الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى

الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى

((الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رِحْلَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فِي غَمْرَةِ أَحْزَانِ النَّبِيِّ ﷺ ))

فَفِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْبِعْثَةِ تَمَّ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حِصَارُ الدَّعْوَةِ فِي مَكَّةَ، وَأَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ كَسْرَ الْحِصَارِ بِنَقْلِ ثِقَلِ الدَّعْوَةِ إِلَى خَارِجِ مَكَّةَ، فَتَوَجَّهَ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ؛ لِدَعْوَةِ (ثَقِيفٍ) إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَابَلُوهُ بِالسَّفَهِ وَالطَّيْشِ وَالْعُدْوَانِ، وَأَغْرَوْا بِهِ السُّفَهَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْغِلْمَانَ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا عَقِبَيْهِ.

وَعَادَ النَّبِيُّ ﷺ مَهْمُومَ النَّفْسِ جَرِيحَ الْفُؤَادِ، لَا لِمَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى، فَذَلِكَ أَمْرٌ يَهُونُ؛ وَلَكِنْ خَوْفًا عَلَى الدَّعْوَةِ أَلَّا تَجِدَ مَكَانًا صَالِحًا لِانْتِشَارِهَا؛ فَقَدْ كَانَ ﷺ يَرْجُو مِنْ وَرَاءِ رِحْلَتِهِ الْمُضْنِيَةِ إِلَى الطَّائِفِ خَيْرًا لِلدَّعْوَةِ، وَمُؤَازَرَةً لَهَا؛ وَلَكِنَّهُ وَجَدَ أَهْلَ الطَّائِفِ أَسْوَأَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَجْهَلَ وَأَسْفَهَ، وَحَالَ مُشْرِكُو مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ بَلَدِهِ؛ لَوْلَا أَنْ أَجَارَهُ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ -سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ-، فَتَمَكَّنَ مِنْ دُخُولِهَا، وَالطَّوَافِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ.

هَا هِيَ قُرَيْشٌ وَقَفَتْ عَقَبَةً كَؤُودًا فِي سَبِيلِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَادَتِ الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ، وَلَجَّتْ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ وَالْبُهْتَانِ، وَتَجَاوَزَتِ الْحَدَّ فِي الطُّغْيَانِ، فَقَاطَعَتْ كُلَّ مَنْ يَنْتَصِرُ لِلنَّبِيِّ وَلَوْ حَمِيَّةً مِمَّنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ، كَمَا حَدَثَ فِي مَسْأَلَةِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي آلَوْا فِيهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مُقَاطَعَةَ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ حَتَّى بَلَغَ الْجَهْدُ مِنْهُمْ مَبْلَغَهُ.

وَهَا هِيَ الْأَحْدَاثُ الْمُحْزِنَةُ تَتَوَالَى؛ فَأَبُو طَالِبٍ شَيْخُ قُرَيْشٍ، وَمَانِعُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ، وَنَاصِرُهُ تَنْزِلُ بِهِ الْمَنِيَّةُ، وَيَزِيدُ مِنْ هَوْلِ الْفَجِيعَةِ مَوْتُ السَّيِّدَةِ الْمَهِيبَةِ فِي قَوْمِهَا خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، زَوْجِهِ الَّتِي وَاسَتْهُ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا، وَالَّتِي كَانَتْ لَهُ وَزِيرَةَ صِدْقٍ تُعِينُهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَتُسَرِّي عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْبَلَاءِ بِمَا عَهِدَ عِنْدَهَا مِنْ عَقْلٍ حَصِيفٍ، وَقَلْبٍ رَحِيمٍ، وَصَدْرٍ حَنُونٍ، وَعِبَارَاتٍ تَغْسِلُ أَثَرَ الْأَلَمِ.

وَتَزْدَادُ إِسَاءَاتُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ وَصَحْبِهِ، وَتَقِفُ مِنَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَوْقِفَ الْعِنَادِ وَالْإِبَاءِ وَالتَّمَنُّعِ، فَيَبْدُو لِلنَّبِيِّ أَنْ يُيَمِّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ الطَّائِفِ؛ عَسَى أَنْ يَجِدَ فِيهَا مُتَنَفَّسًا لِلدَّعْوَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَذَهَبَ وَمَعَهُ حِبُّهُ وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى الطَّائِفِ، وَهُنَالِكَ اتَّصَلَ بِرُؤَسَاءِ ثَقِيفٍ: عَبْدِ يَالِيلَ وَمَسْعُودٍ وَحَبِيبٍ أَوْلَادِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ وَنُصْرَتَهُ؛ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ رَدًّا قَبِيحًا، وَكَانُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَرَجَى مِنْهُمْ أَنْ يَكْتُمُوا أَمْرَهُ مَعَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ؛ حَتَّى لَا يَشْتَدَّ إِيذَاؤُهُمْ لَهُ، فَمَا وَجَدَ مِنْهُمْ مُرُوءَةً وَلَا عَهْدًا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ يَرْجُمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ الزَّكِيُّ مِنْ عَقِبَيْهِ، وَزَيْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَدْرَأُ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.

وَقَفَلَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ مَهْمُومُ النَّفْسِ، مَكْلُومُ الْفُؤَادِ، وَفِي الطَّرِيقِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ لِيَأْمُرَهُ فِيهِمْ بِمَا يَشَاءُ، وَأَخْبَرَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ أَنْ لَوْ شَاءَ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَيْنِ.

فَقَالَ ﷺ: ((بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

((وَفِي هَذِهِ الْغَمْرَةِ مِنَ الْمَآسِي وَالْأَحْزَانِ، وَصُدُودِ الْقَوْمِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَمُحَارَبَةِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ وَالطُّرُقِ، وَبَعْدَ هَذِهِ الشَّدَائِدِ الْمُتَلَاحِقَةِ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعَبْدِهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ أَنْ يُسَرِّيَ عَنْ نَفْسِهِ الْجَرِيحَةِ، وَفُؤَادِهِ الْمَحْزُونِ، فَكَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ؛ حَيْثُ شَاهَدَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى مَا شَاهَدَ، وَعَايَنَ مِنْ أَمَارَاتِ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِهِ وَبِدَعْوَتِهِ مَا زَادَهُ يَقِينًا إِلَى يَقِينٍ؛ بِنَجَاحِ دَعْوَتِهِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ، وَالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَأَطْلَعَهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ مَلَكُوتِهِ الْعَظِيمِ عَلَى مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِمَّا مَلَأَ النَّفْسَ رِضًا، وَالْقَلْبَ نُورًا، وَالصَّدْرَ ثَلَجًا وَطُمَأْنِينَةً)).

فَجَاءَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ تَثْبِيتًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَكْرِيمًا لَهُ فِي أَعْقَابِ سِنِينَ طَوِيلَةٍ مِنَ الدَّعْوَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أذَى الْمُشْرِكِينَ، وَاضْطِهَادِهِمْ، وَنُكْرَانِهِمْ، وَجَفَائِهِمْ.

كَافَأَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ، وَسَرَّى عَنْهُ بِرِحْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، فَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى مَا جَعَلَ قَلْبَهُ ﷺ يَطِيبُ وَيَطْمَئِنُّ وَيَثْبُتُ، وَيَنْكَشِفُ عَنْهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنْ هَمٍّ وَحُزْنٍ وَأَسًى بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ وَزَوْجَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَمَا لَاقَاهُ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ ﷺ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا كَانَ يُحْزِنُهُ الْإِيذَاءُ الشَّخْصِيُّ لَهُ ﷺ، إِنَّمَا الَّذِي كَانَ يُحْزِنُهُ ﷺ وَيَكَادُ يَقْتُلُهُ حُزْنًا هُوَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الدَّعْوَةِ وَرَفْضُهُمْ لَهَا؛ رَحْمَةً مِنْهُ ﷺ، وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ.

 لِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ ﷺ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

{بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أَيْ: قَاتِلُهَا حُزْنًا وَكَمَدًا.

((ثُبُوتُ حَادِثَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))

 حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

 أَمَّا ثُبُوتُهَا بِالْقُرْآنِ؛ فَفِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

تَنَزَّهَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَكَمَالِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ.

فَهُوَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ الْكَامِلِ فِي عُبُودِيَّتِهِ لِرَبِّهِ فِي جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ اللَّيْلِ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ، يَقَظَةً لَا مَنَامًا، مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، الَّذِي جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَكَانَهُ آمِنًا مَمْنُوعًا بِالْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ وَالْأَمْرِ التَّكْلِيفِيِّ، إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَبْعَدِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّذِي جَعَلْنَا فِيهِ وَحَوْلَهُ بَرَكَاتٍ مَادِّيَّةً مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ، وَمَعْنَوِيَّةً مِنْ عَطَاءَاتِنَا، وَجَعَلْنَاهُ مَقَرَّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 1-18].

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}: أَقْسَمَ اللهُ -تَعَالَى- بِالنَّجْمِ الْمُضِيءِ اللَّامِعِ فِي السَّمَاءِ إِذَا سَقَطَ مُنْقَضًّا مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ! مَا ضَاعَ صَاحِبُكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ -دُونَ قَصْدٍ وَلَا تَعَمُّدٍ- عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَمَا تَنَكَّبَ طَرِيقَ الرُّشْدِ عَنْ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ اتِّبَاعًا لِهَوَى نَفْسِهِ، وَهُوَ مَنْ تَعْرِفُونَ -لِطُولِ صُحْبَتِكُمْ لَهُ- اتِّصَافَهُ بِغَايَةِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ.

{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى}: وَلَا يَنْطِقُ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ صَادِرًا عَنْ تَوْجِيهِ الْهَوَى وَتَأْثِيرِهِ، مَا الْقُرْآنُ إِلَّا وَحْيٌ مِنَ اللهِ يُوحَى إِلَيْهِ، عَلَّمَهُ هَذَا الْوَحْيَ مَلَكٌ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو إِحْكَامٍ وَإِتْقَانٍ، وَمُمَارَسَةٍ وَخِبْرَةٍ فِي التَّعْلِيمِ تَعْتَمِدُ عَلَى الْمُعَالَجَةِ الْحَكِيمَةِ، وَاسْتِخْدَامِ مُخْتَلِفِ الْوَسَائِلِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَوَصَلَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ ﷺ إِلَى مُسْتَوَى الِاسْتِوَاءِ الْكَامِلِ فِي التَّعَلُّمِ.

وَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ ﷺ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، وَالْحَالُ أَنَّ جِبْرِيلَ ظَاهِرٌ بِالْجِهَةِ الْعُلْيَا مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ.

{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}: وَبَعْدَ مُدَّةٍ مُتَرَاخِيَةٍ قَرُبَ جِبْرِيلُ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ، فَزَادَ فِي الْقُرْبِ، فَكَانَ دُنُوُّهُ قَدْرَ قَوْسَيْنِ؛ بَلْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَأَقْرَبُ، فَأَوْحَى اللهُ -تَعَالَى- إِلَى عَبْدِهِ جِبْرِيلَ مَلَكِ الْوَحْيِ الْأَمِينِ الْوَحْيَ نَفْسَهُ الَّذِى أَوْحَاهُ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ﷺ. 

{مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى}: مَا كَذَبَ قَلْبُ مُحَمَّدٍ ﷺ فِيمَا رَأَى بِعَيْنَيْهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ.

{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِرَسُولِنَا فِيمَا يَرَاهُ رُؤْيَةَ حَقٍّ، فَتُجَادِلُونَهُ بِالْبَاطِلِ، حَرِيصِينَ عَلَى إِنْكَارِ مَا يَرَى وَتَكْذِيبِهِ فِيهِ؟!!

{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}: وَأُوَكِّدُ لَكُمْ تَأْكِيدًا بَلِيغًا أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى جِبْرِيلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ شَجَرَةِ نَبْقٍ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى جَنَّةُ الْمَأْوَى الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا الْمُتَّقُونَ، وَتَأْوِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ.

{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}: رَأَى مُحَمَّدٌ ﷺ جِبْرِيلَ فِي النَّزْلَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، حِينَ كَانَ يُجَلِّلُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَيُغَطِّيهَا مِنْ نُورِ الْخَلَّاقِ وَالْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُ وَصْفَهُ إِلَّا اللهُ -تَعَالَى-. 

{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}: مَا اضْطَرَبَ بَصَرُ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا انْحَرَفَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَفِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ الْقُدْسِيَّةِ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَمَا زَادَ فِي الرُّؤْيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ شَيْئًا.

{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}: أُوَكِّدُ تَأْكِيدًا بَلِيغًا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رُؤْيَةً حِسِّيَّةً بَصَرِيَّةً مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكُبْرَى الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.

آيَاتُ الْمِعْرَاجِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1-2].

أَقْسَمَ اللهُ بِالنَّجْمِ حِينَ هُوِيِّهِ؛ فَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَيْ: لِلْهُوِيِّ حِينَ الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي فِي الْأُفُقِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: حِينَ انْطِلَاقِهِ لِيَضْرِبَ مُسْتَرِقَ السَّمْعِ، وَيَكُونُ فِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى حِمَايَةِ اللهِ -تَعَالَى- لِلْوَحْيِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَصَحُّ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2].

(ضَلَّ) أَيْ: خَالَفَ الْحَقَّ عَنْ جَهْلٍ، وَ(غَوَى): خَالَفَ الْحَقَّ عَنْ عَمْدٍ، وَ(صَاحِبُكُمْ): هُوَ النَّبِيُّ ﷺ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: مَا ضَلَّ مُحَمَّدٌ، أَوْ: مَا ضَلَّ النَّبِيُّ، أَوْ: مَا ضَلَّ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى قَوْلِهِ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ}؛ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى بَلَاهَتِهِمْ وَحُمْقِهِمْ؛ كَأَنَّمَا يَقُولُ: مَا ضَلَّ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ صَاحِبُكُمْ نَشَأَ بَيْنَكُمْ، وَعَرَفْتُمْ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَالصَّاحِبُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِصَاحِبِهِ؛ فَقَدْ يَعْلَمُ الصَّاحِبُ مِنْ صَاحِبِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْقَرِيبُ مِنْ قَرِيبِهِ، فَهَذَا صَاحِبُكُمْ؛ فَكَيْفَ تَقُولُونَ إِنَّهُ ضَلَّ؟!!

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وَلَمْ يَقُلْ: مَا يَنْطِقُ بِالْهَوَى؛ أَيْ: مَا يَنْطِقُ بِالْهَوَى الَّذِي يُرِيدُ، بَلْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]؛ يَعْنِي: لَا يَنْطِقُ نُطْقًا صَادِرًا عَنْ هَوًى، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ نُطْقًا صَادِرًا عَنْ وَحْيٍ، أَوْ عَنِ اجْتِهَادٍ أَرَادَ بِهِ الْمَصْلَحَةَ، لَا لِمُجَرَّدِ الْهَوَى، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَظِيمٌ.

وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ هُوَ} أَيْ: نُطْقُهُ {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، وَالْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ هُوَ} الْقُرْآنُ خَاصَّةً؛ لِقَوْلِهِ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]، وَهُوَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّذِي عَلَّمَ الْقُرْآنَ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5-6]، (الْمِرَّةُ): الْهَيْئَةُ الْحَسَنَةُ.

فَوَصَفَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْقُوَّةُ وَالْحُسْنُ وَالْبَهَاءُ وَالْجَمَالُ فَذَلِكَ هُوَ الْكَمَالُ.

ثُمَّ وَصَفَهُ بِوَصْفٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ عُلُوُّ الْمَنْزِلَةِ، فَقَالَ: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 6-7].

(اسْتَوَى): أَيْ: كَمُلَ، يَعْنِي: كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى؛ فَقَدْ رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى خِلْقَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَوْقَ، وَمَرَّةً فِي الْأَرْضِ رَآهُ ﷺ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ مِنْ شَرْقِهِ إِلَى غَرْبِهِ، وَمِنْ شَمَالِهِ إِلَى جَنُوبِهِ، يَعْنِي: غَيْمَةٌ وَاحِدَةٌ سَدَّتِ الْأُفُقَ.

{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8].

{دَنَا} أَيْ: قَرُبَ، وَالْمَقْصُودُ: ذُو الْمِرَّةِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، {فَتَدَلَّى}: وَالتَّدَلِّي: النُّزُولُ مِنْ فَوْقَ، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] : كَانَ جِبْرِيلُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنَ الرَّسُولِ ﷺ.

{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] أَيْ: أَوْحَى جِبْرِيلُ {إِلَى عَبْدِهِ} أَيْ: عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ {مَا أَوْحَى} أَيِ: الْقُرْآنُ، وَأَبْهَمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا تَحْصِيلُ حَاصِلٍ، ولَكِنْ يُقَالُ: هَذَا الْإِبْهَامُ لِلتَّعْظِيمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، وَهَذَا لِلتَّهْوِيلِ وَلِلتَّفْخِيمِ وَلِلتَّعْظِيمِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا غَشِيَهُمْ هُوَ مَا غَشِيَهُمْ، لَكِنْ جَاءَ بِصُورَةِ الْإِبْهَامِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ.

أَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ شَيْئًا عَظِيمًا مِنَ الْوَحْيِ.

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]: الْفُؤَادُ مَا كَذَبَ الَّذِي رَأَى، بَلْ رَآهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ صِدْقًا وَحَقًّا، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12]: أَفُتَجَادِلُونَهُ عَلَى شَيْءٍ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَقَلْبِهِ.

{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}  [النجم: 13]: رَأَى جِبْرِيلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْأُفُقِ نَازِلًا {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14]، وَهَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي رَآهُ عَلَى خِلْقَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15]: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ -جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهَا وَمِنْ سَاكِنِيهَا-، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] يَعْنِي: رَآهُ حِينَ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، وَهُنَا -أَيْضًا- إِبْهَامٌ لِلتَّعْظِيمِ؛ مَا الَّذِي غَشِيَهَا؟

غَشِيَهَا مِنَ الْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ مَا يَبْهَرُ الْعُقُولَ، فَهِيَ فِي الْأَوَّلِ شَجَرَةٌ كَأَنَّهَا سِدْرَةٌ؛ لَكِنْ غَشِيَهَا جَمَالٌ عَظِيمٌ يَبْهَرُ الْعُقُولَ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] أَيْ: مَا مَالَ الْبَصَرُ وَمَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ، فَهُوَ لَمْ يَدُرْ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ أَمَامًا وَلَا فَوْقًا؛ وَذَلِكَ لِكَمَالِ أَدَبِهِ ﷺ.

{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18].

هَذِهِ هِيَ آيَاتُ الْمِعْرَاجِ.

أَمَّا عَنْ آيَاتِ الْإِسْرَاءِ فَقَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

((يُنَزِّهُ -تَعَالَى- نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ وَيُعَظِّمُهَا؛ لِأَنَّ لَهُ الْأَفْعَالَ الْعَظِيمَةَ وَالْمِنَنَ الْجَسِيمَةَ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي هُوَ أَجَلُّ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَسَاجِدِ الْفَاضِلَةِ، وَهُوَ مَحَلُّ الْأَنْبِيَاءِ.

فَأَسْرَى بِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ جِدًّا، وَرَجَعَ فِي لَيْلَتِهِ، وَأَرَاهُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا ازْدَادَ بِهِ هُدًى وَبَصِيرَةً وَثَبَاتًا وَفُرْقَانًا، وَهَذَا مِنِ اعْتِنَائِهِ -تَعَالَى- بِهِ وَلُطْفِهِ؛ حَيْثُ يَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَخَوَّلَهُ نِعَمًا فَاقَ بِهَا الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لَكِنْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَضِيلَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِسَائِرِ الْحَرَمِ، فَكُلُّهُ تَتَضَاعَفُ فِيهِ الْعِبَادَةُ كَتَضَاعُفِهَا فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ الْإِسْرَاءَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ مَعًا؛ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ آيَةٌ كُبْرَى وَمَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ.

وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْإِسْرَاءِ، وَذِكْرِ تَفَاصِيلِ مَا رَأَى، وَأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى السَّمَاوَاتِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَالْأَنْبِيَاءَ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ، ثُمَّ مَا زَالَ يُرَاجِعُ رَبَّهُ بِإِشَارَةِ مُوسَى الْكَلِيمِ حَتَّى صَارَتْ خَمْسًا بِالْفِعْلِ، وَخَمْسِينَ بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَحَازَ مِنَ الْمَفَاخِرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هُوَ وَأُمَّتُهُ مَا لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ إِلَّا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَذَكَرَهُ هُنَا وَفِي مَقَامِ الْإِنْزَالِ لِلْقُرْآنِ وَمَقَامِ التَّحَدِّي بِصِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ نَالَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْكِبَارَ بِتَكْمِيلِهِ لِعُبُودِيَّةِ رَبِّهِ.

وَقَوْلُهُ: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أَيْ: بِكَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْخِصْبِ الدَّائِمِ، وَمِنْ بَرَكَتِهِ: تَفْضِيلُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ يُطْلَبُ شَدُّ الرَّحْلِ إِلَيْهِ لِلْعِبَادَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَأَنَّ اللَّهَ اخْتَصَّهُ مَحَلًّا لِكَثِيرٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ)).

وَقَدْ فَصَّلَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْدَاثَ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُبَارَكَةِ تَفْصِيلًا دَقِيقًا بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ مِنْ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ «التَّنْوِيرُ فِي مَوْلِدِ السِّرَاجِ الْمُنِيرِ» فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: ((وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ، وَأَبِي حَبَّةَ وَأَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيَّيْنِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَبُرَيْدَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَأَبِي الْحَمْرَاءِ، وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ، وَأُمِّ هَانِئٍ، وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ؛ فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَاعْتَرَضَ فِيهِ الزَّنَادِقَةُ الْمُلْحِدُونَ  {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصَّفِّ: 8].

 ((الْمَقْصُودُ بِالْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ))

((يُقْصَدُ بِالْإِسْرَاءِ هُنَا: الرِّحْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا نَبِيَّهُ ﷺ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِالْقُدْسِ.

 أَمَّا الْمِعْرَاجُ: فَهُوَ مَا أَعْقَبَ هَذِهِ الرِّحْلَةَ مِنَ الْعُرُوجِ بِهِ ﷺ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَى حَتَّى الْوُصُولِ إِلَى مُسْتَوًى تَنْقَطِعُ عِنْدَهُ عُلُومُ الْخَلَائِقِ)).

الْمِعْرَاجُ: مِفْعَالٌ مِنَ الْعُرُوجِ، وَهِيَ آلَةُ الْعُرُوجِ، يَعْنِي: الْآلَةُ الَّتِي يَعْرُجُ بِهَا الْإِنْسَانُ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى.

وَالْمِعْرَاجُ مِنْ خَصَائِصِ الرَّسُولِ ﷺ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إِلَّا رُوحَ الْمُؤْمِنِ؛ فَإِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سَمَاءً فَسَمَاءً، وَالْمَلَائِكَةُ شَأْنُهُمْ شَأْنٌ آخَرُ.

وَالْمِعْرَاجُ: هُوَ أَنَّهُ عُرِجَ بِهِ ﷺ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ مَكَانًا سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ أَقْلَامِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَالْقَلَمُ إِذَا كُتِبَ بِهِ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ، فَهُوَ ﷺ وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ شَيْءٍ صَعِدَ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَدْ صَعِدَ ﷺ إِلَى  مَكَانٍ مَا بَلَغَهُ -فِيمَا نَعْلَمُ- أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ.

وَقَدْ أَشَارَ اللهُ -تَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِلَى تِلْكَ الْحَادِثَةِ فِي سُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ فِي (سُورَةِ الْإِسْرَاءِ)، فَقَالَ -تَعَالَى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].

 وَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ- قِصَّةَ الْمِعْرَاجِ فِي (سُورَةِ النَّجْمِ)،  قَالَ -تَعَالَى-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18].

((مَعَانِي الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ الْعَمِيقَةُ وَمَرَامِيهَا الْبَعِيدَةُ))

((لَمْ يَكُنِ الْإِسْرَاءُ مُجَرَّدَ حَادِثٍ فَرْدِيٍّ رَأَى فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَتَجَلَّى لَهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مُشَاهَدَةً وَعِيَانًا؛ بَلْ زِيَادَةً إِلَى ذَلِكَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الرِّحْلَةُ النَّبَوِيَّةُ الْغَيْبِيَّةُ عَلَى مَعَانٍ عَمِيقَةٍ دَقِيقَةٍ كَثِيرَةٍ، وَإِشَارَاتٍ حَكِيمَةٍ بَعِيدَةِ الْمَدَى.

 وَأَعْلَنَتِ السُّورَتَانِ الْكَرِيمَتَانِ اللَّتَانِ نَزَلَتَا فِي شَأْنِهِ وَهُمَا: سُورَةُ الْإِسْرَاءِ، وَسُورَةُ النَّجْمِ- أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هُوَ نَبِيُّ الْقِبْلَتَيْنِ، وَإِمَامُ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ، وَوَارِثُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَإِمَامُ الْأَجْيَالِ بَعْدَهُ؛ فَقَدِ الْتَقَتْ فِيهِ وَفِي إِسْرَائِهِ مَكَّةُ بِالْقُدْسِ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَصَلَّى الْأَنْبِيَاءُ خَلْفَهُ، فَكَانَ هَذَا إِيذَانًا بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ، وَخُلُودِ إِمَامَتِهِ وَإِنْسَانِيَّتِهِ وَتَعَالِيمِهِ، وَصَلَاحِيَتِهَا لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ.

وَأَفادَتِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ تَعْيِينَ شَخْصِيَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَوَصْفَ إِمَامَتِهِ وَقِيَادَتِهِ، وَتَحْدِيدَ مَكَانَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا وَآمَنَتْ بِهِ، وَبَيَانَ رِسَالَتِهَا وَدَوْرِهَا الَّذِي سَتُمَثِّلُهُ فِي الْعَالَمِ وَبَيْنَ شُعُوبِ الْعَالَمِ وَأُمَمِهِ.

 وَجَاءَ الْإِسْرَاءُ خَطًّا فَاصِلًا بَيْنَ النَّاحِيَةِ الضَّيِّقَةِ الْمَحَلِّيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَبَيْنَ الشَّخْصِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْخَالِدَةِ الْعَالَمِيَّةِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَوْ كَانَ زَعِيمَ أُمَّةٍ، أَوْ قَائِدَ إِقْلِيمٍ، أَوْ مُنْقِذَ عُنْصُرٍ، أَوْ مُؤَسِّسَ مَجْدٍ؛ مَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي حَاجَةٍ إِلَى سِيَاحَةٍ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ تَتَّصِلَ بِسَبَبِهِ الْأَرْضُ  بِالسَّمَاءِ اتِّصَالًا جَدِيدًا.

 لَقَدْ كَانَ لَهُ فِي أَرْضِهِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا وَفِي مُحِيطِهِ الَّذِي يُكَافِحُ فِيهِ وَفِي مُجْتَمَعِهِ الَّذِي يَسْعَى لِإِسْعَادِهِ غِنًى وَسَعَةٌ، لَا يُفَكِّرُ فِي غَيْرِهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى رُقْعَةٍ أُخْرَى مِنَ الْأَرْضِ؛ فَضْلًا عَنِ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَفَضْلًا عَنِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي يَبْعُدُ عَنْ بَلَدِهِ بُعْدًا كَبِيرًا، وَالَّذِي كَانَ فِي وِلَايَةِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَحُكُومَةِ الْأُمَّةِ الرُّومِيَّةِ الْقَوِيَّةِ.

 وَجَاءَ الْإِسْرَاءُ وَأَعْلَنَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَيْسَ مِنْ طِرَازِ الْقَادَةِ وَالزُّعَمَاءِ الَّذِينَ لَا تَتَجَاوَزُ مَوَاهِبُهُمْ وَجُهُودُهُمْ وَدَوَائِرُ كِفَاحِهِمْ حُدُودَ الشُّعُوبِ وَالْبِلَادِ، وَلَا تَسْعَدُ بِهِمْ إِلَّا الشُّعُوبُ الَّتِي يُولَدُونَ فِيهَا، وَالْبِيئَاتُ الَّتِي يَنْبُعُونَ مِنْهَا.

 إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَمَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ رِسَالَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرَضِينَ، وَيَحْمِلُونَ رِسَالَاتِ الْخَالِقِ إِلَى الْخَلْقِ، وَتَسْعَدُ بِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ شُعُوبِهَا، وَطَبَقَاتِهَا، وعُهُودِهَا، وَأَجْيَالِهَا.

 إِنَّمَا هُوَ مِنَ الصَّفْوَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ رِسَالَاتِ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيَحْمِلُونَ رِسَالَاتِ الْخَالِقِ إِلَى الْخَلْقِ، وَتَسْعَدُ بِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ شُعُوبِهَا، وَطَبَقَاتِهَا، وَعُهُودِهَا، وَأَجْيَالِهَا)).

((قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ))

قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ رَوَاهَا الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا))، كَمَا رَوَاهَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَعُلَمَاءِ السِّيَرِ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ ﷺ: ((بَيْنَما أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ- مُضْطَجِعًا..)).

 فِي رِوَايَةٍ: ((بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ؛ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ -الْقَدُّ: هُوَ الْقَطْعُ طُولًا؛ كَالشَّقِّ- قَالَ: فَقَدَّ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ)).

قَالَ: فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهَذَا؟ أَوْ مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: ((مِنْ ثُغْرَتِي -وَالثُّغْرَةُ: هِيَ نُقْرَةُ النَّحْرِ فَوْقَ الصَّدْرِ- مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ -يُرِيدُ شَعْرَ الْعَانَةِ-، فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغَسَلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ..)).

 فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: ((هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟)).

قَالَ أَنَسٌ: ((نَعَمْ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرَفِهِ، وَكَانَ مُسْرَجًا مُلَجَّمًا، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَرْكَبَهُ اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟!! فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ! قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا -أَيْ: جَرَى عَرَقُهُ وَسَالَ-، ثُمَّ سَكَنَ وَانْقَادَ، وَتَرَكَ الِاسْتِصْعَابَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ: ((فَرَكِبْتُهُ -يَعْنِي: الْبُرَاقَ- حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ  بِالْحَلْقَةِ  الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

رَأَى النَّبِيُّ ﷺ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْضَ الْمَرَائِي، مِنْهَا: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: ((أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُه بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَآهُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ؛ إِذَا قُلْتَهُنَّ طُفِئَتْ شُعْلَتُهُ، وَخَرَّ لِفِيهِ -أَيْ: لِفَمِهِ-، وَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ؟)).

 فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَلَى)).

 فَقَالَ جِبْرِيلُ: ((قُلْ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ، وَبِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَشَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَشَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَ صَحَّحَهُ بِشَوَاهِدِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ».

فَهَذَا مَشْهَدٌ مِنَ الْمَشَاهِدِ الَّتِي رَآهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

 مَشْهَدٌ ثَانٍ؛ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ الدَّجَّالَ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ، فَقَالَ: وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ: ((رَأَيْتُهُ فَيْلَمَانِيًّا -أَيْ: عَظِيمَ الْجُثَّةِ-، أَقْمَرَ -أَيْ: شَدِيدَ الْبَيَاضِ-، هِجَانًا -أَيْ: أَبْيَضَ-، إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَأَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ  فِي ((تَفْسِيرِهِ))، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

 مَشْهَدٌ ثَالِثٌ؛ ((أَتَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، لَا يَفْتُرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا جِبْرِيلُ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟)).

 قَالَ: ((هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكُمْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ؛ أَفَلا يَعْقِلُونَ؟!!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالطَّيَالِسِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

 ((وَكُشِفَ لَهُ ﷺ عَنْ حَالِ آكِلِ الرِّبَا فِي دَارِ الْجَزَاءِ بِضَرْبِ مِثَالٍ، فَرَأَى رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ مِنْ دَمٍ، وَيُلْقَمُ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ ﷺ: ((مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟)).

قَالَ: ((هَذَا آكِلُ الرِّبَا)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

 مَشْهَدٌ آخَرُ؛ رَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَتَيْتُ أَوْ مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ)).

 ثُمَّ وَصَلَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى -الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، سُمِّيَ الْأَقْصَى؛ لِبُعْدِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمَسَافَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَسْجِدٌ، وَالْمَقْدِسُ: أَيِ الْمُطَهَّرُ، وَلِبَيْتِ الْمَقْدِسِ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ، مِنْهَا: إِيلْيَاءُ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَغَيْرُهَا-.

 وَصَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَعَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَوَجَدَ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَقَدَّمَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الرَّسُولَ (ص، وَصَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ إِمَامًا.

 رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. 

وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((فَلَمَّا دَخَل النَّبِيُّ ﷺ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ)).

بَعْدَ أَنْ فَرَغَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أُوتِيَ بِقِدْحَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ، وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ.

 رَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ)).

الْحِكْمَةُ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخَمْرِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا، وَاللَّبَنِ مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا؛ إِمَّا لِأَنَّ الْخَمْرَ -حِينَئِذٍ- لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ، وَهَذا مَعْلُومٌ؛ فَإِنَّمَا جَاءَ التَّحْرِيمُ بِأَخَرَةٍ، أَوْ لِأَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَخَمْرُ الْجَنَّةِ لَيْسَتْ حَرَامًا.

قَالَ: ((فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ)).

فَقَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ((اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ)).

 قَالَ النَّوَوِيُّ: ((فَسَّرُوا الْفِطْرَةَ هُنَا بِالْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَمَعْنَاهُ: اخْتَرْتَ عَلَامَةَ الْإِسْلَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَجُعِلَ اللَّبَنُ عَلَامَةً؛ لِكَوْنِهِ سَهْلًا طَيِّبًا طَاهِرًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ)).

 ثُمَّ صُعِدَ بِهِ ﷺ فِي الْمِعْرَاجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ، قَالَ رَسُولُ ﷺ: ((ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي -أَيْ: جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ.

فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: جِبْرِيلُ.

قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

 قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ.

 فَقَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟

 قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.

فَفُتِحَ لَنَا، قَالَ ﷺ: فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ -الأَسْوِدَةُ: هِيَ الْأَشْخَاصُ-، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟

 قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.

 ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ: وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ -النَّسَمُ: جَمْعُ نَسَمَةٍ، وَهِيَ الرُّوحُ-، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَر قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَأَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ((لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟

 قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)).

 ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟

 قَالَ: جِبْرِيلُ.

 فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

 قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟

 قَالَ: نَعَمْ.

 قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-.

فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ.

قَالَ ﷺ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: جِبْرِيلُ.

فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

 قَالَ: مُحَمَّدٌ.

فَقِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟

 قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ودَعَا لِي بِخَيْرٍ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ -أَيْ: نِصْفَهُ، فَأُعْطِيَ وَحْدَهُ نِصْفَ الْحُسْنِ كُلِّهِ، وَوُزِّعَ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى الْجَمِيعِ، وَأَنْتَ تَرَى فِي النَّاسِ مَنْ هُوَ حَسَنٌ؛ بَلْ  هُوَ أَحْسَنُ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ أُوتِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ؟!! وَنَبِيُّنَا أَحْسَنُ-.

 قَالَ ﷺ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: جِبْرِيلُ.

فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟

 قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ إِدْرِيسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.

قَالَ ﷺ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: جِبْرِيلُ.

فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

 قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟

 قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، وَقَالَ: مَرْحبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 قَالَ ﷺ: ((ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: جِبْرِيلُ.

فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

 قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟

 قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلرَّسُولِ ﷺ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ)).

 وَصَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: ((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَجُلٍ آدَمَ -وَالْأَدَمَةُ أَيِ: السُّمْرَةُ الشَّدِيدَةُ-، طُوَالٍ جَعْدٍ -قِيلَ فِي الْمَعْنَى: هُوَ اكْتِنَازُ الْجِسْمِ وَاجْتِمَاعُهُ، وَقِيلَ: بَلْ جُعُودَةُ الشَّعْرِ-، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ)).

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَلَمَّا تَجَاوَزْتُهُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟

 قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.

قَالَ ﷺ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟

قَالَ: جِبْرِيلُ.

فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

 قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟

 قَالَ: نَعَمْ.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ؛ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ)).

 رَوَى الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ -وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاُتُه-،  وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ)).

 وَاخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ  بِالسَّمَاءِ الَّتِي تَلَقَّاهُ بِهَا، فَقِيلَ: أُمِرُوا بِمُلَاقَاتِهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَهُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَخَّرَ فَلَحِقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَاتَهُ.

 وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ:  لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا سَيَقَعُ لَهُ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ نَظِيرِ مَا وَقَعَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ.

 فَأَمَّا آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ بِمَا سَيَقَعُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مَا حَصَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَكَرَاهَةِ  فِرَاقِ مَا أَلِفَهُ مِنَ الْوَطَنِ، ثُمَّ كَانَ مَآلُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَوْطِنِه الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ.

 وَبِعِيسَى وَيَحْيَى -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ ﷺ مِنْ أَوَّلِ الْهِجْرَةِ مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ، وَتَمَادِيهِمْ فِي الْبَغْيِ عَلَيْهِ، وَإِرَادَتِهِمْ وُصُولَ السُّوءِ إِلَيْهِ.

 وَبِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ ﷺ مِنْ إِخْوَتِهِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَصْبِهِمُ الْحَرْبَ لَهُ، وَإِرَادَتِهِمْ هَلَاكَهُ، وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُ)).

 وَبِإِدْرِيسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى رَفِيعِ مَنْزِلَتِهِ ﷺ عِنْدَ اللهِ.

 وَبِهَارُونَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى أَنَّ قَوْمَهُ ﷺ رَجَعُوا إِلَى مَحَبَّتِهِ بَعْدَ أَنْ آذَوْهُ.

 وَبِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ مُعَالَجَةِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَشَارَ ﷺ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ((لَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ)).

 وَبِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي اسْتِنَادِهِ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ بِمَا خُتِمَ لَهُ ﷺ فِي آخِرِ عُمُرِهِ مِنْ إِقَامَةِ مَنْسَكِ الْحَجِّ وَتَعْظِيمِ الْبَيْتِ.

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ؛ فَإِذَا فِيهَا حَبَائِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ وَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

 وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي ((الصَّحِيحِ)): قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَتَيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفَةٌ)).

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَا يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟

قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. 

وَ(الْأَذْفَرُ): هُوَ الطَّيِّبُ الرَّائِحَةِ.

 وَرَأَى رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْجَنَّةِ جَارِيَةً شَابَّةً، قَالَ: ((فَسَأَلْتُهَا: لِمَنْ أَنْتِ؟ وَقَدْ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتُهَا، فَقَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ))، فَبَشَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ زَيْدًا)). وَالْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي ((سِيَرِ الْأَعْلَامِ))، وَقَالَ: ((إِسْنَادُهُ حَسَنٌ))، وَالْأَلْبَانِيُّ فِي ((الصَّحِيحَةِ))، وَقَالَ: ((إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ)).

 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللهِ ﷺ، وَدَخَلَ الْجَنَّةَ سَمِعَ فِي جَانِبِهَا وَجْسًا -أَيْ: صَوْتًا خَفِيًّا-، قَالَ: ((يَا جِبْرِيلُ! مَا هَذَا؟)).

 قَالَ: ((هَذَا بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ)).

فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ حِينَ جَاءَ إِلَى النَّاسِ: ((قَدْ أَفْلَحَ بِلَالٌ!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ.

 وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا بِلَالُ! حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ)).

 قَالَ بِلَالٌ: ((مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلَةٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

 يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ)).

 قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)): ((وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي  عُدُولِهِ عَنِ الْعَسَلِ إِلَى اللَّبَنِ: كَوْنُ اللَّبَنِ أَنْفَعَ، وَبِهِ يَشْتَدُّ الْعَظْمُ، وَيَنْبُتُ اللَّحْمُ، وَهُوَ بِمُجَرَّدِهِ قُوتٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِي السَّرَفِ بِوَجْهٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الزُّهْدِ.

 وَأَمَّا الْعَسَلُ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا؛ لَكِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ  الَّتِي قَدْ يُخْشَى عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يَنْدَرِجَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى- {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} [الأحقاف: 20])).

وَقَالَ الْحَافِظُ: ((وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِيمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّهُ ﷺ عَطِشَ فَآثَرَ اللَّبَنَ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ حَاجَتِهِ دُونَ الْخَمْرِ وَالْعَسَلِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي إِيثَارِ اللَّبَنِ، وَصَادَفَ مَعَ ذَلِكَ رُجْحَانَهُ عَلَيْهِمَا مِنْ عِدَّةِ جِهَاتٍ)).

فَقِيلَ لِي: ((هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَالَ: ((أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ)).

 ثُمَّ انْطَلَقَ جِبْرِيلُ بِرَسُولِ الله ﷺ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى؛ فَإِذَا نَبْقُهَا  -وَالنَّبْقُ: ثَمَرُ السِّدْرِ- كَأَنَّهُ قِلَالُ هَجَرَ -الْقِلَالُ: جَمْعُ قُلَّةٍ، وَهِيَ الْجِرَارُ، يُرِيدُ أَنَّ ثَمَرَهَا فِي الْكِبَرِ كَمِثْلِ الْقِلَالِ، وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ؛ فَلِذَلِكَ وَقَعَ التَّمْثِيلُ بِهَا، وأَمَّا هَجَرُ فَهِيَ مَدِينَةُ الْأَحْسَاءِ-، فَإِذَا نَبْقُهَا كَأَنَّهُ قِلَالُ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الْفِيَلَةِ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؛ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا)).

 فقَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ((هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى)).

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ؛ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟)).

قَالَ: ((أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((وَهُنَاكَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى رَأَى ﷺ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهَا فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ أَخْضَرَ -وَالرَّفْرَفُ: مَا كَانَ مِنَ الدِّيبَاجِ رَقِيقًا حَسَنَ الصَّنْعَةِ-، لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يَتَنَاثَرُ مِنْ أَجْنِحَتِهِ التَّهَاوِيلُ، وَالدُّرُّ، وَالْيَاقُوتُ)).

((وَكَانَ الرَّسُولُ ﷺ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَرَى جِبْرِيلَ إِلَّا عَلَى صُورَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَرَاهُ ﷺ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

 قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ هَذَا: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18].

رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَ: قُلْتُ: ((أَلَيْسَ اللهُ يَقُولُ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}، وَقَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى

قَالَتْ: ((أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْهَا، فَقَالَ: ((إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ)). لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ، رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).

((ثُمَّ نَظَرَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَوَجَدَهُ كَالْحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ -وَالْحِلْسُ: الْبِسَاطُ، أَوِ الْحَصِيرُ-)). أَوْرَدَ ذَلِكَ الْهَيْثَمِيُّ فِي ((الْمَجْمَعِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَأَوْرَدَ طُرُقَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))، وَقَالَ: ((وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالْحَدِيثُ بِمَجْمُوعِ الطَّرِيقَيْنِ حَسَنٌ، أَوْ صَحِيحٌ)).

((فَوَجَدَهُ كَالحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، ثُمَّ غَشِيَتْ تِلْكَ السِّدْرَةَ سَحَابَةٌ، فَتَأَخَّرَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَعُرِجَ بِالرَّسُولِ ﷺ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مُسْتًوى سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ)).

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ وَفِيَ رِوَايَةٍ قَالَ: مَا فَرَضَ اللهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟

 فَقَالَ ﷺ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ.

فَقَال -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، وَإِنِّي -وَاللهِ- قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:  فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا.

 قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكُمْ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.

 قَالَ ﷺ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ؛ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)).

 قَالَ الْحَافِظُ: ((هَذَا مِنْ أَقْوَى مَا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- كَلَّمَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ)).

 وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((فَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ مِنَ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ- لَيْلَةَ إِذٍ، وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَالْمُطْبِقِينَ عَلَى هَذَا)).

 قَالَ ﷺ: ((فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ  التَّخْفِيفَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ)).

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ثَلَاثًا؛ أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

(( ((الْمُقْحِمَاتُ)): الذُّنُوبُ الْعِظَامُ الْكَبَائِرُ الَّتِي تُهْلِكُ أَصْحَابَهَا، وَتُورِدُهُمُ النَّارَ، وَتُقْحِمُهُمْ إِيَّاهَا، وَالتَّقَحُّمُ: الْوُقُوعُ فِي الْمَهَالِكِ.

 وَمَعْنَى الْكَلَامِ: مَنْ مَاتَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِاللهِ غُفِرَتْ لَهُ الْمُقْحِمَاتُ، وَالْمُرَادُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- بِغُفْرَانِهَا: أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ؛ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ، لَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّهُ لَا يُعَذَّبُ أَصْلًا؛ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ  عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ)).

هَلْ رَأَى الرَّسُولُ ﷺ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؟

 اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ الرَّسُولِ ﷺ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، فَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَا أُمَّتَاهُ! هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ﷺ رَبَّهُ؟)).

فَقَالَتْ: ((لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]،  {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51].

وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34].

وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ ﷺ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67])).

((لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ)) أَيْ: قَامَ مِنَ الْفَزَعِ؛ بِمَا حَصَلَ عِنْدَهَا مِنْ هَيْبَةِ اللهِ وَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ تَنْزِيهِهِ، وَاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ.

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ -كَذَلِكَ- عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-:  (({فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}، قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ)).

 وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟)).

قَالَ: ((نُورٌ؛ أَنَّى أَرَاهُ؟!)).

 وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-  قَالَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (({مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}؛ قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ)).

 قَالَ الْبَيْهَقِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ﷺ رَأَى رَبَّهُ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى رُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ)).

عَلَّقَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ بِقَوْلِهِ: ((وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ)).

 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا  الرُّؤْيَةُ؛ فَالَّذِي ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ  ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:  رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ.

وَعَائِشَةُ أَنْكَرَتِ الرُّؤْيَةَ.

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: عَائِشَةُ أَنْكَرَتْ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ رُؤْيَةَ الْفُؤَادِ.

وَالْأَلْفَاظُ الثَّابِتَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ مُطْلَقَةٌ، أَوْ مُقَيَّدَةٌ بِالْفُؤَادِ، تَارَةً يَقُولُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، وَتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ مُحَمَّدٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَفْظٌ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ.

 وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ تَارَةً يُطْلِقُ الرُّؤْيَةَ، وَتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ سَمِعَ أَحْمَدَ يَقُولُ: ((رَآهُ بِعَيْنِهِ)).

 لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ سَمِعُوا بَعْضَ كَلَامِهِ الْمُطْلَقِ، فَفَهِمُوا مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ، كَمَا سَمِعَ بَعْضُ النَّاسِ مُطْلَقَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَفَهِمَ مِنْهُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ.

وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَلَى نَفْيِهِ أَدَلُّ،  كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّك؟))، قَالَ : ((نُورٌ؛ أَنَّى أَرَاهُ؟!)).

وَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَرَاهُ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى.

 وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}، وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}، وَلَوْ كَانَ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى.

 وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (({وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}، قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ))، وَهَذِهِ ((رُؤْيَا الْآيَاتِ))؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ؛ حَيْثُ صَدَّقَهُ قَوْمٌ، وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ.

وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ مَا دُونَهُ.

وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى اللَّهَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ؛ إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ خَاصَّةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ  -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُ إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثُمَّ قَالَ -تَعَالَى-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النَّجْمِ: 13]، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمَرْئِيَّ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ: ((رَآهُ بِفُؤَادِهِ)).

وَأَمَّا قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}؛ فَهُوَ غَيْرُ الدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ؛ فَإِنَّ الَّذِي فِي (سُورَةِ النَّجْمِ) هُوَ دُنُوُّ جِبْرِيلَ وَتَدَلِّيهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ.

 وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ -تَعَالَى-: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]، وَهُوَ جِبْرِيلُ: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ} [النجم: 6-8]، فَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمُعَلِّمِ الشَّدِيدِ الْقُوَى، وَهُوَ ذُو الْمِرَّةِ، أَيِ: الْقُوَّةِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَوَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَهُوَ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ قَدْرَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)).

ثُمَّ هَبَطَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالرَّسُولِ ﷺ مِنَ السَّمَاوَاتِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ رَكِبَ الْبُرَاقَ مُنْصَرِفًا إِلَى مَكَّةَ بِصُحْبَةِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثُمَّ أَتَى مَكَّةَ قَبْلَ الصُّبْحِ.

 قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابَّةِ -يَعْنِي: الْبُرَاقَ-، فَنَدَّ لَهُمْ بَعِيرٌ، فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ وَأَنا مُتَوَجِّهٌ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِضَجْنَانَ مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ فَوَجَدْتُ الْقَوْمَ نِيَامًا، وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطَّوْا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَكَشَفْتُ غِطَاءَهُ، وَشَرِبْتُ مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَعَلَى رَأْسِ الْعِيرِ جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ، وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ)).

 يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ اجْتَمَعَ فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ: أَبْرَقُ.

 وَهَذَا الْخَبَرُ أَخْرَجَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ((السِّيرَةِ)) بِدُونِ إِسْنَادٍ، وَأَخْرَجَهُ بِنَحْوِهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الدَّلَائِلِ))، وَقَالَ: ((هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ)).

 رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ، وَبِعَلَامَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِعِيرِهِمْ)). 

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ ((لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ؛ عَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا.

 قَالَ: فَمَرَّ بِي عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيَّ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: يَا مُحَمَّدُ! هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟!

قُلْتُ: ((نَعَمْ)).

 قَالَ: مَا هُوَ؟

قُلْتُ: ((إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ)).

 قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟

 قُلْتُ: ((إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ)).

 قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا؟!

قُلْتُ: ((نَعَمْ)).

قَالَ: فَلَمْ يُرِهْ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ؛ أَتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نَعَمْ)).

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ -لَعَنَهُ اللهُ-: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي.

 فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:  ((إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ)).

 قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟

 قَالَ: ((إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ)).

قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا؟!

 قَالَ: ((نَعَمْ)).

 فَضَجَّ الْمُشْرِكُونَ وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ يُصَفِّقُ، وَبَعْضُهُمْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا!!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

 كَانَتْ فِتْنَةً عَظِيمَةً، ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنْ إِسْلَامِهِ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].

 فَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالُوا: ((هَلْ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصَلَّى فِيهِ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ؟!!)).

 فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ)).

فَقَالُوا: ((بَلَى؛ هُوَ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ)).

فقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((وَاللهِ! لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ)).

 فَقَالُوا: ((أَوَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟!!)).

قَالَ: ((نَعَمْ، فَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟!! إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ يَأْتِيهِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ؛ فهَذَا أَبْعَدُ مِمَّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ)).

ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! أَحَدَّثْتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنَّكَ جِئْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟)).

 قَالَ: ((نَعَمْ)).

 فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((صَدَقْتَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ))، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الصِّدِّيقَ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: ((صَحِيحُ الْإِسْنَادِ))، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَانْظُرِ ((السِّلْسِلَةَ الصَّحِيحَةَ)) لِلْأَلْبَانِيِّ.

طَلَبَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالُوا: ((هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصِفَ لَنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ؟)). وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ.

 قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَقَدْ قَامَ: ((أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَيْفَ بِنَاؤُهُ، وَكَيْفَ هَيْئَتُهُ، فَإِنْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَسَأُخْبِرُكُمْ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَسَأُخْبِرُكُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ بِنَاؤُهُ؟ وَكَيْفَ هَيْئَتُهُ؟)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

 وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ قَالَ ﷺ: ((فَجَلَّى اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ)).

 وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ((مُسْنَدِهِ)) قَالَ ((فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ -أَيْ: أَصِفُ-، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ)).

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ نَعْتِهِ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: ((أَمَّا النَّعْتُ -فَوَاللهِ- لَقَدْ أَصَابَ)).

 ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ لَهُمْ: ((آيَةُ ذَلِكَ أَنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ لَكُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابَّةِ -أَيِ: الْبُرَاقِ-، فَنَدَّ لَهُمْ بَعِيرٌ، فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطَّوْا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَكَشَفْتُ غِطَاءَهُ فَشَرِبْتُ مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَعَلى عِيرِهِمْ جَمَلٌ أَوْرَقُ وَعَلَيْهِ غِرَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ، وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ)).

 فَلَمَّا جَاءَتِ الْعِيرُ إِذَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْجَمَلُ الَّذِي وَصَفَهُ الرَّسُولُ ﷺ، وَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْإِنَاءِ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ وَضَعُوهُ مَمْلُوءً مَاءً ثُمَّ غَطَّوْهُ، وَأَنَّهُمْ ذَهَبُوا فَوَجَدُوهُ مُغَطًّى كَمَا غَطَّوْهُ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ مَاءً.

 فَسَأَلُوهُمْ: ((هَلْ ضَلَّ لَكُمْ بَعِيرٌ؟)).

 قَالُوا: ((نَعَمْ، نَدَّ لَنَا بَعِيرٌ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ رَجُلٍ يَدْعُونَا إِلَيْهِ حَتَّى أَخَذْنَاهُ)).

فَعَلِمَ الْكُفَّارُ لَمَّا عَرَفُوا صِدْقَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا نُفُورًا وَطُغْيَانًا كَبِيرًا.

وَقَدْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ قَوْمَهُ بِالْإِسْرَاءِ أَوَّلًا، فَلَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتُ صِدْقِهِ عَلَى تِلْكَ الْمُعْجِزَةِ أَخْبَرَهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهُوَ الْمِعْرَاجُ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ عَايَنَ ﷺ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأُمُورِ الَّتِي لَوْ رَآهَا أَوْ بَعْضَهَا غَيْرُهُ لَأَصْبَحَ مُنْدَهِشًا أَوْ طَائِشَ الْعَقْلِ؛ وَلَكِنَّهُ ﷺ أَصْبَحَ سَاكِنًا يَخْشَى إِنْ بَدَا فَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِمَا رَأَى أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَتَلَطَّفَ بِإِخْبَارِهِمْ أَوَّلًا بَأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ)).

 لَمَّا أَصْبَحَ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتَهَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَنَادَى بِأَصْحَابِهِ: ((الصَّلَاةَ جَامِعَةً))، فَاجْتَمَعُوا، فَصَلَّى بِهِمْ جِبْرِيلُ، وَصَلَّى الرَّسُولُ ﷺ  بِالنَّاسِ، وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ، أَوْ لِأَنَّهَا فُعِلَتْ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: ((قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ،

 ثُمَّ جَاءَهُ الْعَصْرَ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ -أَوْ قَالَ: صَارَ ظِلُّهُ مِثْلَهُ-، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَغْرِبَ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ.

 ثُمَّ جَاءَهُ الْعِشَاءَ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى حِينَ غَابَ الشَّفَقُ.

 ثُمَّ جَاءَهُ الْفَجْرَ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ -أَوْ قَالَ: حِينَ سَطَعَ الْفَجْرُ.

ثُمَّ جَاءَهُ فِي الْغَدِ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ.

 ثُمَّ جَاءَهُ لِلْعَصْرِ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ.

 ثُمَّ جَاءَهُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ.

 ثُمَّ جَاءَ لِلْعِشَاءِ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ -أَوْ قَالَ: ثُلُثُ اللَّيْلِ-، فَصَلَّى الْعِشَاءَ.

 ثُمَّ جَاءَهُ لِلْفَجْرِ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ)).

كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَمَا فُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ رَكْعَتَيْنِ: الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، وَالْمَغْرِبُ ثَلَاثًا.

 ثُمَّ هَاجَرَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأُولَى.

رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ وَالْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((فرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ)).

 وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأُولَى)).

 وَرَوَى أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَوَّلَ مَا افْتُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصَّلَاةُ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ إِلَّا الْمَغْرِبَ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَمَّ اللَّهُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ أَرْبَعًا فِي الْحَضَرِ، وَأَقَرَّ الصَّلَاةَ عَلَى فَرْضِهَا الْأَوَّلِ فِي السَّفَرِ)).

 قَالَ الْحَافِظُ: ((يُعَارِضُ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) قَالَ: فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ.

 وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي -يَقُولُ الْحَافِظُ- وَبِهِ تَجْتَمِعُ الْأَدِلَّةُ: أَنَّ الصَّلَوَاتِ فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ زِيدَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الصُّبْحَ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ في ((صَحِيحِهِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((فُرِضَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ ﷺ الْمَدِينَةَ وَاطْمَأَنَّ؛ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ؛ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ، وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ)).

 ثُمَّ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ فَرْضُ الرُّبَاعِيَّةِ خُفِّفَ مِنْهَا فِي السَّفَرِ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء : 101].

فَعَلَى هَذَا؛ الْمُرَادُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: ((فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ)) أَيْ: بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنَ التَّخْفِيفِ، لَا أَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ مُنْذُ فُرِضَتْ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ)).

وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْقَصْرَ لِلرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ.

كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى هَاجَرَ، وَنَزَلَ الْوَحْيُ بِتَحْويِلِ الْقِبْلَةِ.

رَوَى أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَمَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ)).

كَانَ الْعُرُوجُ وَهُوَ ﷺ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَاجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ أَوْ غَالِبَهُمْ كَانُوا فِي جِهَةِ الشَّامِ أَوْ مِصْرَ، فَجُمِعُوا لَهُ هُنَاكَ، وَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا؛ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ ﷺ هُوَ إِمَامُهُمْ، وَرَضُوا كُلُّهُمْ بِإمَامَتِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ جِبْرِيلُ سَمَاءً فَسَمَاءً حَتَّى وَصَلَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَهُوَ يَمُرُّ بِمَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَرَّ عَلَى عِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَكُلُّهُمْ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ يَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَيُرَحِّبُ بِهِ؛ فَآدَمُ قَالَ: ((مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَبَقِيَّةُ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ)). والْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

فَشَهِدَ لَهُ الْأَنْبِيَاءُ بِالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَبِالصَّلَاحِ مَرَّتَيْنِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ إِعْلَاءِ ذِكْرِهِ ﷺ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].

وَفِي هَذَا الْمِعْرَاجِ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ، وَلَا الصِّيَامَ، وَلَا الْحَجَّ؛ وَلِهَذَا لَا نَعْلَمُ عِبَادَةً فُرِضَتْ مِنَ اللهِ إِلَى الرَّسُولِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ إِلَّا الصَّلَاةَ، وَفَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا، وَفَضْلِهَا، وَعِنَايَةِ اللهِ بِهَا، وَأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِأَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانُ جَمِيعَ وَقْتِهِ أَوْ جُلَّهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ خَمْسِينَ صَلَاةً تَسْتَوْعِبُ وَقْتًا طَوِيلًا؛ لَاسِيَّمَا أَنَّنَا لَا نَدْرِي كَمْ كَانَ عَدَدُ الرَّكْعَاتِ فِيهَا، وَنَزَلَ نَبِيُّنَا وَإِمَامُنَا وَقَائِدُنَا وَقُدْوَتُنَا ﷺ مُقْتَنِعًا بِذَلِكَ، رَاضِيًا بِهِ مُسَلِّمًا.

فَفُرِضَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً يُصَلِّيهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ هُوَ وَأُمَّتُهُ، حَتَّى قَيَّضَ اللهُ لَهُ مُوسَى ﷺ، وَأَلْهَمَ اللهُ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَهُ: ((مَاذَا فَرَضَ عَلَيْكَ رَبُّكَ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ؛ إِنِّي جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَالَجْتُهُمْ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ)).

وَمُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا شَكَّ أَنَّهُ قَاسَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ؛ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَطْوَعُ للهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ لَمَّا ابْتَلَاهَا اللهُ -تَعَالَى- بِالصَّيْدِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ تَنَالُهُ أَيْدِيهِمْ وَرِمَاحُهُمْ؛ تَنَالُهُ أَيْدِيهِمْ فِيمَا يَمْشِي، وَرِمَاحُهُمْ فِيمَا يَطِيرُ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الَّذِي يَطِيرُ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالسِّهَامِ، وَالَّذِي يَمْشِي لَا يُنَالُ إِلَّا بِالرِّمَاحِ؛ لَكِنِ ابْتَلَاهُمُ اللهُ فَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الصَّيْدَ، ثُمَّ قَيَّضَ أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي يَطِيرُ يُؤْخَذُ بِالرُّمْحِ، فَلَا يَطِيرُ، وَلَكِنْ يَضْرِبُهُ بِالرُّمْحِ وَيَأْخُذُهُ، وَالَّذِي يَمْشِي كَالْأَرْنَبِ وَمَا أَشْبَهَهَا بِالْيَدِ، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، فَمَاذَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ؟ هَلْ كَفُّوا عَنِ الصَّيْدِ مَعَ تَيَسُّرِهِ، أَوْ أَخَذُوا بِهِ؟

الْجَوَابُ: كَفُّوا، مَا أَخَذُوهُ.

وَبَنُو إِسْرَائِيلَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: لَا تَصِيدُوا يَوْمَ السَّبْتِ سَمَكًا؛ قَالُوا: لَا بَأْسَ، لَنْ نَصِيدَ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَابْتَلَاهُمُ اللهُ، فَكَانَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ تَأْتِي الْحِيتَانُ شُرَّعًا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَفِي غَيْرِ يَوْمِ السَّبْتِ لَا تَأْتِي، فَقَرْقَرَتِ الْبُطُونُ عَلَى السَّمَكِ -صَوَّتَتْ مِنْ جُوعٍ وَغَيْرِهِ-، وَقَالُوا: كَيْفَ نَبْقَى -هَكَذَا- وَلَا نَأْكُلُ سَمَكًا؟!!

ثُمَّ قَالُوا: نَحْنُ أَصْحَابُ حِيَلٍ، نَحْتَالُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ!! مَاذَا نَصْنَعُ؟ قَالُوا: نَضَعُ شَبَكَةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَنَأْخُذُ مَا فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، فَلَا نَكُونُ قَدِ اصْطَدْنَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَوَضَعُوا شَبَكَةً يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتِ الْحِيتَانُ عَلَى الْعَادَةِ، فَدَخَلَتِ الشَّبَكَ وَعَجَزَتْ عَنِ الْخُرُوجِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ أَخَذُوهَا، فَتَحَيَّلُوا عَلَى مَحَارِمِ اللهِ؛ لَكِنْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ هَذَا التَّحَيُّلُ، بَلْ قَلَبَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- قِرَدَةً، فَأَصْبَحُوا قِرَدَةً يَتَعَاوَوْنَ، وَالَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ رَجُلًا يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ أَصْبَحَ الْآنَ قِرْدًا يَمْشِي عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ.

وَهَذِهِ الْحِيلَةُ التي فَعَلُوهَا أَقْرَبُ مَا يَكُونُ لِبَنِي آدَمَ فِيهَا الْقُرُودُ، فَهُمْ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ لِلْحِيَلِ، فَصَارَ الْجَزَاءُ وِفَاقًا مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَاسَ هَذِهِ الْأُمَّةُ السَّامِعَةُ الْمُطِيعَةُ الَّتِي قَالَ قَائِلُهُمْ لَمَّا اسْتَشَارَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْغَزْوِ، قَالَ: ((وَاللهِ! لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، وَلَكِنِ اذْهَبْ فَقَاتِلْ؛ فَنَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَاللهِ! لَوْ خُضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَمِنْ نِعْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ هَذِهِ الْأُمَّةَ حَقِيقَةً، فَقَالَ: ((ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ ﷺ، فَوَضَعَ اللهُ عَنْهُ خَمْسًا خَمْسًا، أَوْ عَشْرًا عَشْرًا، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى خَمْسٍ، فَنَادَى مُنَادٍ: إِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي؛ هُنَّ خَمْسٌ فِي الْفِعْلِ، وَخَمْسُونَ فِي الْمِيزَانِ)).

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّلَاةِ وَعِظَمِهَا، فَفَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، وَنَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى وَصَلَ مَكَّةَ بِغَلَسٍ، وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَصَلَّى بِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْفَجْرَ، وَالظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ.

وَهَذَا الْمِعْرَاجُ مِنْ خَصَائِصِ الرَّسُولِ ﷺ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَاهُ، فَهُوَ مِنَ آيَاتِ اللهِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَعَلَى الْآيَاتِ الْكُبْرَى الَّتِي شَاهَدَهَا الرَّسُولُ ﷺ.

وَلَوْ أَنَّنَا اسْتَعْرَضْنَا الْمِعْرَاجَ لَوَجَدْنَا الرَّسُولَ ﷺ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَدَبِ، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، وَنَحْنُ لَوْ دَخَلْنَا قَصْرًا غَرِيبًا عَلَيْنَا كَانَ الْوَاحِدُ يَنْظُرُ لِلسَّقْفِ مَرَّةً، وَيَنْظُرُ لِلْجِدَارِ الْأَيْمَنِ مَرَّةً، وَيَنْظُرُ لِلْجِدَارِ الْأَيْسَرِ مَرَّةً، وَرُبَّمَا يَنْظُرُ لِلْأَرْضِ وَالْبُسُطِ، فَيَنْظُرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبٌ عَلَيْهِ؛ لَكِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ اللهُ عَنْهُ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، فَلَمْ يَتَجَاوَزِ النَّظَرُ الَّذِي حُدِّدَ لَهُ مِنْ حَدٍّ؛ فَهُوَ ﷺ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَدَبِ.

قَالَ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17] أَيْ: مَا نَظَرَ شَيْئًا عَلَى خِلَافِ الْوَاقِعِ.

وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18].

وَ(الْكُبْرَى) فِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ: لَقَدْ رَأَى الْكُبْرَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صِفَةٌ لِآيَاتٍ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَهَا صِفَةً أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَفْعُولًا بِهِ صَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ رَأَى الْكُبْرَى الَّتِي لَا أَكْبَرُ مِنْهَا، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا صِفَةٌ؛ صَارَ الْمَعْنَى: رَأَى مِنَ الْآيَاتِ الْكُبْرَى الْمَوْجُودَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ.

وَهُنَا قَدْ يَرِدُ إِشْكَالٌ؛ حَيْثُ وَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَنْبِيَاءَ فِي السَّمَاوَاتِ؛ فَكَيْفَ نَقُولُ: إِنَّهُ اخْتَصَّهُ بِالْمِعْرَاجِ مَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا فِي السَّمَاوَاتِ؟

وَالْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُعْرَجْ بِهِمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَإِنَّمَا وَجَدَ أَرْوَاحَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَتَّى الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ لَمْ يَصِلُوا إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى؛ لِأَنَّ أَعْلَاهُمْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.

وَهَذَانِ فَرْقَانِ وَاضِحَانِ.

((مَتَى وَأَيْنَ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ؟))

كَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، هَذَا أَرْجَحُ مَا قِيلَ، وَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى؛ وَلَكِنَّهَا لَمْ تُحَرَّرْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا كَانُوا يَعْتَنُونَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَارِيخٌ، بَلْ كَانَ الْجَيِّدُ مِنْهُمْ وَالْمُثَقَّفُ يُؤَرِّخُ بِعَامِ الْفِيلِ، وَمَا أُرِّخَ التَّارِيخُ إِلَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

 إِذَنْ؛ هُوَ عَلَى الْأَرْجَحِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سَنَوَاتٍ.

هَلْ كَانَ هَذَا الْمِعْرَاجُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ؟

اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ كَانَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَحْتَفِلُ بِهِ، وَبَعْضُ الدُّوَلِ تَجْعَلُهُ عُطْلَةً رَسْمِيَّةً وَهُمْ يَحْكُمُونَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ عَجِيبٌ!! ‍‍

وَلَكِنَّ الصَّوَابَ: أَنَّ الْمِعْرَاجَ لَيْسَ فِي رَجَبٍ، وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ: أَنَّهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وُلِدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ ﷺ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، نَعَمْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي رَمَضَانَ؛ لَكِنْ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ فِي الْوَحْيِ: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مِنْ رَبِيعٍ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ الْوَحْيُ: أَنَّهُ كَانَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ حَتَّى تَأْتِيَ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)).

وَبَقِيَ عَلَى هَذَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ: رَبِيعٌ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَجُمَادَى الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَرَجَبٌ، وَشَعْبَانُ، وَفِي رَمَضَانَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.

إِذَنْ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ وُلِدَ فِي رَبِيعٍ، وَأَوَّلَ مَا جَاءَهُ الْوَحْيُ فِي رَبِيعٍ؛ لَكِنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي رَمَضَانَ، وَهَاجَرَ فِي رَبِيعٍ، وَتُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ ﷺ ، فَكُلُّ الْحَوَادِثِ الْكَبِيرَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ فِي رَبِيعٍ.

فَأَصَحُّ مَا قِيلَ: إِنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ فِي رَبِيعٍ، وَلَيْسَ فِي رَجَبٍ؛ لَكِنِ اشْتَهَرَ أَنَّهُ فِي رَجَبٍ، وَصَارَ عِنْدَ النَّاسِ كَأَنَّهُ مَجْزُومٌ بِهِ، كَمَا اشْتَهَرَ أَنَّ وِلَادَتَهُ كَانَتْ فِي لَيْلَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ، وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ!!

كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مِنْ حِجْرِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُقَالَ: كَانَ نَائِمًا عِنْدَ أُمِّ هَانِئٍ، فَأَتَاهُ آتٍ فَأَيْقَظَهُ، فَقَامَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَاضْطَجَعَ عِنْدَ الْحِجْرِ، فَعُرِجَ بِهِ مِنْ هُنَاكَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

((الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ كَانَ بِجَسَدِ الرَّسُولِ ﷺ وَرُوحِهِ يَقَظَةً))

الصَّحِيحُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ ﷺ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عِبَادَهُ، وَكَمَا تَضَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ حَيْثُ أَتَاهُ بِهِ، وَصَلَّى هُنَالِكَ بِمَنْ صَلَّى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَرَاهُ مَا أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ.

 وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَلَا حُجَّةً لَهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ صِدْقِهِ فِيهِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَرَى الرَّائِي مِنْهُمْ فِي الْمَنَامِ مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ؛ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ؟!

 وَبَعْدُ: فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا قَالَ اللهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ قَوْلِهِ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ.

 بَلِ الْأَدِلَّةُ الْوَاضِحَةُ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا: الْبُرَاقُ، وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى الْبُرَاقِ؛ إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الْأَجْسَامَ)).

 يَعْنِي: لَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَا بِجَسَدِهِ؛ فَلِمَاذَا تُحْمَلُ الرُّوحُ عَلَى الْبُرَاقِ؟!! وَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْبُرَاقِ وَعَلى الدَّوَابِّ إِلَّا الْأَجْسَادُ؟!!

 قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ ﷺ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ، يَقَظَةً لَا مَنَامًا، فَأُسْرِيَ بِهِ بِجَسَدِهِ، وَأُسْرِيَ بِهِ فِي يَقَظَتِهِ لَا فِي مَنَامِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}.

 فَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَمَا بَادَرَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَلَمَا ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ.

 وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الرُّوُحِ وَالْجَسَدِ، قَالَ -عَزَّ شَأْنُهُ-: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا}، وَقَدْ قَالَ -تَعَالَى-: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الْإِسْرَاءِ: 60].

 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ)).

 ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النَّجْمِ: 17]، وَالْبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ.

 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ﷺ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ فِي حَرَكَتِهَا إِلَى مَرْكَبٍ تَرْكَبُ  عَلَيْهِ؛ يَعْنِي: الرُّوحَ)).

الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ: أَنَّهُ يَقَظَةٌ؛ لِأَنَّ اللهَ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، وَلَمْ يَقُلْ: بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَالْعَبْدُ هُوَ الْجِسْمُ الَّذِي فِيهِ الرُّوحُ؛ فَقَدْ أُسْرِيَ بِهِ بِجِسْمِهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- يَقَظَةً.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ -أَيْضًا- أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ تُنْكِرْهُ قُرَيْشٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَامَ لَا يُنْكَرُ؛ فَمَثَلًا: لَوْ قَالَ الْإِنْسَانُ: إِنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَقْصَى الشَّرْقِ، أَوْ أَقْصَى الْغَرْبِ، وَرَأَى مَا رَأَى مِنَ الْأَعَاجِيبِ؛ هَلْ يُكَذَّبُ؟

الْجَوَابُ: أَبَدًا لَا يُكَذَّبُ،  لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ بِجِسْمِهِ وَيَقَظَةً مَا كَذَّبَتْ بِهِ قُرَيْشٌ.

((الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ))

جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُمَا كَانَا فِي الْيَقَظَةِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ ﷺ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي مُفْتَتَحِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ {بِعَبْدِهِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا الرُّوحَ وَالْجَسَدَ.

الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّقْلِ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ)).

الصَّحِيحُ الْمَقْطُوعُ بِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.

الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ أَنَّهُ يُرِيهِ إِيَّاهَا هِيَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18].

فَالصَّوَابُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.

((الرَّدُّ عَلَى شُبُهَاتِ الزَّائِغِينَ حَوْلَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ))

 يَتَعَرَّضُ الْإِسْلَامُ مِنْ قَدِيمٍ مُنْذُ أَنْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى التَّشْوِيشِ وَالتَّشْوِيهِ، وَإِثَارَةِ الشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ، وَفِي هَذَا الْعَصْرِ وُجِدَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا الْعَصْرُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ فِي مِضْمَارِ التَّشْوِيهِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَلِكِتَابِهِ الْمَجِيدِ، وَنَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ.

 وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَرُدُّ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ آتَاهُ اللهُ طَرَفًا مِنَ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبَثُّ بَيْنَ مَنْ يُقَالُ لَهُمُ: (الْمُثَقَّفُونَ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا بَيْنَ الشَّبَابِ الَّذِينَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيُوجَدُ قُطْعَانُ تُسَاقُ إِلَى الْإِلْحَادِ سَوْقًا، لَا بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ فِي الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، وَإِنَّمَا فِي إِنْكَارِ وُجُودِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ فَضْلًا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنَّبِيِّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَهَذَا الْبَلَاءُ كُلُّهُ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِلَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعْلِيمِ التَّوْحِيدِ؛ فَهَذا دِينُ التَّوْحِيدِ.

 وَإِذَا عُلِّمَ الْمُسْلِمُ أُصُولَ التَّوْحِيدِ، وَشَبَّ عَلَى ذَلِكَ، وَرَضَعَ لَبَانَهُ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ شَكٌّ مَهْمَا حَاوَلَ الْمُشَكِّكُونَ وَالْمُشَبِّهُونَ؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ يَنْشَئُونَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.

 إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَهُمْ أَوَّلَ مَا عَلَّمَهُمْ حَقِيقَةَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ؛ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، وَأَلَّا تُشْرِكُوا بِاللهِ -تَعَالَى- شَيْئًا، وَنَطَقَ بِذَلِكَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيِ النَّجَاشِيِّ، وَفِي وَسْطِ الْأَمْرِ أَبُو سُفْيَانَ بَيْنَ يَدَيْ هِرَقْلَ، فَهَذَا مُؤْمِنٌ، وَهَذا كَانَ كَافِرًا؛ وَلَكِنَّ حَقِيقَةَ الدِّينِ كَانَتْ وَاضِحَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَصُورَةَ مَا أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى مُحَمَّدٍ -مِنْ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، وَنَبْذِ الشِّرْكِ- كَانَتْ وَاضِحَةً مُتَأَلِّقَةً فِي أَرْوَاحِهِمْ؛ لِذَلِكَ بَدَأُوا كُلَّ مَنْ كَلَّمُوهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُونَا إِلَى عِبَادَةِ اللهِ الْوَاحِدِ، وَنَبْذِ وَتَرْكِ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، يَعْنِي: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ.

 وَهَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاضِحًا، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، كُلُّهُمْ بَدَأُوا أَقْوَامَهُمْ بِهَذِهِ الْقَوْلَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ: {اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

 نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَدِينُ الْمُرْسَلِينَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، كُلُّ الْمُرْسَلِينَ جَاؤُوا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَلَا يُقْبَلُ النَّفْيُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِثْبَاتٍ، وَلَا يُقْبَلُ الْإِثْبَاتُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ نَفْيٍ حَتَّى يَجْمَعَ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ.

 وَفِي هَذَا الْعَصْرِ بَلَاءٌ كَبِيرٌ وَحَرْبٌ شَرِسَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ أُصُولَ الدِّينِ.

أَتَظُنُّونَ الْغَرْبَ يُحَارِبُ التَّكْفِيرِيِّينَ؟!!

لَا، هُوَ الَّذِي يَصْنَعُهُمْ، إِنَّمَا يُحَارِبُكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّكُمْ تَحْمِلُونَ حَقِيقَةَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَتُبَيِّنُونَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، هُمْ لَا يُحَارِبُونَهُمْ، هُمْ يَصْنَعُونَهُمْ وَيَشْغَبُونَ بِهِمْ، وَيُمَكِّنُونَ لَهُمْ، وَيُغْوُونَهُمْ، وَالْحَرْبُ الْحَقِيقِيَّةُ عَلَى الدَّعْوَةِ الصَّحِيحَةِ.

وكَذَلِكَ الْفَجَرَةُ مِنَ الْعَلْمَانِيِّينَ فِي مِصْرَ لَا يُحَارِبُونَ إِلَّا الدِّينَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ.

 وَهُنَاكَ حَمْلَةٌ مَسْعُورَةٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي أُمُورٍ خَفِيَّةٍ، كَأَنَّمَا يُعِدُّونَ الْعُدَّةَ لِشَيْءٍ يُرِيدُونَ إِحْدَاثَهُ بِمِصْرَ، فَيُرِيدُونَ إِسْكَاتَ كُلِّ صَوْتٍ يُدَافِعُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَيُدَافِعُ عَنْ مِصْرَ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، بِالدَّسِّ عِنْدَ الْمُؤَسَّسَاتِ الدِّينِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجِهَاتِ الْمَعْنِيَّةِ، بِإِشَاعَةِ أَقْوَالٍ بَاطِلَةٍ مَرْذُولَةٍ، وَبِإِشَاعَةِ أَكَاذِيبَ وَتُرَّهَاتٍ، وَيَجِدُونَ مِنَ الْعَلْمَانِيِّينَ الْفَجَرَةِ مَنْ يُهَيِّجُونَ الرَّأْيَ الْعَامَّ، وَيَسْتَثِيرُونَ أَصْحَابَ الْكَلِمَةِ؛ مِنْ أَجْلِ إِصْمَاتِ وَإِسْكَاتِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي دِينِ اللهِ بِالْحَقِّ، وَيُحَافِظُ عَلَى أَرْضِهِ، وَيُحَافِظُ عَلَى وَطَنِهِ، وَيُحَافِظُ عَلَى سَلَامَةِ مِصْرَ، وَيَدْعُو أَبْنَاءَهَا وَمَنْ هُوَ بِهَا مِنْ غَيْرِهَا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا قَلْعَةُ الْإِسْلَامِ الصَّامِدَةُ الَّتِي إِذَا انْهَارَتْ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ- انْهَارَتْ سَائِرُ الْقِلَاعِ تَبَعًا لِانْهِيَارِهَا.

 خُطَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَيُعِينُ عَلَيْهَا مَنْ يَدَّعُونَ زُورًا وَكَذِبًا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا هُمْ فَجَرَةٌ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ شَيْئًا، وَلَا يَدْرُونَ عَنِ الْمُرُوءَةِ خَبَرًا؛ فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَقِيَنَا شَرَّ الْأَشْرَارِ، وَكَيْدَ الْفُجَّارِ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ  الرَّحْمَنُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

هُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، وَهِيَ تَكَادُ تَنْحَصِرُ فِي الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ بِالْجَسَدِ فِي اسْتِبْعَادِ الذَّهَابِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ فِي الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، ثُمَّ فِي الرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ أَتَى فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ لَمْ يَذْكُرِ الْمِعْرَاجَ كَمَا ذَكَرَ الْإِسْرَاءَ.

 وَفِي أَنَّ الْمِعْرَاجَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخَرْقُ وَالِالْتِئَامُ فِي الْأَفْلَاكِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ.

 وَفِي أَنَّ الطَّبَقَةَ الْهَوَائِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِالْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ مَحْدُودَةٌ بِثَلَاثِ مِائَةِ كِيلُو مِتْرٍ (300 كم) تَقْرِيبًا، فَمَنْ جَاوَزَهَا صَارَ عُرْضَةً لِلْمَوْتِ الْمُحَقَّقِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ الْهَوَاءِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْحَيَاةِ.

 وَهَذِهِ كُلُّها شُبُهَاتٌ لَا تَثْبُتُ أَمَامَ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ الصَّحِيحِ؛ فَالْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ أَمْرَانِ مُمْكِنَانِ عَقْلًا أَخْبَرَ بِهِمَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الْمُتَوَاتِرِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ؛ فَوَجَبَ التَّصْدِيقُ بِوُقُوعِهِمَا، وَمَنِ ادَّعَى اسْتِحَالَتَهُمَا فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَهَيْهَاتَ ذَلِكَ.

 وَكَوْنُهُمَا مُسْتَبْعَدَيْنِ عَادَةً لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا وَلَا شِبْهَ دَلِيلٍ عَلى الِاسْتِحَالَةِ، وَهَلِ الْمُعْجِزَاتُ إِلَّا أُمُورٌ خَارِقَةٌ لِلعَادَةِ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ؟!!

وَلَوْ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ لَا يَجْرِي عَلَى سَنَنِ الْعَادَةِ مَئِنَّةٌ لِلْإِنْكَارِ لَمَا ثَبَتَ مُعْجِزَةُ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛  فَكُلُّهَا خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ.

 ثُمَّ مَا قَوْلُ الْمُنْكِرِينَ لِمِثْلِ هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ فِيمَا صَنَعَهُ الْبَشَرُ مِنَ الطَّائِرَاتِ وَالصَّوَارِيخِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ أَفَيَسْتَبْعِدُونَ عَلَى مُبْدِعِ الْبَشَرِ وَخَالِقِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ أَنْ يُسَخِّرَ لِنَبِيِّهِ بُرَاقًا يَقْطَعُ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي زَمَنٍ أَقَلَّ مِنَ الْقَلِيلِ؟!!

وَلَيْسَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ مِنْ جِنْسِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ النَّاسُ، حَاشَا للهِ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: التَّقْرِيبُ لِلعُقُولِ مِمَّنْ يُنْكِرُونَهُمَا بِمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَلْمُوسٌ، فَلَيْسَ هَاهُنَا مُقَارَنَةٌ بَيْنَ مَا يَأْتِي بِهِ الْبَشَرُ مِمَّا أَقْدَرَهُمُ اللهُ عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ فِي قُدْرَةِ اللهِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

 أَمَّا شُبْهَةُ أَنَّ الْمِعْرَاجَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ذُكِرَ الْإِسْرَاءُ؛ فَيَدْفَعُهَا -مَا مَرَّ- مِنْ أَنَّ الْمِعْرَاجَ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ صَرَاحَةً فَقَدْ أُشِيرَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ بِالْقُرْآنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِنْكَارِ؛ فَمَا الْأَحَادِيثُ إِلَّا مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَشَارِحَةٌ لَهُ، وَمُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَهِيَ الْأَصْلُ الثَّانِي مِنْ أُصُولِ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

 فَلَوْ أَنَّنَا اقْتَصَرْنَا فِي الدِّينِ وَمَسَائِلِهِ عَلَى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ لَفَرَّطْنَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالْآدَابِ، وَالْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

 وَأَمَّا شُبْهَةُ أَنَّ الْمِعْرَاجَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْخَرْقُ وَالِالْتِئَامُ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ؛ فَفِكْرَةٌ قَدِيمَةٌ عَفَا عَلَيْهَا الزَّمَانُ، وَأَبْطَلَتْهَا النَّظَرَاتُ الْعِلْمِيَّةُ الْحَدِيثَةُ؛ حَيْثُ انْتَهَى بَحْثُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَوْنَ فِي أَصْلِهِ كَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ تَنَاثَرَتْ أَجْزَاؤُهُ، وَانْفَصَلَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ حَتَّى غَدَا مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ؛ عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ.

وَمَعَاشِرُ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الْفَاهِمُونَ لَهُ الْوَاعُونَ لِأَصْلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَحِّبُونَ بِتَقَدُّمِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْكُشُوفِ، وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا إِيمَانًا بِاللهِ، وَيَقِنيًا فِيهِ، قَالَ -تَعَالَى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].

 بَلَى، وَأَنا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؛ فَعَلَى النَّاسِ أَلَّا يَتْبَعُوا الشَّيَاطِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عِنْدَ النَّظَرِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْخَوَارِقِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَمَزِيدِ التَّصْدِيِق، لَا إِلَى الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ.

 

((دَمْعَةٌ عَلَى مَسْرَى الرَّسُولِ ﷺ ))

هَذِهِ دَمْعَةٌ عَلَى مَسْرَى الرَّسُولِ ﷺ.. يَا قُدْسُ يَا مَدِينَةَ الْأَحْزَانِ، يَا دَمْعَةً كَبِيرَةً تَجُولُ فِي الْأَجْفَانِ!

عُذْرًا فِلَسْطِينُ إِذَا لَمْ نَحْمِلِ الْقُضُبَا   =   وَلَمْ نَقُدْ نَحْوَكِ الْمَهْرِيَّةَ النُّجُبَا

عُذْرًا فَإِنَّ سُيُوفَ الْقَوْمِ قَدْ صَدِأَتْ =     وَخَيْلُهُمْ لَمْ تَعُدْ تَسْتَمْرِئُ التَّعَبَا
عُذْرًا فَإِنَّ السُّيُوفَ الْيَوْمَ وَا أَسَفَا    =    تَخَالُهَا الْعَيْنُ فِي أَغْمَادِهَا حَطَبَا
عُذْرًا فَإِنَّ عِتَاقَ الْخَيْلِ مُنْهَكَةٌ   =              قَدْ أَوْرَثَتْهَا سِيَاطُ الْغَاصِبِ الْوَصَبَا

عُذْرًا فِلَسْطِينُ إِنَّ الذُّلَّ قَيَّدَنَا =         فَكَيْفَ نُبْقِي عَلَيْكِ الدُّرَّ وَالذَّهَبَا
عُذْرًا فَقَوْمُكِ قَدْ مَاتَتْ شَهَامَتُهُمْ   =   وَثَلَّمَ الذُّلُّ مِنْهُمْ صَارِمًا عَضْبَا

رَأَوْكِ فِي الْأَسْرِ فَاحْمَرَّتْ عُيُونُهُمُ  =        لِذَاكَ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُمْ غَضَبَا

يَسْتَنْكِرُونَ وَمَا يُغْنِيكِ مَا فَعَلُوا  =        وَيَشْجُبُونَ وَمَا تَدْرِينَ مَنْ شَجَبَا
وَا حَسْرَتَاهُ عَلَى الْأَقْصَى يُدَنِّسُهُ =        قِرْدٌ وَيَهْتَزُّ فِي سَاحَاتِهِ طَرَبَا
قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى عِزًّا فَوَا كَبِدِي  =    أَضْحَى أَسِيرًا رَهِينَ الْقَيْدِ مُغْتَصَبَا
كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَسْرَى الرَّسُولِ وَلَمْ   =  يُصَلِّ فِيهِ يَؤُمُّ الصَّفْوَةَ النُّجُبَا
كَأَنَّهُ مَا أَتَى الْفَارُوقُ يُعْتِقُهُ  =           يَوْمًا وَمَا وَطِئَتْ أَقْدَامُهُ النَّقَبَا
كَأَنَّهُ لَمْ يُؤَذِّنْ لِلصَّلَاةِ بِهِ  =             بِلَالُ يَوْمًا فَفَاضَ الدَّمْعُ مُنْسَكِبًا
كَأَنَّمَا الْأَرْضُ قَدْ أَخْفَتْ مَعَالِمَهُمْ   =   وَمَزَّقَتْ مَا حَوَوْا مِنْ عِزَّةٍ إِرَبَا
لَهْفِي عَلَى الْقُدْسِ كَمْ جَاسَ الظَّلُومُ بِهَا = وَكَمْ تُقَاسِي صُرُوفَ الدَّهْرِ وَالنُّوَبَا

تَعِيثُ فِيهَا الْيَهُودُ الْغُتْمُ مَفْسَدَةً  =     وَتَزْرَعُ الشَّرَّ وَالْإِرْهَابَ وَالشَّغْبَا
يَسْتَأْسِدُ الْقِرْدُ فِيهَا بَعْدَ خِسَّتِهِ =        وَيَرْفَعُ الْهَامَةَ الْخِنْزِيرُ مُغْتَصِبَا
كَمْ أَشْعَلُوا نَارَهُمْ فِيهَا وَكَمْ هَدَمُوا  = مِنْ مَنْزِلٍ وَأَهَانُوا وَالِدًا حَدِبًا
وَكَمْ أَسَالُوا دُمُوعَ الْمُؤْمِنَاتِ ضُحَا =   وَكَمْ ظَلُومٍ بَغَى أَوْ غَاصِبٍ غَصَبَا
وَكَمْ أَدَارُوا كُؤُوسَ الْمَوْتِ مُتْرَعَةً            =    فَأَيْتَمُوا طِفْلَةً أَوْ شَرَّدُوا عَزَبَا

صَبْرًا فَمَا اسْوَدَّ مِنْ ذَا اللَّيْلِ جَانِبُهُ  =    إِلَّا لِيُؤْذِنَ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ قَرُبَا
إِنِ اسْتَضَاءَ بِنُورِ الْحَرْبِ جَمْعُهُمُ =        فَعَنْ قَلِيلٍ سَيَغْشَى جَمْعُنَا اللَّهَبَا
لَنْ نَسْتَكِينَ وَلَنْ نَرْضَى بِهَا بَدَلًا     =     غَدًا نَرُدُّ أَذَانَ الْحَقِّ وَالسَّلَبَا
غَدًا نُعِيدُ فِلَسْطِينَ الَّتِي عُهِدَتْ  =        مِنْ قَبْلُ خَمْسِينَ عَامًا دَوْحَةً وَرُبَا
غَدًا نُعِيدُ لَهَا التَّكْبِيرَ تَسْمَعُهُ =         أُذْنُ الدُّنَى وَنُعِيدُ الْفِقْهَ وَالْأَدَبا
غَدًا نُعِيدُ لَهَا الزَّيْتُونَ نَغْرِسُهُ  =        غَرْسًا وَنَزْرَعُ فِيهَا التِّينَ وَالْعِنَبَا

غَدًا سَنَقْلَعُ مِنْهَا كُلَّ غَرْقَدَةٍ  =             وَنَضْرِبُ الْهَامَ كَيْ مَا نَقْطَعَ الصَّخَبَا

مَاذَا يَقُولُ الشَّاعِرُ الْمَهْدُودُ فِي زَمَنِ الْهَزِيمَهْ

مَاذَا بِخَاصِرَةِ الْقَوَافِي غَيْرُ أَحْزَانٍ قَدِيمَهْ

مَاذَا بِبَحْرِ الشِّعْرِ غَيْرُ تَلَكُّؤِ السُّفُنِ الْعَقِيمَهْ

تَتَجَاذَبُ الْأَمْوَاجُ جُثَّتَهَا وَتُفْتَتَحُ الْوَلِيمَهْ

وَمُعَلَّقَاتٌ حِبْرُهَا الْيَأْسُ الْمُعَرْبِدُ فَوْقَ أَثْدَاءٍ دَمِيمَهْ

وَعِمَامَةٌ لِلْبُحْتُرِيِّ تَرَقَّعَتْ وَهِيَ الْكَرِيمَهْ

مَاذَا عَلَى الْوَتَرِ الرَّضِيعِ يُدَاعِبُ الصُّوَرَ الْيَتِيمَهْ

هَلْ تُوقِظُ السَّكْرَانَ صَلْصَلَةُ الْحُرُوفِ

 عَلَى جِدَارِ الْخَوْفِ أَوْ تُحْيِي رَمِيمَه

هَلْ يُرْجِعُ الْأَمْوَاتَ لَطْمٌ أَوْ عَوِيلٌ أَوْ تَمِيمَه

هَلْ يُرْجِعُ الْغُيَّابَ زَمْجَرَةٌ وَأَشْعَارٌ سَقِيمَه

أَوْ هَلْ سِيَاطُ الشِّعْرِ تُلْهِبُ ظَهْرَ لَيْلَاءَ بَهِيمَهْ

             ****

يَا وَجْهَ أُمِّي يَا كِتَابًا مِنْ عَبِير

يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِير

قُومِي قَدِ انْطَفَأَ النَّهَار

وَتَاهَ فِي اللَّيْلِ الصَّغِير

قُومِي فَإِنِّي رَاحِلٌ

زُوَّادَتِي قَلْبٌ كَسِير

مَلَّ الرَّحِيلُ خُطَايَ يَا أُمِّي وَأَنْهَكَنِي الْمَسِير

يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِير

زَيْتُونَةٌ تَرْنُو لِعَيْنِ الشَّمْسِ تَقْتَاتُ الْعَبِير

رُمَّانُ خَدَّيْهَا تَأَلَّقَ فَوْقَ أَكْتَافِ النُّجُوم

يَافَا تُدَاعِبُ فِي ضَفَائِرِهَا الْكُلُوم

حَيْفَا تُنَادِي عُمَرَهَا أَقْبِلْ بِسَيْفٍ صَارِمِ الْقَسَمَاتِ هِنْدِيٍّ صَمِيم

يَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الْمُلَثَّمُ بِالْهُمُوم

دَعْنِي أُعَبِّئُ مُقْلَتَيَّ بِضَوْئِهَا دَعْهَا تَقُوم

أَرْوِي صُخُورَكَ بِالنَّدَى الْمَزْخُورِ فِي عُمْقِي تُخُوم

وَأُعَانِقُ السَّرْوَ الَّذِي ثَكِلَتْهُ أَضْلَاعِي عَلَى وَجْهِ الْأَدِيم

دَعْنِي أُقَبِّلْ رَاحَتَيْهَا تَنْجَلِي ظُلَمُ الْوُجُوم

             *****

يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِير

يَا دُمَّلًا فِي الْقَلْبِ يَا وَجَعَ الضَّمِير

الصَّخْرُ يَبْكِينَا وَأَبْكِيهِ فَتَرْثِينَا الْقُبُور

وَالْعَارُ فَوْقَ قِبَابِكِ الشَّمَّاءِ طَاحُونٌ يَدُور

وَأَنَا أَدُورْ

لَا الْأُسْدُ تَعْرِفُ سَاحَتِي وَلَا تَيَمَّمُنَا النُّسُور

وَقَبَائِلُ الْأَعْرَابِ لَا كَرَمٌ وَلَا حَتَّى سَرِيرْ

يَتَنَاوَبُونَ عَلَيَّ يَا أُمِّي كَجَلَّادٍ حَقِيرْ

وَيُذَبِّحُونِي كَيْ تَعُودَ الْقُدْسُ

هَذَا مِنْ طَلَاسِمِهِمْ فَهَلْ فَقِهَتْ حَمِير؟!!

قَدْ فَارَقَتْ عَيْنَايَ أَحْدَاقِي

أُفَتِّشُ عَنْ نَصِير

أَيْنَ الْجُيُوشُ الْيَعْرُبِيَّهْ؟!!

وَالنِّفْطُ أَيْنَ النِّفْطُ؟!!

ضَاعَ وَمَا لِمَوْقِدِنَا بَقِيَّهْ

            ****

يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِيرْ

يَا وَجْهَ أُمِّي يَا كِتَابًا مِنْ عَبِير

 كُلُّ الطُّيُورِ تَعُودُ فِي ذَيْلِ النَّهَار

كُلُّ الْوُحُوشِ تَعُودُ لِلْأَوْكَار

إِلَّا أَنَا يَا قُدْسُ أَخْطَأَنِي الْقِطَار

    ****

يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِير

يَا بَلْدَةَ الشَّرَفِ الْعَرِيقَه

وَأَنَا غَرِيبٌ فِي بِلَادِي لَاحَقُونِي  بِالْوَثِيقَه

وَالرَّعْدُ بَيْنَ جَوَانِحِي أَخْفَى بَرِيقَه

وَالْخَيْرَ أَنْثُرُهُ عُلُومًا وَدَوَاءً وَحَدِيقَه

عَجَبًا لَهُ الْمَطْرُودُ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَوْقَ الْخَلِيقَه

غُلُّوهُ كَيْمَا يُسْتَبَاحُ عَلَى الدُّرُوبِ كُلُوا حُقُوقَه

اسْتَنْزِفُوا أَحْلَامَهُ أَوْلَادَهُ رَايَاتِهِ مُصُّوا عُرُوقَهْ

سَبْعُونَ سَيْفًا فِي الشَّرَايِينِ الدَّقِيقَه

وَابْكُوهُ فِي الْمِذْيَاعِ فِي الصُّحُفِ الرَّفِيقَه

وَلْتَنْصُرُوهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِالْعِبَارَاتِ الرَّقِيقَه

وَلْتَعْشَقُوهُ فِي الْخُطَب

يَا بِذْرَةً لِأَبِي لَهَب

يَا أُمَّةً حَمَّالَةَ الْحَطَب

هَلْ فَرَّقَتْ دَمِيَ الْقَبَائِلُ  يَا عَرَب

سَبْعُونَ سَيْفًا فَوْقَ نَحْرِ الْفَجْرِ تَقْتَحِمُ الصَّبَاح

سَبْعُونَ سَيْفًا تَمْتَطِي ظَهْرَ الرِّيَاح

حَتَّى إِذَا مَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ هَبُّوا بِالنُّوَاح

سَبْعُونَ سَيْفًا بِالْحُرُوفِ الْعَرَبِيَّه

قُلْنَا هُدَى الْإِسْلَامِ قَالُوا يَعْرُبِيَّهْ

قُلْنَا هُدَى الْإِسْلَامِ قَالُوا اشْتِرَاكِيَّه

قُلْنَا هُدَى الْإِسْلَامِ قَالُوا وَاقِعِيَّه

سَبْعُونَ سَيْفًا بِالْحُرُوفِ الْعَرَبِيَّهْ

                 ***

قَالُوا تَبَقَّى مِنْهُ صَوْتٌ وَنَغَم

فَنُرِيدُ جُثَّتَهُ بِلَاءٍ أَوْ نَعَم

وَنُرِيدُ جُثَّتَهُ عَلَم

وَنُرِيدُ نِسْوَتَهُ خَدَم

وَنُرِيدُ هَامَتَهُ قَدَم

وَنُرِيدُ عَبْرَتَهُ خِضَم

وَنُرِيدُ إِصْبَعَهُ قَلَم

وَنُرِيدُهُ أَبَدًا رَقَم

وَنُرِيدُهُ أَبَدًا عَدَم

وَلَا نُرِيدُ بِهِ نَدَم

لِيَظَلَّ فِي الْكُتُبِ الصَّقِيلَةِ مُتَّهَم

      ****

يَا قُدْسُ يَا أَحْلَى بَلَد

نَعُوذُ بِاللهِ الْأَحَد

مِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَد

مِنْ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد

مِنْ أَسْوَدٍ وَمِنْ أَسَد

مِنْ قِمَّةٍ فِي جِيدِهَا حَبْلُ مَسَد

فِي رَأْسِهَا كُلُّ الْعُقَد

فِي قَاعِهَا شَعْبٌ رَقَد

نَعُوذُ بِاللهِ الْأَحَد

مِمَّا نُعَانِي أَوْ نَجِد

مِنْ إِخْوَةٍ مِثْلِ الزَّبَد

صَارُوا عُيُونًا مِنْ رَمَد

يَا خَالِقَ  الْأَقْصَى مَدَد

يَا خَالِقَ  الْأَقْصَى مَدَد

يَا مَسْجِدَ الْأَقْصَى بِمِنْبَرِكَ الْقَوَافِي تَتَّحِد

فَلْتُعْطِنِي لَهَبًا بِعَيْنَيْكَ يَتَّقِد

يَا قُدْسُ يَا أَحْلَى بَلَد

فَلْتَمْنَحِينِي نَشْوَةَ الْفُرْسَانِ فِي عَيْنِ الْوَلَد

وَلْتَمْسَحِي بِيَدَيْكِ أَجْفَانَ الْكَبِد

وَلْتَزْرَعِي فَوْقَ الشِّفَاهِ الْمُجْدِبَاتِ الشِّعْرَ يَا قُدْسُ وَتَد

نَعُوذُ بِاللهِ الْأَحَد

مِنْ شَاعِرٍ لَاكَ الْقَصِيدَه

مِنْ كَاتِبٍ قَاءَ الْجَرِيدَه

أَوْ قَائِدٍ دُونَ عَقِيدَه

وَنَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيع

مِنْ مَاجِنٍ أَوْ مِنْ خَلِيع

مِنْ كُلِّ مَنْ بَاعَ وَبِيع

 *****

يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِير

يَا قُدْسُ هُمْ أَعْدَاؤُنَا

يَا قُدْسُ سَوْفَ تَدُوسُهُمْ أَقْدَامُنَا

يَا قُدْسُ تَعْلُو فِي السَّمَا رَايَاتُنَا

سُورِيَّةٌ مُضَرِيَّةٌ نَجْدِيَّةٌ فِي الْمَيْمَنَهْ

مِصْرِيَّةٌ لِيبِيَّةٌ فِي الْمَيْسَرَهْ

كُرْدِيَّةٌ فِي الْقَلْبِ عِكْرِمَةٌ لَهَا أَوْ حَيْدَرَهْ

يَا قُدْسُ كُنْتِ الْمَفْخَرَة

يَا قُدْسُ لِلْأَوْغَادِ أَنْتِ الْمَقْبَرَهْ

يَا قُدْسُ هُزِّي الشَّجَرَهْ

فِي مَسْجِدِ الْفَارُوقِ يَسْجُدُ مَيْسَرَه

وَأَخِي خَلِيلٌ سَارَ يَتْبَعُ مُنْذِرا

وَشَبَابُنَا كَالسَّيْلِ جَاءُوا أَنْهُرَا

يَا قُدْسُ يَا حُبِّي الْكَبِير

يَا وَجْهَ أُمِّي يَا كِتَابًا مِنْ عَبِير

يَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ فِي الزَّمَنِ الْمَرِير

هَلْ مِنْ نَصِير؟!!

هَلْ مِنْ نَصِير؟!!

يَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ فِي الزَّمَنِ الْمَرِير

هَلْ مِنْ نَصِير؟!!

هَلْ مِنْ نَصِير؟!!

((اخْتِصَاصُ اللهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مِنَ الْفَضَائِلِ))

عِبَادَ اللهِ! مَا أَكْثَرَ مَا حَبَى اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَفَضَّلَهُ، وَخَصَّهُ -سُبْحَانَهُ- بِأَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ وَأَعْطَاهُ!

فَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خَصَّ نَبِيَّهُ ﷺ بِخَصَائِصَ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ، وَفَضَّلَهُ بِفَضَائِلَ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الْهِبَاتِ مَا لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ؛ فَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَآيَاتُ اللهِ الْكُبْرَى

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم
  إِلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَة
  النَّفْعُ الْعَامُّ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
  التَّضْحِيَةُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ وَمُرَاعَاةُ المَصْلَحَةِ العُلْيَا لِلْأُمَّةِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَشَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ
  الاحتفال بالمولد النبوي
  الرد على الملحدين: من الأدلة المادية على وجود الله
  إلى أهل المغرب الحبيب
  تَطْبِيقَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ
  حُرْمَةُ التَّكْفِيرِ وَالدِّمَاءِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَخُطُورَةُ الفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان