((ثَمَرَاتُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَصُوَرٌ مِنْ مُحَاسَبَةِ السَّلَفِ أَنْفُسَهُمْ))
فَفِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ مَصَالِحُ، مِنْهَا الِاطِّلَاعُ عَلَى عُيُوبِهَا، وَمَنْ لَمْ يَطَّلِعُ عَلَى عَيْبِ نَفْسِهِ، لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتَهُ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبِ النَّفْسِ، مَقَتَهَا فِي ذَاتِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ، حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي جَنْبِ اللهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا)).
وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: ((لَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي لَقَلَيْتُ النَّاسَ)).
فَفِي النَّاسِ شَرٌ كَبِيرٌ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ الْخَبِيرُ الْبَصِيرُ- فِي النَّاسِ شَرٌ كَبِيرٌ، وَمَهْمَا قَلَّبْتَ النَّاسَ، خَرَجَ لَكَ مِنْ وَرَاءِ تَقْلِيبِهِمْ أُمُورٌ.
((فَلَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي -وَأَنَّهَا أَسْوَءُ، وَقَدْ انْطَوَتْ عَلَى الشَّرِّ الْكَبِيرِ- لَقَلَيْتُ النَّاسَ))؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَالَ نَفْسِهِ، وَخَبَرَ حَالَ غَيْرِهِ، فَوَجَدَ الشَّرَّ بَازِغًا، وَوَجَدَ آفَاتِ النُّفُوس حَالَّةً، فَإِنَّهُ يَمْقُتُ غَيْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ نَفْسَهُ، لَكَانَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا.
قَالَ مُطَرِّفٌ فِي دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: ((اللهم لَا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي)).
فَيَرَى نَفْسَهُ فِ الْمَوْقِفِ فِي عَرَفَاتٍ أَسْوَءَ النَّاسِ، وَأَرْدَءَ النَّاسِ، وَشَرَّ النَّاسِ، فَيَقُولُ: ((اللهم لَا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي))، مِنْ بَابِ هَضْمِ النَّفْسِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهَا، وَالْحَطِّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ نَفْسِهِ هَلَكَ.
فَالنَّفْسُ كَمَاءِ الْبَحْرِ، لَا يَشْبَعُ وَارِدُهُ مَهْمَا شَرِبَ مِنْهُ، فَمَا يَزَالُ يَعُبُّ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، حَتَّى تَنْقَدَّ مَعِدَتُهُ، وَلَا رِيَّ، وَلَا ارْتِوَاءَ، فَاللهم لَا تُذْقْنَا طَعْمَ أَنْفُسِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ: ((لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى أَهْلِ عَرَفَاتٍ، ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَدْ غُفِرَ لَهُمْ، لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ فِيهِمْ)).
وَقَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: ((إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ، كُنْتُ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ)).
وَلَمَّا احْتُضِرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الْأَشْهَبِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ حَمَّادُ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَلَيْسَ قَدْ أَمِنْتَ مِمَّا كُنْتَ تَخَافُهُ، وَتَقْدَمُ عَلَى مَنْ تَرْجُوهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟
فَقَالَ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ يَنْجُوَ مِنْ النَّارِ؟!!
قَالَ: إِي وَاللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو لَكَ ذَلِكَ)).
أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ أَنْجُوَ مِنَ النَّارِ؟!!
وَعَنْ مُسْلِمٍ بْنِ سَعِيدٍ الْوَاسِطِيِّ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي ((الْبِدَايَةِ))، قَالَ: ((أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بْنُ جَعْفَرٍ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: خَرَجْنَا فِي غَزْوَةٍ إِلَى (كَابُولَ)، وَفِي الْجَيْشِ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ، فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ الْعَتَمَةِ، فَصَلَّوْا، ثُمَّ اضْطَجَعَ.
فَقُلْتُ: لَأَرْمُقَنَّ عَمَلَهُ، فَالْتَمَسَ غَفْلَةَ النَّاسِ، حَتَّى إِذَا قُلْتُ: هَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَثَبَ، فَدَخَلَ غَيْضَةً قَرِيبًا مِنَّا، فَدَخَلْتُ عَلَى إِثْرِهِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، وَجَاءَ أَسَدٌ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، فَصَعِدْتُ فِي شَجَرَةٍ، فَتُرَاهُ الْتَفَتَ أَوْ عَدَّهُ جَرْوًا، فَلَمَّا سَجَدَ، قُلْتُ: الْآنَ يَفْتَرِسُهُ الْأَسَدُ، فَجَلَسَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا السَّبُعُ، اطْلُبِ الرِّزْقَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَوَلَّى وَإِنَّ لَهُ لَزَئِيرًا.
أَقُولُ: تَصَدَّعُ الْجِبَالُ مِنْهُ، قَالَ: فَمَا زَالَ كَذَلِكَ يُصَلِّي، حَتَّى كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، جَلَسَ، فَحَمِدَ اللهَ تَعَالَى بِمَحَامِدَ لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ، وَمِثْلِي يَصْغُرُ أَنْ يَجْتَرِئَ أَنْ يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ!!
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ، وَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا، وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الْفَتْرَةِ شَيْءٌ؛ اللهُ بِهِ عَالِمٌ)).
وَمَا بَاتَ قَائِمًا، وَلَا مِنَ السَّبُعِ مُشْفِقًا، وَلَا لَهُ آمِرًا وَنَاهِيًا، وَأَمَّا صِلَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَصْبَحَ، كَأَنَّمَا بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا، وَهُوَ يُعَامِلُ رَبَّهُ، وَيَفِرُّ بِقَلْبِهِ مِنْ مَوَاطِنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَيَنْتَظِرُ حَتَّى تَهْدَأَ الْعُيُونُ، وَتَلْتَذَّ بِالْغُمْضِ أَجْفَانُهَا، ثُمَّ يَقُومُ يَتَوَضَّأُ خَالِيًا بِرَبِّهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ حَالٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَمَّا أَصْبَحَ: ((اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ، وَمِثْلِي يَصْغُرُ أَنْ يَجْتَرِئَ أَنْ يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ!!))
وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ اللهَ إِنْ أَعَاذَهُ مِنَ النَّارِ، وَأَجَارَهُ مِنَ النَّارِ، أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَنِعْمَ الْقَرَارِ، وَلَكِنَّهُ يَعْرِفُ نَفْسَهُ، وَقَدْرَ رَبِّهِ، فَيَتَأَدَّبُ فِي الْخِطَابِ، فَهَذَا أَدَبٌ فِي الْخِطَابِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
قَالَ يُونَسُ بْنُ عُبَيْدٍ: ((إِنِّي لِأَجِدُ مِئَةَ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ -أَيْ أَعْرِفُهَا- مَا أَعْلَمُ عَنْهَا فِي نَفْسِي مِنْهَا وَاحِدَةً)).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: ((لَوْ كَانَ لِلذُّنُوبِ رِيحٌ، مَا قَدَرَ أَحَدٌ، أَنْ يَجْلِسَ إِلَيَّ)).
إِي وَاللهِ، لَوْ كَانَ لِلذُّنُوبِ رِيحٌ، مَا قَدَرَ أَحَدٌ، أَنْ يَجْلِسَ إِلَيَّ، وَلَكِنَّهُ السَّتْرُ، اللهم أَدِمْ عَلَيْنَا سَتْرَكَ وَعَافِيَتَكَ.
قَالَ أَبُو حَفْصٍ: ((مَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ يُخَالِفْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يَجُرَّهَا إِلَى مَكْرُوهِهَا فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهَ؛ كَانَ مَغْرُورًا، وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِاسْتِحْسَانٍ شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَهْلَكَهَا)).
فَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمَهَالِكِ، مُعِينَةٌ لِلْأَعْدَاءِ، طَامِحَةٌ إِلَى كُلِّ قَبِيحٍ، مُتَّبِعَةٌ لِكُلِّ سُوءٍ، فَهِيَ تَجْرِي بِطَبْعِهَا فِي مَيْدَانِ الْمُخَالَفَةِ.
وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِهَا أَشَدُّهُمْ إِزْرَاءً عَلَيْهَا وَمَقْتًا لَهَا، وَمَقْتُ النَّفْسِ فِي ذَاتِ اللهِ مِنْ صِفَاتِ الصِّدِّيقِينَ، وَيَدْنُو الْعَبْدُ بِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا يَدْنُو بِالْعَمَلِ.
مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ تَمْشِي الْهُوَيْنَا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ
عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: ((إِنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا فِي مَسْجِدٍ لَهُمْ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَجَاءَ شَابٌّ حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: لَيْسَ مِثْلِي يَدْخُلُ مَعَكُمْ، أَنَا صَاحِبُ الذُّنُوبِ، أَنَا صَاحِبُ الْآثَامِ، يُزْرِي عَلَى نَفْسِهِ، فَأَوْحَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى نَبِيِّهِمْ إِنَّ فُلَانًا صِدِّيقٌ)).
وَأَمَّا مَنْ شَمَخَ بِأَنْفِهِ، وَذَاقَ طَعْمَ نَفْسِهِ، وَمَشَى فِي الْأَرْضِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا، فَيُوشِكُ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَمْقَتِ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الْعِزَّ للهِ، وَالْعَظَمَةَ للهِ، وَالْكِبْرِيَاءَ للهِ، وَالْكِبْرَ للهِ وَحْدَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ، وَمَنْ نَازَعَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، قَصَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يُبَالِي.
المصدر: محاسبة النفس