (الرَّحْمَنَ) مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَعْنَاهُ: ذُو الرَّحْمَةِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِيهَا.

ثُمَّ قَالَ: فَالرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلْقِ، وَالرَّحِيمُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: ٤٣])).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الرَّحْمَةُ سَبَبٌ وَاصِلٌ بَيْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَبَيْنَ عِبَادِهِ، بِهَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَبِهَا هَدَاهُمْ، وَبِهَا يُسْكِنُهُمْ دَارَ ثَوَابِهِ، وَبِهَا رَزَقَهُمْ وَعَافَاهُمْ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ سَبَبُ الْعُبُودِيَّةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سَبَبُ الرَّحْمَةِ)).

مِنْ مَعَانِي كَلِمَةِ (الرَّحْمَةِ) فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

لَقَدْ وَرَدَتِ الرَّحْمَةُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَوْجُهٍ؛ مِنْهَا:

-بِمَعْنَى: أَرْزَاقِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوانِ: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} [الإسراء: ١٠٠].

-بِمَعْنَى: قَطَرَاتِ مَاءِ الْغَيْثِ -الْمَطَرِ-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: ٢٨].

-بِمَعْنَى: الْعَافِيَةِ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} [الزمر: ٣٨].

-بِمَعْنَى: النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ النِّيرَانِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: ١٠، ١٤، ٢٠، ٢١) .

-بِمَعْنَى: النُّصْرَةِ عَلَى أَهْلِ الْعُدْوَانِ: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: ١٧].

-بِمَعْنَى: الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: ٢٧].

-بِمَعْنَى وَصْفِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 12].

-بِمَعْنَى: صِفَةِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: ٥٤])).

((اسْمَا اللهِ (الرَّحْمَنُ) وَ(الرَّحِيمُ) فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ وَرَدَ اسْمُ اللهِ (الرَّحْمَنُ) فِي كِتَابِ اللهِ سَبْعًا وَخَمْسِينَ مَرَّةً، وَمِنْ وُرُودِهِ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: ٨٥].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: ٣٣].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: ٢٩].

وَوَرَدَ اسْمُ اللهِ (الرَّحِيمُ) فِي كِتَابِ اللهِ مِائَةً وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَمِنْ وُرُودِهِ:

قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: ٤٩]

وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: ٢١٧]

وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: ٣٤].

وَقَدْ وَرَدَ اسْمَا اللهِ (الرَّحْمَنُ) وَ(الرَّحِيمُ) فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ التَّمِيمِيِّ -وَكَانَ كَبِيرًا-: ((أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَةَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟)).

فَقَالَ: ((إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَحَدَّرَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ بِيَدِهِ شُعْلَةُ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! قُلْ)). قَالَ: ((مَا أَقُولُ؟)).

قَالَ: قُلْ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ)).

قَالَ: ((فَطُفِئَتْ نَارُهُمْ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- )). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي اسْمًا، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الخَيْلُ ثَلَاثَةٌ؛ فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ: فَالَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ -وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللهُ-، وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ: فَالَّذِي يُقَامَرُ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الإِنْسَانِ: فَالفَرَسُ يَرْتَبِطُهَا الإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا، فَهِيَ تَسْتُرُ مِنْ فَقْرٍ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: ((عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي)).

قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ؛ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، وَهُوَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).

قَالَ: فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ -ثَلَاثَ مِرَارٍ-». أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

((دَلَالَةُ اقْتِرَانِ اسْمِ اللهِ (الرَّحِيمِ) بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى))

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّ اسْمَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (الرَّحِيمَ) جَاءَ مُقْتَرِنًا بِاسْمِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (التَّوَّابِ) وَ(الْغَفُورِ)؛ دَلَالَةً عَلَى سَعَةِ أَبْوَابِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَقَبُولِهِ لِلتَّائِبِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160].

(({إِلا الَّذِينَ تَابُوا} أَيْ: رَجَعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ؛ نَدَمًا، وَإِقْلَاعًا،  وَعَزْمًا عَلَى عَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ، وَأَصْلَحُوا مَا فَسَدَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَلَا يَكْفِي تَرْكُ الْقَبِيحِ حَتَّى يَحْصُلَ فِعْلُ الْحَسَنِ، وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي الْكَاتِمِ -أَيْضًا- حَتَّى يُبَيِّنَ مَا كَتَمَهُ، وَيُبْدِيَ ضِدَّ مَا أَخْفَى، فَهَذَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ غَيْرُ مَحْجُوبٍ عَنْهَا، فَمَنْ أَتَى بِسَبَبِ التَّوْبَةِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ التَّوَّابُ، أَيِ: الرَّجَّاعُ عَلَى عِبَادِهِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ بَعْدَ الذَّنْبِ إِذَا تَابُوا، وَبِالْإِحْسَانِ وَالنِّعَمِ بَعْدَ الْمَنْعِ إِذَا رَجَعُوا، الرَّحِيمُ الَّذِي اتَّصَفَ بِالرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَتَابُوا وَأَنَابُوا، ثُمَّ رَحِمَهُمْ بِأَنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لُطْفًا وَكَرَمًا، هَذَا حُكْمُ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].

((دَعَوَا لِأَنْفُسِهِمَا وَذُرِّيَّتِهِمَا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي حَقِيقَتُهُ خُضُوعُ الْقَلْبِ، وَانْقِيَادُهُ لِرَبِّهِ الْمُتَضَمِّنُ لِانْقِيَادِ الْجَوَارِحِ {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أَيْ: عَلِّمْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْإِرَاءَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَنَاسِكِ: أَعْمَالَ الْحَجِّ كُلَّهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَالْمَقَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؛ وَهُوَ الدِّينُ كُلُّهُ، وَالْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ النُّسُكَ: التَّعَبُّدُ؛ وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى مُتَعَبَّدَاتِ الْحَجِّ تَغْلِيبًا عُرْفِيًّا، فَيَكُونُ حَاصِلُ دُعَائِهِمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّوْفِيقِ لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ -مَهْمَا كَانَ- لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِيَهُ التَّقْصِيرُ، وَيَحْتَاجَ إِلَى التَّوْبَةِ قَالَا: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ})).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104].

((أَيْ: أَمَا عَلِمُوا سِعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَعُمُومَ كَرَمِهِ، وَأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ التَّائِبِينَ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ؛ بَلْ يَفْرَحُ -تَعَالَى- بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ إِذَا تَابَ أَعْظَمَ فَرَحٍ يُقَدَّرُ.

وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ مِنْهُمْ، أَيْ: يَقْبَلُهَا، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِهِمْ كَمَا يُرَبِّي الرَّجُلُ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ التَّمْرَةُ الْوَاحِدَةُ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ؛ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟!

{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} أَيْ: كَثِيرُ التَّوْبَةِ عَلَى التَّائِبِينَ، فَمَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ؛ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ مِرَارًا، وَلَا يَمَلُّ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى يَمَلُّوا هُمْ، وَيَأْبَوْا إِلَّا النِّفَارَ وَالشُّرُودَ عَنْ بَابِهِ، وَمُوَالَاتَهُمْ عَدُوَّهُمْ، {الرَّحِيمُ}: الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَتَبَهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ، وَيَتَّبِعُونَ رَسُولَهُ)).

وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].

((هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّهُ النَّافِعُ الضَّارُّ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الَّذِي إِذَا مَسَّ بِضُرٍّ كَفَقْرٍ، وَمَرَضٍ، وَنَحْوِهَا- فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوا بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوا إِلَّا بِمَا كَتَبَهُ اللَّهُ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوا أَحَدًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ضَرَرِهِ إِذَا لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَرُدَّ فَضْلَهُ وَإِحْسَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}.

{يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، {وَهُوَ الْغَفُورُ} لِجَمِيعِ الزَّلَّاتِ، الَّذِي يُوَفِّقُ عَبْدَهُ لِأَسْبَابِ مَغْفِرَتِهِ، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهَا الْعَبْدُ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ كِبَارَهَا وَصِغَارَهَا، {الرَّحِيمُ}: الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَصَلَ جُودُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، بِحَيْثُ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ.

فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالنِّعَمِ، وَكَشْفِ النِّقَمِ، وَإِعْطَاءِ الْحَسَنَاتِ، وَكَشْفِ السَّيِّئَاتِ وَالْكُرُبَاتِ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَيْسَ بِيَدِهِ مِنْ هَذَا شَيْءٌ إِلَّا مَا أَجْرَاهُ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ؛ جَزَمَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ)).

وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49].

(({نَبِّئْ عِبَادِي} أَيْ: أَخْبِرْهُمْ خَبَرًا جَازِمًا مُؤَيَّدًا بِالْأَدِلَّةِ {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ؛ سَعَوْا فِي الْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ لَهُمْ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَأَقْلَعُوا عَنِ الذُّنُوبِ، وَتَابُوا مِنْهَا؛ لِيَنَالُوا مَغْفِرَتَهُ)).

وَيَأْتِي اسْمُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (الرَّحِيمُ) مُقْتَرِنًا بِاسْمِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (الْعَزِيزُ)؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَعْفُو عَنِ الزَّلَّاتِ؛ رَحْمَةً وَتَفَضُّلًا بِعِزَّةٍ وَاقْتِدَارٍ؛ حَيْثُ جَاءَ قَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] تِسْعَ مَرَّاتٍ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَحْدَهَا.

(({وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ مَخْلُوقٍ، وَدَانَ لَهُ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالسُّفْلِيُّ، {الرَّحِيمُ} الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَصَلَ جُودُهُ إِلَى كُلِّ حَيٍّ، الْعَزِيزُ الَّذِي أَهْلَكَ الْأَشْقِيَاءَ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، الرَّحِيمُ بِالسُّعَدَاءِ؛ حَيْثُ أَنْجَاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَبَلَاءٍ)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 5-6].

(({يُدَبِّرُ الأَمْرَ} الْقَدَرِيَّ وَالْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ، الْجَمِيعُ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِتَدْبِيرِهِ، نَازِلَةٌ تِلْكَ التَّدَابِيرُ مِنْ عِنْدِ الْمَلِيكِ الْقَدِيرِ {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ}: فَيُسْعِدُ بِهَا وَيُشْقِي، وَيُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُكْرِمُ وَيُهِينُ، وَيَرْفَعُ أَقْوَامًا وَيَضَعُ آخَرِينَ، وَيُنْزِلُ الْأَرْزَاقَ.

{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أَيِ: الْأَمْرُ يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَيَعْرُجُ إِلَيْهِ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} وَهُوَ يَعْرُجُ إِلَيْهِ وَيَصِلُهُ فِي لَحْظَةٍ.

{ذَلِكَ} الَّذِي خَلَقَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةَ، الَّذِي اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَانْفَرَدَ بِالتَّدَابِيرِ فِي الْمَمْلَكَةِ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: فَبِسِعَةِ عِلْمِهِ، وَكَمَالِ عِزَّتِهِ، وَعُمُومِ رَحْمَتِهِ أَوْجَدَهَا، وَأَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ مَا أَوْدَعَ، وَلَمْ يَعْسُرْ عَلَيْهِ تَدْبِيرُهَا)).

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- عَنِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 1-5].

((هَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- بِالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الَّذِي وَصْفُهُ الْحِكْمَةُ، وَهِيَ: وَضْعُ كُلِّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، وَضْعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْمَحَلِّ اللَّائِقِ بِهِمَا، وَوَضْعُ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِي مَحَلِّهِمَا اللَّائِقِ بِهِمَا؛ فَأَحْكَامُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْجَزَائِيَّةُ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى غَايَةِ الْحِكْمَةِ، وَمِنْ حِكْمَةِ هَذَا الْقُرْآنِ: أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ ذِكْرِ الْحُكْمِ وَحِكْمَتِهِ، فَيُنَبِّهُ الْعُقُولَ عَلَى الْمُنَاسَبَاتِ وَالْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا.

{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}: هَذَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرْسَلِينَ، فَلَسْتَ بِبِدْعٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَيْضًا فَجِئْتَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، وَأَيْضًا فَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْمُرْسَلِينَ وَأَوْصَافَهُمْ، وَعَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ؛ عَرَفَ أَنَّكَ مِنْ خِيَارِ الْمُرْسَلِينَ بِمَا فِيكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ.

وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ-، وَبَيْنَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ -وَهُوَ رِسَالَةُ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ﷺ- مِنَ الِاتِّصَالِ، وَأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِرِسَالَتِهِ دَلِيلٌ وَلَا شَاهِدٌ إِلَّا هَذَا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ لَكَفَى بِهِ دَلِيلًا وَشَاهِدًا عَلَى رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ بَلِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى رِسَالَةِ الرَّسُولِ؛ فَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا أَدِلَّةٌ لِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَعْظَمِ أَوْصَافِ الرَّسُولِ ﷺ الدَّالَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ؛ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مُعْتَدِلٍ، مُوصِلٍ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، وَذَلِكَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَعْمَالٍ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمُصْلِحَةُ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ الْمُزَكِّيَةُ لِلنَّفْسِ، الْمُطَهِّرَةُ لِلْقَلْبِ، الْمُنَمِّيَةُ لِلْأَجْرِ، فَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الرَّسُولِ ﷺ، وَوَصْفُ دِينِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ.

فَتَأَمَّلْ جَلَالَةَ هَذَا الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الْقَسَمِ بِأَشْرَفِ الْأَقْسَامِ عَلَى أَجَلِّ مُقْسَمٍ عَلَيْهِ، وَخَبَرُ اللَّهِ وَحْدَهُ كَافٍ؛ وَلَكِنَّهُ -تَعَالَى- أَقَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى صِحَّةِ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ مِنْ رِسَالَةِ رَسُولِهِ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ، وَأَشَرْنَا إِشَارَةً لَطِيفَةً لِسُلُوكِ طَرِيقِهِ.

وَهَذَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}: فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ، وَأَنْزَلَهُ طَرِيقًا لِعِبَادِهِ مُوَصِّلًا لَهُمْ إِلَيْهِ، فَحَمَاهُ بِعِزَّتِهِ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَرَحِمَ بِهِ عِبَادَهُ رَحْمَةً اتَّصَلَتْ بِهِمْ حَتَّى أَوْصَلَتْهُمْ إِلَى دَارِ رَحْمَتِهِ؛ وَلِهَذَا خَتَمَ الْآيَةَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ: الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)).

وَيَقُولُ -تَعَالَى- عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان: 40-42].

(({إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ}: وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَفْصِلُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَبَيْنَ كُلِّ مُخْتَلِفِينَ {مِيقَاتُهُمْ} أَيِ: الْخَلَائِق {أَجْمَعِينَ}: كُلُّهُمْ سَيَجْمَعُهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَيُحْضِرُهُمْ، وَيُحْضِرُ أَعْمَالَهُمْ، وَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا، {يوم لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا}: لَا قَرِيبٌ عَنْ قَرِيبِهِ، وَلَا صَدِيقٌ عَنْ صَدِيقِهِ {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أَيْ: يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا.

{إِلا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ وَيَرْتَفِعُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّتِي تَسَبَّبَ إِلَيْهَا، وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا فِي الدُّنْيَا)).

كَمَا اقْتَرَنَ اسْمُ اللهِ -تَعَالَى- (الرَّحِيمُ) بِاسْمِهِ (الْبَرِّ) -أَيْضًا-؛ حَيْثُ يَقُولُ -تَعَالَى- فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 27-28].

(({وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} عَنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِهَا، قَالُوا فِي ذَكْرِ بَيَانِ الَّذِي أَوْصَلَهُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا {فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أَيْ: خَائِفِينَ وَجِلِينَ، فَتَرَكْنَا مِنْ خَوْفِهِ الذُّنُوبَ، وَأَصْلَحْنَا لِذَلِكَ الْعُيُوبَ.

{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} أَيِ: الْعَذَابَ الْحَارَّ الشَّدِيدَ حَرُّهُ.

{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أَنْ يَقِيَنَا عَذَابَ السَّمُومِ، وَيُوَصِّلَنَا إِلَى النَّعِيمِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ، وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ، أَيْ: لَمْ نَزَلْ نَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَنَدْعُوهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ؛ {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}: فَمِنْ بِرِّهِ بِنَا وَرَحْمَتِهِ إِيَّانَا أَنَالَنَا رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ، وَوَقَانَا سُخْطَهُ وَالنَّارَ)).

وَقَدْ جَمَعَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- اسْمَيِ (الرَّحْمَنِ) وَ(الرَّحِيمِ) فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي يَقْرَؤُهَا الْمُسْلِمُ سَبْعَةَ عَشَرَ مَرَّةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَحْدَهَا؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2-3].

وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:  {وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163].

وَيَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ: {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 2].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْجَلِيلَ وَالْقُرْآنَ الْجَمِيلَ تَنْزِيلٌ صَادِرٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، الَّذِي مِنْ أَعْظَمِ رَحْمَتِهِ وَأَجَلِّهَا: إِنْزَالُ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالشِّفَاءِ وَالرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ مَا هُوَ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ لِلسَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ)).

وَيَقُولُ تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22].

 ((الرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا الْعُلَى))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ وَرَدَتْ مَادَّةُ الرَّحْمَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَي مَرَّةٍ؛ حَيْثُ بَيَّنَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ ((فَإِنَّ اللهَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي رَحْمَتِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِصُنُوفِ النِّعَمِ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلًا؛ فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ كُلَّ حَيٍّ، وَعَمَّ إِحْسَانُهُ الْبَرَايَا، وَوَصَلَ جُودُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَلَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ.

وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ فَكَانَ صَاحِبَ الرَّحْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الْوَاسِعَةِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58].

فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ -تَعَالَى- وَإِحْسَانُهُ)).

وَسَمَّى -جَلَّ وَعَلَا- نَفْسَهُ ((((الرَّحْمَنَ))، وَهَذَا الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعُمُومِ إِحْسَانِهِ، وَجَزِيلِ بِرِّهِ، وَوَاسِعِ فَضْلِهِ)).

((وَ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ -سُبْحَانَهُ-.

وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ، فَـ((الرَّحْمَنُ)) لِلْوَصْفِ، وَ((الرَّحِيمُ)) لِلْفِعْلِ.

فَـ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِمْ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ((الرَّحْمَنَ)): هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَ((الرَّحِيمَ)): هُوَ الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ))؛ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، عَظِيمُهَا، بَلِيغُهَا وَوَاسِعُهَا.

وَرَحْمَةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.

فَأَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ مَرْحُومُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَلَوْ لَا رَحْمَةُ اللهِ مَا أَكَلُوا وَمَا شَرِبُوا، وَمَا اكْتَسَوْا وَمَا سَكَنُوا؛ وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ؛ فَهَيَّأَ لَهُمْ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ مِنَ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ.

وَأَمَّا رَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ: فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَمِرُّ رَحْمَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَدْيَانُهُمْ.

((وَرَحْمَتُهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ كَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَحَيَاتِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَإِحْسَانِهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَضَبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ غَضْبَانًا دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ، بَلْ يَقُولُ رُسُلُهُ وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي ((حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ)) -وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ)).

كَذَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الْخَلْقُ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِبَدْءِ الْحِسَابِ؛ فَيَقُولُ كُلٌّ: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

فَالْغَضَبُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَصِفَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، صِفَاتُ الْفِعْلِ هِيَ الَّتِي إِذَا شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَتَى بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْفِعْلِ، وَمِنْهَا: الْغَضَبُ، وَمِنْهَا: الضَّحِكُ، وَمِنْهَا: الرِّضَا، وَمِنْهَا: النُّزُولُ، وَمِنْهَا: الِاسْتِوَاءُ؛ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَكُلُّ صِفَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.

وَأَمَّا صِفَاتُ الذَّاتِ: فَهِيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا اتِّصَافُ الذَّاتِ بِهَا، وَلَا تَنْفَكُّ هِيَ عَنِ الذَّاتِ، صِفَاتُ الذَّاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَالٍ، فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلذَّاتِ، وَمِنْهَا: صِفَةُ الرَّحْمَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْغَضَبِ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَغَضِبَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ غَضْبَانًا دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ؛ بَلْ ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).

رَحْمَةُ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَغَضَبُهُ لَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَلَمْ يَكْتُبْ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَلَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ غَضَبًا وَانْتِقَامًا))، -سُبْحَانَهُ- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.

وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ اللَّيِّقُ بِشَأْنِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَكُنَّا جَمِيعًا خَاسِرِينَ هَالِكِينَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَمِنْ سَخَطِهِ، وَمِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَرْجُو رَحْمَتَهُ، وَكَرَمَهُ، وَفَضْلَهُ، وَلُطْفَهُ.

فَسُبْحَانَ رَبِّيَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَوَسِعَتْ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الْآنَاتِ وَاللَّحَظَاتِ، وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحْمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءُ الْمَحْرُومُونَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.

يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الْخَلَائِقَ رَحْمَةً=وَكِفَايَةً ذُو الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ، وَهُوَ خَبَرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْمَقَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَخَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَرَحْمَتُهُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ كُلِّ رَاحِمٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَوْلَادِنَا، وَأَنْفُسِنَا.

((فَكُلُّ رَاحِمٍ لِلْعَبْدِ فَاللهُ أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ؛ إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، لَوْ جُمِعَتْ رَحَمَاتُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَكَانَتْ رَحْمَةُ اللهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَا تَبْلُغُ هَذِهِ الرَّحْمَاتُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ، فَجَعَلَ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ؛ رَحْمَةً بِهِ وَحَنَانًا وَبِرًّا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرْحَمُهُ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَاللهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ بِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

أَرْحَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ: الْأُمُّ بِوَلَدِهَا؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ وَلَدَهَا لَا يُسَاوِيهَا شَيْءٌ مِنْ رَحْمَةِ النَّاسِ أَبَدًا؛ حَتَّى الْأَبُ لَا يَرْحَمُ أَوْلَادَهُ مِثْلَ أُمِّهِمْ فِي الْغَالِبِ.

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلِبُ تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟)).

قُلْنَا: ((لَا)) -وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ-.

فَقَالَ: ((اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟! فَهُوَ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الرَّفِيقَةِ بِهِ فِي حَمْلِهِ، وَرَضَاعِهِ، وَفِصَالِهِ.

كُلُّ الرَّاحِمِينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ رَحَمَاتُهُمْ كُلِّهِمْ؛ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ رَحْمَةِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))- قَالَ ﷺ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)) )).

هَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ.

وَأَمَّا الرَّحْمَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ، فَالرَّحْمَةُ صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ؛ حَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الرَّحْمَةِ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِعْمَالُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَرْحَمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ.

هُنَاكَ صِفَاتٌ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ بِاعْتِبَارٍ وَصِفَةَ فِعْلٍ بِاعْتِبَارٍ:

صِفَةُ الْخَلْقِ: صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ، فَذَاتُ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ وَلَا مَخْلُوقَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ، وَلَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ الْعَظِيمَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَبَرْئِهِمْ، وَتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ بِخَلْقِهِمْ؛ فَهِيَ -حِينَئِذٍ- تَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ.

كَذَلِكَ صِفَةُ الْكَلَامِ: فَذَاتُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرٍ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ؛ لِتَعَلُّقِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ.

هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي مَعَنَا: فِيهِ انْقِسَامُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ إِلَى مِائَةِ جُزْءٍ، جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ؛ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.

صِفَةُ الْفِعْلِ: هِيَ الَّتِي تَقْبَلُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ.

وَأَمَّا صِفَةُ الذَّاتِ؛ فَهِيَ مَوْصُوفٌ بِهَا الذَّاتُ، لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ، وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ.

((آثَارُ اسْمَيِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ بِهِمَا))

((الْأَثَرُ الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ مَا يَتَضَمَّنُهُ اسْمَا اللهِ (الرَّحْمَنُ) وَ(الرَّحِيمُ) مِنَ الصِّفَاتِ.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي كَتَبَ الرَّحْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا، قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: ٥٤]، وَوَسِعَتْ هَذِهِ الرَّحْمَةُ كُلَّ شَيْءٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: ٧].

وَمِنْ سَعَتِهَا وَعَظَمَتِهَا:

-أَنَّ رَحْمَةَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَرْحَمُ مِنْ كُلِّ رَحْمَةٍ؛ حَتَّى مِنْ رَحْمَةِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ، وَرَحْمَةِ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا الَّتِي لَا يُسَاوِيهَا شَيْءٌ مِنْ رَحَمَاتِ النَّاسِ؛ بَلْ لَوْ جُمِعَتْ رَحَمَاتُ الرَّاحِمِينَ كُلِّهِمْ لَمْ تُسَاوِ شَيْئًا عِنْدَ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: ١٥١].

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟))

قُلْنَا: ((لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ)).

فَقَالَ: ((لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».

وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَمْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى أَبَوَيَّ».

-أَنَّ رَحْمَةَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللَه كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ».

((فَقَامَ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالسُّفْلِيُّ بِمَضْمُونِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَكَانَ لِلْخَلْقِ شَأْنٌ آخَرُ)).

قَالَ الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فِي سَبْقِ الرَّحْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قِسْطَ الْخَلْقِ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِمْ مِنَ الْغَضَبِ، وَأَنَّهَا تَنَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَنَّ الْغَضَبَ لَا يَنَالُهُمْ إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ، فَالرَّحْمَةُ تَشْمَلُ الشَّخْصَ جَنِينًا، وَرَضِيعًا، وَفَطِيمًا، وَنَاشِئًا قَبْلَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْغَضَبِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَسْتَحِقُّ مَعَهُ ذَلِكَ».

-وَضَعَ رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ يَتَرَاحَمُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَيَرْحَمُ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَالْكَبِيرُ الصَّغِيرَ، وَالْأُمُّ أَوْلَادَهَا؛ سَوَاءٌ كَانَتْ إِنْسَانًا، أَوْ حَيَوَانًا، وَحْشًا.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ للهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ والإِنْسِ والبَهَائِمِ والهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».

 وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ».

-أَنَّ رَحْمَةَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَلَغَتْ آثَارُهَا مِنَ الْكَثْرَةِ مَا تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ، وَالْأَرْقَامُ وَالْأَعْدَادُ عَنْ حَصْرِهِ؛ ((إِذْ جَمِيعُ مَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنَ النِّعَمِ وَحُصُولِ الْمَنَافِعِ وَالْمَحَابِّ وَالْمَسَارِّ وَالْخَيْرَاتِ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ، كَمَا أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ صَرْفِ الْمَكَارِهِ وَالنِّقَمِ وَالْمَخَاوِفِ وَالْأَخْطَارِ وَالْمَضَارِّ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: ١٨])).

وَرَحْمَتُهُ الَّتِي وَصَلَتْ لِخَلْقِهِ قِسْمَانِ:

1*رَحْمَةٌ عَامَّةٌ: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَوَصَلَتْ لِكُلِّ حَيٍّ مُكَلَّفٍ وَغَيْرِ مُكَلَّفٍ، بَرٍّ وَفَاجِرٍ، مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ؛ حَتَّى فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: ٢٤]، يَقُولُ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: ٧].

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ رَحْمَةِ اللهِ لِلْكَافِرِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَمَّا أَغْرَقَ اللهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: ٩٠]، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ! فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ البَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ؛ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَالَ ﷺ: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ».

وَالرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ؛ مِنْ آثَارِهَا:

-خَلْقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِيجَادُهَا مِنَ الْعَدَمِ عَلَى صُورَةٍ مُحْكَمَةٍ مُتْقَنَةٍ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: ٦].

فَخَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَبِرَحْمَتِهِ جَعَلَهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، مُكْتَمِلَ الْأَعْضَاءِ، مُسْتَوْفِيَ الْأَجْزَاءِ، مُحْكَمَ الْبِنَاءِ، وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ النُّطْقِيَّ وَالْخَطِّيَّ، قَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ الَّتِي جَاءَتْ بِذِكْرِ آثَارِ رَحْمَتِهِ الَّتِي أَوْصَلَهَا لِخَلْقِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: ٣-٤].

-خَلَقَ الْخَلْقَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَجَعَلَ الرَّحْمَةَ وَالْمَوَدَّةَ بَيْنَهُمْ؛ لِيَقَعَ التَّوَاصُلُ الَّذِي بِهِ دَوَامُ التَّنَاسُلِ، وَانْتِفَاعُ الزَّوْجَيْنِ، وَتَمَتُّعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: ٢١].

-رِعَايَةُ الْخَلْقِ بِالتَّدْبِيرِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَالْحِفْظِ، وَسَوْقِ الْأَرْزَاقِ وَالْمَعَاشِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: ١٠٧].

فَبِرَحْمَتِهِ رَعَى الْخَلْقَ بِمَا قَدَّرَ لَهُمْ؛ إِذْ عَلِمَ -سُبْحَانَهُ- مَصَالِحَهُمْ وَمَنَافِعَهُمْ، فَقَدَّرَهَا لَهُمْ، وَيَسَّرَ لَهُمْ تَحْصِيلَهَا، وَلَرُبَّمَا أَجْرَى عَلَيْهِمُ الْمَكَارِهَ وَالْبَلَاءَ لِيُوصِلَهُمْ إِلَى مَا يُحِبُّونُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: ٨٠-٨١].

وَرُبَّمَا مَنَعَهُمْ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ وَمَحَابِّ نُفُوسِهِمْ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَصْلَحُ لَهُمْ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَلِهَذَا كَانَ مِنْ إِتْمَامِ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ: تَسْلِيطُ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ عَلَى الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ، فَابْتِلَاؤُهُ لَهُ وَامْتِحَانُهُ، وَمَنْعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ وَشَهَوَاتِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِهِ؛ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ لِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ يَتَّهِمُ رَبَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ بِابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ».

-خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ عَلَى صِفَةٍ تَكْفُلُ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكَائِنَاتِ حُسْنَ الْعَيْشِ؛ فَرَفَعَ السَّمَاءَ وَأَمْسَكَهَا بِرَحْمَتِهِ مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: ٦٥].

وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَبِرَحْمَتِهِ أَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ؛ كَيْ لَا تَمِيدَ وَلَا تَحِيدَ، بَلْ جَعَلَهَا مَهْدًا وَفِرَاشًا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ حَرْثِهَا وَغَرْسِهَا وَحَفْرِهَا، وَبِرَحْمَتِهِ شَقَّ طُرُقَهَا وَمَنَافِذَهَا؛ لِيَتَّصِلَ الشَّرْقُ بِالْغَرْبِ، وَالشَّمَالُ بِالْجَنُوبِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه: ٥٣].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: ١٠]

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَمِنْ رَحْمَتِهِ: أَحْوَجَ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ لِتَتِمَّ مَصَالِحُهُمْ، وَلَوْ أَغْنَى بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهُمْ، وَانْحَلَّ نِظَامُهُمْ، وَكَانَ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِهِمْ: أَنْ جَعَلَ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَالْعَزِيزَ وَالذَّلِيلَ، وَالْعَاجِزَ وَالْقَادِرَ، وَالْمُرَاعِيَ وَالْمَرْعِيَّ، ثُمَّ أَفْقَرَ الْجَمِيعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَمَّ الْجَمِيعَ بِرَحْمَتِهِ».

وَقَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَقْرِيرِ مَا سَبَقَ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ: «فَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ بِرَحْمَتِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِرَحْمَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَشَرَعَ لَهُمُ الشَّرَائِعَ بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ بِرَحْمَتِهِ، وَدَبَّرَهُمْ أَنْوَاعَ التَّدْبِيرِ، وَصَرَّفَهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّصْرِيفِ بِرَحْمَتِهِ، وَمَلَأَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مِنْ رَحْمَتِهِ، فَلَا طَابَتِ الْأُمُورُ، وَلَا تَيَسَّرَتِ الْأَشْيَاءُ، وَلَا حَصَلَتِ الْمَقَاصِدُ وَأَنْوَاعُ الْمَطَالِبِ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ، وَرَحْمَتُهُ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَجَلُّ وَأَعْلَى».

2*الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي خَصَّ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، وَأَوْلِيَاءَهُ الْمُتَّقِينَ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: ٤٣].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٥٦].

وَهِيَ رَحْمَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، دِينِيَّةٌ، دُنْيَوِيَّةٌ، أُخْرَوِيَّةٌ، وَمِنْ آثَارِهَا:

-هِدَايَةُ أَوْلِيَائِهِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي جَهِلَهُ غَيْرُهُمْ، وَتَبْصِيرُهُمْ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُ وَحَادَ عَنْهُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَأَشْيَاعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: ٤٣].

-تَوْفِيقُ أَوْلِيَائِهِ لِطَاعَتِهِ، وَتَيْسِيرُ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَإِعَانَتُهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: ٢١].

-تَثْبِيتُ أَوْلِيَائِهِ عَلَى الْحَقِّ؛ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الدَّوَاعِي لِلزَّيْغِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: ٨٣].

-إِجَابَةُ دَعَوَاتِ أَوْلِيَائِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: ٢٨].

-امْتِنَانُهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِاسْتِغْفَارِ وَدُعَاءِ أَفْضَلِ مَلَائِكَتِهِ -حَمَلَةِ الْعَرْشِ- لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: ٧].

-جَعْلُ مَصَائِبِ الْمُؤْمِنِينَ وَابْتِلَاءَاتِهِمْ كُلِّهَا خَيْرًا وَرَحْمَةً؛ فَمَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ مَصَائِبَ وَآلَامٍ وَأَحْزَانٍ إِلَّا تُكَفَّرُ بِهَا سَيِّئَاتُهُمْ، وَتُرْفَعُ بِهَا دَرَجَاتُهُمْ، قَالَ -تَعَالَى- عَنْ مُؤْمِنِ آلِ يَاسِينَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: ٢٣].

-تَخْفِيفُ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّتِهَا عَلَى أَوْلِيَائِهِ، فَيُؤَمِّنُ فَزَعَهُمْ بِتَلَقِّي الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ لَهُمْ بِالْبُشْرَى، قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: ٣١-٣٢].

-إِدْخَالُ أَوْلِيَائِهِ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ الرَّحِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية: ٣٠].

-إِخْرَاجُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي! لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ لِلرُّسُلِ: اذْهَبُوا أَوِ انْطَلِقُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ: أَنَا الآنَ أُخْرِجُ بِعِلْمِي وَرَحْمَتِي، قال: فَيُخْرِجُ أَضْعَافَ مَا أَخْرَجُوا وَأَضْعَافَهُ، فَيُكْتَبُ فِي رِقَابِهِمْ: عُتَقَاءُ اللهِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَيُسَمَّوْنَ فِيهَا: الجُهَنَّمِيِّينَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَبَعْدَ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ رَحْمَتَهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- فِي غَايَةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، فَلَا ضَعْفَ مَعَهَا وَلَا عَجْزَ، بَلْ رَحْمَةٌ مَعَ عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ تَامَّةٍ، قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: ٦].

*الْأَثَرُ الثَّانِي: دَلَالَةُ اسْمَيِ اللهِ (الرَّحْمَنِ) وَ(الرَّحِيمِ) عَلَى التَّوْحِيدِ:

اسْمَا اللهِ (الرَّحْمَنُ) وَ(الرَّحِيمُ) دَالَّانِ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةِ: الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ اسْمَيِ اللهِ (الرَّحْمَنَ) وَ(الرَّحِيمَ) وَمَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنَ النُّصُوصِ الْمُتَكَاثِرَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهِيَ صِفَةُ كَمَالٍ لَائِقَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ-، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُهَا، أَوْ تَأْوِيلُهَا، أَوْ تَحْرِيفُهَا، أَوْ تَكْيِيفُهَا، وَهَذَا هُوَ تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ اتِّصَافُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالرَّحْمَةِ، وَتَيَقَّنَ الْعَبْدُ ذَلِكَ، وَتَأَمَّلَهُ؛ وَجَدَ أَنَّ الْخَلْقَ إِنَّمَا وُجِدُوا بِرَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنَّمَا جُلِبَتِ النِّعَمُ لَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، وَدُفِعَتْ عَنْهُمُ النِّقَمُ بِرَحْمَتِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ فِي الْعَاجِلِ وَلَا الْآجِلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: ١٠٧]، وَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَأَنْ يُفْرَدَ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: ٢٢].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: ١٦٣].

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ الْبَارِي وَإِلَهِيَّتِهِ، وَتَقْرِيرُهَا بِنَفْيِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَبَيَانُ أَصْلِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ إِثْبَاتُ رَحْمَتِهِ الَّتِي مِنْ آثَارِهَا وُجُودُ جَمِيعِ النِّعَمِ، وَانْدِفَاعُ جَمِيعِ النِّقَمِ، فَهَذَا دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ -تَعَالَى-».

الْأَثَرُ الثَّالِثُ: الرَّجَاءُ وَالتَّعَلُّقُ بِرَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

إِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ فِي سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ وَعَظَمَتِهَا؛ أَثْمَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ الرَّجَاءَ، وَعَدَمَ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ؛ إِذْ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلِمَ ضَعْفَ عِبَادِهِ، وَعَجْزَهُمْ، وَسَرَعَانَ سُقُوطِهِمْ، وَاغْتِرَارَهُمْ، وَانْحِرَافَهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ؛ لَا سِيَّمَا أَنَّ نُفُوسَهُمْ رُكِّبَ فِيهَا الْمَيْلُ لِلشَّهَوَاتِ، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، وَقَعَدَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ كُلَّ طَرِيقٍ، وَيَجْلِبُ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، وَيَجِدُّ كُلَّ الْجِدِّ فِي إِضْلَالِهِمْ وَإِيقَاعِهِمْ فِي السُّوءِ؛ فَلَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالزَّلَّاتِ، وَكُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ.

فَلَمَّا عَلِمَ -سُبْحَانَهُ- ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ رَحِمَهُمْ بِفَتْحِ أَبْوَابِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُمْ؛ وَلَوْ أَسْرَفُوا فِي الذُّنُوبِ مَا أَسْرَفُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ طُرِدُوا وَانْتَهَوْا، وَلَمْ يَعُدْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ وَلَا يُسْتَقْبَلُ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: ٥٣].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»، وَذَكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قِصَّةَ الرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، ثُمَّ كَمَّلَ الْمِائَةَ بِقَتْلِ الْعَابِدِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَدْرَكَتْهُ رَحْمَةُ اللهِ وَمَغْفِرَتُهُ.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي آيَةِ الزُّمَرِ: «وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -سُبْحَانَهُ-؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَعْظَمِ بِشَارَةٍ؛ فَإِنَّهُ أَوَّلًا أَضَافَ الْعِبَادَ إِلَى نَفْسِهِ لِقَصْدِ تَشْرِيفِهِمْ، وَمَزِيدِ تَبْشِيرِهِمْ، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِالْإِسْرَافِ فِي الْمَعَاصِي، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقُنُوطِ مِنَ الرَّحْمَةِ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْثِرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ؛ فَالنَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ لِلْمُذْنِبِينَ غَيْرِ الْمُسْرِفِينَ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى..».

كَمَا أَنَّ مُلَاحَظَةَ رَحْمَةِ اللهِ وَسَعَتِهَا تُثْمِرُ الْأَمَلَ فِي النُّفُوسِ الْمَكْرُوبَةِ، وَتَبُثُّ فِيهَا الرُّوحَ وَحُسْنَ الظَّنِّ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَانْتِظَارَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ؛ لِذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَذَكِّرًا رَحْمَةَ اللهِ مَعَ أَنَّ أَسْبَابَ الْوَلَدِ مَعْدُومَةٌ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: ٥٦].

وَقَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ أَنَّ عَوْدَ يُوسُفَ إِلَيْهِ أَشْبَهُ بِالْمُحَالِ: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: ٦٤].

وَقَالَ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧].

وَضِدُّ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ: الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِهِ، وَهُمَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، قَالَ تَعَالَى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: ٥٦]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: ٨٧].

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يَتَسَلَّلَ الْيَأْسُ إِلَيْهِ، وَيُنْسِيَهُ رَحْمَةَ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

الْأَثَرُ الرَّابِعُ: عَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِرَحْمَةِ اللهِ:

إِذَا تَيَقَّنَ الْعَبْدُ رَحْمَةَ رَبِّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسَعَتَهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَضُمَّ لِهَذَا الْعِلْمِ عِلْمًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- شَدِيدُ الْعِقَابِ، شَدِيدُ الْمِحَالِ، ذُو الْبَطْشِ الشَّدِيدِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: ٤٩-٥٠].

فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ هَذَا لَمْ يَغْتَرَّ بِرَحْمَةِ اللهِ، بَلْ جَمَعَ بَيْنَ رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ، كَمَا جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: ١٦٥].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: ٩٨].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: ٦]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ».

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ فَتَارَةً يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ، وَصِفَةِ الْجَنَّةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا لَدَيْهِ، وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِالرَّهْبَةِ، وَذِكْرِ النَّارِ، وَأَنْكَالِهَا، وَعَذَابِهَا، وَالْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَتَارَةً بِهَذَا وَبِهَذَا؛ لِيَنْجَعَ فِي كُلٍّ بِحَسَبِهِ».

الْأَثَرُ الْخَامِسُ: مَحَبَّةُ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالْحَيَاءُ مِنْهُ.

إِذَا تَأَمَّلَ الْعَبْدُ فِي اسْمَيِ اللهِ (الرَّحْمَنِ) وَ(الرَّحِيمِ)، وَنَظَرَ فِي آثَارِ رَحْمَتِهِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ سَارِيَةً فِي الْوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَنْزِلُ بِهَا الْخَيْرَاتُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَتَوَالَى بِهَا النِّعَمُ عَلَى الْعِبَادِ وَالْفَوَاضِلُ فِي السِّرِّ وَالْجَهَارِ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ وَغَلَبَتْهُ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ؛ قَادَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى مَحَبَّتِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ إِذِ النُّفُوسُ جُبِلَتْ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، وَيَرْفُقُ بِهَا وَيَعْطِفُ؛ فَكَيْفَ لَا تُحِبُّ مَنْ أَفَاضَ عَلَيْهَا مِنْ رَحْمَتِهِ وَعَطْفِهِ وَنِعَمِهِ مَا يَفُوقُ الْحَصْرَ وَالْعَدَّ؟!

كَمَا يَقُودُهُ -أَيْضًا- إِلَى الْحَيَاءِ مِنْهُ وَالْخَجَلِ؛ إِذْ كَيْفَ يَعْصِي مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ، وَلَوْلَا إِحْسَانُهُ وَنِعْمَتُهُ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْصِيَهُ؟! وَكَيْفَ يَعْصِي مَنْ هُوَ عَلَى أَخْذِهِ وَعِقَابِهِ قَادِرٌ؛ إِلَّا إِنَّهُ يُمْهِلُهُ، وَيَحْلُمُ عَلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ؟!

الْأَثَرُ السَّادِسُ: السَّعْيُ لِفِعْلِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِرَحْمَةِ اللهِ -تَعَالَى-.

كَتَبَ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؛ إِلَّا إِنَّهُ جَعَلَ لَهَا أَسْبَابًا إِذَا قَامَ بِهَا الْعَبْدُ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ وَأَسْرَعَ، وَحَظُّهُ مِنْهَا أَكْبَرَ؛ لَا سِيَّمَا الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ، وَبِالْمُقَابِلِ جَعَلَ أَسْبَابًا لِلْحِرْمَانِ مِنْهَا، إِذَا قَامَ بِهَا الْعَبْدُ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الرَّحْمَةِ، وَحَرَمَ نَفْسَهُ مِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

أَسْبَابُ نَيْلِ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَمِنْهَا:

-طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: ١٣٢].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: ٥٦].

-وَمِنْ أَسْبَابِ نَيْلِهَا: تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: ١٠].

-وَمِنْ أَسْبَابِ نَيْلِ رَحْمَةِ اللهِ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: ٥٦].

-الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ٩٩].

-وَمِنَ الْأَسْبَابِ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٧١].

-التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: ١٧٥].

-الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى لِسَانِ صَالِحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: ٤٦].

-الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَإِلَى عِبَادِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦] (١).

-الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: ٢٠٤].

-وَمِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ بِرَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: صِلَةُ الرَّحِمِ؛ فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي اسْمًا، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ».

وَ((بَتَتُّهُ)) أَيْ: قَطَعْتُهُ.

الْأَثَرُ السَّابِعُ: اتِّصَافُ الْعَبْدِ بِالرَّحْمَةِ:

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَتَّصِفَ عِبَادُهُ بِالرَّحْمَةِ؛ فَقَدِ امْتَدَحَ بِهَا أَشْرَفَ رُسُلِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١٢٨]،

وَامْتَدَحَ بِهَا الصَّحَابَةَ، فَقَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: ٢٩]؛ لَا سِيَّمَا أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي قَالَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَادِحًا: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ».

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُرَغِّبًا فِيهَا: «وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».

 وَقَالَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالرَّحْمَةِ، وَيُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى التَّخَلُّقِ بِهَا، وَيَعْلَمَ مَا رَتَّبَ اللهُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَمَا فِي فَوَاتِهَا مِنْ حِرْمَانِ الثَّوَابِ، فَيَرْغَبُ فِي فَضْلِ رَبِّهِ، وَيَسْعَى بِالسَّبَبِ الَّذِي يَنَالُ بِهِ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

 الْأَثَرُ الثَّامِنُ: الدُّعَاءُ بِاسْمَيِ اللهِ (الرَّحْمَنِ) وَ(الرَّحِيمِ):

الدُّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَا تُدْرَكُ بِهِ الْمَطَالِبُ، وَالَّتِي مِنْ أَجَلِّهَا رَحْمَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لَا سِيَّمَا وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَثَّنَا عَلَى سُؤَالِهِ إِيَّاهَا بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَمِنْ ذَلِكَ:

أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بَيَّنَ أَنَّ طَلَبَ الرَّحْمَةِ دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: ٨٣].

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: ١٩].

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ دُعَاءِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: ١٥١].

وَمِنْ دُعَائِهِ -أَيْضًا-: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: ٢٣].

إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَ رَسُولَهُ ﷺ وَالْأُمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ بِسُؤَالِهِ الرَّحْمَةَ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: ١١٨].

وَبَيَّنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ الدُّعَاءَ بِالرَّحْمَةِ دَعْوَةُ عِبَادِهِ النَّاجِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: ١٠٩].

وَعَلَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أُمَّتَهُ سُؤَالَ اللهِ الرَّحْمَةَ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ:

-مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: «عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي)).

قَالَ: قُلْ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ؛ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

-وَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالحِينَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

-وَمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو؛ فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

-وَمَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ)).

قَالَ: قُلْ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي؛ فَمَا لِي؟ قَالَ: قُل: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَبَعْدَ هَذَا فَإِنَّ مِنَ الْأَدَبِ فِي سُؤَالِ اللهِ رَحْمَتَهُ: أَنْ تَسْأَلَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، لَا التَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَالتَّرَدُّدِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّه لَا مُكْرِهَ لَهُ».

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِنَّمَا نَهَى الرَّسُولُ ﷺ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فُتُورِ الرَّغْبَةِ، وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْمَطْلُوبِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ إِنْ حَصَلَ وَإِلَّا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ حَالَتِهِ الِافْتِقَارُ وَالِاضْطِرَارُ الَّذِي هُوَ رُوحُ عِبَادَةِ الدُّعَاءِ، وَدَلِيلٌ عَلَى قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِذُنُوبِهِ، وَبِرَحْمَةِ رَبِّهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُوقِنًا بِالْإِجَابَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: ((ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ)))).

((الرَّاحِمُونُ يَرْحُمُهُمُ الرَّحْمَنُ -عَزَّ وَجَلَّ- ))

عِبَادَ اللهِ! لَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْحَقَّ الَّذِي يَسْتَشْعِرُ رَحْمَةَ اللهِ -تَعَالَى-، يُقْبِلُ عَلَى رَبِّهِ تَائِبًا، آمِلًا فِي رَحْمَةِ رَبِّهِ وَعَفْوِهِ، كَمَا أَنَّهُ يَرْحَمُ عِبَادَ اللهِ؛ حَتَّى يَرْحَمَهُ اللهُ؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَيَقُولُ ﷺ: «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ»: بِالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، فَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ، وَيُطْعِمُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعُرْيَانَ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فِيهِ: الْحَضُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيَدْخُلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَهَائِمُ، والْمَمْلُوكُ مَنْها وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ، وَيَدْخُلُ فِي الرَّحْمَةِ التَّعَاهُدُ بِالْإِطْعَامِ وَالسَّقْيِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْحَمْلِ، وَتَرْكِ التَّعَدِّي بِالضَّرْبِ».

بَيَانُ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا أَنْ تَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ رَحْمَةٌ لِإِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ لِذَا وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعَزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].

{أَذِلَّةٍ} يَعْنِي: مُتَوَاضِعِينَ وَرَاحِمِينَ لَهُمْ، وَعَاطِفِينَ عَلَيْهِمْ، وَمُحِبِّينَ إِلَيْهِمْ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِمْ رَحْمَةٌ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ؛ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَبَادَلًا وَمُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، مَنْ تَعَارَفُوا وَمَنْ لَمْ يَتَعَارَفُوا؛ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَرْحَمُ بَعْضًا، وَيُوَقِّرُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَيَرْحَمُ كَبِيرُهُمْ صَغِيرَهُمْ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْمُؤْمِنِينَ مَثَلًا بِقَوْلِهِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، أَنْ يَكُونَ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الرَّحْمَةُ، وَالتَّقْدِيرُ، وَالتَّوْقِيرُ، وَالتَّعَاطُفُ، وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهَذِهِ صِفَاتُ أَهْلِ الْإِيمَانِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: ((إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ، يَعْنِي: السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ».

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ؛ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أَيْ: خُفَّهَا-، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ -أَيْ: بِالْخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أَيْ: فسَقَتِ الْكَلْبَ-، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ فَأَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي لَأَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا)).

قَالَ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ» مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ»، وَفِي غَيْرِهَا.

قَوْلُهُ: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ»: كَمَا قَالَ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ».

فَمَنْ رَحِمَ رُحِمَ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الرَّحْمَةُ لِإِنْسَانٍ، أَوْ حَيَوانٍ، أَوْ طَائِرٍ، أَوْ نَحْوِهِ.

وَالرَّحْمَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ ذَبْحِ الشَّاةِ بِحَضْرَةِ أُخْرَى، وَأَلَّا يُحِدَّ الشَّفْرَةَ أَمَامَهَا، فَهَذَا مِنَ الرَّحْمَةِ بِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

هَذَا الْخُلُقُ لَا يَتَجَزَّأُ، خُلُقُ الرَّحْمَةِ لَا يَتَجَزَّأُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي خُلُقِ الرَّحْمَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ رَحْمَتُهُ عَامَّةً وَغَامِرَةً وَشَامِلَةً، وَقَدْ شَمِلَتِ الطُّيُورَ وَالْحَيَوَانَاتِ؛ بَلْ شَمِلَتِ الْحَشَرَاتِ، لِمَا نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَتْلِ الْحَشَرَاتِ حَرْقًا، وَدُونَ ذَلِكَ فِي الْإِثْمِ أَنْ تُقْتَلَ بِالْمَاءِ إِغْرَاقًا، فَهَذَا إِثْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ تَبْدُو مَظَاهِرُ رَحْمَتِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ﷺ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَخَذَ رَجُلٌ بَيْضَ حُمَّرَةٍ، فَجَاءَتْ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِبَيْضَتِهَا؟».

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَا أَخَذْتُ بَيْضَتَهَا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ارْدُدْهُ؛ رَحْمَةً لَهَا». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

«حُمَّرَةٌ»: طَائِرٌ صَغِيرٌ كَالْعُصْفُورِ.

«تَرِفُّ» أَيْ: تَضْرِبُ بِجَنَاحَيْهَا؛ تَعَطُّفًا وَإِظْهَارًا لِتَعَلُّقِهَا بِذَلِكَ.

قَوْلُهُ: «ارْدُدْهُ؛ رَحْمَةً لهَا»: تَأَمَّلْ فِي تَكَامُلِ هَذَا الدِّينِ؛ إِذْ هُوَ الدِّينُ الْخَاتَمُ، دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَقَدِ اتَّسَعَ وَقْتُ وَاهْتِمَامُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَى الْإِرْشَادِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْحُمَّرَةِ.. بِذَلِكَ الطَّائِرِ، وَيَأْمُرُ بِرَدِّ بَيْضَةِ الْحُمَّرَةِ إِلَيْهَا رَحْمَةً لَهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَفِي إِقَامَةِ دِينِ اللهِ، وَفِي مُجَالَدَةِ الْكَافِرِينَ الْمُشْرِكِينَ؛ إِقَامَةً لِلدِّينِ، وَتَأْسِيسًا لِدَعَائِمِ الْمِلَّةِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ يَصْرِفُ هَذَا الْوَقْتَ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُمَّرَةِ.

«فَجَاءَتْ تَرِفُّ»: جَعَلَتْ تَفْرُشُ -كَمَا فِي رِوَايَةٍ-، وَفِي أُخْرَى «تَعْرُشُ» أَيْ: بِجَنَاحَيْهَا، بِفَرْشِ الْجَنَاحِ وَبَسْطِهِ، وَ«التَّعْرِيشُ»: أَنْ يَرْتَفِعَ الطَّائِرُ، ويُظَلِّلَ بِجَنَاحَيْهِ.

«فَجَعَ هَذِهِ ببَيْضَتِهَا» أَيْ: وَجَعَ قَلْبَهَا، وَأَقْلَقَهَا، وَأَوْحَشَهَا.

وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْجَمَلِ الَّذِي حَنَّ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ حِينَ رَأَى رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ ﷺ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟» لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ أَيْ: تُكِدُّهُ وَتُتْعِبُهُ-».

لِأَنَّ هَذَا الْجَمَلَ كَانَ نَافِرًا، وَكَانَ فِي حَائِطٍ، فَتَحَاشَاهُ النَّاسُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا، نَخْشَى عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَدَخَلَ، فَلَمَّا رَأَى الْجَمَلُ النَّبِيَّ ﷺ؛ جَاءَ حَتَّى جَعَلَ رَأْسَهُ عَلَى كَتِفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَخَذَ يَبْكِي، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى رَأسِهِ وَذِفْرَاهُ، قَدْ وَضَعَ ﷺ عَلَيْهِمَا يَدَهُ، وَقَالَ: «لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟».

فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ((لِي يَا رَسُولَ اللهِ)).

فَقَالَ ﷺ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟! فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الرَّحْمَةَ بِالْبَهَائِمِ، وَبِالطُّيُورِ، وَبِالْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ في دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

بَيَانُ كَمَالِ رَحْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرَّحْمَةَ مِنْ آدَمِيٍّ، وَغَيْرِهِ.

تَحْرِيمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْغَيْرِ بِدُونِ دَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكُمُ الْغَيْرُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ عَالَمِ الطَّيْرِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ وَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ؛ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إِنَّ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ بَيْنَهُمْ، وَالْإِسْلَامُ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَصِفَةِ الرَّحْمَةِ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ فَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ، وَلَا يُغْفَرُ لِمْنَ لَا يَغْفِرُ، وَلَا يُعْفَى عَمَّنْ لَمْ يَعْفُ، وَلَا يُوَقَّى مَنْ لَا يَتَوَقَّى)). وَهَذَا حَدِيثُ صَحِيحٌ.

((مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ))، «وَلَا يُغْفَرُ لِمْنَ لَا يَغْفِرُ»: يُغْفَرُ أَيْ: يُتَجَاوَزُ لَهُ عَنْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ.

وَالْمَعْنَى: مَنْ لَا يَتَجَاوَزُ عَنْ خَطَايَا النَّاسِ وَإِسَاءَتِهِمْ لَا يَغْفِرُ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ؛ إِذِ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ». صَحَّحَهُ فِي «الصَّحِيحَةِ».

يَعْنِي: كُنْ سَمْحًا حَتَّى تُعَامَلَ بِالسَّمَاحَةِ.

«وَلَا يُعْفَى عَمَّنْ لَمْ يَعْفُ»: الْعَفْوُ: التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ، وَتَرْكُ الْعِقَابِ.

صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَقُلِ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ.

فِي رِوَايَةٍ: «ولَا يُتَابُ عَلَى مَنْ لَا يَتُوبُ»: مَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ لِلتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ؛ حَتَّى يُوَفَّقَ لِذَلِكَ «وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» كَمَا قَالَ ﷺ.

«وَلَا يُوَقَّى مَنْ لَا يَتَوَقَّى»: وُقِيتُ الشَّيْءَ وَوَقَيْتُهُ أَقِيهِ إِذَا صُنْتُهُ، وَسَتَرْتُهُ عَنِ الْأَذَى.

وَالْمَعْنَى: لَا يُحْفَظُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَالْآثَامِ مَنْ لَا يَجْتَنِبُهَا، وَهَذا كَقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: «وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ»، وَأَمَّا مَنْ لَا يُوَقَّهُ فَإِنَّهُ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ، فَهَذَا الَّذِي لَا يَتَوَقَّى لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ.

فَالَّذِي يَطْمَعُ فِي رَحْمَةِ رَبِّهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَمَ النَّاسَ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، وَأَنْ يُسَامِحَهُمْ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَبَّرَ قَوْلَ اللهِ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: ٢٢].

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ، وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَإِنَّما يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.

فَاللهم ارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:اسْمُ اللهِ الرَّحِيمُ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْأُسْرَةُ سَكَنٌ وَمَوَدَّةٌ
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ
  فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ،وَالدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
  الطريق إلى محبة الله عز وجل
  حُقُوقُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَحُرْمَةُ قَتْلِ السَّائِحِينَ وَالْمَدَنِيِّينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ
  تيقظ وانتبه !!
  تَكْرِيمُ المَرْأَةِ فِي الإِسْلَامِ وَدَوْرُهَا فِي بِنَاءِ المُجْتَمَعِ
  المد الشيعي في مصر
  حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان