تاريخ النشر الخميس,15 شوال 1439 / 28 يونيو 2018

تفريغ خطبة الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ خَطَرِ الشِّرْكِ


 ((الْخُطَبُ الْمِنْبَرِيَّةُ

فِي

التَّوْحِيدِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ))

الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ

((الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ خَطَرِ الشِّرْكِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ))

فَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ هُوَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ الْأَسَاسُ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَضِدُّهُ: الشِّرْكُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

{وَمَا خَلَقْتُ} أَيْ: أَوْجَدْتُ إِيجَادًا مَسْبُوقًا بِالتَّقْدِيرِ.

{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أَيْ: مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِأَيِّ شَيْءٍ إِلَّا لِلْعِبَادَةِ.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَعْبُدُونِ}: لِتَعْلِيلِ بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنَ الْخَلْقِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا}: أَيْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}: فِي كُلِّ طَائِفَةٍ، وَقَرْنٍ، وَجِيلٍ مِنَ النَّاسِ {رَسُولًا}: الرَّسُولُ: مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، {أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ}: أَفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، {وَاجْتَنِبُوا}: وَاتْرُكُوا وَفَارِقُوا {الطَّاغُوتَ}: مِنَ الطُّغْيَانِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ؛ وَهُوَ كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ.

الطَّاغُوتُ: كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ -كَالْأَصْنَامِ-، أَوْ مَتْبُوعٍ -كَالْكُهَّانِ، وَالسَّحَرَةِ-، أَوْ مُطَاعٍ -كَمَنْ تَوَلَّى أَمْرًا وَأَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ--؛ فَلَا يُنَفَّذُ أَمْرُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَتَنْبَغِي طَاعَتُهُ فِيمَا سِوَاهُ.

قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [الإنسان:36].

بَيَّنَ لنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَإِنَّمَا خَلَقَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعِبَادَتِهِ.

وَالْعِبَادَةُ: هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَأَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَوَصَّى، وَأَوْجَبَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ.

((التَّوْحِيدُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! التَّوْحِيدُ شَرْطُ صِحَّةٍ لِكُلِّ أَمْرٍ يُتَعَبَّدُ بِهِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَالتَّوْحِيدُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ.. التَّوْحِيدُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ؛ فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَذِكْرٍ، وَاسْتِغْفَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَا يَقْبَلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا إِذَا وَحَّدَ الْعَبْدُ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيهَا، وَأَفْرَدَهُ بِالْعِبَادَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ قَرَنَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ بِالْأَمْرِ بِتَرْكِ الشِّرْكِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

فَلَا يَقْبَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَمَلًا إِلَّا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ.                               

((فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُسَمَّى صَلَاةً إِلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ؛ فَإِذَا دَخَلَ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ فَسَدَتْ، كَالْحَدَثِ إِذَا دَخَلَ فِي الطَّهَارَةِ)) .

فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ؛ وَلِذَلِكَ يَظْلِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ ظُلْمًا بَيِّنًا إِذَا أَهْمَلَ مَعْرِفَةَ التَّوْحِيدِ، وَإِذَا عَرَفَ التَّوْحِيدَ فَلَمْ يُحَقِّقْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ التَّوْحِيدِ.

وَالْعِبَادَةُ: هِيَ غَايَةُ الذُّلِّ مَعَ غَايَةِ الْحُبِّ؛ كَمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ  ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَاَلَى- :

وَعِبَادَةُ الرَّحْمَنِ غَايَةُ حُبِّهِ   ***    مَعْ ذُلِّ عَابِدِهِ هُمَا قُطْبَانِ  

وَعَلَيْهِمَا فَلَكُ الْعِبَادَةِ دَائِرٌ  ***   مَا دَارَ حَتَّى قَامَتِ الْقُطْبَانِ 

وَمَدَارُهُ بِالْأَمْرِ أَمْرِ رَسُولِهِ   ***   لَا بِالْهَوَي وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ

وَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ  لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ .

وَالْعِبَادَةُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى هِيَ مَا تَوَفَّرَ فِيهَا شَرْطَانِ:

*الْإِخْلَاصُ للهِ؛ حَيْثُ لَا شِرْكَ فِيهَا.

*وَالْمُتَابَعَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ؛ حَيْثُ لَا بِدْعَةَ فِيهَا.

فَإِذَا اخْتَلَّ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ -وَهُوَ الْإِخْلَاصُ-، فَدَخَلَ الشِّرْكُ الْعِبَادَةَ؛ كَانَ مَنْ أَتَى بِذَلِكَ غَيْرَ عَابِدٍ للهِ، وَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطُ الْمُتَابَعَةِ؛ صَارَتِ الْعِبَادَةُ ابْتِدَاعًا فِي دِينِ اللهِ.

وَالشِّرْكُ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ يُفْسِدُ الطَّهَارَةَ؛ فَأَيُّ عِبَادَةٍ خَالَطَهَا شِرْكٌ أَوْ دَاخَلَهَا فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا خَالَطَهَا أَوْ بَاشَرَهَا الْحَدَثُ فسَدَتْ.

((خَطَرُ الشِّرْكِ وَقُبْحُ أَثَرِهِ دُنْيَا وَآخِرَةً))

عِبَادَ اللهِ! الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كُلُّهُ:

*«إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.

*وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ.

*وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِلْزَامٌ بِطَاعَةٍ: وَذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتِهِ.

*وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ إِكْرَامِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَمَا فُعِلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَهَذَا جَزَاءُ التَّوْحِيدِ.

*وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَمَا فُعِلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَحُلُّ بِهِمْ فِي الْعُقْبَي مِنَ الْعَذَابِ؛ فَهَذَا جَزَاءُ مَنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ.

فَالْقُرْآنُ كُلُّه فِي التَّوْحِيدِ وَحُقُوقِهِ وَجَزَائِهِ، وَفِي شَأْنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وجَزَائِهِمْ» ؛ لِذَلِكَ كَثُرَ التَّحْذِيرُ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَفِي الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ نَهْـيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ الشِّرْكُ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 21].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. [التوبة: 31].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وَأَمَر اللهُ تَعَالَى بِإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، وَنَهَى عَنِ الشِّرْكِ بِهِ؛ فَقَالَ جَلَّ وعَلَا:{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

وِعِبَادَةُ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَعَدَمُ الشِّرْكِ بِهِ هُوَ حَقُّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ؛ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ فِي قَوْلِهِ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)). أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» .

وَقَدْ وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}  [الكهف: 110].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس: 105].

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمُشْرِكَ مُوَزَّعُ الْقَلْبِ، مُقَلْقَلُ الْبَالِ، لَا يَهْدَأُ لَهُ ضَمِيرٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يُحَرِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَيُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَالْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ فِي الْحَيَاةِ كَالْأَنْعَامِ؛ بَلْ هُوَ أَضَلُّ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.

لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَدَى قُبْحِ الشِّرْكِ، وَحَذَّرَ مِنْ مَفَاسِدِهِ.

*فَالشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى أَكْبَرُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ خَالِدًا فِيهَا: قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

 وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].

وَقَالَ النَّبِيُّ : ((مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .               

وَكَمَا قَالَ : ((لَاْ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ -أَيْضًا- .

*وَالشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

فَالْمُشْرِكُ مُمَزَّقُ الِاتِّجَاهِ وَالْقُوَى، حَائِرٌ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى نَهْجٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى طَرِيقٍ.

وَحَالَةُ التَّمَزُّقِ وَالضَّيَاعِ وَالِانْهِيَارِ وَالْقَلَقِ الَّتِي تُصِيبُ الْمُشْرِكَ فِي كِيَانِهِ، عُقُوبَةٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي يُعَاقِبُ اللهُ بِهَا الْمُشْرِكِينَ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

فَالْمُشْرِكُ ضَائِعٌ ذَاهِبٌ، يَهْوِي مِنْ شَاهِقٍ، فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ يَتَمَزَّقُ، فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَقْذِفُ بِهِ الرِّيحُ بَعِيدًا عَنِ الْأَنْظَارِ فِي هُوَّةٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارٌ.

وَلَا جَرَمَ أَنَّ مَنْ هَوَى مِنْ أُفُقِ الْإِيمَانِ السَّامِقِ؛ حَرِيٌّ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْبَوَارِ وَالِانْطِوَاءِ!!

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- حَالَ الْمُشْرِكِ وَحَيْرَتَهُ وَتَمَزُّقَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71].

*عِبَادَ اللهِ! الشِّرْكُ مَبْعَثُ الْمَخَاوِفِ وَالْأَوْهَامِ، وَفِي جَوِّ الشِّرْكِ تَرُوجُ الْخُرَافَاتُ وَالْأَبَاطِيلُ، وَيَنْتَشِرُ التَّطَيُّرُ وَالتَّشَاؤُمُ، وَيَغْلِبُ الرُّعْبُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .

*وَالشِّرْكُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْخُسْرَانِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

فَأَعْمَالُ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ لَا يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى، وَلَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا؛ قَالَ : قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .

وَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لِأَنَّهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رَأَتْ أَمْرًا، أَوْ عَلِمَتْهُ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَحَقَّقَ مِنْهُ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ قَائِلَةً: يَا رَسُولَ اللهِ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ؛ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟

قَالَ: ((لَا يَنْفَعُهُ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي «صَحِيحِهِ: بَابٌ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ)).

وَقَدْ ذَكَر اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي ((سُورَةِ الْأَنْعَام)) ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِمْ وَسَلَّمَ- ذَكَرَهُمْ تَعَالَى فِي نَسَقٍ، ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].

*وَالشِّرْكُ يَطْمِسُ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَتُصْبِحُ  أَعْمَالُ الْمُشْرِكِ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً؛ قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التِّين: 4-6].

*وَالشِّرْكُ يَمْحَقُ عِزَّةَ النَّفْسِ، وَيُورِثُ الْمَهَانَةَ وَالذُّلَّ؛ فَالْعِزَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ مُسْتَمَدَّةٌ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ} [المنافقون: 8].

*اعْرِفُوا الشِّرْكَ؛ لِتَجْتَنِبُوهُ!

((فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الشِّرْكَ إِذَا خَالَطَ الْعِبَادَةَ أَفْسَدَهَا، وَأَحْبَطَ الْعَمَلَ، وَصَاَر صَاحِبُهُ مِنَ الْخَالِدِينَ فِي النَّارِ؛ عَرَفْتَ أَنَّ أَهَمَّ مَا عَلَيْكَ هُوَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ هَذِهِ الشَّبَكَةِ، وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللهِ، الَّذِي قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ})) .

فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ للهِ، وَأَنَّ إِفْرَادَ الْعِبَادَةِ للهِ؛ فَقَدْ وَجَبَ أَنْ تَعْرِفَ مَا هُوَ الشِّرْكُ؟

وَذَلِكَ لِكَيْ لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ حَذَّرَ مِنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

وكَمَا أَنَّ أَعْظَمَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ: التَّوْحِيدُ، فَأَعْظَمُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ: الشِّرْكُ.

وَهَذَا الْخَطَرُ الْعَظِيمُ تَحْرُمُ بِهِ الْجَنَّةُ، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ صَاحِبُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ قَالَ تَعَالَى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.

فَيَجِبُ إِذَنْ أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْخَطَرَ الْعَظِيمَ؛ لِتَجْتَنِبَهُ، وَأَنْ تَعْرِفَ هَذَا الشِّرْكَ وَتِلْكَ الشَّبَكَةَ لِتَتَوَقَّى كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَيْهَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَرِّطَكَ فِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ التَّوْحِيدَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ تَعْرِفَ الشِّرْكَ أَيْضًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَجْتَنِبَهُ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ.

((الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ دَعْوَةُ الْمُرْسَلِينَ))

عِبَادَ اللهِ! مِنْ رَحْمَةِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعِبَادِهِ: أَنْ أَرْسَلَ لَهُمُ الرُّسُلَ، بَدْءًا بِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَانْتِهَاءً بِمُحَمَّدٍ ﷺ، أَرْسَلَهُمْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالنَّـهْيِ عَنِ الشِّرْكِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

 عِبَادَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ.

كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) تَضَمَّنَتِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ.

تَضَمَّنَتْ نَفْيَ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللهِ، وَإِثْبَاتَ الْعِبَادَةِ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ فَمَنْ عَبَدَ اللهَ وَلَمْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ؛ فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ، وَمَا أَكْثَرَ الْجَهْلَ بِذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ!

مِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ عِبَادَةِ الْقُبُورِ؛ فَهَذَا غَيْرُ مُوَحِّدٍ.

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]؛ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163].

أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحِكْمَةَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}

الرُّسُلُ: هُمُ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللهِ، هُمُ الْقَادَةُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَجِنَانِهِ؛ فَبِهِمْ يُعْرَفُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتُعْرَفُ مَرْضَاتُهُ وَالطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَيْهَا؛ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الرُّسُلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِمْ وَسَلمَ-.

مَا هِيَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ؟

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ هَذَا الرَّكْبَ الْمُبَارَكَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ؛ مِنْ أَجْلِ هِدَايَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَمَّا حَادَتْ عَنِ الطَّرِيقِ وَضَلَّتْ، وَدَخَلَ الشِّرْكُ عَلَيْهَا فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَأَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نُوحًا وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، إِلَى أَنْ جَاءَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٌ ﷺ.

وَدَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ: عِبَادَةُ اللهِ، وَاجْتِنَابُ الطَّاغُوتِ.

وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا رَسُولًا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَّمٍد -صَلى اللهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ-؛ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ؛ وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- : ((مَعْنَى الطَّاغُوتِ: مَا تَجَاوَزَ الْعَبْدُ بِهِ حَدَّهُ؛ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ)).

فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا؛ يُحَذِّرُهُمْ، وَيُنْذِرُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِه -جَلَّ وَعَلَا-.

فَكُلُّ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.

وَالثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالْكُفْرُ بِهِ.

وَالطَّاغُوتُ يَشْمَلُ: كُلَّ مَنْ عُبِدَ بِبَاطِلٍ.

إِذَنْ؛ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ دَاعِينَ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْكُفْرِ بِكُلِّ مَنْ وَمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَجَاءُوا جَمِيعًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ:  ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَهِيَ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ.

فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ: نَفْيُ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ، وَإِثْبَاتُهَا للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ.

((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لَهَا رُكْنَانِ: النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ.

فَـ ((لَا إِلَهَ)): تَنْفِي الْعِبَادَةَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى.

((إِلَّا اللهُ)): تُثْبِتُ جَمِيعَ الْعِبَادَةِ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ.

وَالنَّـفْيُ وَالْإِثْبَاتُ هُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ للهِ وَحْدَهُ؛ بِأَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَعْبُدَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُوَالِيَ إِلَّا لَهُ، وَلَا يُعَادِيَ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يَعْمَلَ إِلَّا لِأَجْلِهِ.

وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ -كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ- نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، وَلَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِهِمَا؛ بِنَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى -مِنَ الْمُرْسَلِينَ؛ حَتَّى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى جِبْرِيلَ  -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ-، وَإِثْبَاتِ الْأُلُوِهيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ.

فَلَا يَكْفِي النَّـفْيُ وَحْدَهُ، وَلَا يَكْفِي الْإِثْبَاتُ وَحْدَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الِاثْنَيْنِ مُقْـتَرِنَيْنِ.

وَمَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.

وَلِهَذَا عَرَفَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَقَالُوا مُتَعَجِّبِينَ كَمَا ذَكَر اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].

وَإِلَّا فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ الرَّزَّاقُ الْكَرِيمُ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25].

فَكَانُوا يَعْلَمُونَ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوهَا، وَحَارَبُوا عَلَى رَفْضِهَا، وَلَمْ يَتَّبِعُوهَا، وَكَذَّبُوا الْمَبْعُوثَ بِهَا ﷺ.

وَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَارِفًا لِمَعْنَاهَا عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا؛ مِنْ نَفْيِ الشِّرْكِ، وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ، وَالْعَمَلِ بِهِ؛ فَهُوَ الْمُسْلِمُ حَقًّا.

وَمَنْ عَمِلَ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ؛ فَهُوَ الْمُنَافِقُ حَقًّا.

وَمَنْ عَمِلَ بِخِلَافِهَا مِنَ الشِّرْكِ؛ فَهُوَ الْمُشْرِكُ الْكَافِرُ، وَإِنْ قَالَهَا بِلِسَانِهِ نُطْقًا.

وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)):  كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ، هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْـقَى، وَكَلِمَةُ التَّقْوَى، وَهِي كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ.

وَهِيَ الَّتِي قَامَتْ بِهَا السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ، وَشُرِعَ لِتَكْمِيلِهَا السُّنَّةُ وَالْفَرْضُ.

وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، فَمَنْ قَالَهَا وَعَمِلَ بِهَا صِدْقًا وَإِخْلَاصًا وَقَبُولًا وَمَحَّبَةً؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّوْحِيدُ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ))

فَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ: هُوَ التَّوْحِيدُ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ: هُوَ الشِّرْكُ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

{وَقَضَى} أَيْ: أَمَرَ وَوَصَّى.

وَالْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا: الْقَضَاءُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ، لَا الْقَضَاءُ الْقَدَرِيُّ الْكَوْنِيُّ.

{وَقَضَى رَبُّكَ}: الرَّبُّ: هُوَ اْلَمالِكُ الْمُتَصَرِّفُ.

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}: أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ.

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أَيْ: وقَضَى أَنْ تُحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، كَمَا قَضَى أَنْ تَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.. } أَيْ: هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا أَقْصُصْ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرْكُمْ {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151].

هَذِهِ الْآيَاتُ تُبَيِّنُ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَقَدْ أَمَر اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ وَوَصَّى، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى آيَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، وَبَدَأَ بِهِ فيِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {وَاعبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.

وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ هِيَ آيَةُ الْحُقُوقِ الْعَشَرَةِ؛  فَابْتُدِأَتْ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّوْحِيدَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ.

وَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَمَّا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ؛ نَهَى عَنِ الشِّرْكِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُهَا: {وَاعبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اجْتِنَابَ الشِّرْكِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ.

فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جُمْلَةً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ابْتَدَأَهَا سُبْحَانَهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ علَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ.

أَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ هُوَ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ.

وَأَعْظَمُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ هُوَ الشِّرْكُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ.

وَالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ مُحْبِطٌ لِلْعَمَلِ، مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي الَّناِر، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي مَرَّتْ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الشِّرْكَ نَجَاسَةٌ لِلْقُلُوبِ، الشِّرْكُ يُنَجِّسُ الْقُلُوبَ، وَيُحْبِطُ الْعِبَادَةَ جَمِيعًا؛ سَوَاءٌ جَاءَتْ مِنَ الْقَلْبِ، أَوْ مِنَ اللِّسَانِ، أَوْ مِنَ الْجَوَارِحِ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. [المدثر: 4-5].

وَنَحْنُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْمُشْرِكَ مَهْمَا تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعِبَادَةٍ؛ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَحَابِطَةٌ، لَا يَقْبَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهَا شَيْئًا مَا دَامَتِ الْعِبَادَةُ مَمْزُوجَةً بِالشِّرْكِ.

يَأْمُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ مَحَبَّةً وَذُلًّا، وَإِخْلَاصًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَيَنْهَى أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ -لَا شِرْكًا أَصْغَرَ، وَلَا أَكْبَرَ- لَا مَلَكًا، وَلَا نَبِيًّا، وَلَا وَلِيًّا، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا.

بَلِ الْوَاجِبُ -عِبَادَ اللهِ- الْمُتَعَيَّنُ: إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِمَنْ لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَلَهُ التَّدْبِيرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَشْرَكُهُ وَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.

((حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ: عِبَادَتُهُ وَعَدَمُ الْإِشْرَاكِ بِهِ))

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ لِي: ((يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟))

قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ: أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلا أَبُشِّرُ النَّاسَ؟

قَال: ((لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا)). أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» .

الرَّدِيفُ: هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُ الرَّاكِبُ خَلْفَهُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَهَذَا مِنْ تَوَاضُعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ.

((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ)): الْوَاجِبُ عَلَى الْخَلْقِ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

((حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ)): كَتَبَ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ تَفْضُّلًا وَإِحْسَانًا: أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا.

فَهَذا الْحَقُّ حَقٌّ أَحَقَّهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحمَةَ} [الأنعام: 54]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

قَالَ بَعْضُهُمْ:

مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبُ ***  كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِـــعُ

إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا *** فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ

قَالَ النَّبِيُّ : ((لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا))؛ أَيْ: فَيَعْتَمِدُوا عَلَى ذَلِكَ؛ فَيَتْرُكُوا التَّنَافُسَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ بِشَارَةِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَسُرُّهُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ((أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟)) يَعْنِي: بِفَضْلِ التَّوْحِيدِ، وَفَضْلِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَبْشِيرِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِمَا يَسُرُّهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ، وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ لِذَلِكَ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: جَوَازُ كِتْمَانِ الْعِلْمِ لِلْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ مُعَاذًا أَرَادَ أَنْ يُبَشِّرَ النَّاسَ بِفَضْلِ التَّوْحِيدِ، وَفَضْلِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ عَنْ إِخْبَارِهِمْ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَمِدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ؛ فَيَتْرُكُوا التَّنَافُسَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ كِتْمَانِ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ.

 ((تَعَلَّمُوا التَّوْحِيدَ وَاحْذَرُوا الشِّرْكَ!))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا! إِنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَكْتَمِلُ إِلَّا بِنَفْيِ الشِّرْكِ, وَالتَّوْحِيدُ فِي اكْتِمَالِهِ بِنَفْيِ الشِّرْكِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِالْجَهْلِ بِهِ؛ فَصَارَ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ.

فَعَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَعْلَمَهُ، وَأَنْ نَصْبِرَ عَلَى تَعَلُّمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغِيظُ الشَّيْطَانَ شَيْءٌ إِلَّا الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ فِيهَا الْخُصُومَةَ؛ وَلِذَلِكَ تَنْزِلُ السَّكِينَةُ فِي مَجَالِسِ تَعْلِيمِ التَّوْحِيدِ.

وَالَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بِلَا عَمَدٍ, وَبَسَطَ الْأَرْضَ فَمَا يُدْرَكُ مِنْ مُنْتَهَاهَا أَمَدٌ؛ مَا عَرَفَ التَّوْحِيدَ أَحَدٌ آتَاهُ اللهُ مُسْكَةً مِنْ عَقْلٍ وَفَارَقَهُ لَحْظَةً حَتَّى يَمُوتَ؛ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَ اللهُ شَيْئًا.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ التَّوْحِيدَ أَصْلَ الْأُصُولِ, وَنَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الشِّرْكِ؛ لِتَوَقِّيهِ؛ لِأَنَّنَا إِذَا لَمْ نَعْرِفْ ذَلِكَ تَوَرَّطْنَا -عِيَاذًا بِاللَّهِ- فِيهِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُحَقِّقُونَ التَّوْحِيدَ تَحْقِيقًا, وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَيْهِ, وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ سَيِّدِ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

التعليقات


خطب قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان