((إِذَا أَرَدْتَ السَّلَامَةَ مِنْ غَيْرِكَ
فَاطْلُبْهَا فِي سَلَامَةِ غَيْرِكَ مِنْكَ!))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((سَتْرُ الْعَوْرَاتِ وَاحْتِرَامُ خُصُوصِيَّةِ الْآخَرِينَ))
فَقَدْ أَمَرَ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ بِالسَّتْرِ، وَغَضِّ الطَّرْفِ عَنْ عَثْرَاتِ النَّاسِ وَعُيُوبِهِمْ، وَعَدَمِ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ، وَعَدَمِ التَّشْهِيرِ بِهِمْ؛ لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا فِي نَشْرِ السُّوءِ مِنْ وَجْهٍ، وَسَتْرًا وَعَوْنًا عَلَى التَّوْبَةِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
«فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ فَضَحَ مُسْلِمًا أَوْ سَعَى فِي فُضُوحِهِ؛ فَضَحَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الدُّنْيَا، وَعَلى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
«يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» .
وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثْبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»- وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وَقَدْ حَرَصَ الْإِسْلَامُ عَلَى احْتِرَامِ خُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ أَمْرٌ دَاخِلٌ فِي مَقْصِدِ حِفْظِ الْعِرْضِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَقَاصِدِ الْكُبْرَى لِلشَّرِيعَةِ، وَشَرَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالتَّشْرِيعَاتِ مَا يَحْفَظُ بِهِ لِلْإِنْسَانِ حَقَّهُ فِي الْخُصُوصِيَّةِ، فِي هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى أَنْ يَخْتَرِقَ الْإِنْسَانُ سِتْرًا مُسْدَلًا، أَوْ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَةٍ، بَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ عُمُومِ اخْتِرَاقِ خُصُوصِيَّةِ الْآخَرِينَ بِغَيْرِ عِلْمِهِمْ وَبِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لِذَلِكَ.
لَقَدْ جَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ آدَابِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ: غَضَّ الْبَصَرِ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ)).
فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا)).
فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)).
قَالُوا: ((وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَقَّ الطَّرِيقِ.
فَإِذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُ الْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِنَّهُ يُرَاعِي الْآدَابَ الْآتِيَةَ:
غَضُّ الْبَصَرِ: فَلَا يُرْسِلُ بَصَرَهُ فِي مَارَّةٍ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، أَوْ وَاقِفَةٍ بِبَابِهَا، أَوْ مُسْتَشْرِفَةٍ عَلَى شُرُفَاتِ مَنْزِلِهَا، أَوْ مُطِلَّةٍ عَلَى نَافِذَتِهَا لِحَاجَةٍ.
كَمَا لَا يُرْسِلُ نَظَرَهُ حَاسِدًا لِأَحَدٍ، أَوْ زَارِيًا مُحْتَقِرًا أَحَدًا، وَأَنْ يَكُفَّ أَذَاهُ عَنِ الْمَارَّةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَلَا يُؤْذِي أَحَدًا بِلِسَانِهِ شَاتِمًا أَوْ عَائِبًا مُقَبِّحًا، وَلَا بِيَدِهِ ضَارِبًا لَاكِمًا، وَلَا سَالِبًا مَالَ غَيْرِهِ غَاصِبًا، وَلَا مُعْتَرِضًا فِي الطَّرِيقِ صَادًّا الْمَارَّةَ، قَاطِعًا سَبِيلَهُمْ.
وَأَنْ يَرُدَّ سَلَامَ كُلِّ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَارَّةِ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَاجِبٌ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ]النساء: 86].
وَأَنْ يَأْمُرَ بِمَعْرُوفٍ تُرِكَ أَمَامَهُ وَأُهْمِلَ شَأْنُهُ وَهُوَ يُشَاهِدُهُ؛ إِذْ هُوَ مَسْئُولٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَنِ الْأَمْرِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْقِيَامِ بِهِ أَوِ الْعَجْزِ عَنْهُ.
وَمِثَالُهُ: أَنْ يُنَادَى لِلصَّلَاةِ وَلَا يُجِيبَ الْحَاضِرُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِجَابَةِ الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَلَمَّا تُرِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ.
وَمِثَالٌ آخَرُ: أَنْ يَمُرَّ جَائِعٌ أَوْ عَارٍ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَكْسُوَهُ إِنْ قَدَرَ، وَإِلَّا أَمَرَ بِإِطْعَامِهِ أَوْ كِسْوَتِهِ؛ إِذْ إِطْعَامُ الْجَائِعِ وَكِسْوَةُ الْعَارِي مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ إِذَا تُرِكَ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْهَيَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ يُشَاهِدُهُ يُرْتَكَبُ أَمَامَهُ؛ إِذْ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.. وَظِيفَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَبْغِيَ أَمَامَهُ أَحَدٌ عَلَى آخَرَ، فَيَضْرِبُهُ أَوْ يَسْلُبُهُ مَالَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمُنْكَرَ، فَيَقِفُ فِي وَجْهِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حُدُودِ طَاقَتِهِ وَوُسْعِهِ.
وَعَلَى الَّذِي يَجْلِسُ فِي الطُّرُقَاتِ أَنْ يُرْشِدَ الضَّالَّ، فَلَوِ اسْتَرْشَدَهُ أَحَدٌ فِي بَيَانِ مَنْزِلٍ، أَوْ هِدَايَةٍ إِلَى طَرِيقٍ، أَوْ تَعْرِيفٍ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْمَنْزِلَ، أَوْ يَهْدِيَهُ الطَّرِيقَ، أَوْ يُعَرِّفَهُ بِمَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَتَهُ.
كُلُّ هَذَا مِنْ آدَابِ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ؛ كَأَنْ يَجْلِسَ أَمَامَ الْمَنْزِلِ، أَوْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ.
وَإِذَا كَانَ مِنْ آدَابِ الطَّرِيقِ غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى؛ فَإِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى خُصُوصِيَّةِ النَّاسِ دُونَ عِلْمِهِمْ يَشْتَمِلُ عَلَى تَجَاوُزِ غَضِّ الْبَصَرِ إِلَى اسْتِرَاقِ النَّظَرِ، وَخَرْقِ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي كَفَلَهَا الشَّرْعُ الْحَنِيفُ لِعِبَادِهِ.
((تَرْكُ مَا لَا يَعْنِيكَ
سَبِيلُ الْحِفَاظِ عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْآخَرِينَ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ السُّبُلِ الْمَسْلُوكَةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْآخَرِينَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ: تَرْكَ الْمَرْءِ مَا لَا يَعْنِيهِ.
الْمَرْءُ إِنْ كَانَ عَاقِلًا وَرِعًا = أَشْغَلَهُ عَنْ عُيُوبِ غَيْرِهِ وَرَعُهُ
كَمَا الْعَلِيلُ السَّقِيمُ أَشْغَلَهُ = عَنْ وَجَعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَجَعُهُ
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِي.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)) أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي تَأْدِيبِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا، وَتَرْكِ مَا لَا جَدْوَى فِيهِ وَلَا نَفْعَ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدَبِ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي زَيْدٍ إِمَامِ الْمَالِكِيَّةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّهُ قَالَ: جِمَاعُ آدَابِ الْخَيْرِ وَأَزِمَّتُهُ تَتَفَرَّعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ:
قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)).
وَقَوْلُهُ ﷺ لِلَّذِي اخْتَصَرَ لَهُ الْوَصِيَّةَ: ((لَا تَغْضَبْ)).
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)))).
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي: ((كِتَابِ الرِّقَاقِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) ((بَابُ: مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِبَابِ: حِفْظِ اللِّسَانِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَكَذَا قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18])).
((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)): مِنْ مَظَاهِرِ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ إِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَالْتِزَامِهِ بِدِينِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَوْلًا وَعَمَلًا؛ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ)).
وَالْمَرْءُ: هُوَ الْإِنْسَانُ أَوِ الشَّخْصُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، ((تَرْكُهُ)) أَيِ: ابْتِعَادُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَقِّي مِنْهُ، وَأَيْضًا بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، ((مَا لَا يَعْنِيهِ)) أَيْ: مَا لَا يَهُمُّهُ أَوْ يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.
وَقَدْ عَدَّ حَمْزَةُ الْكِنَانِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ الْعَظِيمَ ثُلُثَ الْإِسْلَامِ.
كَمَا عَدَّهُ أَبُو دَاوُدَ أَحَدَ أَحَادِيثَ أَرْبَعَةٍ يَدُورُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَمَعَ الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَعَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي لَمْ يَصِحَّ نَظِيرُهَا عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ نِصْفَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ فِعْلٌ وَتَرْكٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّرْكِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ جَمَعَ الدِّينَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّرْكِ، وَدَلَّ عَلَى الْفِعْلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي؛ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ؛ فَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)) )).
((وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)): أَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَمَعْنَى: ((يَعْنِيهِ)): أَنْ تَتَعَلَّقَ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَيَكُونَ مِنْ مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ، وَالْعِنَايَةُ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: عَنَاهُ يَعْنِيهِ: إِذَا اهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا لَا عِنَايَةَ لَهُ بِهِ وَلَا إِرَادَةَ بِحُكْمِ الْهَوَى وَطَلَبِ النَّفْسِ، بَلْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهُ مِنْ حُسْنِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا حَسُنَ إِسْلَامُ الْمَرْءِ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْكَامِلَ الْمَمْدُوحَ يَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، كَمَا قَالَ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَإِذَا حَسُنَ الْإِسْلَامُ اقْتَضَى تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي كُلَّهُ؛ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي الْمُسْلِمَ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ، وَبَلَغَ إِلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ -تَعَالَى- كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّ اللهَ يَرَاهُ.
فَمَنْ عَبَدَ اللهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ بِقَلْبِهِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِ اللهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا يَعْنِيهِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ، وَتَرْكُ كُلِّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: ((اسْتَحِ مِنَ اللهِ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَخَفِ اللهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ)).
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: ((إِذَا تَكَلَّمْتَ فَاذْكُرْ سَمْعَ اللهِ لَكَ، وَإِذَا سَكَتَّ فَاذْكُرْ نَظَرَهُ إِلَيْكَ)).
وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى :{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وَقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- :{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61].
وَأَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي: حِفْظُ اللِّسَانِ مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ، كَمَا أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ فِي (سُورَةِ ق): {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
قَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: ((أَمْرٌ أَنَا فِي طَلَبِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُ بِتَارِكٍ طَلَبَهُ أَبَدًا)).
قَالُوا: ((وَمَا هُوَ؟)).
قَالَ: ((الْكَفُّ عَمَّا لَا يَعْنِينِي)).
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((مِنْ عَلَامَةِ إِعْرَاضِ اللهِ -تَعَالَى- عَنِ الْعَبْدِ: أَنْ يَجْعَلَ شُغُلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ)).
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التُّسْتَرِيُّ :((مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ حُرِمَ الصِّدْقَ)).
وَقَالَ غَيْرُهُ: ((كَلَامُ الْعَبْدِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ خِذْلَانٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْعَبْدِ)) )).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ((كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ)) .
وَقَدْ يَتَكَلَّمُ الْمَرْءُ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ وَلَا عَلَى مُسْلِمٍ أَصْلًا؛ إِلَّا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا هُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ بِهَذَا مُضَيِّعٌ بِهِ زَمَانَهُ، وَهُوَ مَحَاسَبٌ عَلَى عَمَلِ لِسَانِهِ، وَمُسْتَبْدِلٌ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَ زَمَانَ الْكَلَامِ إِلَى الْفِكْرِ رُبَّمَا كَانَ يَنْفَتِحُ لَهُ مِنْ نَفَحَاتِ رَحَمَاتِ اللهِ عِنْدَ الْفِكْرِ مَا يَعْظُمُ جَدْوَاهُ، وَلَوْ هَلَّلَ اللهَ -سُبْحَانَهُ- وَذَكَرَهُ وَسَبَّحَهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ فَكَمْ مِنْ كَلِمَةٍ يَبْنِي بِهَا قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ؟! وَاللِّسَانُ شَبَكَةٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَنِصَ بِهَا الْحُورَ، فَإِهْمَالُهُ ذَلِكَ وَتَضْيِيعُهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كَنْزًا مِنَ الْكُنُوزِ، فَأَخَذَ مَكَانَهُ مَدَرًا أَوْ حِجَارَةً لَا يَنْتَفِعُ بِهَا؛ كَانَ خَاسِرًا خُسْرَانًا مُبِينًا.
وَحَدُّ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ: أَنْ تَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَوْ سَكَتَّ عَنْهُ لَمْ تَأْثَمْ، وَلَمْ تَسْتَضِرَّ بِهِ فِي حَالٍ وَلَا مَآلٍ.
مِثَالُهُ: أَنْ تَجْلِسَ مَعَ قَوْمٍ؛ فَتَذْكُرَ لَهُمْ أَسْفَارَكَ وَمَا رَأَيْتَ فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَنْهَارٍ، وَمَا وَقَعَ لَكَ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَمَا اسْتَحْسَنْتَهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ، فَأَنْتَ إِذَا بَالَغْتَ فِي الِاجْتِهَادِ حَتَّى لَا يَمْتَزِجَ بِحِكَايَتِكَ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ وَلَا تَزْكِيَةُ نَفْسٍ؛ فَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ مُضَيِّعٌ لِزَمَانِكَ، وَأَنَّى تَسْلَمُ مِنَ الْآفَاتِ!
وَمِنْ جُمْلَتِهَا -أَيْ: وَمِنْ جُمْلَةِ الْآفَاتِ- الَّتِي لَا يُسْلَمُ مِنْهَا:
أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ؛ فَأَنْتَ بِالسُّؤَالِ مُضَيِّعٌ وَقْتَكَ، وَقَدْ أَلْجَأْتَ صَاحِبَكَ بِالْجَوَابِ إِلَى التَّضْيِيعِ، هَذَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مِمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ آفَةٌ، وَأَكْثَرُ الْأَسْئِلَةِ فِيهَا آفَاتٌ.
فَإِنَّكَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ عَنْ عِبَادَتِهِ -مَثَلًا-؛ فَتَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ صَائِمٌ؟
فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ؛ كَانَ مُظْهِرًا لِعِبَادَتِهِ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ سَقَطَتْ عِبَادَتُهُ مِنْ دِيوَانِ السِّرِّ، وَعِبَادَةُ السِّرِّ تَفْضُلُ عِبَادَةَ الْجَهْرِ بِدَرَجَاتٍ.
وَإِنْ قَالَ: لَا؛ كَانَ كَاذِبًا.
وَإِنْ سَكَتَ كَانَ مُسْتَحْقِرًا لَكَ، وَتَأَذَّيْتَ بِهِ؛ إِذْ لَمْ يُجِبْكَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ.
وَإِنِ احْتَالَ لِمُدَافَعَةِ الْجَوَابِ افْتَقَرَ إِلَى جُهْدٍ وَتَعَبٍ فِيهِ.
فَقَدْ عَرَّضْتَهُ بِالسُّؤَالِ إِمَّا لِلرِّيَاءِ، أَوْ لِلْكَذِبِ، أَوْ لِلِاسْتِحْقَارِ، أَوْ لِلتَّعَبِ فِي حِيلَةِ الدَّفْعِ، وَكَذَلِكَ سُؤَالُكَ عَنْ سَائِرِ عِبَادَاتِهِ.
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ((سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: خَمْسٌ لَهُنَّ أَحْسَنُ مِنَ الدُّهْمِ الْمَوْقَفَةِ: لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ؛ فَإِنَّهُ فَضْلٌ وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ الْوِزْرَ، وَلَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا يَعْنِيكَ حَتَّى تَجِدَ لَهُ مَوْضِعًا؛ فَإِنَّهُ رُبَّ مُتَكَلِّمٍ فِي أَمْرٍ يَعْنِيهِ قَدْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيَعْنَتُ، وَلَا تُمَارِ حَلِيمًا وَلَا سَفِيهًا؛ فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَقْلِيكَ -أَيْ: يُبْغِضُكَ-، وَإِنَّ السَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ إِذَا تَغَيَّبَ عَنْكَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَذْكُرَكَ بِهِ، وَأَعْفِهِ مِمَّا تُحِبُّ أَنْ يُعْفِيَكَ مِنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَرَى أَنَّهُ يُجَازَى بِالْإِحْسَانِ، وَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ)).
قَالَ مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: ((أَمْرٌ أَنَا أَطْلُبُهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَلَسْتُ بِتَارِكٍ طَلَبَهُ)).
قَالُوا: ((مَا هُوَ يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ؟)).
قَالَ: ((الصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي)).
فَفِيهِ مَشَقَّةٌ..
وَهَؤُلَاءِ مِنَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ فِي الْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُصَرِّحُونَ بِعِظَمِ الْمَشَقَّةِ فِي أَلَّا يَتَكَلَّمُوا إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِإِخْفَاقِهِمْ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِيهِمْ.
قَالُوا: ((مَا هُوَ يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ؟)).
قَالَ: ((الصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي)).
يُحَاوِلُ وَيُزَاوِلُ عَشْرَ سِنيِنَ، فَلَا يَصِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: ((كَفَى عَيْبًا أَنْ يُبْصِرَ الْعَبْدُ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ)).
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: ((دُخِلَ عَلَى ابْنِ أَبِي دُجَانَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ، فَقَالَ: مَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَوْثَقُ فِي نَفْسِي مِنَ اثْنَتَيْنِ: لَمْ أَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي لِلْمُسْلِمِينَ سَلِيمًا)).
وَهَذَا الْحَدِيثُ -الَّذِي مَرَّ- يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي الْمَرْءَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ، فَإِذَا تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَفَعَلَ مَا يَعْنِيهِ كُلَّهُ؛ فَقَدْ كَمُلَ حُسْنُ إِسْلَامِهِ.
فَضْلُ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ:
((وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِفَضْلِ مِنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَنَّهُ تُضَاعَفُ حَسَنَاتُهُ، وَتُكَفَّرُ سَيِّئَاتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُضَاعَفَةِ تَكُونُ بِحَسَبِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَالْمُضَاعَفَةُ لِلْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِحَسَبِ إِحْسَانِ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَتَى بِحَسَنَةٍ كَانَ لَهُ سَبْعُ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِسْلَامَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
((إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )). فَالْمُضَاعَفَةُ لِلْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِحَسَبِ إِحْسَانِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَفَضْلِهِ؛ كَالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَفِي الْحَجِّ، وَفِي الْأَقَارِبِ، وَفِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّفَقَةِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ النَّسَائِيِّ)).
الْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي كَانَ أَزْلَفَهَا: مَا سَبَقَ مِنْهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُثَابُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الْكُفْرِ إِذَا أَسْلَمَ وَتُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ إِذَا أَسْلَمَ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَحْسُنَ إِسْلَامُهُ، وَيَتَّقِيَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ؛ فَحِينَئِذٍ يُثَابُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الْكُفْرِ -يَعْنِي: الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ-، وَتُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَاتُهُ إِذَا أَسْلَمَ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟)).
قَالَ: ((أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا، وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حَسَنَاتِهِ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا سَيِّئَاتُهُ الَّتِي كَانَتْ فِي الشِّرْكِ فَإِنَّهَا تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68-70].
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا التَّبْدِيلِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
* فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا بِمَعْنَى: أَنَّ اللهَ يُبَدِّلُ مَنْ أَسْلَمَ وَتَابَ إِلَيْهِ بَدَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي الْإِيمَانَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ.
* وَقَالَ آخَرُونَ: التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ، جُعِلَتْ لَهُمْ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ؛ فَالتَّائِبُ يُوقَفُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا؛ رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَيَعْرِضُ اللهُ عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا.
فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ.
فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا!
قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
فَإِذَا بُدِّلَتِ السَّيِّئَاتُ بِالْحَسَنَاتِ فِي حَقِّ مَنْ عُوقِبَ عَلَى ذُنُوبِهِ بِالنَّارِ، كَمَا فِي حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا فِيهَا، إِذَا بُدِّلَتِ السَّيِّئَاتُ بِالْحَسَنَاتِ فِي حَقِّ مَنْ عُوقِبَ عَلَى ذُنُوبِهِ بِالنَّارِ؛ فَفِي حَقِّ مَنْ مَحَا سَيِّئَاتِهِ بِالْإِسْلَامِ وَبِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَحْوَهَا بِذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ مَحْوِهَا بِالْعِقَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّنْ قَلَّتْ سَيِّئَاتُهُ؛ فَيُقَالُ: إِنَّمَا التَّبْدِيلُ فِي حَقِّ مَنْ نَدِمَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَجَعَلَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ، فَكُلَّمَا ذَكَرَهَا ازْدَادَ خَوْفًا وَوَجَلًا وَحَيَاءً مِنَ اللهِ، وَمُسَارَعَةً إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُكَفِّرَةِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70].
وَمَا ذُكِرَ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ فَإِنَّهُ يَتَجَرَّعُ مِنْ مَرَارَةِ النَّدَمِ وَالْأَسَفِ عَلَى ذُنُوبِهِ أَضْعَافَ مَا ذَاقَ مِنْ حَلَاوَتِهَا عِنْدَ فِعْلِهَا، وَيَصِيرُ كُلُّ ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهِ سَبَبًا لِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ مَاحِيَةٍ لَهُ، فَلَا يُسْتَنْكَرُ بَعْدَ هَذَا تَبْدِيلُ هَذِهِ الذُّنُوبِ حَسَنَاتٍ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ؛ تَبَدَّلَتْ سَيِّئَاتُهُ فِي الشِّرْكِ حَسَنَاتٍ؛ فَعَنْ شَطْبٍ الطَّوِيلِ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً -وَالْحَاجَةُ: هِيَ الْحَاجَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالدَّاجَةُ: هِيَ الْحَاجَةُ الْكَبِيرَةُ-، أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً؛ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟)).
فَقَالَ: ((أَسْلَمْتَ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَافْعَلِ الْخَيْرَاتِ، وَاتْرُكِ السَّيِّئَاتِ؛ فَيَجْعَلُهَا اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهَا)).
قَالَ: ((وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ فِي ((زَوَائِدِهِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)) )).
((أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً؛ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟)).
فَقَالَ: ((أَسْلَمْتَ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَافْعَلِ الْخَيْرَاتِ، وَاتْرُكِ السَّيِّئَاتِ؛ فَيَجْعَلُهَا اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهَا)).
قَالَ: ((وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى)).
((ضَوَابِطُ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَمَا لَا يَعْنِيهِ))
وَالضَّابِطُ فِي تَحْدِيدِ مَا يَعْنِي وَمَا لَا يَعْنِي هُوَ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَاعِدَةً فِي ضَابِطِ ذَلِكَ فَقَالَ: ((كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ)).
وَمَا لَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ جُزْءَانِ:
* جُزْءٌ فِي أُمُورٍ لَا تَعْنِيهِ وَلَا تَهُمُّهُ مِنْ أَصْلِهَا؛ كَشُؤُونِ الْآخَرِينَ وَخُصُوصِيَّاتِهِمْ فِي كَيْفِيَّاتِ مَعَايِشِهِمْ، وَجِهَاتِ تَحَرُّكِهِمْ، وَمِقْدَارِ تَحْصِيلِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا.
* وَجُزْءٌ فِي حَاجَاتٍ تَهُمُّ الْإِنْسَانَ فِي أَصْلِهَا؛ كَشُؤُونِ الْمَعَايِشِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِهَا، وَمَا لَا يَعْنِي فِيهَا هُوَ الزِّيَادَةُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ.
وَمِنَ الْأَخْطَاءِ الشَّائِعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَتْرُكُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ بَيِّنٌ وَفَهْمٌ خَاطِئٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
وَلِذَلِكَ خَشِيَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِثْلَ هَذَا اللَّبْسِ فِي الْفَهْمِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: ((لَا يَعْنِيهِ)) أَيْ: لَا يَهُمُّهُ شَرْعًا؛ قَوْلًا كَانَ هَذَا الشَّيْءُ، أَوْ فِعْلًا مُحَرَّمًا كَانَ، أَوْ مَكْرُوهًا، أَوْ مُبَاحًا، وَذَلِكَ مَا دَامَ هَذَا الشَّيْءُ زَائِدًا عَنْ حَاجَتِهِ مِمَّا لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْفُضُولُ كُلُّهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ بِالْعِنَايَةِ: شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ: عَنَاهُ الْأَمْرُ يَعْنِيهِ: إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَتَعَلَّقَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَكَانَ مِنْ مَطْلُوبِهِ وَمَقْصُودِهِ.
وَفِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، وَقُرِئَ {يَعْنِيهِ} أَيْ: لَهُ شَأْنٌ لَا يَهُمُّهُ مَعَهُ غَيْرُهُ.
وَالْفِعْلُ أَصْلَهُ مِنْ (عَنَى): الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ لِلشَّيْءِ بِانْكِمَاشٍ فِيهِ، وَحِرْصٍ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظِ الْحَدِيثِ اكْتِفَاءٌ بِذِكْرِ التَّرْكِ عَنِ الْفِعْلِ؛ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ يَتَعَدَّى إِلَى فِعْلِ مَا يَعْنِيهِ كَذَلِكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشَّيْءَ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَعْنِيَ الْإِنْسَانَ أَوْ لَا، وَعَلَى كُلٍّ إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ.
فَصَارَتِ الْأَقْسَامُ بِذَلِكَ أَرْبَعَةً:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: فِعْلُ مَا يَعْنِي، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِي، وَهُمَا حَسَنَانِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ: تَرْكُ مَا يَعْنِي، وَفِعْلُ مَا لَا يَعْنِي، وَهُمَا قَبِيحَانِ.
وَالَّذِي يَعْنِي الْإِنْسَانَ قِسْمَانِ:
* قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ حَيَاتِهِ فِي مَعَاشِهِ؛ مِمَّا يُشْبِعُهُ مِنْ جُوعٍ، وَيَرْوِيهِ مِنْ عَطَشٍ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَيُعِفُّ فَرْجَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ الضَّرُورَةَ دُونَ مَا فِيهِ تَوَسُّعٌ فِي الْمَلَذَّاتِ وَاسْتِكْثَارٌ مِنْهَا.
وَهَذَا الْقِسْمُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مِمَّا يَعْنِي الْإِنْسَانَ، وَصَلَاحُهُ وَسِيلَةٌ لِصَلَاحِ الْآخِرَةِ.
* وَقِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِسَلَامِتِهِ فِي مَعَادِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَالْإِخْلَاصُ.
وَهَذَا الْقِسْمُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ أَهَمُّ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ.
فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ هُمَا مَا دَعَا النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْحِرْصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِه: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)).
فَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ مَا يَعْنِيهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ سَلِمَ مِنْ سَائِرِ الْآفَاتِ، وَجَمِيعِ الشُّرُورِ وَالْمُخَاصَمَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى حُسْنِ إِسْلَامِهِ، وَرُسُوخِ إِيمَانِهِ، وَحَقِيقَةِ تَقْوَاهُ، وَمُجَانَبَتِهِ لِهَوَاهُ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِمَصَالِحِهِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَإِعْرَاضِهِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَقِيلَ فِي ضَابِطِ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَمَا لَا يَعْنِيهِ:
* الَّذِي يَعْنِيهِ: هُوَ الَّذِي يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِدِينِهِ، أَوْ لِدُنْيَاهُ الْمُوصِلَةِ لِآخِرَتِهِ.
* وَمَا لَا يَعْنِيهِ: مَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِدِينِهِ، وَلَا لِدُنْيَاهُ الْمُوصِلَةِ لِآخِرَتِهِ.
وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْشِطَةِ الْإِنْسَانِ وَأَعْمَالِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، كَمَا أَنَّهُ شَامِلٌ لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَكُلُّهَا مِمَّا يُحَاوِلُ الشَّيْطَانُ إِيقَاعَ الْعَبْدِ فِيهِ مُتَدَرِّجًا مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَخَفِّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ إِلَّا كَلَامًا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).
وَالضَّابِطُ لِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي هُوَ الشَّرْعُ فَحَسْبُ، لَا اتِّبَاعُ حُظُوظِ النَّفْسِ، فَمَا لَا يَطْلُبُ الشَّرْعُ الِاعْتِنَاءَ بِهِ فَهُوَ مِمَّا لَا يَعْنِي.
فَإِذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ ظَانًّا أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَعْنِيهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَسَاءَ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.
((الْآثَارُ السَّيِّئَةُ لِلِانْشِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي))
الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِيمَا يَأْتِي الْإِنْسَانُ وَمَا يَذَرُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الرُّكْنِ الْأَوَّلِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَهُوَ جَانِبُ التَّخْلِيَةِ لِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا الرُّكْنِ الرُّكْنُ الثَّانِي؛ وَهُوَ التَّحْلِيَةُ بِالِانْشِغَالِ بِمَا يَعْنِي.
وَتَزْدَادُ الْحَاجَةُ لِفَهْمِ مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فِي زَمَنٍ تَزَاحَمَتْ فِيهِ الْوَاجِبَاتُ، وَتَنَازَعَتْ فِيهِ الْأَوْلَوِيَّاتُ، وَصَعُبَتْ فِيهِ الْأُمُورُ، فَكَانَتِ الْخُطْوَةُ الْأُولَى تَرْكِيزَ الِاهْتِمَامِ فِيمَا يَنْفَعُ، وَتَرْكَ كُلِّ مَا لَا يَعْنِي، وَهِيَ أَوْلَوِيَّةٌ تَرْبَوِيَّةٌ مُلِحَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ، وَفِي تَرْبِيَةِ الْآخَرِينَ.
كَمَا تَزْدَادُ الْحَاجَةُ لِإِحْيَاءِ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي ظِلِّ انْتِشَارِ بَعْضِ الْمَشَاكِلِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّاجِمَةِ عَنْ عَدَمِ التَّحَلِّي بِهَذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخُوضُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ.
* فَمِنْ هَذِهِ الْمَشَاكِلِ: انْغِلَاقُ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَفْضِيلُهُ قَطْعَ صِلَاتِهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِيرَانِ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ، وَغَيْرِهِمْ؛ مَخَافَةَ كَثْرَةِ تَدَخُّلَاتِهِمْ وَتَحَرُّشَاتِهِمْ بِحَيَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، مِمَّا أَدَّى إِلَى وُجُودِ نَوْعٍ مِنْ ضَعْفِ الْوَلَاءِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ.
* وَمِنْ هَذِهِ الْمَشَاكِلِ -أَيْضًا- الَّتِي نَجَمَتْ مِنْ إِهْمَالِ التَّوْجِيهِ النَّبَوِيِّ السَّدِيدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: تِلْكَ الْمَشَاكِلُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ تَدَخُّلِ الْآخَرِينَ فِي شُؤُونِ الْأُسْرَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا التَّدَخُّلُ -أَحْيَانًا- مِنَ الْأَبَوَيْنِ الَّذَيْنِ يَسْتَرْسِلَانِ فِي السُّؤَالِ عَنْ شُؤُونِ أَبْنَائِهِمَا الْمُتَزَوِّجِينَ، وَمُحَاوَلَةِ تَوْجِيهِ دَفَّةِ أُسَرِهِمْ عَلَى مَا يَرَيَانِهِ مُنَاسِبًا مِمَّا يَنْتُجُ عَنْهُ مَشَاكِلُ لَا تَخْفَى وَلَا تُحْصَى.
وَهُنَا لَا بُدَّ لِلْأَبْنَاءِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبِرِّ بِهِمَا -أَيْ: بِالْوَالِدَيْنِ-، وَالْحِكْمَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْأُسَرِيَّةِ بِمَا تَسْتَقِيمُ مَعَهُ الْحَيَاةُ، كَمَا يَجْمُلُ بِهَؤُلَاءِ الْآبَاءِ الْكِرَامِ أَنْ يَنْهَلُوا مِنْ مَعِينِ هَذَا الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، وَيَتَلَمَّسُوا سَعَادَةَ أَبْنَائِهِمْ عَلَى وَفْقِ مَا رَسَمَهُ الشَّرْعُ لِعَلَاقَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.
((عِلَاجُ الِانْشِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي))
وَعِلَاجُ الِانْشِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي يَكُونُ بِـ:
أَوَّلًا: إِخْلَاصُ النِّيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ الدَّافِعِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَرَاءَ الْحِرْصِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ.
ثَانِيًا: الِاسْتِعَانَةُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَدَوَامُ مُرَاقَبَتِهِ، وَتَقْوِيَةُ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ.
ثَالِثًا: الِاشْتِغَالُ بِمَا يَعْنِي؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَنْجَحِ الْعِلَاجَاتِ، وَالْمَرْءُ لَوِ اعْتَنَى بِمَا كُلِّفَ بِهِ لَوَجَدَ فِيهِ شُغُلًا شَاغِلًا عَمَّا لَا يَعْنِيهِ.
رَابِعًا: الشُّعُورُ بِقُبْحِ هَذِهِ الْآفَةِ وَشَيْنِهَا؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْعَاقِلَ الَّذِي يُحَافِظُ عَلَى كَرَامَتِهِ لَا يَرْضَى أَنْ يُوصَمَ بِأَنَّهُ مِنَ الْفَارِغِينَ الْبَطَّالِينَ الْفُضُولِيِّينَ الَّذِينَ يَدُسُّونَ آنَافَهُمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ، وَيَتَجَسَّسُونَ وَيَتَلَصَّصُونَ عَلَى الْآخَرِينَ.
خَامِسًا: تَذَكُّرُ الْحِرْمَانِ الَّذِي يَجْنِيهِ الْإِنْسَانُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ:
* الْحِرْمَانُ مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَرَعِ:
قَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: ((مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ حُرِمَ الصِّدْقَ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْفُضُولِ حُرِمَ الْوَرَعَ، وَمَنْ ظَنَّ السُّوءَ حُرِمَ الْيَقِينَ، وَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هَلَكَ)).
* وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْحِكْمَةِ:
قِيلَ لِلُقْمَانَ: ((مَا حِكْمَتُكَ؟)).
قَالَ: (( لَا أَسْأَلُ عَمَّا قَدْ كُفِيتُ، وَلَا أَتَكَلَّفُ مَا لَا يَعْنِينِي)).
* وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْحِلْمِ:
قَالَ مُعَاوِيَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ: ((مَا بَقِيَ مِنْ حِلْمِكَ؟)).
قَالَ: ((لَا يَعْنِينِي مَا لَا يَعْنِينِي)).
* الْحِرْمَانُ مِنَ السِّيَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَاحْتِرَامِ النَّاسِ لَهُ:
قِيلَ لِلْأَحْنَفِ: ((بِمَ سُدْتَ قَوْمَكَ وَأَنْتَ لَسْتَ بِأَنْقَبِهِمْ وَلَا أَشْرَفِهِمْ؟)).
قَالَ: ((إِنِّي لَا أَتَنَاوَلُ -أَوْ قَالَ: لَا أَتَكَلَّفُ مَا كُفِيتُ، وَلَا أُضَيِّعُ مَا وُلِّيتُ)).
* الْحِرْمَانُ مِنْ لِينِ الْقَلْبِ، وَقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَبَرَكَةِ الرِّزْقِ:
قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: ((إِذَا رَأَيْتَ قَسَاوَةً فِي قَلْبِكَ، وَوَهَنًا فِي بَدَنِكَ، وَحِرْمَانًا فِي رِزْقِكَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِمَا لَا يَعْنِيكَ)).
* الْحِرْمَانُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَرَاحَةِ النَّفْسِ:
فَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِي يُمَكِّنُنَا مِنْ رَاحَةٍ نَفْسِيَّةٍ تَامَّةٍ، نَنَامُ وَنَحْنُ نَتَمَتَّعُ بِاطْمِئْنَانٍ تَامٍّ، وَنَأْكُلُ وَنَشْرَبُ بِانْشِرَاحٍ وَحَيَوِيَّةٍ، فِي حِينَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ الْمُتَطَلِّعَ إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ يَعِيشُ فِي قَلَقٍ دَائِمٍ، وَحَيْرَةٍ قَاتِلَةٍ، وَاسْتِفْسَارَاتٍ لَا يَجِدُ لَهَا جَوَابًا.
تُرَى مَا سِرُّ عَلَاقَةِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ بِفُلَانٍ؟!
وَمَا هِيَ أَحْوَالُ فُلَانٍ الْمَالِيَّةُ؟!
وَمِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ؟!
وَمَا سِرُّ هَذَا السُّرُورِ الْبَادِي عَلَى وَجْهِ فُلَانٍ هَذَا الْيَوْمَ؟!
وَالْمِسْكِينُ لَا يَجِدُ لِتَسَاؤُلَاتِهِ أَجْوِبَةً شَافِيَةً!!
* وَأَخْطَرُ مِنْ هَذَا التَّعَرُّضُ لِلْحِرْمَانِ مِنْ عُلُوِّ الْقَدْرِ وَالدَّرَجَةِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِذَا خَاضَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ نَقَصَ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِهِ، فَكَانَ هَذَا عَلَيْهِ؛ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ مَا هُوَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ جَهَنَّمَ وَغَضَبِ اللهِ، بَلْ نَقْصُ قَدْرِهِ وَدَرَجَتِهِ عَلَيْهِ)).
وَكَفَى بِهَذَا خُسْرَانًا!
وَفِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: ((أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ)).
سَابِعًا: مِمَّا تُعَالَجُ بِهِ آفَةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي: حِفْظُ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ عَلَى الْعَبْدِ لِيَشْغَلَهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ.
وَهَذِهِ الْأَبْوَابُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ: النَّظَرَاتُ، وَالْخَطَرَاتُ، وَاللَّفَظَاتُ، وَالْخُطُوَاتُ.
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ بَوَّابَ نَفْسِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ، يُلَازِمُ الرِّبَاطَ عَلَى ثُغُورِهَا.
* فَأَمَّا النَّظَرَاتُ: فَيَجْتَهِدُ الْمَرْءُ فِي كَفِّهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَرَاكِبَ وَمَتَاجِرَ وَكَمَالِيَّاتٍ؛ فَضْلًا عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ؛ كَالنَّظَرِ لِلْقِرَاءَةِ فِي غَثِّ الْكُتُبِ وَالْمَجَلَّاتِ، وَالِانْشِغَالِ بِأَخْبَارِ الرِّيَاضَةِ، وَالْفَنِّ، وَالْكُرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ، وَالْأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.
* وَأَمَّا الْخَطَرَاتُ وَالْأَفْكَارُ: فَيَجِبُ صَرْفُهَا فِيمَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ، وَيَجِبُ إِشْغَالُهَا عَنِ التَّفَاهَاتِ وَالسَّفَاسِفِ وَالْحَرَامِ، وَذَلِكَ بِالتَّفَكُّرِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَعَانِي آيَاتِ اللهِ الْمَقْرُوءَةِ وَالْمَنْظُورَةِ، وَفِي نِعَمِهِ -تَعَالَى-، وَكَذَلِكَ التَّفْكِيرُ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ مَعَ التَّفْكِيرِ فِي وَاجِبِ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتِهِ.
هَذَا وَإِنْ لَمْ يَضْبِطِ الْمَرْءُ خَطَرَاتِهِ فَلَا غَرْوَ -إِذَنْ- أَنْ يَهِيمَ عَلَى وَجْهِهِ فِي أَوْدِيَةِ الْوَهْمِ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْعَاجِزِينَ الَّذِينَ عَجَزُوا عَنْ تَنْفِيذِ مَا يُرِيدُونَ فِي الْحَيَاةِ، فَفَرُّوا إِلَى الْوَهْمِ أُنْسًا بِهِ، فَقَدْ وَجَدُوا فِيهِ مَا يَشْتَهُونَ.
* وَأَمَّا اللَّفَظَاتُ: فَلَا يَخْفَى عَظِيمُ خَطَرِهَا.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)).
فَيَجِبُ عَلَى الْكَيِّسِ الْفَطِنِ أَنْ يَصُونَ لِسَانَهُ، وَيَتَّبِعَ فِي ذَلِكَ الْوَصِيَّةَ الْعُمَرِيَّةَ الَّتِي أَهْدَاهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمَنْ يُرِيدُ ضَبْطَ لِسَانِهِ؛ إِذْ قَالَ: ((مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ، وَالسَّلَامُ)).
* وَأَمَّا الْحَرَكَاتُ وَالْخُطُوَاتُ: فَحِفْظُهَا بِأَلَّا يَنْقُلَ قَدَمَهُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي خُطَاهُ مَزِيدُ ثَوَابٍ مِنَ اللهِ فَالْقُعُودُ عَنْهَا خَيْرٌ لَهُ، وَيُمْكِنُ لِلْعَبْدِ الْمُوَفَّقِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلِّ مُبَاحٍ يَخْطُو إِلَيْهِ قُرْبَةً يَنْوِيهَا للهِ، فَتَقَعُ خُطَاهُ قُرْبَةً، وَهَكَذَا سَائِرُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ وَأَعْمَالِ الْبَدَنِ.
قَالَ قَتَادَةُ: ((كَانَ يُقَالُ: لَا يُرَى الْمُسْلِمُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: فِي مَسْجِدٍ يَعْمُرُهُ، أَوْ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، أَوِ ابْتِغَاءِ رِزْقِ اللهِ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ)).
ثَامِنًا: مِمَّا تُعَالَجُ بِهِ هَذِهِ الْآفَةُ الْمُرْدِيَةُ -وَهِيَ آفَةُ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي-: تَذَكُّرُ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ الْكَاتِبِينَ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
* وَكَذَلِكَ قَدْ يَحْتَاجُ الْأَمْرُ إِلَى مُعَاقَبَةِ النَّفْسِ، ((كَمَا فَعَلَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ عِنْدَمَا مَرَّ بِغُرْفَةٍ فَسَأَلَ: ((مَتَى بُنِيَتْ هَذِهِ؟)).
فَأَدَّبَ نَفْسَهُ بِصِيَامٍ؛ لِأَنَّهَا تَسْأَلُ عَمَّا لَا يَعْنِيهَا!)).
وَلَا يَسْتَغْنِي الْإِنْسَانُ عَنْ قَدْرٍ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاسَطَةِ وَالتَّوَدُّدِ لِبُلُوغِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ؛ لَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّهُ بَابٌ يَشُقُّ ضَبْطُهُ إِلَّا عَلَى الْجَادِّينَ الْمُوَفَّقِينَ.
((أُمُورٌ لَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي))
وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي:
* الزِّيَادَةُ فِي جَوَابِ بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ وَالْفَتَاوَى إِنْ ظَنَّ الْمُفْتِي حَاجَةَ السَّائِلِ لِذَلِكَ؛ كَأَنْ يَسْأَلَ عَنِ الصَّلَاةِ فَيَذْكُرَ الْوُضُوءَ، وَالصَّلَاةَ، وَأَذْكَارَهُمَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: جَوَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَنْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ الصَّلَاةَ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ.
وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ؛ فَقَدْ أَجَابَهُ وَزَادَهُ ﷺ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَفِيهِ: أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَكَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ؛ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ النَّصِيحَةِ، لَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي)).
يَتَتَبَّعُونَ الْأُمُورَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ؛ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ صِدْقِ الْقُلُوبِ، وَحُسْنِ النِّيَّاتِ، وَعَظِيمِ الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَيَبْحَثُونَ فِي هَذَا الْمَأْزِقِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ مَنْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُفْتِينَ إِذَا مَا سُئِلُوا عَنْ أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ أَحْكَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: أَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي، أَوْ هُوَ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ؟
فَيَبْحَثُونَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَرِّرُوا حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، حَتَّى لَا يَتَوَرَّطَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ؛ لِأَنَّهَا آفَةٌ عَظِيمَةٌ تَمْحَقُ الْبَرَكَةَ؛ بَرَكَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ، وَبَرَكَةَ الْيَقِينِ فِي الصُّدُورِ، بَلْ إِنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الرِّزْقِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَالْمَعَاصِي قَوَاطِعُ لِلْأَرْزَاقِ.
إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ!
فَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ، وَكَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِلُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لَهُ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ النَّصِيحَةِ لَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي.
وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ قَالَ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللهِ -أَيْ: عَلِّمْنِي الصَّلَاةَ-، فَعَلَّمَهُ الصَّلَاةَ، وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، وَالْوُضُوءَ، وَلَيْسَا مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَكِنَّهُمَا شَرْطَانِ لَهَا.
* مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَلَيْسَ مِنْهُ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ خَاصَّةً إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ سِوَاهُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ -حِينَئِذٍ- الْقِيَامُ بِذَلِكَ مَهْمَا كَانَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي.
* وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَلَيْسَ مِنْهُ: مُلَاعَبَةُ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاسَطَةِ وَالتَّوَدُّدِ؛ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي الْإِفْرَاطُ فِي ذَلِكَ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ سَبَبًا فِي ضَيَاعِ الْأَوْقَاتِ، وَفَسَادِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، وَغَرْسِ رُوحِ الْهَزْلِ وَالسَّفَهِ وَاللَّعِبِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
((الِاشْتِغَالُ بِمَا لَا يَعْنِي تَضْيِيعٌ لِرَأْسِ مَالِ الْمَرْءِ))
رَأْسُ مَالِ الْعَبْدِ أَوْقَاتُهُ، فَمَهْمَا صَرَفَهَا إِلَى مَا لَا يَعْنِيهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ بِهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ ضَيَّعَ رَأْسَ مَالِهِ.
لِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)).
وَسَبَبُهُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ: هُوَ الْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، أَوْ تَزْجِيَةُ الْأَوْقَاتِ بِحِكَايَاتِ أَحْوَالٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا.
عِلَاجُ ذَلِكَ كُلِّهِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَنْفَاسَهُ رَأْسُ مَالِهِ، وَأَنَّ لِسَانَهُ شَبَكَةٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَنِصَ بِهَا الْخَيْرَاتِ الْحِسَانَ، فَإِهْمَالُهُ ذَلِكَ وَتَضْيِيعُهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ.
((خُطُورَةُ فُضُولِ الْكَلَامِ))
وَأَمَّا فُضُولُ الْكَلَامِ: فَهُوَ -أَيْضًا- مَذْمُومٌ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْخَوْضَ فِيمَا لَا يَعْنِي، فَهُوَ مِنْهُ بِسَبَبٍ عَظِيمٍ، وَالزِّيَادَةَ فِيمَا يَعْنِي عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ؛ فَإِنَّ مَنْ يَعْنِيهِ أَمْرٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِكَلَامٍ مُخْتَصَرٍ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُجَسِّمَهُ وَيُكَرِّرَهُ، وَمَهْمَا تَأَدَّى مَقْصُودُهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَذَكَرَ كَلِمَتَيْنِ فَالثَّانِيَةُ فُضُولٌ -أَيْ: فَضْلٌ عَنِ الْحَاجَةِ-، وَهُوَ أَيْضًا مَذْمُومٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا ضَرَرٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فُضُولَ الْكَلَامِ لَا يَنْحَصِرُ، بَلِ الْمُهِمُّ مَحْصُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [لنِّسَاءِ: 114].
وَقَالَ عَطَاءٌ: ((إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقُ لِحَاجَتِكَ فِي مَعِيشَتِكَ الَّتِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْهَا؛ مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ: أَتُنْكِرُونَ أَنَّ {عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الِانْفِطَارِ: 11]، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17- 18].
أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ إِذَا نُشِرَتْ صَحِيفَتُهُ الَّتِي أَمْلَاهَا صَدْرَ نَهَارِهِ كَانَ أَكْثَرُ مَا فِيهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ؟!)). وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ!
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ أَحَقَّ مَا طَهَّرَ الرَّجُلُ لِسَانُهُ)).
وَفِي أَثَرٍ: ((مَا أُوتِيَ رَجُلٌ شَرًّا مِنْ فَضْلٍ فِي لِسَانٍ)).
أَيْ: مِنْ زِيَادَةٍ فِي كَلَامٍ، مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَا يَعْنِيهِ.
وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ القيَامَةِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ، وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ يَكْتُبَانِ عَمَلَكَ؛ فَأَكْثِرْ مَا شِئْتَ أَوْ أَقِلَّ)).
وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((مَنْ كَثُرَ مَالُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ كَذِبُهُ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ عَذَّبَ نَفْسَهُ)).
وَكَانَ طَاوُوسٌ يَعْتَذِرُ مِنْ طُولِ السُّكُوتِ وَيَقُولُ: ((إِنِّي جَرَّبْتُ لِسَانِي -يَعْتَذِرُ لِمُجَالِسِيهِ مِنْ طُولِ صَمْتِهِ وَقِلَّةِ كَلَامِهِ، فَيَقُولُ-: إِنِّي جَرَّبْتُ لِسانِي فَوَجَدْتُهُ لَئِيمًا رَضِعًا)).
وَالرَّضِعُ وَالرَّضِيعُ: الْخَسِيسُ مِنَ الْأَعْرَابِ، الَّذِي إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ رَضَعَ بِفِيهِ شَاتَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَهُ الضَّيْفُ فَيَطْلُبَ اللَّبَنَ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ((مَا مِنْ خَطِيبٍ يَخْطُبُ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ خُطْبَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ((إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلامِ مَخَافَةُ الْمُبَاهَاةِ)).
وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ يَقُولُ: ((لَا خَيْرَ فِي الْكَلامِ إِلَّا فِي تِسْعٍ: تَهْلِيلٌ، وَتَكْبِيرٌ، وَتَسْبِيحٌ، وَتَحْمِيدٌ، وَسُؤَالُكَ مِنَ الْخَيْرِ، وَتَعَوُّذُكَ مِنَ الشَّرِّ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقِرَاءَتُكَ الْقُرْآنَ)).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((إِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ نَظَرَ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَكَلَّمَ، وَإِلَّا أَمْسَكَ عَنْهُ، وَالْفَاجِرُ إِنَّمَا لِسَانُهُ رِسْلًا رِسْلًا)). الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ سَهْلٌ مُتَهَاوَنٌ فِيهِ!
((كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيكُمْ!))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَوْ أَنَّنَا كَفَفْنَا عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي فَلَنْ نَتَكَلَّمَ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا فِيمَا لَا يَعْنِينَا!
ارْجِعْ إِلَى نَفْسِكَ صَادِقًا، وَفَتِّشْ فِي نَفْسِكَ وَاعِيًا، وَسَتَرَى صِدْقَ مَا أَقُولُ -إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--.
مَا نِسْبَةُ مَا يَعْنِيكَ إِلَى مَا لَا يَعْنِيكَ فِيمَا تَتَكَلَّمُ بِهِ إِلَّا كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ، إِلَّا كَرَمْلَةٍ فِي صَحَرَاءَ جَرْدَاءَ لَا أَمَدَ لَهَا!
أَمْسِكْ لِسَانَكَ؛ حَتَّى تَتَوَفَّرَ عَلَيْكَ طَاقَةُ عَقْلِكَ وَطَاقَةُ قَلْبِكَ؛ مِنْ فَهْمِكَ، مِنْ حِفْظِكَ، مِنْ عِلْمِكَ، مِنْ ذِكْرِكَ، مِنْ تُقَاكَ وَتَقْوَاكَ، فَهَذَا كُلُّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ.
فَلَوْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ.. لَوْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ.. فَهَذَا نَافِعٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، هَذَا مَبْدَأٌ إِنْسَانِيٌّ عَامٌّ؛ كَقَوْلِهِ ﷺ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ))، هَذَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ، وَيَنْفَعُ الْمُسْلِمَ نَفْعًا مُضَاعَفًا؛ لِأَنَّ مَا يَنْفَعُهُ بِالضَّرُورَةِ وَبِالْأَوَّلِيَّةِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرَتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَحْرِصُ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ فَيَسْتَفِيدُ -أَيْضًا-.
فَكَذَلِكَ لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، وَفِّرْ طَاقَةَ عَقْلِكَ وَطَاقَةَ قَلْبِكَ، وَاحْفَظْ عَلَى نَفْسِكَ وَقْتَكَ وَاسْتَثْمِرْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَالَ فَرْعُ الْوَقْتِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِالْوَقْتِ فَقَدْ تَصَدَّقَ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا هُوَ حَصِيلَةُ عَمَلٍ وَبَذْلِ مَجْهُودٍ فِي وَقْتٍ، وَالْوَقْتُ هُوَ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْوَقْتِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ، فِي تَقْرِيبِ مَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فِي بَثِّ الْعِلْمِ النَّافِعِ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
خَطَرُ اللِّسَانِ عَظِيمٌ، وَلَا نَجَاةَ مِنْهُ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالْخَيْرِ؛ فَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ((الصَّمْتِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ؟)).
فَقَالَ: ((يَا ابْنَ جَبَلٍ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((يَا لِسَانُ! قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ)).
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ مَلَكَ غَضَبَهُ وَقَاهُ اللَّهُ عَذَابَهُ، وَمَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ)). خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
قَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
فَاخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ.
((النَّهْيُ عَنْ أَذَى النَّاسِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَرَادَ السَّلَامَةَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَطْلُبَهَا فِي سَلَامَةِ غَيْرِهِ مِنْهُ.. كُفَّ عَنْ نَفْسِكَ أَذَى الْخَلْقِ بِكَفِّ أَذَاكَ عَنْهُمْ!
لَقَدْ جَاءَتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ تُؤَكِّدُ عَلَى حُرْمَةِ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّاسِ عَامَّةً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ الْوَعِيدَ وَالزَّجْرَ الشَّدِيدَ لِمَنْ تَعَمَّدَ أَذِيَّةَ الْمُسْلِمِ بِأَيِّ نَوْعٍ أَوْ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ الْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِيَّةِ؛ فَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْإِيذَاءِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
فَهَذَا فِي النَّهْيِ عَنِ الْإِيذَاءِ.
((وَالْإِيذَاءُ يَشْمَلُ الْإِيذَاءَ بِالْقَوْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالْفِعْلِ، وَالْإِيذَاءَ بِالتَّرْكِ.
أَمَّا الْإِيذَاءُ بِالْقَوْلِ: فَأَنْ يُسْمِعَ أَخَاهُ كَلَامًا يَتَأَذَّى بِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّهُ، فَإِنْ ضَرَّهُ كَانَ أَشَدَّ إِثْمًا.
وَالْإِيذَاءُ بِالْفِعْلِ: أَنْ يُضَايِقَهُ فِي مَكَانِهِ، أَوْ فِي جُلُوسِهِ، أَوْ فِي طَرِيقِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالْإِيذَاءُ بِالتَّرْكِ: أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا يَتَأَذَّى مِنْهُ أَخُوهُ.
كُلُّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَعَلَيْهِ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
{احْتَمَلُوا} يَعْنِي: تَحَمَّلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
والْبُهْتَانُ: وَهُوَ الْكَذِبُ.
وَالْإِثْمُ الْمُبِينُ: وَهُوَ الْعُقُوبَةُ الْعَظِيمَةُ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ آذَى الْإِنْسَانَ لِارْتِكَابِهِ عَمَلًا يَحِقُّ أَنْ يُؤْذَى عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
الْمُهِمُّ أَنَّ الْإِيذَاءَ بِحَقٍّ لَا بَأْسَ بِهِ)).
حَرَّمَ الدِّينُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَذَى وَالْإِضْرَارِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْيَدِ، أَمْ بِاللِّسَانِ، أَمْ بِالتَّسَبُّبِ، أَمْ بِالْمُبَاشَرَةِ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ قَوْلُهُ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)).
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
((إِنَّ أَذِيَّةَ الْمُؤْمِنِينَ عَظِيمَةٌ، وَإِثْمَهَا عَظِيمٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهَا: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أَيْ: بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُمْ مُوجِبَةٍ لِلْأَذَى {فَقَدِ احْتَمَلُوا} عَلَى ظُهُورِهِمْ {بُهْتَانًا}؛ حَيْثُ آذَوْهُمْ بِغَيْرِ سَبَبٍ {وَإِثْمًا مُبِينًا}؛ حَيْثُ تَعَدَّوْا عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَكُوا حُرْمَةَ أَمْرِ اللَّهِ بِاحْتِرَامِهَا.
وَلِهَذَا كَانَ سَبُّ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لِلتَّعْزِيرِ بِحَسَبِ حَالَتِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، فَتَعْزِيرُ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَبْلَغُ، وَتَعْزِيرُ مَنْ سَبَّ الْعُلَمَاءَ وَأَهْلَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ)).
وَقَدْ نَهَى اللهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا؛ وَلَوْ كُنَّا نَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَنُعْطِيهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].
ذَكَرَ اللَّهُ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ لِلْإِحْسَانِ:
الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا: النَّفَقَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَلَمْ يُتْبِعْهَا الْمُنْفِقُ مَنًّا وَلَا أَذًى.
ثُمَّ يَلِيهَا قَوْلُ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ: الْإِحْسَانُ الْقَوْلِيُّ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ؛ الَّذِي فِيهِ سُرُورُ الْمُسْلِمِ، وَالِاعْتِذَارُ مِنَ السَّائِلِ إِذَا لَمْ يُوَافِقْ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمَعْرُوفِ.
وَالثَّالِثَةُ: الْإِحْسَانُ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَهَذَانِ أَفْضَلُ مِنَ الرَّابِعَةِ وَخَيْرٌ مِنْهَا؛ وَهِيَ الَّتِي يُتْبِعُهَا الْمُتَصَدِّقُ الْأَذَى لِلْمُعْطَى؛ لِأَنَّهُ كَدَّرَ إِحْسَانَهُ، وَفَعَلَ خَيْرًا وَشَرًّا.
فَالْخَيْرُ الْمَحْضُ- وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا- خَيْرٌ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يُخَالِطُهُ شَرٌّ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا، وَفِي هَذَا التَّحْذِيرُ الْعَظِيمُ لِمَنْ يُؤْذِي مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ اللُّؤْمِ وَالْحُمْقِ وَالْجَهْلِ.
وَاللَّهُ -تَعَالَى- غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِهِمْ، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ، حَلِيمٌ مَعَ كَمَالِ غِنَاهُ وَسِعَةِ عَطَايَاهُ يَحْلُمُ عَنِ الْعَاصِينَ، وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ، وَيُدِرُّ عَلَيْهِمْ خَيْرَهُ، وَهُمْ مُبَارِزُونَ لَهُ بِالْمَعَاصِي)).
مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ: أَلَّا يُؤْذِيَهُ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا شَدِيدًا، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ فَضْلَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي تَنْحِيَةِ الْأَذَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْأَذَى يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ، أَوْ يَعْتَرِضُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَيَاتِهِمْ.
النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ حَالَ الْمُسْلِمِ فِي كَمَالِ إِسْلَامِهِ فَيَقُولُ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
وَهَذَا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّكَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُفَّ يَدَكَ عَنِ الْأَذَى يَصِلُ بِسَبَبِهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ أَنْ تَكُفَّ أَذَى لِسَانِكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ يَتَمَرَّدُ عَلَى صَاحِبِهِ تَمَرُّدًا عَظِيمًا، وَلَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُذَلِّلَ اللِّسَانَ لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَإِلَّا بِبَذْلِ جُهْدٍ عَظِيمٍ فِي رِيَاضَةٍ مُتَّصِلَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ وَاعِيًا لِكُلِّ لَفْظَةٍ يَلْفِظُهَا؛ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لِسَخَطِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.
الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا عَنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).
شَجَرَةٌ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ إِذَا مَا مَرَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الطَّرِيقِ؛ آذَتْ مَنْ يَمُرُّ بِجِوَارِهَا أَوْ تَحْتَهَا، فَقَالَ رَجُلٌ لِنَفْسِهِ: إِنَّ هَذِهِ تُؤْذِي إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَامَ بِقَطْعِهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِنِيَّةِ أَلَّا يَصِلَ أَذَاهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرَآهُ الرَّسُولُ ﷺ يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا عَنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ)).
قَالَ: ((اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ)).
وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ ((إِمَاطَةَ الْأَذَى شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ)) فِيمَا صَحَّ عَنْهُ ﷺ.
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ)).
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْرَهُ أَنْ يَصِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ وَمِنَ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَذًى بِأَيِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ، هَذَا مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يُحِبُّهُ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: ((النَّاسُ رَجُلَانِ؛ مُؤْمِنٌ فَلَا تُؤْذِهِ، وَجَاهِلٌ فَلَا تُجَاهِلْهُ)).
النَّاسُ إِمَّا مُؤْمِنٌ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الصِّنْفَ الْآخَرَ؛ وَهُوَ الْجَاهِلُ، فَالْجَاهِلُ يَجِبُ عَلَيْكَ أَلَّا تُجَاهِلَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ».
قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ، أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ».
وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهْرِيقَ دَمَهُ». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَفي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «المُسْلمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ».
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ أَوِ الحَدِيدِ إِلَى المُسْلِمِ؛ جَادًّا، أَوْ مَازِحًا، أَوْ مُمَثِّلًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ فَاعِلَهُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَلْعُونٌ إِذَا فَعَلَ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا؟!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».
فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ الجِدِّ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ المُزَاحِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَلْعُونًا إِذَا أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِالحَدِيدَةِ؛ أَيْ: بِالسِّلَاحِ؛ وَلَوْ كَانَ مَازِحًا، وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دُخُولِ المَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ وَأَمَاكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ بِالأَسْلِحَةِ إِذَا كَانَ فِي حَمْلِهَا ضَرَرٌ عَلَى المُسْلِمِينَ.
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ -أَوْ قَالَ: فَلْيَأْخُذْ، أَوْ: لِيَقْبِضْ- عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ؛ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيءٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي المَسْجِدِ قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا».
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِخَافَةِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ إِرْهَابِهِمْ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، مَنْ أَخَافَهَا فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ ﷺ ».
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ -مَعَ النَّائِمِ-، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحزِنُهُ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((يَا عِبَادِي!)): هَلْ هَذَا مُوَجَّهٌ لِلْأُمَّةِ وَحْدَهَا، أَوْ لِلْبَشَرِيَّةِ جَمِيعِهَا؟
هَذَا لِلْبَشَرِيَّةِ أَجْمَعَ؛ لِلطَّائِعِ وَالْعَاصِي، لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، بِأَشْرَفِ أَسْمَائِهِمْ وَنُعُوتِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- أَضَافَهُمْ لِنَفْسِهِ ((يَا عِبَادِي!))، يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الْتِزَامِ مِنْهَاجِهِ الَّذِي بَيَّنَهُ رَسُولُهُ ﷺ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ((حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي)) أَيْ: تَقَدَّسْتُ عَنْهُ؛ فَالظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَعَ اعْتِقَادِ ثُبُوتِ ضِدِّهِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَنْفِيَّةِ عَنْ رَبِّ الْبَرِيَّةِ.
فَالظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
والظُّلْمُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، أَوِ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَهُمَا جَمِيعًا مُحَالٌ فِي حَقِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
((وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا)) يَعْنِي: أَنَّهُ -تَعَالَى- حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى عِبَادِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَظَالَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ فَالظُّلْمُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: ظُلْمُ النَّفْسِ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
ثُمَّ يَلِيهِ الْمَعَاصِي عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، فَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ نَوْعَيِ الظُّلْمِ.
وَالثَّانِي: ظُلْمُ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
عِبَادَ اللهِ! هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ إِلَّا لِدَلِيلٍ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْكَ أَنْ تُدْخِلَ النَّفْعَ عَلَى نَفْسِكَ وَتُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى غَيْرِكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.
قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)): قِيلَ: إِنَّ الضَّرَرَ هُوَ الِاسْمُ، وَالضِّرَارَ الْفِعْلُ؛ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الضَّرَرَ نَفْسَهُ مُنْتَفٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِدْخَالَ الضَّرَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَذَلِكَ.
النَّبِيُّ ﷺ نَفَى الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَمَّا إِدْخَالُ الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ بِحَقٍّ؛ إِمَّا لِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ؛ فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ ظَلَمَ غَيْرَهُ؛ فَيَطْلُبُ الْمَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالْعَدْلِ، فَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ)).
فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا)).
فَقَالَ: ((فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)).
قَالُوا: ((وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
نَبِيُّكُمْ ﷺ مَنَعَ مَنْ كَانَ ذَا رِيحٍ خَبِيثَةٍ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ اللهِ؛ يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ أَوِ الْكُرَّاثَ؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، [وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيَعْتَزِلْنَا] [وَفِي رِوَايَةٍ: وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا]؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
هُوَ بَيْتُ اللهِ! يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَمَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ، إِذَا أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا، أَوْ كَانَ آتِيًا بِمَا عَلَى قَانُونِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنَ الرَّوَائِحِ -لَا مِنْ أَصْلِ الْمَطْعُومِ؛ فَأَصْلُهَا حَلَالٌ-؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ، وَلْيَعْتَزِلْ بُيُوتَ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ الْمُصَلِّينَ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ؛ ((فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
((كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا تَعَبَّدَنَا بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ تَعَبَّدَنَا -أَيْضًا- بِحِفْظِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَدَمِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا بِنَوْعٍ مِنَ الْأَذَى.
إِنَّ الْمُسْلِمَ كَمَا يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ؛ كَذَلِكَ يُؤْجَرُ عَلَى كَفِّ الْأَذَى وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَدَاخِلٌ فِي مَعْنَى الصَّدَقَةِ؛ فَمِنْ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ: كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟
قَالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى: ((فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَكَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ، كَفُّ الشَّرِّ عَنْهُمْ صَدَقَةٌ يَأْتِي بِهَا الْكَافُّ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ».
قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟
قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَدَهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ».
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ».
قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الخَيْرِ».
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ».
حَتَّى إِذَا مَا أَمْسَكَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ أَتَى بِالصَّدَقَةِ.
إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعِينَ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْتَمِلَ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ ذَاتَهُ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى خَلْقِ اللهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَمَنْ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ فَقَدْ تَصَدَّقَ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.
((إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّهَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ هَذَا مِنَ الْإِيمَانِ.
وَالْمُرَادُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى: إِزَالَتُهُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْأَذَى: هُوَ مَا يُؤْذِي الْمَارَّةَ؛ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ شَوْكٍ، أَوْ زُجَاجٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ، فَكُلُّ هَذَا مِنَ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، فَيُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ)).
فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَلْتَفِتُ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْتَفَتُوا إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ؛ لَكَانَتْ طُرُقُهُمْ أَفْضَلَ بِكَثِيرٍ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ؛ بَلْ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا طُرُقٌ كَطُرُقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ يَشْكُونَ مِنَ الْقَذَارَةِ وَإِلْقَاءِ الْقَاذُورَاتِ فِي طُرُقِهِمْ وَشَوَارِعِهِمْ.
وَحَدِيثٌ وَاحِدٌ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ ﷺ كَفِيلٌ لِإِزَالَةِ تِلْكَ الشَّكْوَى.
وَأَيْضًا كثَيِرٌ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُ إِلَى الْغَرْبِ وَإِلَى الشَّرْقِ وَالدُّوَلِ الَّتِي يَقُولُونَ عَنْهَا ((مُتَقَدِّمَةٌ))، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ رَجَعَ فَمَدَحَ شَوَارِعَهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ دَلَّنَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَوْ أَخَذْنَا بِهِ مَا فَاقَنَا أَحَدٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ -مَثَلًا-؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظْلِمُ نَفْسَهُ، وَيَظْلِمُ دِينَهُ، وَيَظْلِمُ إِخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ.
الَّذِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ يَعُودُونَ يَمْدَحُونَ النَّظَافَةَ؛ فَأَيْنَ نَظَافَةُ أُولَئِكَ الْخَلْقِ؟!!
هُمْ نَظَّفُوا شَوَارِعَهُمْ، نَظَّفُوا بُيُوتَهُمْ ظَاهِرًا؛ لَكِنَّهُمْ قَذَّرُوهَا بِالشِّرْكِ كَمَا قَذَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَجْسَادَهُمْ، وَأَرْوَاحَهُمْ.
فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ((مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
((التَّحْذِيرُ مِنْ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِين فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ))
إِنَّ كَفَّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى فَضْلِهَا وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا، وَقَدْ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تَسْلَمُوا وَيَسْلَمَ لَكُمْ دِينُكُمْ؛ فَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ دِمَاءِ النَّاسِ، وَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَكُفُّوا بُطُونَكُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ)).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ-، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ)) أَيْ: يَكْفِيهِ مِنَ الشَّرِّ ((أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).
نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أُمُورٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((لَا تَحَاسَدُوا)) يَعْنِي: لَا يَحْسُدُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
الْحَسَدُ مَرْكُوزٌ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَفُوقَهُ أَحَدٌ مِنْ جِنْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ.
وَيَنْقَسِمُ النَّاسُ بَعْدَ هَذَا إِلَى أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي زَوَالِ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ بِالْبَغْيِ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي نَقْلِ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي إِزَالَتِهِ عَنِ الْمَحْسُودِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ إِلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ شَرُّهُمَا وَأَخْبَثُهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ.
وَكَانَ ذَنْبُ إِبْلِيسَ حَيْثُ حَسَدَ آدَمَ (سلم) لَمَّا رَآهُ قَدْ فَاقَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ فِي جِوَارِهِ، فَمَا زَالَ يَسْعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنْهَا.
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْيَهُودَ بِالْحَسَدِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ -حَالِقَةُ الدِّينِ، لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ-، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ)) وَغَيْرِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَا تَنَاجَشُوا))؛ فَسَّرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالنَّجَشِ فِي الْبَيْعِ: هُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا؛ إِمَّا لِنَفْعِ الْبَائِعِ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ لَهُ، أَوْ بِإِضْرَارِ الْمُشْتَرِي بِتَكْثِيرِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: ((النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ)).
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ((أَجْمَعُوا أَنَّ فَاعِلَهُ عَاصٍ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا كَانَ بِالنَّهْيِ عَالِمًا)).
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ التَّبَاغُضِ: ((وَلَا تَبَاغَضُوا))؛ فَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ فِي غَيْرِ اللهِ؛ بَلْ عَلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ إِخْوَةً، وَالْإِخْوَةُ يَتَحَابُّونَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَتَبَاغَضُونَ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا يُوقِعُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]، وَامْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالتَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَرَّمَ الْمَشْيَ بِالنَّمِيمَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَرَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَغَّبَ اللهُ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟)).
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ((إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَأَمَّا الْبُغْضُ فِي اللهِ؛ فَهُوَ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، وَلَوْ ظَهَرَ لِرَجُلٍ مِنْ أَخِيهِ شَرٌّ فَأَبْغَضَهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مَعْذُورًا فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ أُثِيبَ الْمُبْغِضُ لَهُ وَإِنْ عُذِرَ أَخُوهُ.
وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَجْرِ الْمُسْلِمِ وَقَطِيعَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ: ((وَلَا تَدَابَرُوا))، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التَّدَابُرُ: الْمُصَارَمَةُ وَالْهِجْرَانُ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَنْ يُوَلِّيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ دُبُرَهُ، وَيُعْرِضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ التَّقَاطُعُ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)).
وَعَنْ أَبِي خِرَاشٍ السَّلْمِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))، وَغَيْرِهَا.
((مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ)) يَعْنِي: فِي الْإِثْمِ، وَكُلُّ هَذَا فِي التَّقَاطُعِ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَأَمَّا لِأَجْلِ الدِّينِ؛ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا؛ فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِجْرَانِهِمْ لَمَّا خَافَ مِنْهُمُ النِّفَاقَ، وَأَبَاحَ هِجْرَانَ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُغَلَّظَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَى الْأَهْوَاءِ.
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ هِجْرَانَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ.. أَنَّهُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا.
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْقَطِعُ الْهِجْرَانُ بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ بِدُونِ الْعَوْدِ إِلَى الْمَوَدَّةِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، فَقَالَ فِي الْأَجَانِبِ: تَزُولُ الْهِجْرَةُ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، بِخِلَافِ الْأَقَارِبِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِوُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِمِ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)) هَذَا قَدْ تَكَاثَرَ النَّهْيُ عَنْهُ؛ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطِبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَاخْتَلَفُوا: هَلِ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ؟ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ.
وَمَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا، فَيَبْذُلُ لِلْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ لِيَشْتَرِيَهَا، وَيَفْسَخُ بَيْعَ الْأَوَّلِ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا))؛ هَذَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَرَكُوا التَّحَاسُدَ، وَالتَّنَاجُشَ، وَالتَّبَاغُضَ، وَالتَّدَابُرَ، وَبَيْعَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ؛ كَانُوا إِخْوَانًا.
وَفِيهِ أَمْرٌ بِاكْتِسَابِ مَا يَصِيرُ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إِخْوَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ أَدَاءُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَالِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَالنُّصْحِ لِلْغَيْرِ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ))؛ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً أُمِرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُ تَآلُفَ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعَهَا، وَنُهُوا عَمَّا يُوجِبُ تَنَافُرَ الْقُلُوبِ وَاخْتِلَافَهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَخَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوصِلَ إِلَى أَخِيهِ النَّفْعَ، وَيَكُفَّ عَنْهُ الضَّرَرَ، وَمِنْ أَعْظَمِ الضُّرِّ الَّذِي يَجِبُ كَفُّهُ عَنِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ: الظُّلْمُ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ، بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَمِنْ ذَلِكَ: خِذْلَانُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْمُورٌ أَنْ يَنْصُرَ أَخَاهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا؛ فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟!!
قَالَ: ((تَمْنَعُهُ عَنِ الظُّلْمِ؛ فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ)). الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَمِنْ ذَلِكَ: كَذِبُ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ فَيَكْذِبُهُ، بَلْ لَا يُحَدِّثُهُ إِلَّا صِدْقًا.
وَمِنْ ذَلِكَ: احْتِقَارُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْكِبْرِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَغَمْصُ النَّاسِ)) وَغَمْصُ النَّاسِ: الطَّعْنُ عَلَيْهِمْ، وَازْدِرَاؤُهُمْ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((التَّقْوَى هَاهُنَا)) يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ بِالتَّقْوَى، فَرُبَّ مَنْ يَحْقِرُهُ النَّاسُ لِضَعْفِهِ، وَقِلَّةِ حَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا؛ فَهُوَ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى- مِمَّنْ لَهُ قَدْرٌ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ بِسَبَبِ التَّقْوَى وَبِحَسَبِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟
قَالَ: ((أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)) يَعْنِي: يَكْفِيهِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَحْتَقِرُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لِتَكَبُّرِهِ عَلَيْهِ، وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الشَّرِّ.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ))، هَذَا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ بِهِ فِي الْمَجَامِعِ الْعَظِيمَةِ؛ فَإِنَّهُ خَطَبَ بِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ إِيصَالُ الْأَذَى إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةً؛ لِيَتَعَاطَفُوا وَيَتَرَاحَمُوا.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ -فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ- قَالَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)).
قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: ((لِيَكُنْ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْكَ ثَلَاثَةً: إِنْ لَمْ تَنْفَعَهُ فَلَا تَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْرِحْهُ فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّهُ)).
هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ -كَمَا مَرَّ- مُبْتَدِعًا، أَوْ فَاسِقًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَبَاحُ عِرْضُهُ بِهِ، كَــ((لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ))، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ بَيَّنَ لَنَا فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا مِنَ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَصِّلَهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ الَّتِي دَلَّنَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ ضَاعَتْ فِي هَذَا الْوَاقِعِ الْمُعَاصَرِ!!
فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآدَابِ صَارَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا، لَا يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُحَقِّقُوهَا فِي حَيَاتِهِمْ، فَضَاعَتْ حُقُوقُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ إِغْفَالِ هَذِهِ الْآدَابِ.
ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي ((سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)) عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ: ((أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ الْعِلْمَ كُلَّهُ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لَازِمًا أَمْرَ جَمَاعَتِهِمْ فَافْعَلْ)).
وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اسْتَغْنَى بِهَا ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ ذِكْرِ الْعِلْمِ كُلِّهِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ جُمْلَةَ خُطَبٍ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَفَةَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ، وَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِمِنًى فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْأُصُولَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عُمَرَ فِي وَصِيَّتِهِ، وَرَكَّزَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ تَرْكِيزًا شَدِيدًا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَفِي خُطْبَتِهِ بِهَا بَدَأَ بِبَرَاعَةِ اسْتِهْلَالٍ مُنْقَطِعَةِ النَّظِيرِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَجَّهَ إِلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا لِي؛ فَإِنَّهُ لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا فِي مَوْقِفِي هَذَا أَبَدًا)).
فَأَلْقَوْا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِأَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْغَوْا إِلَيْهِ بِآذَانِهِمْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ -عَزَّ وَجَلَّ- كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لَازِمًا أَمْرَ جَمَاعَتِهِمْ فَافْعَلْ)).
((عَوَاقِبُ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ))
إِنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي عَظَّمَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالتَّعَدِّيَ عَلَيْهِمْ بِأَذِيَّتِهِمْ لَمِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
((الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ عَمِلُوهُ؛ فَقَدِ ارْتَكَبُوا أَفْحَشَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَأَتَوْا ذَنْبًا ظَاهِرَ الْقُبْحِ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ)).
إِنَّ أَذِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ سَخَطِ اللهِ -تَعَالَى-؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمِنْبَرَ، فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).
إِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ تَفْقِدُ اعْتِبَارَهَا وَتَنْمَحِي آثَارُهَا إِنْ هِيَ لَمْ تَنْهَ أَصْحَابَهَا عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَصُنُوفِ الْأَذَى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَصَّدَّقُ، وَفِي لِسَانِهَا شَيْءٌ يُؤْذِي جِيرَانَهَا)).
فَقَالَ: ((لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
قَالَ ﷺ: ((أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟))
قَالُوا: ((الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَارَ)).
فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ؛ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
هَذَا هُوَ الْمُفْلِسُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُنْقِذُ مُهْجَتَهُ مِنَ النَّارِ، رَغْمَ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ.
فَاحْذَرْ أَنْ تُفْسِدَ وَتَنْقُضَ مَا أَبْرَمْتَ!
وَحَاذِرْ أَنْ تُضَيِّعَ مَا قَدَّمْتَ؛ فَإِنَّهُ خُسْرَانٌ مُبِينٌ!
((كُفُّوا أَذَاكُمْ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ!)).
عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ -يَعْنِي: فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُوَصِّلَ الْخَيْرَ إِلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ- فَدَعِ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ -يَعْنِي: فَكُفَّ أَذَاكَ وَكُفَّ شَرَّكَ عَنْ إِخْوَانِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ-؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقْتَ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ)).
إِذَا مَا حَجَبْتَ أَذَاكَ وَحَجَزْتَ شَرَّكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهِيَ صَدَقَةٌ قَدْ تَصَدَّقْتَ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُوَصِّلَ الْخَيْرَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُفَّ شَرَّهُ وَأَذَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَنَا، وَأَنْ يَهْدِيَ بِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا سَبَبًا لِمَنِ اهْتَدَى، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَدْيِهِ وَالْتَزَمَ سُنَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
المصدر:
إِذَا أَرَدْتَ السَّلَامَةَ مِنْ غَيْرِكَ
فَاطْلُبْهَا فِي سَلَامَةِ غَيْرِكَ مِنْكَ!