رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ

رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ

((رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((شَهْرُ الرَّحَمَاتِ الْغَامِرَةِ))

فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يُخْلِ زَمَانًا مِنْ رَحَمَاتٍ غَامِرَةٍ، وَفُيُوضَاتٍ شَامِلَةٍ, وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً مَرْحُومَةً, وَهِيَ كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ , وَهَذِهِ هِيَ أُمَّةُ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.

وَقَدْ عَلِمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا يَكُونُ مِنْ قِصَرِ أَعْمَارِ أَبْنَائِهَا؛ فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ مَا يُحَصِّلُونَ بِهِ الْغَايَاتِ، بَلْ وَيُوفُونَ بِهِ عَلَى الْغَايَاتِ, وَيَسْتَشْرِفُونَ بِهِ عَلَى النِّهَايَاتِ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ.

جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ مَوَاسِمِ الرَّحْمَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ.

((اسْتِقْبَالُ رَمَضَانَ بِالْفَرْحَةِ))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَبْشِرُ بِقُدُومِ رَمَضَانَ، وَيُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِهَذِهِ الْمِنْحَةِ الرَّبَّانِيَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغَلَّقُ  فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ  فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ  لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا  فَقَدْ حُرِمَ » . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.

كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ رَمَضَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ, ثُمَّ إِنَّهُمْ يَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ فِي رَمَضَانَ .

يَظَلُّونَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَدْعُونَ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمْ, وَيَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يُبَلِّغَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَمَضَانَ.

فَهِيَ حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ مُتَأَهِّبَةٌ مُتَوَثِّبَةٌ مُتَرَقِّبَةٌ لِهَذَا الْمَوْسِمِ الْجَلِيلِ الْعَظِيمِ, يَرُدُّ الْإِنْسَانُ الْمَظَالِمَ, وَيَدْخُلُ الشَّهْرَ مُسْتَعِدًّا لِصِيَامِهِ وَقِيَامِهِ مُحْتَسِبًا ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ رَبِّهِ.

النَّبِيُّ ﷺ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ((آمِينَ)).

فَلَمَّا نَزَلَ فَسُئِلَ: ((آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، مَا هَذا الَّذِي قُلْتَهُ، وَمَا عَهِدْنَاكَ لَهُ قَائِلًا؟)).

فَقَالَ: ((جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: بَعُدَ رَجُلٌ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ)) .

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ))

إِنَّ الْعَبْدَ الصَّالِحَ يَسْتَقْبِلُ رَمَضَانَ وَيَدُومُ عَلَى ذَلِكَ.. يَسْتَقْبِلُهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَيَدُومُ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ يَدُومُ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنْ يَغْتِنَمَهُ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيْئًا.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي شَغْلِ الْأَوْقَاتِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَدُورُ الْعَامُ دَوْرَتَهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ مِنْ قَابِلٍ، أَمْ يَكُونُ مُغيَّبًا تَحْتَ طَبَقَاتِ التُّرَابِ؟!! فَذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.

وَعَلَى الْمَرْءِ السَّعْيُ وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَسْبَابِ؛ رَاجِيًا مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الْقَبُولَ.

إِنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ:

أَوَّلُهَا: الصِّيَامُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).

لِمَاذَا كَانَ الصَّوْمُ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الرِّفْعَةِ؟

فِي شَرْحِ هَذَا مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا ﷺ لِلْعُلَمَاءِ مَسَالِكُ.

يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّيَامَ مِنْ دُونِ الْعِبَادَاتِ لَا يَلْحَقُهُ الرِّيَاءُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ تَرْكٍ بِنِيَّةٍ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ وَلَا يَلْحَقُهُ بِحَالٍ.

وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يُتَعَبَّدْ.. لَمْ يُتَعَبَّدْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمِثْلِ الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ إِذْ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، فَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ يُطْعِمُ خَلْقَهُ وَلَا يُطْعَمُ؛ إِذْ هُوَ الصَّمَدُ -وَالصَّمَدُ فِي قَوْلٍ: هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَمِنْ مَعَانِي الْقَيُّومِ أَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، لَا يَحْتَاجُ غَيْرَهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، قَائِمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ-؛ فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَكَانَ الصَّائِمُ مُتَعَبِّدًا لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَحَدًا تَعَبَّدَ لِمَعْبُودٍ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ بِالصِّيَامِ..

وَفِي هَذَا مُرَاجَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: إِنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ وَالْكَوَاكِبَ وَالْهَيَاكِلَ.. يَعْبُدُونَهَا بِالصِّيَامِ -أَحْيَانًا-، فَيَتَقَرَّبُونَ إِلَى مَعْبُودَاتِهِمْ تِلْكَ بِكَفِّهِمْ عَنْ بَعْضِ الْأُمُورِ صِيَامًا، وَعَلَيْهِ.. فَلَا يُسَلَّمُ هَذَا الَّذِي مَرَّ.

وَهَذَا الصِّيَامُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- اخْتُصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ ((إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي))، فَجَاءَتِ الْإِضَافَةُ هَاهُنَا إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا أَشْرَفَهُ! كَمَا يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: 26]؛ فَيَجْعَلُ الْبَيْتَ مُضَافًا إِلَيْهِ -هَكَذَا- عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ، وَرَفْعِ الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ وَالْمَنْزِلَةِ.

وَفِي ((صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ))  بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَنْشَأَ الرَّسُولُ ﷺ جَيْشًا، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ)).

قَالَ: فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا.

وَتَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ، فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ))، فَنَسْلَمُ وَنَغْنَمُ.

فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! جِئْتُكَ ثَلَاثًا تَتْرًا -أَيْ: مُتَتَابِعَاتٍ- أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْأَلَ اللهَ لِيَ الشَّهَادَةَ، فَكُنْتَ تَقُولُ: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ))، فَكُنَّا نَسْلَمُ وَنَغْنَمُ، وَإِذَنْ؛ فَدُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ.

قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)).

لَمْ يَكُنْ أَبُو أُمَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يُرَى فِي بَيْتِهِ بِالنَّهَارِ دُخَانٌ؛ مِنْ أَخْذِهِمْ -هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ- بِالصِّيَامِ، فَإِذَا رُئِيَ الدُّخَانُ بِبَيْتِ أَبِي أُمَامَةَ بِالنَّهَارِ عُلِمَ أَنَّ ضَيْفًا اعْتَرَاهُمْ وَنَزَلَ بِهِمْ، فَهُمْ عَلَى إِكْرَامِهِ قَائِمُونَ، وَهُمْ مِنْ أَجْلِ إِكْرَامِهِ مُتْعَبُونَ، فَهُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ يُكْرِمُونَ الضَّيْفَ، وَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.

لَمَّا ذَهَبَ أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَطْلُبُ الْبَدِيلَ -بَدِيلَ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَالدَّمُ الَّذِي قَدْ أُرِيقَ قَبْلُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَلَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ الزَّكِيِّ- فَذَهَبَ يَبْحَثُ عَنِ الْبَدِيلِ؛ إِذْ لَمْ يُمَكِّنْهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ بِقَدَرِ اللهِ مِنْ دَعْوَةٍ بِالشَّهَادَةِ مَقْبُولَةٍ، فَلَمَّا أَعْيَاهُ وَضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ، وَسُدَّتْ عَلَيْهِ السُّبُلُ؛ ذَهَبَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ بَدِيلًا، وَإِذَنْ؛ فَدُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ.

قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ)).

يَقُولُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مُرْنِي بِعَمَلٍ.

فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ)).

لِمَاذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟

لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا تَعَبَّدَنَا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِالصِّيَامِ جَعَلَهُ مَبْنِيًّا عَلَى إِمْسَاكٍ بِنِيَّةٍ، وَأَمْرُ النِّيَّةِ وَشَأْنُهَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ -وَفِي الصِّيَامِ خَاصَّةً-؛ إِذْ يَمْتَنِعُ الْمَرْءُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِي الزَّمَنِ الْمَخْصُوصِ بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، مَا أَيْسَرَ أَنْ يَخْلُوَ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ بَعِيدًا عَنْ أَعْيُنِ الْخَلْقِ ثُمَّ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا، وَأَحْيَانًا شَهْوَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مُطَّلِعٌ إِلَّا اللهُ.

بَلْ إِنَّ الْعُلَمَاءَ جَعَلُوا الْأَمْرَ أَعْمَقَ مِنْ ذَلِكَ وَأَدَقَّ؛ فَإِنَّهُمْ يَبْحَثُونَ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ: لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ إِلَى الْفَسْخِ؛ عَزَمَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ عَلَى الصِّيَامِ مُمْسِكًا فَأَتَى بِالرُّكْنَيْنِ -وَصِيَامُهُ صَحِيحٌ مَا يَزَالُ-، ثُمَّ نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يَفْعَلْ، نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يَأْكُلْ، نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَإِنَّمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ وَلَمْ يُفْطِرْ، لَمْ يَتَنَاوَلْ مُفْطِّرًا، وَلَمْ يَأْخُذْ بِمُفَطِّرٍ، وَإِنَّمَا فَسَخَ النِّيَّةَ؛ فَلَيْسَ بِصَائِمٍ، وَقَدِ انْتُقِضَ صِيَامُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الْيَوْمَ وَلَا يُفْطِرُ بَعْدَمَا أَفْطَرَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بَعْدَ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِغَيْرٍ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ إِلَى الْغُرُوبِ.

وَإِذَنْ؛ فَهَذَا الَّذِي تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ بِالْعَزْمِ لِلْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ إِتْيَانٍ بِمُفَطِّرٍ قَدْ أَفْطَرَ.

مِثْلُ هَذَا مَنْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ خَلَا اللهِ؟!!

وَمَنِ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ سِوَى اللهِ؟!!

فَالرِّعَايَةُ هَاهُنَا تَكُونُ عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ، وَأَمَّا إِذَا مَا تَرَدَّدَ فِي النِّيَّةِ فَنَوَى الْفِطْرَ مُتَرَدِّدًا غَيْرَ جَازِمٍ؛ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ جَانَبَ الْعَزْمَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَنْطَوِيَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ وَأَنْ تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ.

وَآخَرُونَ -وَهُوَ الْأَرْجَحُ- فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مَا زَالَ عَلَى أَصْلِ الْعَزْمِ -وَإِنْ تَرَدَّدَ-، فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ.

الْمُهِمُّ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ فِي أَمْرِ مُرَاقَبَةِ النِّيَّاتِ بِمَا لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ، وَهَذَا يُفْضِي بِنَا مِنْ أَوْسَعِ الْأَبْوَابِ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ الَّذِي وَصَفَهُ الرَّسُولُ ﷺ لِجِبْرِيلَ، فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ))؛ مُشَاهَدَةً، ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))؛ مُرَاقَبَةً.

فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَقَامِ الْأَسْنَى، وَفِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا؛ إِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَكُونَ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ مِنْ مَقَامَيِ الْإِحْسَانِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ مِنْهُ؛ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ وَاعِيًا، وَأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ حَصِيفًا وَعَاقِلًا، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرُ النِّيَّةِ مِنْهُ عَلَى ذُكْرٍ وَعَلَى بَالٍ، وَلَا غَرْوَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ ﷺ-: ((مَنْ لَمْ يُجْمِعِ النِّيَّةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)).

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى -وَهِيَ صَحِيحَةٌ بِالَّتِي مَرَّتْ-: ((مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ النِّيَّةَ بِاللَّيْلِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)) .

وَالنِّيَّةُ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ، وَسِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيُجْمِعُ النِّيَّةَ، وَلَفْظُ ((يُجْمِعُ)) هَاهُنَا دَالٌّ بِذَاتِهِ، مُنِيرٌ بِأَضْوَائِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ كَانَ مِنْ بَعْدِ تَفَرُّقٍ، وَكَانَ مِنْ بَعْدِ شَتَاتٍ، ((مَنْ لَمْ يُجْمِعِ النِّيَّةَ -نِيَّةَ الصِّيَامِ- قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ))، ((مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ النِّيَّةَ بِاللَّيْلِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)).

وَتَلْحَظُ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِنَ الْفَوَارِقِ مَا فِيهِ، فَلَيْسَ هَذَا بِمُشْتَرَطٍ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ فِي الصِّيَامِ النَّفْلِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَرْضٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.

فَهَذَا الْإِجْمَاعُ وَهَذَا الْجَمْعُ وَهَذَا اللَّمُّ لِهَذِهِ النِّيَّةِ الْمُشَعَّثَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي ضَبَابِيَّتِهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَخْلُصَ مُنِيرَةً قَائِمَةً مُتَلَأْلِئَةً فِي قَلْبِ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ هَذَا الْجَمْعُ وَهَذَا التَّبْيِيتُ لِلنِّيَّةِ قَبْلَ الْفَجْرِ، قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ مِنَ اللَّيْلِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صِيَامِ الْفَرْضِ.

وَأَمَّا صِيَامُ النَّفْلِ: فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْخُلُ عَلَيَّ فَيَقُولُ: ((هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ وَإِلَّا فَإِنِّي صَائِمٌ))، فَكَانَ يُنْشِئُ النِّيَّةَ بِالنَّهَارِ ﷺ.

بَلْ شَيْءٌ أَعْمَقُ وَأَدَقُّ، يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: ((إِنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرُ نَفْسِهِ)) .

الصَّائِمُ صَوْمَ الْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ إِنْ تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ إِلَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ، وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ؛ فَسْخٍ وَعَدَمِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْوِي صِيَامَ التَّطَوُّعِ صِيَامَ النَّفْلِ؛ فَإِنْ نَوَى نِيَّةَ الْفَسْخِ وَلَمْ يَأْتِ بِمُفْطِّرٍ ثُمَّ أَنْشَأَ النِّيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْشَأَ النِّيَّةَ قَبْلَ الزَّوَالِ عِنْدَمَا مَتَعَ النَّهَارُ وَلَمْ يُبَيِّتْ نِيَّةً بِلَيْلٍ، وَإِنَّمَا أَنْشَأَ النِّيَّةَ مَعَ النَّهَارِ ثُمَّ فَسَخَ وَلَمْ يَأْتِ بِمُفَطِّرٍ ثُمَّ أَنْشَأَ النِّيَّةَ مَرَّةً أُخْرَى، فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ.

غَايَةَ مَا هُنَالِكُ أَنَّهُ لَا يُثَابُ إِلَّا عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي صَامَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ فَسْخِ النِّيَّةِ فَيُنْسَخُ مَا مَرَّ مِنْ صِيَامِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَجْرٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا مَا أَنْشَأَ النِّيَّةَ بَعْدُ، فَإِنَّهُ يَتَحَصَّلُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ عَنْهُ مُمْسِكًا بَعْدَ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَلَتْ.

فِي هَذَا الصِّيَامِ مَا فِيهِ، وَهَذَا مِنْ أَجْلَى مَجَالِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْبٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنْ نَرَاهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِلَّا فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23]، فَاللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ فِي الْجَنَّةِ، إِنَّكَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْبٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، وَيَأْتِي الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَأْتِي النَّهْيُ مِنْ نَهْيِهِ، وَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلَى حَنَايَا الْقُلُوبِ وَثَنايَا الصُّدُورِ وَتَضَاعِيفِ الْأَرْوَاحِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19].

يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي ((خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ)): ((إِنَّهُ الرَّجُلُ يَدْخُلُ الْبَيْتَ فَيَمْتَدُّ نَظَرُهُ فَاجِرًا إِلَى مَا هُنَالِكَ مِنَ الْحَرِيمِ، فَإِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ أَغْضَى)) .

فَتِلْكَ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ، كَأَنَّهَا النَّظْرَةُ الْبَرِيئَةُ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا غَبَشٌ وَلَا يَلُفُّهَا مِنَ اللَّذَّةِ ضَبَابٌ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاتِعَةٌ فِي هَذَا السَّوَادِ، بَلْ قُلْ: رَاتِعَةٌ فِي هَذَا الْهِبَابِ -وَهُوَ فَصِيحٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.

وَإِذَنْ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا يُرِيدُ مِنَّا نِيَّاتِنَا، وَيُرِيدُ مِنَّا قُلُوبَنَا، وَيُرِيدُ مِنَّا أَرْوَاحَنَا، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ أَرْوَاحًا لَا أَشْبَاحًا، يُرِيدُ قُلُوبًا لَا قَوَالِبَ، وَلَوْ أَرَادَ قَوَالِبَ مَصْبُوبَةً لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ، وَلَكِنْ.. إِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مِحْضَنًا يُطَرَّقُ فِيهِ مَا يُطَرَّقُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى مُقْتَضَى النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الطَّاهِرَةِ.

فَإِذَا مَا اسْتَقَامَتِ النِّيَّةُ شَهْرًا كَامِلًا بِهَذِهِ الرِّقَابَةِ الْوَاعِيَةِ، فَهَذَا زَادُ مَا يَأْتِي مِنْ مُسْتَقْبَلِ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ، وَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ زَادٍ!!

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرْءُ غَيْرَ وَاعٍ لِهَذَا الْأَمْرِ فِي دِينِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا!!

يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ الْمُسْلِمُ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ؛ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ، وَصَلَاةِ الْقِيَامِ؛ فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) : ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ؛ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ كَثُرَ الْجَمْعُ، وَفِي الثَّالِثَةِ كَثُرُوا جِدًّا، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي الرَّابِعَةِ وَقَدِ امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ حَتَّى فَاضَ.

ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: ((أَمَا إِنِّي لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا)).

وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِي عَهْدِ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ النَّاسَ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ.. يُصَلِّي الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ بِالرَّجُلَيْنِ، فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَالَ: ((أَمَا إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ لَكَانَ حَسَنًا)) .

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّهُ مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)) .

وَمِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ: الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ، كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ السَّلَفُ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ فِي رَمَضَانَ.

وَمِنَ السُّنَنِ الْعَظِيمَةِ فِي رَمَضَانَ: سُنَّةُ الِاعْتِكَافِ: مِمَّا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الِاعْتِكَافُ؛ فَـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

* وَكَذَلِكَ: العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ مَعِي».

العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ فِي الْأَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ العَدْنَانِ ﷺ.

يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْإِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَاتِ وَمِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالِالْتِزَامَ بِمَا أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ وَكَانَ يَفْعَلُهُ؛ كَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَقَالَ ﷺ: ((لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .

وَقَالَ ﷺ: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَمِنْ سُنَنِ الصِّيَامِ: كَوْنُ الْفِطْرِ عَلَى رُطَبٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ مَاءٍ، وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الْأَفْضَلِيَّةِ؛ لِقَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتَمْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .

وَمِنْ سُنَنِ الصَّوْمِ: الدُّعَاءُ أَثْنَاءَ الصِّيَامِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْإِفْطَارِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((ثَلَاثُ دَعْوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ)). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .

وَلِقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ)).

فَهَذِهِ بَعْضُ سُنَنِ الصِّيَامِ.

كَمَا يَنْبَغِي عَدَمُ الْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

يَا بَنِي آدَمَ! كُلُوا وَاشْرَبُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، لَا تُسْرِفُوا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَا يُؤْذِي أَوْ يَضُرُّ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ أَسْرَفَ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ ِفي الدِّينِ.

وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشِّبَعَ الْمُفْرَطَ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ, بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ, وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) .

الْمُسْلِمُ يَنْظُرُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَسِيلَةً إِلَى غَيْرِهِمَا, لَا غَايَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا, فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَدَنِهِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِكَرَامَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَعَادَتِهَا.

فَلَيْسَ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لِذَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَشَهْوَتِهِمَا؛ فَلِذَا هُوَ لَوْ لَمْ يَجُعْ لَمْ يَأْكُلْ, وَلَوْ لَمْ يَعْطَشْ لَمْ يَشْرَبْ.

((حَقِيقَةُ الصِّيَامِ))

إِنَّ الصِّيَامَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الصِّيَامُ عَنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَالْآثَامِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ؛ فَلَا يَرْفُثْ -وَالرَّفَثُ: هُوَ ذِكْرُ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ عِنْدَ النِّسَاءِ خَاصَّةً- فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» .

وَقَالَ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ» .

النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ لَنَا هَذَا الْأَمْرَ قَائِمًا عَلَى نَحْوٍ بَدِيعٍ جِدًّا، يَقُولُ: ((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ...))، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ إِذَنْ؟!!

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((...إِنَّمَا الصِّيَامُ -وَهَذَا عَجَبٌ فِي عَجَبٍ- مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ)) ، لِمَ كَانَ عَجَبًا فِي عَجَبٍ؟!!

لِأَنَّ ((إِنَّمَا)) أَدَاةُ حَصْرٍ، وَكَأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ إِذْ هُمَا لَيْسَا بِمَقْصُودَيْنِ فِي ذَاتِهِمَا، وَإِنَّمَا هُمَا وَسِيلَتَانِ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ مَا وَرَاءَهُمَا، فَإِذَا تَوَقَّفَ الْمَرْءُ عِنْدَهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمَرْءُ حُدُودَهُمَا مُتَأَمِّلًا نَاظِرًا فَاحِصًا فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي جَلَّاهَا لَهُ نَبِيُّهُ ﷺ؛ فَمَا اسْتَفَادَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ شَيْئًا.

يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوُ وَالرَّفَثِ)).

حَقِيقَةُ الصِّيَامِ وَكَمَالُ الصِّيَامِ فِي الِامْتِنَاعِ وَالْكَفِّ عَنِ اللَّغْوُ وَالرَّفَثِ، عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُجْدِي، وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُفِيدُ، وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ؛ فَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ؛ لِأَنَّ اللَّغْوَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُضِيُّ الْوَقْتِ عَلَى حَسَبِ الْمُبَاحِ يَتَأَتَّى بِخِزَانَةٍ فَارِغَةٍ يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَعِنْدَئِدٍ يَكُونُ تِرَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَأَمَّا الرَّفَثُ فَهُوَ كُلُّ نُطْقٍ بِقَبِيحٍ، وَكُلُّ قَبِيحٍ مِنْ مَنْطُوقٍ فَهُوَ رَفَثٌ، فَإِذَا مَا اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُلَجِّمَ لِسَانَهُ بِزِمَامِهِ بِزِمَامِ الشَّرْعِ فَصَارَ فِي يَدِهِ، يَقُودُهُ حَيْثَ يُرِيدُ وَيُصَرِّفُهُ كَيْفَمَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْأَغَرِّ، فَقَدْ صَامَ حَقًّا، ثُمَّ هُوَ زَادٌ بَعْدُ؛ إِذْ يَتَدَرَّبُ الْمَرْءُ شَهْرًا كَامِلًا لِحِيَاطَةِ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ، وَلِتَجْمِيدِ هَذَا اللِّسَانِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي زَلَّاتِهِ بِجَمِيعِ آفَاتِهَا؛ آفَاتِهَا الَّتِي رُبَّمَا أَدَّتْ -أَحْيَانًا- إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ الدِّينَ بِكَلِمَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِكَلِمَةٍ.

يَدْخُلُ الدِّينَ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَيَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ؛ ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66]؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ذَهَبُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لِكَيْ يَعْتَذِرُوا إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾؛ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِسْلَامِكُمْ، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِحْسَانِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ لَمْ تُبَالُوا مَا يَخْرُجُ مِنْ أَلْسِنَتِكُمْ، وَلَا مَا يَنْبَثِقُ حَمْأَةً مَسْنُونَةً مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، وَلَكِنَّ الصَّوْمَ يُقِيمُ الْمَرْءَ عَلَى الْجَادَّةِ، وَيَجْعَلُهُ سَائِرًا عَلَى مِثْلِ الْحَبْلِ الْمَنْصُوبِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاعِيًا فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ يَكُونُ مُنْسَكِبًا مُنْدَلِقًا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فِي الْهَاوِيَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا بَوَاكِيَ عَلَيْهِ!!

إِذَنِ؛ النَّبِيُّ ﷺ يُؤَسِّسُ لَبِنَةً مِنْ بَعْدِ لَبِنَةٍ عِنْدَمَا يُشِيرُ لَنَا رَبُّنَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ هَذَا الصِّيَامَ مَخْصُوصٌ بِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَتَّى فِي عَطَائِهِ، وَحَتَّى فِي تَكْفِيرِ مَا يُلِمُّ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ ذُنُوبٍ وَآثَامٍ تَصِيرُ عَلَيْهِ حُقُوقًا، وَلَا بُدَّ مِنْ خَلَاصِ ذَلِكَ فِي الْمَوْقِفِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ حَسَنَاتِهِ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَفَّارَةً لِشَيْءٍ، ثُمَّ يَجْزِي بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّائِمِينَ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ.

النَّبِيُّ ﷺ يُؤَسِّسُ لَنَا عَلَى هَذَا التَّفَرُّدِ وَالِاخْتِصَاصِ لِلْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ -عِبَادَةِ الصَّوْمِ- فَيُوَضِّحُ لَنَا ﷺ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ إِلَّا إِخْرَاجَ نَفْسٍ مِنْ دَاعِيَةِ هَوَاهَا؛ إِخْرَاجُ النَّفْسِ مِنْ دَاعِيَةِ الْهَوَى، وَمُجَانَبَةُ الطَّبْعِ الَّذِي يَسْتَرْسِلُ مَعَهُ الْمَرْءُ كَيْفَمَا سَارَ يَسِيرُ خَلْفَهُ يَقُودُهُ، وَلَنْ يَقُودَهُ طَبْعُهُ إِلَّا إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ!

إِذَنْ؛ يَأْتِي الصَّوْمُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخْرِجَ الْإِنْسَانَ مِنْ دَاعِيَةِ طَبْعِهِ، وَلِيُقَوِّمَ مَا اعْوَجَّ هُنَالِكَ مِنْ سُلُوكِهِ، وَلِكَيْ يُقِيمَ قَدَمَهُ مُرَاقِبًا لِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى ضَمِيرِهِ وَفَحْوَى قَلْبِهِ.

يَأْتِي الصِّيَامُ بِهَذَا الْوَصْفِ كُلِّهِ، وَيَأْتِي النَّبِيُّ ﷺ بِاللَّبِنَاتِ لَبِنَةً مِنْ بَعْدِ لَبِنَةٍ، يُؤَسِّسُ لَنَا ﷺ بُنْيَانًا فِي فِقْهِ الْأَرْوَاحِ وَفِي تَقْوَى الْقُلُوبِ، سَامِقًا عَالِيَ الْجَنَبَاتِ، إِذَا مَا أَرَادَ الْمَرْءُ أَنْ يَنْظُرَ أَعْلَى سَنَامِهِ مَا اسْتَطَاعَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ هُنَالِكَ عِنْدَ سَاقَةِ الْعَرْشِ، سَاجِدٌ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَرْءُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَسْجُدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ لَا يَسْجُدُ قَلْبُهُ، قِيلَ: أَوَلِلْقَلْبِ سَجْدَةٌ؟!!

قَالَ: نَعَمْ، سَجْدَةُ الْقَلْبِ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ لَا يَرْفَعُ مِنْهَا إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

فَإِذَا سَجَدَ الْقَلْبُ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَانْسَجَمَ مَعَ الْكَوْنِ الْعَابِدِ فِي عِبَادَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَشَازًا، وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجًا عَنْ كَوْنٍ عَابِدٍ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الْإِنْسَانُ يَظْلِمُ وَيَجْهَلُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، يَوْمَ تَحَمَّلَ الْأَمَانَةَ إِنَّمَا تَحَمَّلَهَا بِظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ، ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ كَانَ ظَالِمًا جَاهِلًا، وَإِنَّمَا أَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ مِنِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾.

فَبِهَذَا الظُّلْمِ وَهَذَا الْجَهْلِ لَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَنْقِذُ مِنَ النَّارِ رُوحَهُ، وَإِنَّمَا يُوَرِّطُ نَفْسَهُ فِي الْمَزَالِقِ وَلَا يَلْتَفِتُ، يَسِيرُ وَلَا يَتَوَقَّفُ، وَالْمَرْءُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ وَلَوْ حِينًا؛ لِأَنَّ فِي الصِّيَامِ -فِي الصِّيَامِ خَاصَّةً- مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ، حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ -أَيْ يَتْرُكَ- طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) .

وَانْظُرْ إِلَى أَقْوَامٍ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ سَحَابَةُ النَّهَارِ، بَلْ يَمُرُّ عَلَيْهِمُ النَّهَارُ بِطُولِهِ، بَلْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ مُنْذُ إِمْسَاكِهِمْ إِلَى حِينِ إِفْطَارِهِمْ، وَمَا هُمْ بِمُمْسِكِينَ، وَلَا هُمْ بِمُفْطِرِينَ فِطْرًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا، تَمُرُّ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْفَتْرَةُ مِنْ فَتَرَاتِ الصِّيَامِ وَهُمْ وَالِغُونَ فِي أَعْرَاضِ الْخَلْقِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي الظَّهْرِ، مَعَ تَسْمِيَتِهِ بِفَاسِقٍ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ فَلَا تُقْبَلُ أَبَدًا.

يَلَغُونَ فِي الْأَعْرَاضِ، وَلَا يُرَاقِبُونَ فِي مُؤْمِنٍ وَلَا يَرْقُبُونَ فِيهِ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً!!

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ وَعَلَى دِينِهِ، وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي لَا تُغْفَرُ، وَهُوَ حَقٌّ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مُعَلَّقٌ بِهِ حَدٌّ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْجَلْدِ فِي الظَّهْرِ مَعَ التَّجْرِيسِ؛ لِكَيْ يَشْهَدَ هَذَا الْأَمْرَ بِالْعَذَابِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ مَنْ هُنَالِكَ لِيَتَّعِظَ.

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مِنَ الْمَذْهَبِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى مِصْرَ -حَفِظَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ- كَانَ الشَّافِعِيُّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى مِصْرَ يَمْضِي فِي فِقْهِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي عِرْضِ نِسَاءِ بَلْدَةٍ أَوْ رِجَالِهَا، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ بِعَدَدِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ يَعْنِي لَوْ أَنَّهُ رَمَى أَهْلَ بَلَدٍ بِفِسْقٍ فَاسْتَوْجَبَ حَدًّا بِشُرُوطِهِ، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ بِعَدَدِ مَنْ هُنَالِكَ وَكَانَ قَاطِنًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ سَاكِنًا.

وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَيَظَلُّ الدَّهْرَ كُلَّهُ إِلَى أَنْ يُفْضِيَ بِرُوحِهِ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَيُعِيدُهَا الْمَلَائِكَةُ إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ، ثُمَّ تَكُونُ فِي سِجِّينَ.. انْظُرْ إِلَى هَذَا الْوَالِغِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَعْرَاضِ بَلَدٍ جَمِيعِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ حُدُودًا بِعَدَدِهَا، لَوْ طُبِّقَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سَيُمْضِي عُمُرَهُ كُلَّهُ -وَلَنْ يَكْفِيَ- فِي تَعَرُّضٍ لِلْجَلْدِ كُلَّ حِينٍ عِنْدَمَا يَبْرَأُ أَدِيمُ جِلْدِهِ مِنْ ضَرْبٍ سَابِقٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهِ لِكَيْ يُنَفَّذَ فِيهِ حَدٌّ لَاحِقٌ، وَهَكَذَا حَتَّى يَمْضِيَ إِلَى رَبِّهِ -وَلَنْ يُوَفِّيَ-.

وَالْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا اللِّسَانِ الَّذِي إِذَا مَا انْطَلَقَ كَانَ وَحْشًا كَاسِرًا لَا يُرَدُّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعُودُ أَوَّلَ مَا يَعُودُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُوَرِّطَهُ بِالْمَهَالِكِ، وَحَتَّى يَقْتَحِمَ بِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ!!

هَذَا اللِّسَانُ إِنَّمَا يُضْبَطُ ضَبْطًا صَحِيحًا فِي هَذَا الْمِحْضَنِ، فِي هَذَا الشَّهْرِ؛ رِقَابَةً لَهُ، وَرِقَابَةً عَلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ اسْتِقَامَتِهِ عَلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

مَا الصَّوْمُ إِلَّا تَغْيِيرٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَإِخْرَاجٌ لَهَا عَمَّا اعْتَادَتْهُ وَعَمَّا أَلِفَتْهُ، هُوَ إِخْرَاجٌ لَهَا بِتَغْيِيرٍ لِحَنَايَاهَا وَثَنَايَاهَا وَتَصَوُّرَاتِهَا وَعَادَاتِهَا وَفِكْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ هَذَا التَّغْيِيرُ فَكَبِّرْ عَلَى الصَّائِمِينَ أَرْبَعًا، فَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!!

((رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ))

عِبَادَ اللهِ! مَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْأَغْنِيَاءُ حَاجَةَ الْفُقَرَاءِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ؛ فَرَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْعَطَاءِ، شَهْرٌ يَتَجَسَّدُ فِيهِ مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بِكُلِّ صُوَرِ التَّكَافُلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِدْخَالِ الْفَرْحَةِ وَالسُّرُورِ عَلَيْهِمْ؛ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، وَخَاصَّةً فِي رَمَضَانَ.

انْظُرْ إِلَى نَبِيِّكَ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ))  مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- يَقُولُ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ -فَاحْتَرَسَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُظَنَّ مِمَّا يَأْتِي بَعْدُ-، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ.. فَيَحْتَرِسُ مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ جَوَادًا فِي رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَأَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَإِنَّ جُودَهُ يَقِلُّ عَنْ ذَلِكَ -وَحَاشَا لِلهِ-، بَلْ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، هَذَا يُؤَسِّسُ بِهِ لِمَا هُوَ آتٍ، يَقُولُ: ((وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ))، ((أَجْوَدُ)) هَكَذَا بِالضَّمِّ عَلَى أَنَّهَا اسْمُ (كَانَ)، وَأَمَّا خَبَرُهَا فَمَحْذُوفٌ وُجُوبًا، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ: وَكَانَ أَجْوَدُ أَكْوَانِهِ مَوْجُودًا فِي رَمَضَانَ.

((كَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، وَذَلِكَ حِينَ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ))، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، ((فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ))، وَاحْتَرَزَ بِـ ((الْمُرْسَلَةِ)) عَنِ الرِّيحِ الَّتِي لَا وَصْفَ لَهَا؛ لِأَنَّ الَّتِي لَا وَصْفَ لَهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَقِيمًا، وَأَمَّا هُوَ ﷺ فَكَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ.

هَذَا الصِّيَامُ يُغَيِّرُ دَاعِيَةَ النَّفْسِ إِلَى الْبُخْلِ وَالشُّحِّ إِلَى الْإِيثَارِ وَالْعَطَاءِ وَالْجُودِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي رَمَضَانَ، فَأَيُّ رَمَضَانَ هَذَا؟!!

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُقِيمَ النَّفْسَ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُعِيدَ الْإِنْسَانَ مِنْ مُعْوَجِّ الْأَمْرِ إِلَى مُسْتَقِيمِهِ، وَمِنْ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ إِلَى سَوَائِهِ.. إِلَى وَاضِحِهِ.. إِلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ؛ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ مُغَيِّرًا فِي النَّفْسِ، مُغَيِّرًا فِي الطَّبْعِ، مُغَيِّرًا فِي الْعَادَاتِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الْعَلَامَةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ الصَّائِمِ حَقًّا وَالصِّائِمِ زَيْفًا.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُفَهِّمَنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا حَلَاوَةَ الْيَقِينِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

((دِينُ الْعَمَلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ))

عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ الْمُبَارَكَ هُوَ شَهْرُ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ، فَلَا يَقِلُّ جُهْدُنَا وَعَمَلُنَا فِي رَمَضَانَ مُقَارَنَةً بِغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ تَحْتَ دَعَاوَى الْإِرْهَاقِ وَالتَّعَبِ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَرْكَنُونَ إِلَى الْخُمُولِ وَالْكَسَلِ، وَيُكْثِرُونَ مِنَ النَّوْمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، مِمَّا يَتَسَبَّبُ فِي تَعْطِيلِ مَصَالِحِ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِغَايَةِ الصِّيَامِ الَّتِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهَا؛ وَهِيَ التَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

فَالتَّقْوَى لَا تَتَحَقَّقُ بِالْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَإِنَّمَا بِمَزِيدٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ وَمُرَاقَبَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- .

لَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى فَضْلِ الِاكْتِسَابِ؛ فَفِي الِاكْتِسَابِ وَالْعَمَلِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ:

* فِيهِ: مَعْنَى التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

* وَفِيهِ: طَلَبُ الْفَضْلِ مِنْهُ؛ ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ﴾ [الجمعة: ١٠].

* وَأَيْضًا، يُسْتَعَانُ بِالِاكْتِسَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 267].

* وَبِالِاكْتِسَابِ يَتَعَفَّفُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

* وَفِي الِاكْتِسَابِ: الِانْشِغَالُ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ، قَالَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَمِنْ فَضْلِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ الشُّغُلُ بِالْأَمْرِ الْمُبَاحِ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ، وَفِيهِ كَسْرُ النَّفْسِ بِذَلِكَ)).

* وَمِنْ فَضَائِلِ الِاكْتِسَابِ: أَنَّ فِي الْعَمَلِ قُوَّةً لِلْأُمَّةِ لِكَثْرَةِ إِنْتَاجِهَا، وَإِغْنَاءِ أَفْرَادِهَا؛ فَيَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ، وَالرِّعَايَةِ الصِّحَّيَّةِ، وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ أَعْدَائِهَا، وَالْمَهَابَةِ لَهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ.

* الْعَمَلُ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّحَابَةِ:

((إِنَّ الْعَمَلَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَالِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ قَامَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: 80].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: 10].

وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).

وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).

وَعَمِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَجِيرًا عَشْرَ سِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [القصص: 27-28].

وَقَدْ تَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَتِهِ ﷺ-، وَسُئِلَ ﷺ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟

قَالَ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَمَعْنَى ((أَرْوَاحٌ))؛ أَيْ: لَهُمْ رَوَائِحُ؛ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ وَعَرَقِهِمْ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ)). هَذَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .

وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صَاحِبَ حِرْفَةٍ يَكْتَسِبُ مِنْهَا، فَلَمَّا وُلِّيَ الْخِلَافَةَ شُغِلَ عَنْ حِرْفَتِهِ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَفَرَضَ لَهُ حَاجَتَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وَآلُهُ.

وَقَوْلُهُ: ((وَأَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ))؛ أَيْ: أَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ وَتَمْيِيزِ مَكَاسِبِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ -وَكَأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ مَشْغُولًا-، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى...)) الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!!))؛ يَتَعَجَّبُ مِنْ حَالِهِ.

ثُمَّ قَالَ: ((أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ))؛ يَعْنِي: الْخُرُوجَ إِلَى التِّجَارَةِ.

الْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا.

فَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ يُتَاجِرُ، وَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْأَسْوَاقِ، فَلَمَّا فَاتَتْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ مِنْ سُنَنِ الِاسْتِئْذَانِ صَارَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، قَالَ: ((أَخَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!! أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ)).

وَعَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: ((سَأَلْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ الصَّرْفِ)).

فَقَالَا: ((كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَأَلْنَاهُ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ نَسِيئًا فَلَا يَصْلُحُ). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَ((الصَّرْفُ)): مُبَادَلَةُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ، يُعْرَفُ الْآنَ بِبَيْعِ الْعُمْلَةِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ: مَا بَالَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ...)).

قَالَ مُعَلِّلًا: ((وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ))، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ)).

هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَفِيهِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ، فِي زُرُوعِهِمْ وَفِي بَسَاتِينِهِمْ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ.

قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.. فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-...)).

وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: ((كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لَا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ.

فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللهُ ثُمَّ تُبْعَثُ.

قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ!!

فَنَزَلَتْ: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا﴾ [مريم: 77-78])). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَ((الْقَيْنُ)): الْحَدَّادُ؛ فَكَانَ يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْحِرْفَةِ، وَكَانَ يَتَّخِذُ هَذَا الْعَمَلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَتْ زَيْنَبُ -تَعْنِي بِنْتَ جَحْشٍ، رَضِي اللهُ عَنْهَا وَعَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ- امْرَأَةً صَنَاعَ الْيَدِ؛ فَكَانَتْ تَدْبُغُ وَتَخْرُزُ وَتَتَصَدَّقُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)) .

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَمَلِهِمْ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُمْ-)).

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

وَلَمْ يُحَدِّدِ الْإِسْلَامُ الْعَمَلَ فِي شَهْرٍ دُونَ آخَرَ، بَلْ حَثَّ عَلَيْهِ فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى الصِّيَامِ عَلَى أَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِضَعْفِ قُوَى الْإِنْسَانِ وَخُمُولِ نَشَاطِهِ قَدْ أَخْطَؤُوا فِي تِلْكَ النَّظْرَةِ الْعَقِيمَةِ الَّتِي جَاءَتْ سَطْحِيَّةً دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا نَظْرَةٍ فَاحِصَةٍ!

فَالصَّائِمُ حِينَ يَتْبَعُ الْمَنْهَجَ النَّبَوِيَّ فِي إِمْسَاكِهِ عَنِ الْمُفَطِّرَاتِ، وَتَنْظِيمِ غِذَائِهِ فَتْرَةَ الْإِفْطَارِ، وَيَبْتَعِدُ عَنِ الْإِفْرَاطِ فِي الشِّبَعِ، وَيَهْجُرُ النَّوْمَ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ مُعْظَمَ نَهَارِهِ.. الصَّائِمُ الَّذِي يُرَاعِي هَذِهِ الْجَوَانِبَ، يُدْرِكُ أَنَّ الصِّيَامَ عِلَاجُ الْكَسَلِ وَالِاسْتِرْخَاءِ، وَالتَّقَاعُسِ وَالْخُمُولِ، وَهُوَ مَبْعَثُ النَّشَاطِ وَالْحَيَوِيَّةِ لِأَعْضَاءِ الْجِسْمِ وَأَنْسِجَتِهِ وَخَلَايَاهُ وَمُجَدِّدُ حَرَكَتِهَا وَانْتِعَاشِهَا.

إِنَّ الْخُمُولَ الَّذِي يَحْصُلُ أَثْنَاءَ الصِّيَامِ عِنْدَ بَعْضِ الصَّائِمِينَ مَبْعَثُهُ التُّخَمَةُ وَالشِّبَعُ؛ حَيْثُ يَمْلَؤُونَ بُطُونَهُمْ بِوَجَبَاتٍ دَسِمَةٍ يَنْتُجُ عَنْهَا ثِقَلُ أَبْدَانِهِمْ، وَفُتُورُ قُوَاهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ يُخَيِّمُ عَلَيْهِمُ النَّوْمُ وَالْخُمُولُ.

وَلَوْ لَزِمُوا جَانِبَ الِاعْتِدَالِ وَالتَّوَسُّطِ فِي وَجْبَتَيِ الْإِفْطَارِ وَالسُّحُورِ لَسَلِمُوا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَالبِّطْنَةُ تُذْهِبُ الْفِطْنَةَ ، وَتَدْعُو إِلَى الْخُمُولِ وَالتَّقَاعُسِ وَالْكَسَلِ، وَالصِّيَامُ يُنَشِّطُ الْفِكْرَ، فَتَصْفُو بِهِ النَّفْسُ، وَتَنْشَطُ بِهِ الْجَوَارِحُ لِلطَّاعَاتِ.

وَلَنَا فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وَفِي صَحَابَتِهِ الْكِرَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَعْظَمُ قُدْوَةٍ وَخَيْرُ أُسْوَةٍ؛ فَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي أَعْمَالِهِمْ بَيْنَ أَيَّامِ الصِّيَامِ وَغَيْرِهَا، بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا جِدًّا وَاجْتِهَادًا، وَعَمَلًا وَحَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا.

وَأَوْضَحُ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ وَأَنْصَعُهَا تِلْكَ الِانْتِصَارَاتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي حَقَّقُوهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ الْخَالِدَةُ الْمَشْهُودَةُ الَّتِي سَجَّلَ التَّارِيخُ فِيهَا عُلُوَّ رَايَةِ الْإِسْلَامِ وَارْتِفَاعَهَا خَفَّاقَةً تَشْهَدُ بِالنَّصْرِ الْمُؤَزَّرِ لِهَذَا الدِّينِ، وَدَحْضِ وَتَمْزِيقِ جُيُوشِ الْمُعَانِدِينَ الْجَاحِدِينَ.

فَكَثِيرَةٌ هِيَ مَعَارِكُ الْعِزَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ, فَشَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ, شَهْرٌ لِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَعِزَّةِ الْمُسْلِمِينَ, شَهْرٌ لِلْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ، وَلَيْسَ لِلتَّكَاسُلِ وَالْخُمُولِ.

وَمِنْ أَشْهَرِ الْمَعَارِكِ وَالْفُتُوحِ الرَّمَضَانِيَّةِ: غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى؛ وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ, وَكَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَمُشْرِكِي مَكَّةَ, وَقَدْ سَمَّى اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ الْيَوْمَ ((يَوْمَ الْفُرْقَانِ))؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ, وَخَذَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ.

وَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، وَفِي غَزْوَةِ بَدْرٍ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ وَنَاشَدَهُ نَصْرَهُ الَّذِي وَعَدَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- نَصْرَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَدَّهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُسَوِّمِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: 123-125].

فَانْتَصَرَ الْإِسْلَامُ, وَانْدَحَرَ الشِّرْكُ, وَخُذِلَ الْكُفْرُ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ، فِيهَا قُتِلَ صَنَادِيدُ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ أَكْبَرُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ.

* وَمِنَ الْمَعَارِكِ وَالْفُتُوحَاتِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ؛ وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ, وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ عَشْرَةُ آلَافٍ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَافْتَتَحَ مَكَّةَ، وَدَخَلَهَا فَطَافَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، ثُمَّ حَطَّمَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَصَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ.

* وَفِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ لِلْهِجْرَةِ هَزَمَ الْمِصْرِيُّونَ -بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ- الْيَهُودَ فِي حَرْبِ الْعَاشِرِ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ مَا يُسَمَّى بِـ ((مَعْرَكَةِ الْعُبُورِ))؛ أَيْ: عُبُورِ الْقُوَّاتِ الْمِصْرِيَّةِ قَنَاةَ السُّوَيْسِ وَاسْتِرْدَادِ سَيْنَاءَ.

فَشَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الِانْتِصَارَاتِ الْكُبْرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

فَمَا أَحْرَانَا أَنْ نَسْتَعِيدَ رُوحَ انْتِصَارَاتِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ مَجَالَاتِ حَيَاتِنَا لِتَحْقِيقِ النَّصْرِ، وَتَعْزِيزِ أَرْكَانِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَحِمَايَةِ الْأَرْضِ وَالْعِرْضِ وَالْكَرَامَةِ، وَحَتَّى تَسْتَعِيدَ أُمَّتُنَا مَكَانَتَهَا وَمَهَابَتَهَا بَيْنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَتَوْحِيدِ الصَّفِّ، وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَالِالْتِفَافِ حَوْلِ هَدَفٍ وَاحِدٍ، بِمَزِيدٍ مِنَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ، وَبَذْلِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ جَمِيعًا.

وَأَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَثَرًا مِمَّا مَضَى قَبْلُ, وَأَنْ يُهَيِّئَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ التُّقَى وَالْحَقِّ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَالْمِرَاءِ, وَأَنْ يَجْمَعَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ, وَأَنْ يُوَحِّدَ صُفُوفَهُمْ, وَيُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ, وَيَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.

فَاللَّهُمَّ سَلِّمْنَا رَمَضَانَ, وَسَلِّمْنَا إِلَى رَمَضَانَ, وَاللَّهُمَّ سَلِّمْ لَنَا رَمَضَانَ, وَتَسَلَّمْ مِنَّا رَمَضَانَ، يَا كَرِيمُ يَا رَحْمَنُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة
  الْأَمَانَةُ صُوَرُهَا وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى
  بل انتصر الإسلام على السيف
  أُصُولٌ وَمَعَالِمُ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ
  مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
  خُطُورَةُ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  جماعات التكفير والحكم بغير ما أنزل الله
  عِنَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالزَّمَنِ وَحَدِيثُهُ عَنِ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ السَّابِعُ: دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا إِلَى التَّوْحِيدِ))
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان