رِقَابَةُ الضَّمِيرِ وَرِعَايَةُ السِّرِّ فِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ وَصِرَاعَاتِهَا!!


((رِقَابَةُ الضَّمِيرِ وَرِعَايَةُ السِّرِّ فِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ وَصِرَاعَاتِهَا!!))

رِقَابَةُ الضَّمِيرِ، وَرِعَايَةُ الْمَكْنُونِ فِي السِّرِّ، فِي قَلْبٍ قَدِ انْطَوَى عَلَى مَا انْطَوَى عَلَيْهِ، وَفِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ بِأَحْدَاثِهَا يَتَبَدَّى الْمَنْطِقُ الذُّبَابِيُّ، صِرَاعَاتُ النَّاسِ، وَاهْتِمَامَاتُهُمُ الصَّغِيرَةُ؛ حَتَّى وَإِنْ بَدَا النَّاسُ آخِذِينَ بِمَا هُوَ حَقٌّ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ وَلَكِنَّهُمْ رُبَّمَا أَخْطَئُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ.

اشْتِبَاكَاتُهُمْ.. مُشَاجَرَاتُهُمْ.. صِرَاعَاتُهُمْ.. مَعَارِكُهُمْ.. أَحْوَالُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ.

النَّاسُ فِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ يُبَدِّدُونَ كَثِيرًا مِنَ الطَّاقَاتِ، وَيَفْقِدُونَ كَثِيرًا مِنْ صَالِحِ النِّيَّاتِ، وَيَتَبَدَّى فِي حَيَاتِهِمُ الْمَنْطِقُ الذُّبَابِيُّ؛ فَإِنَّ الذُّبَابَةَ إِذَا رَأَتِ الْعَسَلَ قَالَتْ: مَنْ يُوَصِّلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ؟!!

فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ، فَوَقَعَتْ فِيهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ؛ تَقُولُ: مَنْ يُخْرِجُنِي مِنْهُ وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ؟!!

فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ؛ إِذَا مَا انْزَلَقَتْ رِجْلُهُ فِي تِلْكَ الشَّبَكَةِ الْعَجِيبَةِ، وَتِلْكَ الْمَتَاهَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي؛ مِنَ اشْتِبَاكَاتِ اهْتِمَامَاتِ النَّاسِ الصَّغِيرَةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَجَرَّدَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعُودَ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَنْزَلِقَ؛ حَتَّى يَكُونَ كَالْحَجَرِ الَّذِي يَنْحَدِرُ مِنْ قِمَّةِ الْجَبَلِ، لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِي السَّفْحِ، لَا قَرَارَ لَهُ إِلَّا فِي الْهُوَّةِ، وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوقِفَهُ؟!!

حَجَرٌ مُنْدَفِعٌ مِنْ قِمَّةِ الْجَبَلِ، يَنْزِلُ بِثِقَلِهِ، وَبِالْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي تَشُدُّهُ إِلَيْهَا شَدًّا، حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَى قَرَارٍ، وَأَيْنَ الْقَرَارُ؟!!

وَأَيْنَ السَّفْحُ مِنَ الْقِمَّةِ الشَّمَّاءِ، وَمِنَ الْمُرْتَفَعِ الْعَالِي؟!!

وَأَيْنَ السَّفْحُ مِنْ طَهَارَةِ مَاءِ الْمُزْنِ فِي عُلْيَا أَجْوَازِ الْفَضَاءِ؟!!

أَيْنَ مِنْ أَيْنَ؟!!

فَإِذَا دَخَلَ الْمَرْءُ مُشْتَبِكًا فِي هُمُومِ النَّاسِ الصَّغِيرَةِ، هُمُومُهُمْ صَغِيرَةٌ، أَحْيَانًا يُزَيِّنُونَهَا، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا حَظُّ النَّفْسِ، وَالنَّفْسُ كَلْبِيَّةٌ، وَخِنْزِيرِيَّةٌ، وَسَبُعِيَّةٌ، وَإِنْسَانِيَّةٌ، وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ؛ لَرَأَيْتَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ!!

فَأَمَّا أَهْلُ الِاعْتِدَاءِ، وَالِاشْتِبَاكِ، وَالتَّعَدِّي، وَالظُّلْمِ، وَالْعُدْوَانِ؛ فَنُفُوسٌ سَبُعِيَّةٌ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يُقْبِلُونَ عَلَى الْقَاذُورَاتِ يَتَقَمَّمُونَهَا؛ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النُّفُوسِ الْخِنْزِيرِيَّةِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يَغِلُّونَ.. يَهِرُّونَ.. يَمْدَحُونَ، لَا يَأْتِي مِنْهُمْ خَيْرٌ إِلَّا لِمَامًا؛ فَأَصْحَابُ النُّفُوسِ الْكَلْبِيَّةِ.

وَأَمَّا الْبَشَرُ الْأَسْوِيَاءُ الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى مِنْهَاجِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَهُمُ النَّاسُ حَقًّا، هَؤُلَاءِ لَا تَسْتَفِزُّهُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ، فَيَقِفُ صَامِدًا؛ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُ السِّرَّ.

النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمُ الْخَلْقِ إِخْلَاصًا للهِ.

النَّبِيُّ ﷺ قِيلَ فِيهِ مَا قِيلَ ﷺ، وَهُوَ ﷺ يُبَلِّغُ دِينَ رَبِّهِ، وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يُجَاهِدُ فِي مَوَاطِنِ الْجِهَادِ بِاللِّسَانِ، كَمَا يُجَاهِدُ بِالسِّنَانِ ﷺ، وَيَحْلُمُ فِي مَوَاطِنِ الْحِلْمِ.

وَكَانَ ﷺ إِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ اللهِ؛ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ ﷺ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ أَبَدًا، وَلَمْ يَنْتَصِرْ لِنَفْسِهِ قَطُّ، وَهُوَ ﷺ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُوَ شَرْعِيٌّ، وَمَا هُوَ شَخْصِيٌّ.

فَمَا كَانَ شَخْصِيًّا فَهُوَ مُهْدَرٌ، وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ لَا يَقْبَلُ اعْتِدَاءً عَلَى الشَّرْعِ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ ﷺ.

يُهَانُ فِي ذَاتِهِ؛ هَذَا شَيْءٌ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَأَمَّا إِذَا مَا أُهِينَ ﷺ لَا فِي شَخْصِهِ، وَإِنَّمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ وَنَبِيٌّ؛ فَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ.

وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ الْأَعْرَابِيُّ، فَيَأْخُذُ بِرِدَائِهِ، أَوْ يَأْخُذُ بِحَاشِيَةِ الْبُرْدِ، فَمَا يَزَالُ يَجْذِبُهُ وَيَجْبِذُهُ -وَهُمَا بِمَعْنًى- حَتَّى يُؤَثِّرَ ذَلِكَ الْبُرْدُ بِحَاشِيَتِهِ فِي صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ: ((أَعْطِنِي؛ فَإِنَّكَ لَا تُعْطِينِي مِنْ مَالِكَ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ!!)).

هَذَا يَمُرُّ صَفْحًا وَعَفْوًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْتَدُونَ عَلَى حُرُمَاتِ الدِّينِ، فَيَذُمُّونَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ الْغِنَاءِ الْمَاجِنِ الدَّاعِرِ -كَمَا كَانَ مِنَ الْقَيْنَتَيْنِ-، أَوْ يَسُبُّ النَّبِيَّ ﷺ، وَيَعْتَدِي عَلَيْهِ؛ وَحِينَئِذٍ يَتَأَتَّى الشَّرْعُ بِأَحْكَامِهِ: ((هَؤُلَاءِ إِذَا فُتِحَتْ مَكَّةُ؛ فَلَا تَدَعُوهُمْ حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ؛ وَلَوْ كَانُوا مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ)).

فَتُفَرِّقُ أَنْتَ بَيْنَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ شَخْصِيٌّ؛ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِكَ أَنْتَ، هَذَا مُهْدَرٌ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ هَذَا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، هَذَا لَا تَفْرِيطَ فِيهِ بِحَالٍ، هَذَا لَا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ فِي التَّحَصُّلِ عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَائِهِ كَامِلًا، هَذَا إِذَا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمَا تَعَلَّقَ بِشَخْصِكَ فَهُوَ مُهْدَرٌ، لَا قِيمَةَ لَهُ، هَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالدِّينِ؛ فَهَذَا مَا يَكُونُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ شَخْصِيٌّ، وَمَا هُوَ دِينِيٌّ شَرْعِيٌّ مَوْضُوعِيٌّ، يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.

قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَيُظَنُّ مَا هُوَ شَرْعِيٌّ؛ يُظَنُّ ذَاتِيًّا شَخْصِيًّا، وَيُظَنُّ مَا هُوَ شَخْصِيٌّ دِينِيًّا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ مَوْطِنِ النِّزَاعِ هَا هُنَا؛ لِأَنَّهُ سَيَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، سَتَفْتَرِقُ هَا هُنَا السُّبُلُ.

فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ مَوْطِنِ النِّزَاعِ هَا هُنَا، فَإِذَا مَا حُرِّرَ مَوْطِنُ النِّزَاعِ، وَإِذَا مَا كُنْتَ مُتَأَكِّدًا مُتَيَقِّنًا أَنَّكَ فِيهِ قَدْ رَاقَبْتَ السِّرَّ، وَرَجَعْتَ فِيهِ إِلَى الطَّوِيَّةِ، وَنَظَرْتَ فِيهِ بِالْبَحْثِ وَالْفَحْصِ فِي أَطْوَاءِ الضَّمِيرِ، وَكُنْتَ مُتَيَقِّنًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.

 

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّة وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  لِمَنْ تَكُونُ الْبَيْعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟
  مِنْ سُبُلِ الْقَضَاءِ عَلَى إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: الْعِلَاجُ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ
  مَبْنَى الشَّرِيعَةِ وَقِيَامُ السُّنَّةِ عَلَى التَّيْسِيرِ
  لِمَاذَا يُدَمِّرُونَ دِمَشْقَ الْخِلَافَةَ؟!!
  إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ
  مَبْنَى الْحَيَاةِ عَلَى الِابْتِلَاءِ
  تَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ وَافْرَحُوا فِي عِيدِكُمْ
  الْأَثَرُ الْمُدَمِّرُ لِأَكْلِ الْحَرَامِ في الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  الْمَوْعِظَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((أَحْكَامُ زَكَاةِ الْفِطْرِ))
  نِعْمَةُ الْمَاءِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا
  حُكْمُ النِّكَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  مَعْنَى الصِّدْقِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
  الدرس التاسع : «المُرَاقَبَةُ»
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: حُبُّ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَنَفْعُهُمْ
  تَقْصِيرُ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ فِي دَعْوَةِ الْعَالَمِ لِلْإِسْلَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان