مَنْزِلَةُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحُجِّيَّتُهَا


 ((مَنْزِلَةُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحُجِّيَّتُهَا))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّسَالَةَ, وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ.

وَقَدْ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْوَحْيَيْنِ -بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ-، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيْهِ ﷺ الْحَوْضَ.

أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)). وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةُ الصَّحِيحَةُ))، وَفِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَالسُّنَّةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، لَا يَصِحُّ إِيمَانٌ إِلَّا بِتَحْكِيمِ الرَّسُولِ ﷺ، وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ، وَالتَّسْلِيمِ لَهُ، مَعَ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء :65].

وَمُخَالَفَةُ السُّنَّةِ شُؤْمٌ حَاضِرٌ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابٌ مُدَّخَرٌ فِي الْآخِرَةِ.

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: ((كُلْ بِيَمِينِكَ)).

قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ.

قَالَ: ((لَا اسْتَطَعْتَ))، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ.

قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ)).

يَبُسَتْ يَدُهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَفْعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ عُقُوبَةً لَهُ.

فَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عَاجِلَةٌ.

وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ تَكَبُّرًا؛ مُعَرَّضٌ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور :63].

وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تُصِيبَهُ فِتْنَةٌ فِي قَلْبِهِ؛ فَيَزِيغَ عَنِ الْحَقِّ، وَيَكْفُرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَيَفْسَدَ قَلْبُهُ بِزَيْغٍ وَضَلَالٍ، فَلَا يَهْتَدِي لِلْحَقِّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ أَشَدُّ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا.

الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، أَوِ الْمَرَضِ، أَوِ الْهَلَاكِ الَّذِي يَحِلُّ بِالْكُفَّارِ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ.

وَالْعَذَابُ الثَّانِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ.

وَلَا مَفَرَّ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ مُتَعَمِّدًا مِنَ الْعُقُوبَتَيْنِ، عُقُوبَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَعُقُوبَةٌ فِي الْبَدَنِ أَوْ فِي الْمَالِ؛ إِمَّا بِالْمَوْتِ أَوِ الْهَلَاكِ، أَوْ بِتَلَفِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ ﷺ.

*حُجِّيَّةُ السُّنَّةِ وَحِفْظُهَا مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-:

إِنَّ الدِّينَ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِيمَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَتَحْكِيمُ شَرِيعَتِهِ، وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ ﷺ.

وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ، وَفَسَّرَتْ مُشْكِلَهُ، وَقَيَّدَتْ مُطْلَقَهُ، وَخَصَّصَتْ عَامَّهُ، وَشَرَحَتْ مَقَاصِدَهُ.

وَلَا غِنَى عَنِ السُّنَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَطَاعَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْعِبَادَةِ بِسَبَبِهَا وَجِنْسِهَا، وَكَمِّهَا وَكَيْفِهَا، وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا.

قَالَ السُّيُوطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «الرِّسَالَةِ»، وَنَقَلَهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَدْخَل»:

«قَدْ وَضَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ مِنْ دِينِهِ وَفَرْضِهِ وَكِتَابِهِ الْمَوضِعَ الَّذِي أَبَانَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّهُ جَعَلَهُ عَلَمًا لِدِينِهِ؛ بِمَا افْتَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ وَحَرَّمَ مِنْ مَعْصِيَتِه, وَأَبَانَ مِنْ فَضِيلَتِهِ؛ بِمَا قَرَنَ بَينَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 171].

وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62].

فَجَعَلَ كَمَالَ ابْتِدَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، ثمَّ بِرَسُولِهِ مَعَهُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ، وَاتِّبَاعَ سُنَنِ رَسُولِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]، مَعَ آيٍ سِوَاهَا ذَكَرَ فِيهِنَّ الْكِتَابَ وَالْحِكمَةَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآن، وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ».

{يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}: وَهُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْيًا أَوَّلًا, وَيُعَلِّمُهُمُ {الحِكْمَةَ} وَهِيَ السُّنَّةُ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ ﷺ.

«قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

فَقَالَ بَعضُ أَهلِ الْعِلْم: أُولُوا الْأَمْرِ: أُمَرَاءُ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، {فَإِنْ تَنَازَعْتُم}: أَيْ: فَإِنِ اخْتَلَفْتُم فِي شَيْءٍ -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- هُمْ وَأُمَرَاؤُهُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِطَاعَتِهِمْ، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}: يَعْنِي -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِلَى مَا قَالَ اللَّهُ وَالرَّسُولُ.

ثمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طَاعَتُهُ، فَقَالَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وَاحْتَجَّ -أَيْضًا- فِي فَرْضِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ بِقَولِهِ تَعالَى: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وَبِقَولِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7], إِلَى غَيرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتَ عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ, فَلَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّ أَمرِهِ؛ لِفَرْضِ اللَّهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ ﷺ ».

* لَقَد أَمَرَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ  وَطَاعَتِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131-132].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

«وَالآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعنَى كَثِيرَةٌ؛ وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ ﷺ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ, وَهِيَ كَالأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَطَاعَةِ أَوَامِرِهِ وَنَواهِيهِ.

وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، مَنْ جَحَدَ وَاحِدًا مِنهُمَا فَقَد جَحَدَ الآخَرَ وَكَذَّبَ بِهِ؛ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ، وَخُرُوجٌ عَنْ دَائرَةِ الْإِسلَامِ بإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلمِ وَالْإِيمَانِ» .

وَلَا شَكَّ أَنَّ السُّنَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الْحِفظِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ لِشَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الثَّابِتِ المَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يَسَعُ المُؤمِنَ بِحَالٍ إِنكَارُهُ وَلَا التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِهِ؛ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ.

بَلْ مَا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عُرِفَ أَوْ يُعرَفُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِمَا، أَوْ عَنْ طَرِيقِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ حُجِّيَّتُهَا بِهِمَا.

فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ إِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -كِتَابِهَا وَسُنَّتِهَا- كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

فَنُورُ اللهِ: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِلْعِبَادِ وكَلَّفَهُمْ بِهِ، وَضَمَّنَهُ مَصَالَحَهُمْ، وَالَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

وَلَقَدْ حَفِظَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا حَفِظَ الْقُرْآنَ, فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا -وَللَّهِ الْحَمْدُ وَمِنْهُ الْفَضْلُ- شَيْءٌ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَستَوْعِبْهَا كُلُّ فَرْدٍ عَلَى حِدَةٍ.

وَمَعلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الْمُبَيَّنِ الْمَشرُوحِ، وَلَمْ يَتَكَفَّل بِحِفْظِ الشَّارِحِ الْمُبَيِّنِ؛ لَأَحَالَنَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِشَيْءٍ مَعْدُومٍ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْوَاقِع, أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ بِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْنَا مِنْ طَرِيقٍ مَوثُوقٍ بِهِ, وَلَمْ نَعْرِفْ صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ, وَلَا الْمَقبُولَ مِنْهُ مِنَ الْمَردُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّكلِيفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً؛ ثُمَّ تَأْتِي السُّنَّةُ بِتَفَاصِيلِهَا, وَبِبَيَانِ مُجْمَلِهَا, وَبِتَفْسِيرِ وَشَرْحِ مَا أُجْمِلَ فِيهَا, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَلَاقَةِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ.

فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَفِظَ هَذَا الْمُبَيَّنَ -وَهُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ- وَلَمْ يَحْفَظِ الْمُبَيِّنَ -وَهُوَ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ-؛ لَأَحَالَنَا عِنْدَمَا يَأْمُرُنَا فِي الْمُبَيَّنِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ- عَلَى مَا لَا يُوثَقُ بِهِ, أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْدُومٌ إِنْ لَمْ يَحفَظِ السُّنَّةَ كَمَا حَفِظَ الْقُرْآنَ.

وَهَذَا يَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا!! إِذْ كَيْفَ نَتَعَبَّدُ بِشَيْءٍ وَقَدْ أُزِيلَ مِنَ الْوُجُودِ تَمَامًا أَوْ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ وُجُودًا شَكْليًّا فَاقِدًا لِلْقِيمَةِ!!

إِنَّ فِقْدَانَ الشَّارِحِ الْمُبَيِّنِ بِكَامِلِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِقْدَانُ أَكْثَرِ الْمُبَيَّنِ الْمَشْرُوحِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ وَشَرْحَهُ يَكُونُ مُتَوَقِّفًا غَالِبًا عَلَى الشَّارِحِ الْمُبَيِّنِ.

«وَمِنَ الْمَعلُومِ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ قَد جَاءَ فِي الْكِتَابِ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّةِ السُّنَّة, فَهِيَ -بِهَذَا المَعْنَى- فَرْعٌ عَنْهُ فَرْعِيَّةَ الْمَدْلُولِ عَلَى الدَّالِّ, وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَهَا عَنْهُ فِي الِاعْتِبَارِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَلْ يُوجِبُ المُسَاوَاة».

لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى السُّنَّةِ؛ لِفَهْمِ عَدِيدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ, وَكُلُّ دَارِسٍ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ -وَلَا سِيَّمَا آيَاتُ الْأَحكَامِ وَأَحَادِيثُ الأَحكَامِ- يُدْرِكُ تَمَامَ الْإِدْرَاك أَنَّ لِلسُّنَّةِ دَوْرًا هَامًّا لَا يُسْتَهَانُ بِهِ فِي بَيَانِ الْأَحكَامِ الْمُجْمَلَةِ فِي الْقُرآنِ الْكَرِيمِ.

هِيَ -أَيْ: السُّنَّةُ- الَّتِي تُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ الْعَامَّ، وَتُبَيِّنُ الْمُجْمَلَ وَتُوَضِّحُ الْمُشْكِلَ.

وَقَد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بإِقَامَةِ الصَّلَاةِ -وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَركَانِ الإِسْلَام- فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43], فَكَيْفَ إِقَامَتُهَا؟

السُّنَّةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُجِيبُ عَنْ هَذَا السُّؤالِ.

وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ إِجمَالًا دُونَ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43], وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].

وَتَوَلَّتِ السُّنَّةُ بَيَانَ الْأَموَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ, وَبَيَانَ الأَنْصِبَةِ, وَالْمِقدَارِ المَأخُوذِ مِنْ كُلِّ نِصَابٍ, إِلَى آخِرِ الْبَيَانِ الشَّامِلِ لهَذَا الرُّكْنِ الْعَظِيمِ.

كَمَا بَيَّنَتِ السُّنَّةُ مِقْدَارَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَمُسْتَحِقِّيهَا, وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَحْكَامَ الصِّيَامِ، وَسُنَنَهُ، وَمَكْرُوهَاتِهِ، وَمُبْطِلَاتِهِ, وَالْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ, وَالرُّخَصَ وَأَهْلَهَا, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الرُّكْنِ الْعَظِيمِ, وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنَاسِكِ، وَالْبِيُوعِ، وَالْحُدُودِ وَغَيرِهَا.

*وَأَمَّا بَيَانُ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ: فَيَأْتِي عَلَى وُجُوهٍ مُختَلِفَةٍ وَطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: بَيَانُ مُجْمَلِهِ, فَالصَّلَاةُ فِي قَولِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لَفْظٌ مُجْمَلٌ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَا كَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ؟ وَمَا أَوْقَاتُهَا؟ وَمَا عَدَدُ رَكَعَاتِهَا؟ وَمَا شُرُوطُهَا؟ وَمَا أَرْكَانُهَا؟

وَقَد بَيَّنَتِ السُّنَّةُ كُلَّ هَذَا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِقَوْلِهِ, فَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ وَالسُّنَّةُ مُفَصِّلَةٌ لَهُ؛ كَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ مَا أُجْمِلَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ, إِمَّا بِحَسَبِ كَيْفِيَّاتِ الْعَمَلِ، أَوْ أَسْبَابِهِ، أَوْ شُرُوطِهِ، أَوْ مَوَانِعِهِ، أَوْ لَوَاحِقِهِ، أَوْ مَا أَشْبَه ذَلِكَ.

فَبَيَانُهَا لِلصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا؛ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَرُكُوعِهَا، وَسُجُودِهَا، وَسَائرِ أَحْكَامِهَا, وَبَيَانُهَا لِلزَّكَاةِ فِي مَقَادِيرِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَنُصُبِ الْأَموَالِ المُزَكَّاةِ.

وَبَيَانُ أَحْكَامِ الصَّوْمِ مِمَّا لَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ, وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْحَجِّ وَالذَّبَائِحِ, وَالْأَنْكِحَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا, وَالْبُيُوعُ وَأَحْكَامُهَا, وَالْجِنَايَاتُ مِنَ الْقَصَاصِ وَغَيرِهِ مِمَّا وَقَعَ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ, وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ دُخُولُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

فَالَّذِي نُزِّلَ إِلَيْهِمْ: إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ, وَهُنَاكَ مَا يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الذِّكْرِ {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.

فَالسُّنَّةُ تُبَيِّنُ هَذَا الْمُجْمَلَ وَتُوَضِّحُهُ، وَتُخَصِّصُ الْعَامَّ, وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ يَرِثَ الْأَوْلَادُ الْآبَاءَ أَوِ الْأُمَّهَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [ النساء:11].

فَكَانَ هَذَا الْحُكْمُ عَامًّا فِي كُلِّ أَصْلٍ مَوْرُوثٍ وَكُلِّ وَالِدٍ وَارِثٍ, فَقَصَرَتِ السُّنَّةُ الْأَصْلَ الْمَوْرُوثَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ». وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَكَذَلِكَ قَصَرَتِ السُّنَّةُ التَّوَارُثَ عَلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ». وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

*وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْقُرْآنِ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة 28]، فَإِنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَمْ يُقَيَّدْ فِي الْآيَةِ لِمَوْضِعٍ خَاصٍّ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ قَيَّدَتْهُ بِكَوْنِهِ مِنَ الرُّسْغِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] يُوجِبُ الطَّوَافَ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الْفِعْليَّةَ قَيَّدَتْهُ بِالطَّهَارَةِ.

*وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُبَيِّنُ الْمُشْكِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» أَشْكَلَ عَلَيْهَا قَوْلُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8].

وَنَصُّ الْحَدِيثِ -كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ-، أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ».

قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8].

قَالَتْ: فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ».

فَهَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- في هَذِهِ الآيَةِ تُبيِّنُهُ سُنَّةُ رَسُولِ الله ﷺ.

«وَالْأُمَّةُ مَا زَالَتْ -وَلَنْ تَزَالَ- مُتَّفَقِةً عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَقَامٌ مَعْلُومٌ في بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهَا حُجَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا إِذَا ثَبَتَت، وَلَا يَجُوزُ الحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ مَعَ ثُبُوتِهَا، وَأَنَّهَا قَد ثَبَتَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ وَلَوْ لَم يَرِد بِالْأَحْكَامِ كِتَابٌ -يَعْنِي: الْكِتَابَ الْعَزِيزَ-.

وَهِيَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَهِيَ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أُجمِلَ فِيهِ.

وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ عِنْدَ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِم، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ شَذَّ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إِلَّا الزَّنَادِقَةَ وَغُلَاةَ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ لَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِمْ، وَلَا يَتَأَثَّرُ الْإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَتِهِمْ» .

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَلَا شَكَّ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَحْيٌ مُنَزَّلٌ، فَقَدْ حَفِظَهَا اللهُ تَعَالَى كَمَا حَفِظَ كِتَابَهُ، وَقَيَّضَ اللهُ لَهَا عُلَمَاءَ نُقَّادًا، يَنْفُونَ عَنْهَا تَحْرِيفَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَيَذُبُّونَ عَنْهَا كُلَّ مَا أَلْصَقَهُ بِهَا الْجَاهِلُونَ وَالْكَذَّابُونَ وَالْمُلْحِدُونَ.

لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَهَا تَفْسِيرًا لِكِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَبَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَضَمَّنَهَا أَحْكَامًا أُخْرَى، لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، كَتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الرَّضَاعِ، وَبَعْضُ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا, وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ تُذْكَرْ فِي كِتَابِ اللهِ الْعَزِيزِ)).

وَفِي بَيَانِ وَحْيِ السُّنَّةِ وَمَنْزِلَتِهَا مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ الشَّيْخُ مُحَمَّد مُحَمَّد أَبُو زَهْوٍ :

((قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل :44] .

فَالْمُبَيَّنُ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَالْبَيَانُ هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمُنَزَّلُ عَلَى قَلْبِهِ بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، فَكُلٌّ مِنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى.

قَالَ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة :16-19].

وَبَيَانُ الْقُرْآنِ يَكُونُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَلَوْلَا بَيَانُ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ مَا عَرَفْنَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَالرَّكَعَاتِ، وَمَقَادِير الزَّكَوَاتِ، وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَجُلِّ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ مِنْ زَوَاجٍ وَطَلَاقٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُجْمَلٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفَصَّلَتْهُ السُّنَّةُ تَفْصِيلًا)).

فاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَكَذَا تَكَفَّلَ بِحِفْظِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِسُنَّةِ نَبِيِّكُم ﷺ، وَأَنْ تُشَارِكُوا فِي مَعْرِفَةِ الْجُهْدِ الَّذِي بَذَلَهُ حَمَلَةُ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ؛ فَإِنَّهُ جُهْدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ عِنْدَ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ.

  

المصدر:فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ حُبَّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ
  مَفْهُومُ الْجِهَادِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ
  سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ
  نَوْعَا مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  لَا تَقْنَطُوا مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِكُمُ الْمِحَنُ!
  حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ
  الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّ
  المَوْعِظَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ((رَمَضَانُ شَهْرُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ))
  مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: تَقْوَى اللهِ
  تَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ وَافْرَحُوا فِي عِيدِكُمْ
  الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ
  الْأَوْلَادُ زِينَةٌ وَابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ!!
  الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
  نَمَاذِجُ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ مَعَ الْيَقِينِ فِي تَوْفِيقِ اللهِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان