لَا يُفِيدُ الصِّيَامُ شَيْئًا مَعَ كَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ


 ((لَا يُفِيدُ الصِّيَامُ شَيْئًا مَعَ كَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْخَلْقِ مُرَادًا فَحَقِّقُوهُ..

إِنَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَصْدًا فَالْتَمِسُوهُ..

يَقُولُ رَبُّكُمْ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

هَذَا قَصْدُهُ وَهَذَا مُرَادُهُ، فَأَيْنَ أَيْنَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الْمُرَادِ؟!!

وَأَيْنَ أَيْنَ الْأَمُّ -أَيِ الْقَصْدُ- إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ الْعَظِيمِ؟!!

وَأَدُلُّكُمْ بِدَلَالَةِ نَبِيِّكُمْ ﷺ؛ إِنَّ هَذَا الصِّيَامَ لَا يَصْلُحُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَكْلِ، الصِّيَامُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا عَلَى التَّقَلُّلِ الشَّافِي لِلرُّوحِ مِنْ أَسْرِ الْجَسَدِ؛ بِتَقْلِيلِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنَامِ، وَإِلَّا فَلَا قِيمَةَ لِهَذَا الصِّيَامِ، وَلَسْتُ أَذْهَبُ بِكَ شَطَطًا فِي أَوْدِيَةِ الْأَوْهَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَوْحَاهُ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ، فَصَاغَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ سُنَّةً صَحِيحَةً مَتْلُوَّةً تَحْفَظُ -بِحِفْظِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- دَلَائِلَ الْقَصْدِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

هَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يُوَاصِلُ -يَعْنِي يَصُومُ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَغْرِبُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ، فَإِذَا جَاءَهُ السُّحُورُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا وَلَمْ يَشْرَبْهُ، يُوَاصِلُ ﷺ -وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ- فَلَمَّا أَرَادُوا الْوِصَالَ رَدَّهُمْ، وَقَالَ: ((إِنَّكُمْ لَسْتُمْ كَهَيْئَتِي، أَنَا أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي ﷺ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ)) .

انْظُرْ إِلَى الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ حَبَائِلَ الشَّهْوَةِ تُمْسِكُ بِالْأَقْدَامِ وَتَغُلُّ الْأَعْنَاقَ!! وَهُمْ يُرِيدُونَ فَكَاكًا؛ لِيَنْعَتِقُوا فِي الْمَسِيرِ إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ؛ لِكَيْ يَخْرُجُوا مِنْ أَسْرِ الْأَرْضِ إِلَى هَذَا النُّورِ الْمُضِيءِ فِي جَنَبَاتِ الْكَوْنِ؛ لِيَعْلُوا فَوْقَ حَمْأَةِ الطِّينِ الْآسِنَةِ الْمُنْتِنَةِ، لِيَعْلُوا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ الْأُفْقِ فِي طَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ رَحَمَاتُهُ فِي كُلِّ حِينٍ.

كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَفِيهِ يُجَاهِدُونَ؛ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيرِ النَّفْسِ مِنْ أَسْرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ الْأَخْذِ بِيَدِ الْقَلْبِ لِلْخُرُوجِ بِهِ مِنْ أَقْيَادِهِ وَقُيُودِهِ وَسَلَاسِلِهِ وَأَغْلَالِهِ؛ لِيَسْجُدَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ مِنْهَا إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ الصَّالِحُونَ قَبْلُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.

إِذَنْ؛ لَا يَصْلُحُ هَذَا الصِّيَامُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَلَا عَظِيمِ الشُّرْبِ، وَلَا طَوِيلِ الرُّقَادِ وَعَذْبِ الْمَنَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَلْوَةٌ مِنْ بَعْدِ خَلْوَةٍ.

تَخَلٍّ مِنْ بَدْءِ الشَّهْرِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِي نَهَارٍ مَحْدُودٍ بِقَدَرِهِ، حَتَّى إِذَا مَا دَلَفَ الشَّهْرُ إِلَى نِهَايَتِهِ، وَانْتَهَى إِلَى غَايَتِهِ بِعَشْرِهِ الْأَخِيرِ بِمَا فِيهِ مِنْ عَطَاءِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ؛ أَتَى هَذَا الْبُعْدُ الْكَامِلُ عَنْ خُلْطَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَخُلْطَةُ النَّاسِ وَمُخَالَطَتُهُمْ دَاءٌ عُضَالٌ، مَنْ جَرَّبَ مَسَّهُ فَلَنْ يَبْرَأَ إِلَّا بِالْمَمَاتِ، وَهَيْهَات!!

فَأَثَرُ تِلْكَ الْمُخَالَطَةِ يَسْتَمِرُّ مِنْ بَعْدِ الْمَمَاتِ!!

خُرُوجٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ وَمَا حَوَاهُ؛ مِنْ أَجْلِ الْخَلْوَةِ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَعَظَّمَ الشَّهْرَ وَكَرَّمَهُ لِأَجْلِهِ، بِالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّهْوَةِ بُعْدًا حِسِّيًّا ظَاهِرِيًّا، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّهْوَةِ بُعْدًا بَاطِنِيًّا دَاخِلِيًّا؛ مِنْ أَجْلِ إِقَامَةِ الْقَلْبِ عَلَى مَنْهَجِ الرَّبِّ؛ لِيَتَحَصَّلَ عَلَى الزَّادِ، حَتَّى إِذَا مَا مَرَّ الْعَامُ مَرَّ عَلَى سَلَامٍ وَسَنَا.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ؛ وَهُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ تَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ، أَوْ تَعْطِيلُهُ وَتَرْكُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ.

وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ إِفْسَادٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلِأَنَّ فِي حِفْظِهِ مَالَهُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ، وَمَصْلَحَةَ دِينِهِ.

وَمَصْلَحَةُ دُنْيَاهُ صَلَاحٌ لِأَمْرِ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّغُ حِينَئِذٍ لِأَمْرِ الدِّينِ.

الْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ التَّبْذِيرَ، وَالتَّبْذِيرُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.

عِبَادَ اللهِ! مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ نَفَقَةٍ عَظِيمَةٍ فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَطَاءَ وَالثَّوَابَ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى النَّفَقَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْلَالِ مِنْهُ، فَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ كُلَّ الْبَسْطِ، وَلَا يَجْعَلُ يَدَهُ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، وَهُوَ حَدُّ الْإِنْفَاقِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ، وَالَّذِي يُثِيبُ عَلَيْهِ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا فِيمَنْ هَدَى.

اللهم اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا مَوْضُوعَا الْمِيَاهِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ أُنْمُوذَجًا

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَرِيعَتِهِ حَتَّى بِالْحَيَوَانَاتِ
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِالِاجْتِهَادِ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَسَدَادِ الدُّيُونِ
  شَرَعَ اللهُ الزَّوَاجَ لِتَكْوِينِ أُسَرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا نَشْءٌ مُوَحِّدٌ للهِ
  أَفْضَلُ النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْمَسَاكِينِ
  طُولُ الْأَمَلِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  الْمُسْلِمُ الْإِيجَابِيُّ الْجَادُّ، الْفَائِقُ الْمُمْتَازُ
  تَرْغِيبُ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ
  جُمْلَةٌ مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ
  لَا يُجزِئُ إِخرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ قِيمَةِ الطَّعَامِ
  دَلَائِلُ أَهَمِّيَّةِ الْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ
  مَعَالِمُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْعِبَادَاتِ
  الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا جَسَدٌ وَاحِدٌ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: هَجْرُ الْفَوَاحِشِ وَالنَّظَرِ وَالسَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ
  مِنْ دُرُوسِ وَفَوَائِدِ قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: الِامْتِثَالُ وَالِاسْتِسْلَامُ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان