تفريغ خطبة من آفات اللسان: الكلام فيما لا يعني

من آفات اللسان: الكلام فيما لا يعني

 

((مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي))

الْجُمُعَةُ 8 مِنْ رَجَبٍ 1437هـ / 15-4-2016م.

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِي))

فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِي.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مِنْحُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِتَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)) أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي تَأْدِيبِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا، وَتَرْكِ مَا لَا جَدْوَى فِيهِ وَلَا نَفْعَ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدَبِ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي زَيْدٍ إِمَامِ الْمَالِكِيَّةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّهُ قَالَ: جِمَاعُ آدَابِ الْخَيْرِ وَأَزِمَّتُهُ تَتَفَرَّعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ: 
قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)).

وَقَوْلُهُ ﷺ لِلَّذِي اخْتَصَرَ لَهُ الْوَصِيَّةَ: ((لَا تَغْضَبْ)).

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)))).

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي: ((كِتَابِ الرِّقَاقِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) ((بَابُ: مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِبَابِ: حِفْظِ اللِّسَانِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَكَذَا قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18])).

((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)): مِنْ مَظَاهِرِ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ إِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَالْتِزَامِهِ بِدِينِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَوْلًا وَعَمَلًا؛ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ)).

وَالْمَرْءُ: هُوَ الْإِنْسَانُ أَوِ الشَّخْصُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، ((تَرْكُهُ)) أَيِ: ابْتِعَادُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَقِّي مِنْهُ، وَأَيْضًا بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، ((مَا لَا يَعْنِيهِ)) أَيْ: مَا لَا يَهُمُّهُ أَوْ يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.

وَقَدْ عَدَّ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ الْعَظِيمَ ثُلُثَ الْإِسْلَامِ.

كَمَا عَدَّهُ أَبُو دَاوُدَ أَحَدَ أَحَادِيثَ أَرْبَعَةٍ يَدُورُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَمَعَ الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَعَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي لَمْ يَصِحَّ نَظِيرُهَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ نِصْفَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ فِعْلٌ وَتَرْكٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّرْكِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ جَمَعَ الدِّينَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّرْكِ، وَدَلَّ عَلَى الْفِعْلِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي؛ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ فَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)) )).

((وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)): أَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

وَمَعْنَى: ((يَعْنِيهِ)): أَنْ تَتَعَلَّقَ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَيَكُونَ مِنْ مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَالْعِنَايَةُ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: عَنَاهُ يَعْنِيهِ: إِذَا اهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا لَا عِنَايَةَ لَهُ بِهِ وَلَا إِرَادَةَ بِحُكْمِ الْهَوَى وَطَلَبِ النَّفْسِ، بَلْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ مِنْ حُسْنِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا حَسُنَ إِسْلَامُ الْمَرْءِ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْكَامِلَ الْمَمْدُوحَ يَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، كَمَا قَالَ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 

وَإِذَا حَسُنَ الْإِسْلَامُ اقْتَضَى تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي كُلَّهُ؛ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي الْمُسْلِمَ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ، وَبَلَغَ إِلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ -تَعَالَى- كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّ اللهَ يَرَاهُ.

فَمَنْ عَبَدَ اللهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ بِقَلْبِهِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِ اللهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَعْنِيهِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ، وَتَرْكُ كُلِّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: ((اسْتَحِ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَخَفِ اللهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ)).

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: ((إِذَا تَكَلَّمْتَ فَاذْكُرْ سَمْعَ اللهِ لَكَ، وَإِذَا سَكَتَّ فَاذْكُرْ نَظَرَهُ إِلَيْكَ)).

وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى :{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

وَقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- :{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61].

وَأَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي: حِفْظُ اللِّسَانِ مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ، كَمَا أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي (سُورَةِ ق): {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.

قَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: ((أَمْرٌ أَنَا فِي طَلَبِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُ بِتَارِكٍ طَلَبَهُ أَبَدًا)).

قَالُوا: ((وَمَا هُوَ؟)).

قَالَ: ((الْكَفُّ عَمَّا لَا يَعْنِينِي)).

وَقَالَ الْحَسَنُ: ((مِنْ عَلَامَةِ إِعْرَاضِ اللهِ -تَعَالَى- عَنِ الْعَبْدِ: أَنْ يَجْعَلَ شُغُلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ)).

وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التُّسْتَرِيُّ :((مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ حُرِمَ الصِّدْقَ)).

وَقَالَ غَيْرُهُ: ((كَلَامُ الْعَبْدِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ خِذْلَانٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْعَبْدِ)) )). 

وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ((كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ)) .

وَقَدْ يَتَكَلَّمُ الْمَرْءُ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا عَلَى مُسْلِمٍ أَصْلًا؛ إِلَّا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ بِهَذَا مُضَيِّعٌ بِهِ زَمَانَهُ، وَهُوَ مَحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِهِ، وَمُسْتَبْدِلٌ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَ زَمَانَ الْكَلَامِ إِلَى الْفِكْرِ رُبَّمَا كَانَ يَنْفَتِحُ لَهُ مِنْ نَفَحَاتِ رَحَمَاتِ اللهِ عِنْدَ الْفِكْرِ مَا يَعْظُمُ جَدْوَاهُ، وَلَوْ هَلَّلَ اللهَ -سُبْحَانَهُ- وَذَكَرَهُ وَسَبَّحَهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ فَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ يَبْنِي بِهَا قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ؟! وَاللِّسَانُ شَبَكَةٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَنِصَ بِهَا الْحُورَ، فَإِهْمَالُهُ ذَلِكَ وَتَضْيِيعُهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كَنْزًا مِنَ الْكُنُوزِ، فَأَخَذَ مَكَانَهُ مَدَرًا أَوْ حِجَارَةً لَا يَنْتَفِعُ بِهَا؛ كَانَ خَاسِرًا خُسْرَانًا مُبِينًا.

وَحَدُّ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ: أَنْ تَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَوْ سَكَتَّ عَنْهُ لَمْ تَأْثَمْ، وَلَمْ تَسْتَضِرَّ بِهِ فِي حَالٍ وَلَا مَآلٍ.

مِثَالُهُ: أَنْ تَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ؛ فَتَذْكُرَ لَهُمْ أَسْفَارَكَ وَمَا رَأَيْتَ فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ، وَمَا وَقَعَ لَكَ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَمَا اسْتَحْسَنْتَهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ، فَأَنْتَ إِذَا بَالَغْتَ فِي الِاجْتِهَادِ حَتَّى لَا يَمْتَزِجَ بِحِكَايَتِكَ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ وَلَا تَزْكِيَةُ نَفْسٍ؛ فَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ مُضَيِّعٌ لِزَمَانِكَ، وَأَنَّى تَسْلَمُ مِنَ الْآفَاتِ!

وَمِنْ جُمْلَتِهَا -أَيْ: وَمِنْ جُمْلَةِ الْآفَاتِ- الَّتِي لَا يُسْلَمُ مِنْهَا:

أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ؛ فَأَنْتَ بِالسُّؤَالِ مُضَيِّعٌ وَقْتَكَ، وَقَدْ أَلْجَأْتَ صَاحِبَكَ بِالْجَوَابِ إِلَى التَّضْيِيعِ، هَذَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مِمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ آفَةٌ، وَأَكْثَرُ الْأَسْئِلَةِ فِيهَا آفَاتٌ.

فَإِنَّكَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ عَنْ عِبَادَتِهِ -مَثَلًا-؛ فَتَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ صَائِمٌ؟

فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ؛ كَانَ مُظْهِرًا لِعِبَادَتِهِ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ سَقَطَتْ عِبَادَتُهُ مِنْ دِيوَانِ السِّرِّ، وَعِبَادَةُ السِّرِّ تَفْضُلُ عِبَادَةَ الْجَهْرِ بِدَرَجَاتٍ.

وَإِنْ قَالَ: لَا؛ كَانَ كَاذِبًا.

وَإِنْ سَكَتَ كَانَ مُسْتَحْقِرًا لَكَ، وَتَأَذَّيْتَ بِهِ؛ إِذْ لَمْ يُجِبْكَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ.

وَإِنِ احْتَالَ لِمُدَافَعَةِ الْجَوَابِ افْتَقَرَ إِلَى جُهْدٍ وَتَعَبٍ فِيهِ.

فَقَدْ عَرَّضْتَهُ بِالسُّؤَالِ إِمَّا لِلرِّيَاءِ، أَوْ لِلْكَذِبِ، أَوْ لِلِاسْتِحْقَارِ، أَوْ لِلتَّعَبِ فِي حِيلَةِ الدَّفْعِ، وَكَذَلِكَ سُؤَالُكَ عَنْ سَائِرِ عِبَادَاتِهِ.

عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ((سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: خَمْسٌ لَهُنَّ أَحْسَنُ مِنَ الدُّهْمِ الْمَوْقَفَةِ: لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ؛ فَإِنَّهُ فَضْلٌ وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ الْوِزْرَ، وَلَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا يَعْنِيكَ حَتَّى تَجِدَ لَهُ مَوْضِعًا؛ فَإِنَّهُ رُبَّ مُتَكَلِّمٍ فِي أَمْرٍ يَعْنِيهِ قَدْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيَعْنَتُ، وَلَا تُمَارِ حَلِيمًا وَلَا سَفِيهًا؛ فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَقْلِيكَ -أَيْ: يُبْغِضُكَ-، وَإِنَّ السَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ إِذَا تَغَيَّبَ عَنْكَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَذْكُرَكَ بِهِ، وَأَعْفِهِ مِمَّا تُحِبُّ أَنْ يُعْفِيَكَ مِنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَرَى أَنَّهُ يُجَازَى بِالْإِحْسَانِ، وَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ)).

قَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: ((أَمْرٌ أَنَا أَطْلُبُهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُ بِتَارِكٍ طَلَبَهُ)).

قَالُوا: ((مَا هُوَ يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ؟)).

قَالَ: ((الصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي)).

فَفِيهِ مَشَقَّةٌ..

وَهَؤُلَاءِ مِنَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ فِي الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُصَرِّحُونَ بِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ فِي أَلَّا يَتَكَلَّمُوا إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِإِخْفَاقِهِمْ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِيهِمْ.

قَالُوا: ((مَا هُوَ يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ؟)).

قَالَ: ((الصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي)).

يُحَاوِلُ وَيُزَاوِلُ عَشْرَ سِنيِنَ، فَلَا يَصِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: ((كَفَى عَيْبًا أَنْ يُبْصِرَ الْعَبْدُ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ)).

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: ((دُخِلَ عَلَى ابْنِ أَبِي دُجَانَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقُ فِي نَفْسِي مِنَ اثْنَتَيْنِ: لَمْ أَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا)).

وَهَذَا الْحَدِيثُ -الَّذِي مَرَّ- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي الْمَرْءَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ، فَإِذَا تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَفَعَلَ مَا يَعْنِيهِ كُلَّهُ؛ فَقَدْ كَمُلَ حُسْنُ إِسْلَامِهِ.

((فَضْلُ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ))

((وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِفَضْلِ مِنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَنَّهُ تُضَاعَفُ حَسَنَاتُهُ، وَتُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُضَاعَفَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 فَالْمُضَاعَفَةُ لِلْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِحَسَبِ إِحْسَانِ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَتَى بِحَسَنَةٍ كَانَ لَهُ سَبْعُ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِسْلَامَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )). فَالْمُضَاعَفَةُ لِلْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِحَسَبِ إِحْسَانِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَفَضْلِهِ؛ كَالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَفِي الْحَجِّ، وَفِي الْأَقَارِبِ، وَفِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّفَقَةِ.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ النَّسَائِيِّ)).

الْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَ أَزْلَفَهَا: مَا سَبَقَ مِنْهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُثَابُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الْكُفْرِ إِذَا أَسْلَمَ وَتُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ إِذَا أَسْلَمَ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَحْسُنَ إِسْلَامُهُ، وَيَتَّقِيَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ؛ فَحِينَئِذٍ يُثَابُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الْكُفْرِ -يَعْنِي: الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ-، وَتُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ إِذَا أَسْلَمَ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟)).

قَالَ: ((أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَسَنَاتِهِ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا سَيِّئَاتُهُ الَّتِي كَانَتْ فِي الشِّرْكِ فَإِنَّهَا تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68-70].

اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

* فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا بِمَعْنَى: أَنَّ اللهَ يُبَدِّلُ مَنْ أَسْلَمَ وَتَابَ إِلَيْهِ بَدَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي الْإِيمَانَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ.

* وَقَالَ آخَرُونَ: التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ، جُعِلَتْ لَهُمْ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ؛ فَالتَّائِبُ يُوقَفُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا؛ رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَيَعْرِضُ اللهُ عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا.

فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ.

فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.

فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا!

 قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

فَإِذَا بُدِّلَتِ السَّيِّئَاتُ بِالْحَسَنَاتِ فِي حَقِّ مَنْ عُوقِبَ عَلَى ذُنُوبِهِ بِالنَّارِ، كَمَا فِي حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا فِيهَا، إِذَا بُدِّلَتِ السَّيِّئَاتُ بِالْحَسَنَاتِ فِي حَقِّ مَنْ عُوقِبَ عَلَى ذُنُوبِهِ بِالنَّارِ؛ فَفِي حَقِّ مَنْ مَحَا سَيِّئَاتِهِ بِالْإِسْلَامِ وَبِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَحْوَهَا بِذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ مَحْوِهَا بِالْعِقَابِ.

فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّنْ قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ؛ فَيُقَالُ: إِنَّمَا التَّبْدِيلُ فِي حَقِّ مَنْ نَدِمَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَجَعَلَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ، فَكُلَّمَا ذَكَرَهَا ازْدَادَ خَوْفًا وَوَجَلًا وَحَيَاءً مِنَ اللهِ، وَمُسَارَعَةً إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُكَفِّرَةِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].

وَمَا ذُكِرَ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فَإِنَّهُ يَتَجَرَّعُ مِنْ مَرَارَةِ النَّدَمِ وَالْأَسَفِ عَلَى ذُنُوبِهِ أَضْعَافَ مَا ذَاقَ مِنْ حَلَاوَتِهَا عِنْدَ فِعْلِهَا، وَيَصِيرُ كُلُّ ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهِ سَبَبًا لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ مَاحِيَةٍ لَهُ، فَلَا يُسْتَنْكَرُ بَعْدَ هَذَا تَبْدِيلُ هَذِهِ الذُّنُوبِ حَسَنَاتٍ.

وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ؛ تَبَدَّلَتْ سَيِّئَاتُهُ فِي الشِّرْكِ حَسَنَاتٍ؛ فَعَنْ شَطْبٍ الطَّوِيلِ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً -وَالْحَاجَةُ: هِيَ الْحَاجَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالدَّاجَةُ: هِيَ الْحَاجَةُ الْكَبِيرَةُ-، أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً؛ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟)).

فَقَالَ: ((أَسْلَمْتَ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَافْعَلِ الْخَيْرَاتِ، وَاتْرُكِ السَّيِّئَاتِ؛ فَيَجْعَلُهَا اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهَا)).

قَالَ: ((وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي ((زَوَائِدِهِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)) )).

((أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً؛ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟)).

فَقَالَ: ((أَسْلَمْتَ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَافْعَلِ الْخَيْرَاتِ، وَاتْرُكِ السَّيِّئَاتِ؛ فَيَجْعَلُهَا اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهَا)).

قَالَ: ((وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: ((فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى)).

((ضَوَابِطُ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَمَا لَا يَعْنِيهِ))

وَالضَّابِطُ فِي تَحْدِيدِ مَا يَعْنِي وَمَا لَا يَعْنِي هُوَ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَاعِدَةً فِي ضَابِطِ ذَلِكَ فَقَالَ: ((كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ)).

وَمَا لَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ جُزْءَانِ:

* جُزْءٌ فِي أُمُورٍ لَا تَعْنِيهِ وَلَا تَهُمُّهُ مِنْ أَصْلِهَا؛ كَشُؤُونِ الْآخَرِينَ وَخُصُوصِيَّاتِهِمْ فِي كَيْفِيَّاتِ مَعَايِشِهِمْ، وَجِهَاتِ تَحَرُّكِهِمْ، وَمِقْدَارِ تَحْصِيلِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا.

* وَجُزْءٌ فِي حَاجَاتٍ تَهُمُّ الْإِنْسَانَ فِي أَصْلِهَا؛ كَشُؤُونِ الْمَعَايِشِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِهَا، وَمَا لَا يَعْنِي فِيهَا هُوَ الزِّيَادَةُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ.

وَمِنَ الْأَخْطَاءِ الشَّائِعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ بَيِّنٌ وَفَهْمٌ خَاطِئٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ.

وَلِذَلِكَ خَشِيَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِثْلَ هَذَا اللَّبْسِ فِي الْفَهْمِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ.

وَقَوْلُهُ: ((لَا يَعْنِيهِ)) أَيْ: لَا يَهُمُّهُ شَرْعًا؛ قَوْلًا كَانَ هَذَا الشَّيْءُ، أَوْ فِعْلًا مُحَرَّمًا كَانَ، أَوْ مَكْرُوهًا، أَوْ مُبَاحًا، وَذَلِكَ مَا دَامَ هَذَا الشَّيْءُ زَائِدًا عَنْ حَاجَتِهِ مِمَّا لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْفُضُولُ كُلُّهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.

وَالْمَقْصُودُ بِالْعِنَايَةِ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: عَنَاهُ الْأَمْرُ يَعْنِيهِ: إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَتَعَلَّقَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَكَانَ مِنْ مَطْلُوبِهِ وَمَقْصُودِهِ.

وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِوَقُرِئَ {يَعْنِيهِ} أَيْ: لَهُ شَأْنٌ لَا يَهُمُّهُ مَعَهُ غَيْرُهُ.

وَالْفِعْلُ أَصْلَهُ مِنْ (عَنَى): الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ لِلشَّيْءِ بِانْكِمَاشٍ فِيهِ، وَحِرْصٍ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظِ الْحَدِيثِ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ التَّرْكِ عَنِ الْفِعْلِ؛ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ يَتَعَدَّى إِلَى فِعْلِ مَا يَعْنِيهِ كَذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّيْءَ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَعْنِيَ الْإِنْسَانَ أَوْ لَا، وَعَلَى كُلٍّ إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ.

فَصَارَتِ الْأَقْسَامُ بِذَلِكَ أَرْبَعَةً:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: فِعْلُ مَا يَعْنِي، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِي، وَهُمَا حَسَنَانِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: تَرْكُ مَا يَعْنِي، وَفِعْلُ مَا لَا يَعْنِي، وَهُمَا قَبِيحَانِ.

وَالَّذِي يَعْنِي الْإِنْسَانَ قِسْمَانِ:

* قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ فِي مَعَاشِهِ؛ مِمَّا يُشْبِعُهُ مِنْ جُوعٍ، وَيَرْوِيهِ مِنْ عَطَشٍ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُعِفُّ فَرْجَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ دُونَ مَا فِيهِ تَوَسُّعٌ فِي الْمَلَذَّاتِ وَاسْتِكْثَارٌ مِنْهَا.

وَهَذَا الْقِسْمُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مِمَّا يَعْنِي الْإِنْسَانَ، وَصَلَاحُهُ وَسِيلَةٌ لِصَلَاحِ الْآخِرَةِ.

* وَقِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِسَلَامِتِهِ فِي مَعَادِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَالْإِخْلَاصُ.

وَهَذَا الْقِسْمُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَهَمُّ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ.

فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ هُمَا مَا دَعَا النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْحِرْصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِه: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)).

فَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ مَا يَعْنِيهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ سَلِمَ مِنْ سَائِرِ الْآفَاتِ، وَجَمِيعِ الشُّرُورِ وَالْمُخَاصَمَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى حُسْنِ إِسْلَامِهِ، وَرُسُوخِ إِيمَانِهِ، وَحَقِيقَةِ تَقْوَاهُ، وَمُجَانَبَتِهِ لِهَوَاهُ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِمَصَالِحِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَإِعْرَاضِهِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

وَقِيلَ فِي ضَابِطِ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَمَا لَا يَعْنِيهِ:

* الَّذِي يَعْنِيهِ: هُوَ الَّذِي يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِدِينِهِ، أَوْ لِدُنْيَاهُ الْمُوصِلَةِ لِآخِرَتِهِ.

* وَمَا لَا يَعْنِيهِ: مَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِدِينِهِ، وَلَا لِدُنْيَاهُ الْمُوصِلَةِ لِآخِرَتِهِ.

وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْشِطَةِ الْإِنْسَانِ وَأَعْمَالِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، كَمَا أَنَّهُ شَامِلٌ لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَكُلُّهَا مِمَّا يُحَاوِلُ الشَّيْطَانُ إِيقَاعَ الْعَبْدِ فِيهِ مُتَدَرِّجًا مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَخَفِّ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ إِلَّا كَلَامًا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).

وَالضَّابِطُ لِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي هُوَ الشَّرْعُ فَحَسْبُ، لَا اتِّبَاعُ حُظُوظِ النَّفْسِ، فَمَا لَا يَطْلُبُ الشَّرْعُ الِاعْتِنَاءَ بِهِ فَهُوَ مِمَّا لَا يَعْنِي.

فَإِذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ ظَانًّا أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَعْنِيهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَسَاءَ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.

 ((الْآثَارُ السَّيِّئَةُ لِلِانْشِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي))

الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِيمَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ وَمَا يَذَرُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الرُّكْنِ الْأَوَّلِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَهُوَ جَانِبُ التَّخْلِيَةِ لِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا الرُّكْنِ الرُّكْنُ الثَّانِي؛ وَهُوَ التَّحْلِيَةُ بِالِانْشِغَالِ بِمَا يَعْنِي.

وَتَزْدَادُ الْحَاجَةُ لِفَهْمِ مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فِي زَمَنٍ تَزَاحَمَتْ فِيهِ الْوَاجِبَاتُ، وَتَنَازَعَتْ فِيهِ الْأَوْلَوِيَّاتُ، وَصَعُبَتْ فِيهِ الْأُمُورُ، فَكَانَتِ الْخُطْوَةُ الْأُولَى تَرْكِيزَ الِاهْتِمَامِ فِيمَا يَنْفَعُ، وَتَرْكَ كُلِّ مَا لَا يَعْنِي، وَهِيَ أَوْلَوِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ مُلِحَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ، وَفِي تَرْبِيَةِ الْآخَرِينَ.

كَمَا تَزْدَادُ الْحَاجَةُ لِإِحْيَاءِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي ظِلِّ انْتِشَارِ بَعْضِ الْمَشَاكِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّاجِمَةِ عَنْ عَدَمِ التَّحَلِّي بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخُوضُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ.

* فَمِنْ هَذِهِ الْمَشَاكِلِ: انْغِلَاقُ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَفْضِيلُهُ قَطْعَ صِلَاتِهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِيرَانِ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ، وَغَيْرِهِمْ؛ مَخَافَةَ كَثْرَةِ تَدَخُّلَاتِهِمْ وَتَحَرُّشَاتِهِمْ بِحَيَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، مِمَّا أَدَّى إِلَى وُجُودِ نَوْعٍ مِنْ ضَعْفِ الْوَلَاءِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.

* وَمِنْ هَذِهِ الْمَشَاكِلِ  -أَيْضًا- الَّتِي نَجَمَتْ مِنْ إِهْمَالِ التَّوْجِيهِ النَّبَوِيِّ السَّدِيدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: تِلْكَ الْمَشَاكِلُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ تَدَخُّلِ الْآخَرِينَ فِي شُؤُونِ الْأُسْرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا التَّدَخُّلُ -أَحْيَانًا- مِنَ الْأَبَوَيْنِ الَّذَيْنِ يَسْتَرْسِلَانِ فِي السُّؤَالِ عَنْ شُؤُونِ أَبْنَائِهِمَا الْمُتَزَوِّجِينَ، وَمُحَاوَلَةِ تَوْجِيهِ دَفَّةِ أُسَرِهِمْ عَلَى مَا يَرَيَانِهِ مُنَاسِبًا مِمَّا يَنْتُجُ عَنْهُ مَشَاكِلُ لَا تَخْفَى وَلَا تُحْصَى.

وَهُنَا لَا بُدَّ لِلْأَبْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبِرِّ بِهِمَا -أَيْ: بِالْوَالِدَيْنِ-، وَالْحِكْمَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْأُسَرِيَّةِ بِمَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ الْحَيَاةُ، كَمَا يَجْمُلُ بِهَؤُلَاءِ الْآبَاءِ الْكِرَامِ أَنْ يَنْهَلُوا مِنْ مَعِينِ هَذَا الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، وَيَتَلَمَّسُوا سَعَادَةَ أَبْنَائِهِمْ عَلَى وَفْقِ مَا رَسَمَهُ الشَّرْعُ لِعَلَاقَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.

((عِلَاجُ الِانْشِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي))

وَعِلَاجُ الِانْشِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي يَكُونُ بِـ:

أَوَّلًا: إِخْلَاصُ النِّيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ الدَّافِعِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْحِرْصِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ.

ثَانِيًا: الِاسْتِعَانَةُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَدَوَامُ مُرَاقَبَتِهِ، وَتَقْوِيَةُ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ.

ثَالِثًا: الِاشْتِغَالُ بِمَا يَعْنِي؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَنْجَحِ الْعِلَاجَاتِ، وَالْمَرْءُ لَوِ اعْتَنَى بِمَا كُلِّفَ بِهِ لَوَجَدَ فِيهِ شُغُلًا شَاغِلًا عَمَّا لَا يَعْنِيهِ.

رَابِعًا: الشُّعُورُ بِقُبْحِ هَذِهِ الْآفَةِ وَشَيْنِهَا؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْعَاقِلَ الَّذِي يُحَافِظُ عَلَى كَرَامَتِهِ لَا يَرْضَى أَنْ يُوصَمَ بِأَنَّهُ مِنَ الْفَارِغِينَ الْبَطَّالِينَ الْفُضُولِيِّينَ الَّذِينَ يَدُسُّونَ آنَافَهُمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ، وَيَتَجَسَّسُونَ وَيَتَلَصَّصُونَ عَلَى الْآخَرِينَ.

خَامِسًا: تَذَكُّرُ الْحِرْمَانِ الَّذِي يَجْنِيهِ الْإِنْسَانُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ:

* الْحِرْمَانُ مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَرَعِ:

قَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: ((مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ حُرِمَ الصِّدْقَ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْفُضُولِ حُرِمَ الْوَرَعَ، وَمَنْ ظَنَّ السُّوءَ حُرِمَ الْيَقِينَ، وَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هَلَكَ)).

* وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْحِكْمَةِ:

قِيلَ لِلُقْمَانَ: ((مَا حِكْمَتُكَ؟)).

قَالَ: (( لَا أَسْأَلُ عَمَّا قَدْ كُفِيتُ، وَلَا أَتَكَلَّفُ مَا لَا يَعْنِينِي)).

* وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْحِلْمِ:

قَالَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ: ((مَا بَقِيَ مِنْ حِلْمِكَ؟)).

قَالَ: ((لَا يَعْنِينِي مَا لَا يَعْنِينِي)).

* الْحِرْمَانُ مِنَ السِّيَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَاحْتِرَامِ النَّاسِ لَهُ:

قِيلَ لِلْأَحْنَفِ: ((بِمَ سُدْتَ قَوْمَكَ وَأَنْتَ لَسْتَ بِأَنْقَبِهِمْ وَلَا أَشْرَفِهِمْ؟)).

قَالَ: ((إِنِّي لَا أَتَنَاوَلُ -أَوْ قَالَ: لَا أَتَكَلَّفُ مَا كُفِيتُ، وَلَا أُضَيِّعُ مَا وُلِّيتُ)).

* الْحِرْمَانُ مِنْ لِينِ الْقَلْبِ، وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَبَرَكَةِ الرِّزْقِ:

قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: ((إِذَا رَأَيْتَ قَسَاوَةً فِي قَلْبِكَ، وَوَهَنًا فِي بَدَنِكَ، وَحِرْمَانًا فِي رِزْقِكَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِمَا لَا يَعْنِيكَ)).

* الْحِرْمَانُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَرَاحَةِ النَّفْسِ:

فَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِي يُمَكِّنُنَا مِنْ رَاحَةٍ نَفْسِيَّةٍ تَامَّةٍ، نَنَامُ وَنَحْنُ نَتَمَتَّعُ بِاطْمِئْنَانٍ تَامٍّ، وَنَأْكُلُ وَنَشْرَبُ بِانْشِرَاحٍ وَحَيَوِيَّةٍ، فِي حِينَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ الْمُتَطَلِّعَ إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ يَعِيشُ فِي قَلَقٍ دَائِمٍ، وَحَيْرَةٍ قَاتِلَةٍ، وَاسْتِفْسَارَاتٍ لَا يَجِدُ لَهَا جَوَابًا.

تُرَى مَا سِرُّ عَلَاقَةِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ بِفُلَانٍ؟!

وَمَا هِيَ أَحْوَالُ فُلَانٍ الْمَالِيَّةُ؟!

وَمِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ؟!

وَمَا سِرُّ هَذَا السُّرُورِ الْبَادِي عَلَى وَجْهِ فُلَانٍ هَذَا الْيَوْمَ؟!

وَالْمِسْكِينُ لَا يَجِدُ لِتَسَاؤُلَاتِهِ أَجْوِبَةً شَافِيَةً!!

* وَأَخْطَرُ مِنْ هَذَا التَّعَرُّضُ لِلْحِرْمَانِ مِنْ عُلُوِّ الْقَدْرِ وَالدَّرَجَةِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِذَا خَاضَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ نَقَصَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ، فَكَانَ هَذَا عَلَيْهِ؛ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَا هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ جَهَنَّمَ وَغَضَبِ اللهِ، بَلْ نَقْصُ قَدْرِهِ وَدَرَجَتِهِ عَلَيْهِ)).

وَكَفَى بِهَذَا خُسْرَانًا!

وَفِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: ((أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ)).

سَابِعًا: مِمَّا تُعَالَجُ بِهِ آفَةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي: حِفْظُ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَبْدِ لِيَشْغَلَهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ.

وَهَذِهِ الْأَبْوَابُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ: النَّظَرَاتُ، وَالْخَطَرَاتُ، وَاللَّفَظَاتُ، وَالْخُطُوَاتُ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ بَوَّابَ نَفْسِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ، يُلَازِمُ الرِّبَاطَ عَلَى ثُغُورِهَا.

* فَأَمَّا النَّظَرَاتُ: فَيَجْتَهِدُ الْمَرْءُ فِي كَفِّهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَرَاكِبَ وَمَتَاجِرَ وَكَمَالِيَّاتٍ؛ فَضْلًا عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ؛ كَالنَّظَرِ لِلْقِرَاءَةِ فِي غَثِّ الْكُتُبِ وَالْمَجَلَّاتِ، وَالِانْشِغَالِ بِأَخْبَارِ الرِّيَاضَةِ، وَالْفَنِّ، وَالْكُرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ، وَالْأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.

* وَأَمَّا الْخَطَرَاتُ وَالْأَفْكَارُ: فَيَجِبُ صَرْفُهَا فِيمَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ، وَيَجِبُ إِشْغَالُهَا عَنِ التَّفَاهَاتِ وَالسَّفَاسِفِ وَالْحَرَامِ، وَذَلِكَ بِالتَّفَكُّرِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَعَانِي آيَاتِ اللهِ الْمَقْرُوءَةِ وَالْمَنْظُورَةِ، وَفِي نِعَمِهِ -تَعَالَى-، وَكَذَلِكَ التَّفْكِيرُ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ مَعَ التَّفْكِيرِ فِي وَاجِبِ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتِهِ.

هَذَا وَإِنْ لَمْ يَضْبِطِ الْمَرْءُ خَطَرَاتِهِ فَلَا غَرْوَ -إِذَنْ- أَنْ يَهِيمَ عَلَى وَجْهِهِ فِي أَوْدِيَةِ الْوَهْمِ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْعَاجِزِينَ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنْ تَنْفِيذِ مَا يُرِيدُونَ فِي الْحَيَاةِ، فَفَرُّوا إِلَى الْوَهْمِ أُنْسًا بِهِ، فَقَدْ وَجَدُوا فِيهِ مَا يَشْتَهُونَ.

* وَأَمَّا اللَّفَظَاتُ: فَلَا يَخْفَى عَظِيمُ خَطَرِهَا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).

فَيَجِبُ عَلَى الْكَيِّسِ الْفَطِنِ أَنْ يَصُونَ لِسَانَهُ، وَيَتَّبِعَ فِي ذَلِكَ الْوَصِيَّةَ الْعُمَرِيَّةَ الَّتِي أَهْدَاهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمَنْ يُرِيدُ ضَبْطَ لِسَانِهِ؛ إِذْ قَالَ: ((مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ، وَالسَّلَامُ)).

* وَأَمَّا الْحَرَكَاتُ وَالْخُطُوَاتُ: فَحِفْظُهَا بِأَلَّا يَنْقُلَ قَدَمَهُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي خُطَاهُ مَزِيدُ ثَوَابٍ مِنَ اللهِ فَالْقُعُودُ عَنْهَا خَيْرٌ لَهُ، وَيُمْكِنُ لِلْعَبْدِ الْمُوَفَّقِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلِّ مُبَاحٍ يَخْطُو إِلَيْهِ قُرْبَةً يَنْوِيهَا للهِ، فَتَقَعُ خُطَاهُ قُرْبَةً، وَهَكَذَا سَائِرُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ وَأَعْمَالِ الْبَدَنِ.

قَالَ قَتَادَةُ: ((كَانَ يُقَالُ: لَا يُرَى الْمُسْلِمُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: فِي مَسْجِدٍ يَعْمُرُهُ، أَوْ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، أَوِ ابْتِغَاءِ رِزْقِ اللهِ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ)).

ثَامِنًا: مِمَّا تُعَالَجُ بِهِ هَذِهِ الْآفَةُ الْمُرْدِيَةُ -وَهِيَ آفَةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي-: تَذَكُّرُ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ الْكَاتِبِينَ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

* وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْتَاجُ الْأَمْرُ إِلَى مُعَاقَبَةِ النَّفْسِ، ((كَمَا فَعَلَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ عِنْدَمَا مَرَّ بِغُرْفَةٍ فَسَأَلَ: ((مَتَى بُنِيَتْ هَذِهِ؟)).

فَأَدَّبَ نَفْسَهُ بِصِيَامٍ؛ لِأَنَّهَا تَسْأَلُ عَمَّا لَا يَعْنِيهَا!)).

وَلَا يَسْتَغْنِي الْإِنْسَانُ عَنْ قَدْرٍ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاسَطَةِ وَالتَّوَدُّدِ لِبُلُوغِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ؛ لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّهُ بَابٌ يَشُقُّ ضَبْطُهُ إِلَّا عَلَى الْجَادِّينَ الْمُوَفَّقِينَ.

((أُمُورٌ لَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي))

وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي:

* الزِّيَادَةُ فِي جَوَابِ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ وَالْفَتَاوَى إِنْ ظَنَّ الْمُفْتِي حَاجَةَ السَّائِلِ لِذَلِكَ؛ كَأَنْ يَسْأَلَ عَنِ الصَّلَاةِ فَيَذْكُرَ الْوُضُوءَ، وَالصَّلَاةَ، وَأَذْكَارَهُمَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ: جَوَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ الصَّلَاةَ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ.

وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ؛ فَقَدْ أَجَابَهُ وَزَادَهُ ﷺ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَفِيهِ: أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَكَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ؛ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ النَّصِيحَةِ، لَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي)).

يَتَتَبَّعُونَ الْأُمُورَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ؛ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ صِدْقِ الْقُلُوبِ، وَحُسْنِ النِّيَّاتِ، وَعَظِيمِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَيَبْحَثُونَ فِي هَذَا الْمَأْزِقِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ مَنْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُفْتِينَ إِذَا مَا سُئِلُوا عَنْ أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ أَحْكَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي، أَوْ هُوَ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ؟

فَيَبْحَثُونَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَرِّرُوا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، حَتَّى لَا يَتَوَرَّطَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ؛ لِأَنَّهَا آفَةٌ عَظِيمَةٌ تَمْحَقُ الْبَرَكَةَ؛ بَرَكَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ، وَبَرَكَةَ الْيَقِينِ فِي الصُّدُورِ، بَلْ إِنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الرِّزْقِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَالْمَعَاصِي قَوَاطِعُ لِلْأَرْزَاقِ.

إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ!

فَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ، وَكَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ النَّصِيحَةِ لَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي.

وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللهِ -أَيْ: عَلِّمْنِي الصَّلَاةَ-، فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ، وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، وَالْوُضُوءَ، وَلَيْسَا مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهُمَا شَرْطَانِ لَهَا.

* مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَلَيْسَ مِنْهُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ خَاصَّةً إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ سِوَاهُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- الْقِيَامُ بِذَلِكَ مَهْمَا كَانَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي.

* وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَلَيْسَ مِنْهُ: مُلَاعَبَةُ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاسَطَةِ وَالتَّوَدُّدِ؛ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي الْإِفْرَاطُ فِي ذَلِكَ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ سَبَبًا فِي ضَيَاعِ الْأَوْقَاتِ، وَفَسَادِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، وَغَرْسِ رُوحِ الْهَزْلِ وَالسَّفَهِ وَاللَّعِبِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

((الِاشْتِغَالُ بِمَا لَا يَعْنِي تَضْيِيعٌ لِرَأْسِ مَالِ الْمَرْءِ))

رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ أَوْقَاتُهُ، فَمَهْمَا صَرَفَهَا إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ بِهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ضَيَّعَ رَأْسَ مَالِهِ.

لِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)).

وَسَبَبُهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ: هُوَ الْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، أَوْ تَزْجِيَةُ الْأَوْقَاتِ بِحِكَايَاتِ أَحْوَالٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا.

عِلَاجُ ذَلِكَ كُلِّهِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَنْفَاسَهُ رَأْسُ مَالِهِ، وَأَنَّ لِسَانَهُ شَبَكَةٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَنِصَ بِهَا الْخَيْرَاتِ الْحِسَانَ، فَإِهْمَالُهُ ذَلِكَ وَتَضْيِيعُهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ.

((خُطُورَةُ فُضُولِ الْكَلَامِ))

وَأَمَّا فُضُولُ الْكَلَامِ: فَهُوَ -أَيْضًا- مَذْمُومٌ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْخَوْضَ فِيمَا لَا يَعْنِي، فَهُوَ مِنْهُ بِسَبَبٍ عَظِيمٍ، وَالزِّيَادَةَ فِيمَا يَعْنِي عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ؛ فَإِنَّ مَنْ يَعْنِيهِ أَمْرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِكَلَامٍ مُخْتَصَرٍ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُجَسِّمَهُ وَيُكَرِّرَهُ، وَمَهْمَا تَأَدَّى مَقْصُودُهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَذَكَرَ كَلِمَتَيْنِ فَالثَّانِيَةُ فُضُولٌ -أَيْ: فَضْلٌ عَنِ الْحَاجَةِ-، وَهُوَ أَيْضًا مَذْمُومٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا ضَرَرٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ فُضُولَ الْكَلَامِ لَا يَنْحَصِرُ، بَلِ الْمُهِمُّ مَحْصُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [لنِّسَاءِ: 114].

وَقَالَ عَطَاءٌ: ((إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقُ لِحَاجَتِكَ فِي مَعِيشَتِكَ الَّتِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْهَا؛ مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ: أَتُنْكِرُونَ أَنَّ {عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الِانْفِطَارِ: 11]، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17- 18].

أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ إِذَا نُشِرَتْ صَحِيفَتُهُ الَّتِي أَمْلَاهَا صَدْرَ نَهَارِهِ كَانَ أَكْثَرُ مَا فِيهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ؟!)). وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ!

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ أَحَقَّ مَا طَهَّرَ الرَّجُلُ لِسَانُهُ)).

وَفِي أَثَرٍ: ((مَا أُوتِيَ رَجُلٌ شَرًّا مِنْ فَضْلٍ فِي لِسَانٍ)).

أَيْ: مِنْ زِيَادَةٍ فِي كَلَامٍ، مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَا يَعْنِيهِ.

وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ -الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ القيَامَةِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ، وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ يَكْتُبَانِ عَمَلَكَ؛ فَأَكْثِرْ مَا شِئْتَ أَوْ أَقِلَّ)).

وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((مَنْ كَثُرَ مَالُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ كَذِبُهُ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ عَذَّبَ نَفْسَهُ)).

وَكَانَ طَاوُوسٌ يَعْتَذِرُ مِنْ طُولِ السُّكُوتِ وَيَقُولُ: ((إِنِّي جَرَّبْتُ لِسَانِي -يَعْتَذِرُ لِمُجَالِسِيهِ مِنْ طُولِ صَمْتِهِ وَقِلَّةِ كَلَامِهِ، فَيَقُولُ-: إِنِّي جَرَّبْتُ لِسانِي فَوَجَدْتُهُ لَئِيمًا رَضِعًا)).

وَالرَّضِعُ وَالرَّضِيعُ: الْخَسِيسُ مِنَ الْأَعْرَابِ، الَّذِي إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ رَضَعَ بِفِيهِ شَاتَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَهُ الضَّيْفُ فَيَطْلُبَ اللَّبَنَ.

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ((مَا مِنْ خَطِيبٍ يَخْطُبُ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ خُطْبَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ((إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلامِ مَخَافَةُ الْمُبَاهَاةِ)).

وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ يَقُولُ: ((لَا خَيْرَ فِي الْكَلامِ إِلَّا فِي تِسْعٍ: تَهْلِيلٌ، وَتَكْبِيرٌ، وَتَسْبِيحٌ، وَتَحْمِيدٌ، وَسُؤَالُكَ مِنَ الْخَيْرِ، وَتَعَوُّذُكَ مِنَ الشَّرِّ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقِرَاءَتُكَ الْقُرْآنَ)).

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((إِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ نَظَرَ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَكَلَّمَ، وَإِلَّا أَمْسَكَ عَنْهُ، وَالْفَاجِرُ إِنَّمَا لِسَانُهُ رِسْلًا رِسْلًا)). الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ سَهْلٌ مُتَهَاوَنٌ فِيهِ!

((كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيكُمْ!))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَوْ أَنَّنَا كَفَفْنَا عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي فَلَنْ نَتَكَلَّمَ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا فِيمَا لَا يَعْنِينَا!

ارْجِعْ إِلَى نَفْسِكَ صَادِقًا، وَفَتِّشْ فِي نَفْسِكَ وَاعِيًا، وَسَتَرَى صِدْقَ مَا أَقُولُ -إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--.

مَا نِسْبَةُ مَا يَعْنِيكَ إِلَى مَا لَا يَعْنِيكَ فِيمَا تَتَكَلَّمُ بِهِ إِلَّا كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ، إِلَّا كَرَمْلَةٍ فِي صَحَرَاءَ جَرْدَاءَ لَا أَمَدَ لَهَا!

أَمْسِكْ لِسَانَكَ؛ حَتَّى تَتَوَفَّرَ عَلَيْكَ طَاقَةُ عَقْلِكَ وَطَاقَةُ قَلْبِكَ؛ مِنْ فَهْمِكَ، مِنْ حِفْظِكَ، مِنْ عِلْمِكَ، مِنْ ذِكْرِكَ، مِنْ تُقَاكَ وَتَقْوَاكَ، فَهَذَا كُلُّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ.

فَلَوْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ.. لَوْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ.. فَهَذَا نَافِعٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، هَذَا مَبْدَأٌ إِنْسَانِيٌّ عَامٌّ؛ كَقَوْلِهِ ﷺ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ))، هَذَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ، وَيَنْفَعُ الْمُسْلِمَ نَفْعًا مُضَاعَفًا؛ لِأَنَّ مَا يَنْفَعُهُ بِالضَّرُورَةِ وَبِالْأَوَّلِيَّةِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرَتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَحْرِصُ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ فَيَسْتَفِيدُ -أَيْضًا-.

فَكَذَلِكَ لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، وَفِّرْ طَاقَةَ عَقْلِكَ وَطَاقَةَ قَلْبِكَ، وَاحْفَظْ عَلَى نَفْسِكَ وَقْتَكَ وَاسْتَثْمِرْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَالَ فَرْعُ الْوَقْتِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِالْوَقْتِ فَقَدْ تَصَدَّقَ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا هُوَ حَصِيلَةُ عَمَلٍ وَبَذْلِ مَجْهُودٍ فِي وَقْتٍ، وَالْوَقْتُ هُوَ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْوَقْتِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ، فِي تَقْرِيبِ مَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فِي بَثِّ الْعِلْمِ النَّافِعِ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

خَطَرُ اللِّسَانِ عَظِيمٌ، وَلَا نَجَاةَ مِنْهُ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالْخَيْرِ؛ فَعَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ((الصَّمْتِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ؟)).

فَقَالَ: ((يَا ابْنَ جَبَلٍ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((يَا لِسَانُ! قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ)).

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ مَلَكَ غَضَبَهُ وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ)). خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

قَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

فَاخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ثورة يناير والأسرار الخفية
  الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ
  نَصِيحَةٌ إِلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَةِ
  الْحَرْبُ الصُّهْيُوصَلِيبِيَّةُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  التَّاجِرُ الْأَمِينُ
  الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق
  السعي في حاجة الآخرين
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى
  ثورة الحرائر وإهانة المصاحف !!
  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان