الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ


 ((الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ شَرَعَ اللهُ الْهِجْرَةَ لِنَبِيَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ آذَوْهُ وَآذَوْا أَصْحَابَهُ فَلَطَفَ اللهُ بِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

وَكَانَ ذَلِكَ إِيذَانًا بِنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَظُهُورِ الدِّينِ وَقِيَامِ أَوَّلِ دَولَةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَخِزْيِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَالْهِجْرَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَى غَيرِ مَكَّةَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ.

«أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَبَادَرَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ، وَلَكِنَّهَا احْتُبِسَتْ دُونَهُ، ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ السَّنَةِ بِوَلَدِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَيَّعَهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ خَرَجَ النَّاسُ أَرْسَالًا مُتَتَابِعِينَ.

وَمَنَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ إِقَامَةِ الْمُسْلِم بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَقَالَ: ((أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ)).

قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ؟

قَالَ: ((لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا)) . وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ بِأَمْرِهِ لَهُمَا، وَإِلَّا مَنِ احْتَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ كَرْهًا، وَقَدْ أَعَدَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ جِهَازَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ، وَأَعَدَّ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جِهَازَهُ.

وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) : عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِجِبْرَائِيلَ: ((مَنْ يُهَاجِرُ مَعِي؟)).

قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق.

وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مُتَقَنِّعًا نِصْفَ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ((أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ)).

فَقَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ))؛ يَعْنِي فِي الْهِجْرَةِ.

فَقَالَ أبو بكر: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((نَعَمْ)).

فَقَالَ أبو بكر: فَخُذْ بِأَبِي وَأُمِّي إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((بِالثَّمَنِ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَنَلْحَظُ هَا هُنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي هَذِهِ الطَّاعَاتِ الْعَظِيمَةِ -كَمَا فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ- لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهَا يَدًا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَمَنْزِلَتُهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مَا هِيَ- لَمَّا قَالَ: خُذْ بِأَبِي وَأُمِّي إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَهُ: ((بِالثَّمَنِ)).

وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَدْ أَبَى إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مَأْخُوذَةً بِثَمَنِهَا.

مَضَى النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، فَدَخَلَاهُ، وَكَانَا قَدِ اسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيَّ، وَكَانَ هَادِيًا خِرِّيتًا مَاهِرًا بِالطَّرِيقِ، وَكَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَمِنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَلَّمَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ.

وَجَدَّتْ قُرَيْشٌ فِي طَلَبِهِمَا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى بَابِ الْغَارِ، فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.

فَقَالَ ﷺ: ((يَا أبا بكر! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَبِيتُ مَعَهُمَا فِي الْغَارِ، ثُمَّ يُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، وَيَسْتَمِعُ مَا يُقَالُ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا بِالْخَبَرِ.

قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَوَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ لُقِّبَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.

وَلَمَّا يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الظَّفَرِ بِهِمَا جَعَلُوا لِمَنْ جَاءَ بِهِمَا دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَجَدَّ النَّاسُ فِي الطَّلَبِ؛ طَمَعًا فِي الدِّيَةِ؛ أَيْ فِي الْجُعْلِ الَّذِي جَعَلَتْهُ قُرَيْشٌ لِمَنْ أَتَى بِهِمَا، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَمَّا مَرُّوا بِحَيِّ بَنِي مُدْلِجٍ مُصْعِدِينَ مِنْ قُدَيْدٍ، بَصُرَ بِهِمْ رَجُلٌ مِنَ الْحَيِّ، فَوَقَفَ عَلَى الْحَيِّ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ آنِفًا بِالسَّاحِلِ أَسْوِدَةً مَا أُرَاهَا إِلَّا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ.

فَفَطِنَ لِلْأَمْرِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الظَّفَرُ لَهُ خَاصَّةً، فَقَالَ: بَلْ هُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ خَرَجَا فِي طَلَبِ حَاجَةٍ لَهُمَا، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ خِبَاءَهُ، وَقَالَ لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ بِالْفَرَسِ مِنْ وَرَاءِ الْخِبَاءِ وَمَوْعِدُكَ وَرَاءَ الْأَكَمَةِ -وَالْأَكَمَةُ: الشَّيْءُ الْمُرْتَفِعُ قَلِيلًا.

ثُمَّ أَخَذَ رُمْحَهُ وَخَفَضَ عَالِيَهُ يَخُطُّ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى رَكِبَ فَرَسَهُ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُمْ وَسَمِعَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يَلْتَفِتُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ رَهِقَنَا -أَيْ: لَحِقَنَا وَأَدْرَكَنَا وَاقْتَرَبَ مِنَّا- فَدَعَا عَلَيْهِ ﷺ فَسَاخَتْ يَدَا فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَصَابَنِي بِدُعَائِكُمَا، فَادْعُوَا اللَّهَ لِي، وَلَكُمَا عَلَيَّ أَنْ أَرُدَّ النَّاسَ عَنْكُمَا، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَأُطْلِقَ، وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا، فَكَتَبَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَمْرِهِ ﷺ فِي أَدِيمٍ.

* رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَدِينَةِ:

بَلَغَ الْأَنْصَارَ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ، وَقَصْدُهُ الْمَدِينَةَ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْحَرَّةِ يَنْتَظِرُونَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِذَا اشْتَدَّ حَرُّ الشَّمْسِ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ النُّبُوَّةِ، خَرَجُوا عَلَى عَادَتِهِمْ.

فَلَمَّا حَمِيَ حَرُّ الشَّمْسِ رَجَعُوا، وَصَعِدَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ لِبَعْضِ شَأْنِهِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قَيْلَةَ! هَذَا صَاحِبُكُمْ قَدْ جَاءَ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَهُ.

فَبَادَرَ الْأَنْصَارُ إِلَى السِّلَاحِ لِيَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَسُمِعَتِ الرَّجَّةُ وَالتَّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، فَتَلَقَّوْهُ وَحَيَّوْهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ مَسْجِدَ قُبَاء، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ أُسِّسَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ.

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَكِبَ بِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَجَمَّعَ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي.

ثُمَّ رَكِبَ، فَأَخَذُوا بِخِطَامِ رَاحِلَتِهِ، هَلُمَّ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ: ((خَلُّوا سَبِيلَهَا -يَعْنِي النَّاقَةَ- فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ)) ،

فَسَارَتْ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ -أَيْ: إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ الْمَسْجِدُ- الْيَوْمَ وَبَرَكَتْ -أَيِ: النَّاقَةُ- وَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا حَتَّى نَهَضَتْ وَسَارَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ فَرَجَعَتْ فَبَرَكَتْ فِي مَوْضِعِهَا الْأَوَّلِ، فَنَزَلَ عَنْهَا وَذَلِكَ فِي بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِهِ ﷺ.

وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ لَهَا، فَإِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى أَخْوَالِهِ يُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُكَلِّمُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي النُّزُولِ عَلَيْهِمْ، وَبَادَرَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى رَحْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ))، وَجَاءَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ فَأَخَذَ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ، فَأُمِرَ بِالْهِجْرَةِ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 80] .

قَالَ قَتَادَةُ: «أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَخْرَجَ صِدْقٍ, وَنَبِيُّ اللَّهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ اللَّهَ سُلْطَانًا نَصِيرًا» .

وَأَرَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- دَارَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: ((قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ)) .

قَالَ الْبَرَاءُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَمَا رَأَيْتُ النَّاسَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ كَفَرَحِهِمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْإِمَاءَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺقَدْ جَاءَ . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

* بِنَاءُ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ:

شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: بَرَكَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ ﷺ مَوْضِعَ مَسْجِدِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُصَلِّي فِيهِ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لسهل وسهيل -غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ- كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَسَاوَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْغُلَامَيْنِ بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا.

فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَكَانَ جِدَارًا لَيْسَ لَهُ سَقْفٌ، وَقِبْلَتُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيُجَمِّعُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

وَكَانَ فِيهِ شَجَرَةُ غَرْقَدٍ وَنَخْلٌ وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَبِالنَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَقُطِعَتْ، وَصُفَّتْ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلَ طُولَهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ إِلَى مُؤَخَّرِهِ مِئَةَ ذِرَاعٍ، وَالْجَانِبَيْنِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ، وَجَعَلَ أَسَاسَهُ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، ثُمَّ بَنَوْهُ بِاللَّبِنِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْنِي مَعَهُمْ، وَيَنْقُلُ اللَّبِنَ وَالْحِجَارَةَ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ:

اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ=فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

وَكَانَ يَقُولُ:

هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرَ=هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ

* الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ:

ثُمَّ آخَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَيَتَوَارَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِلَى حِينِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَوْلَهُ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]؛ رَدَّ التَّوَارُثَ إِلَى الرَّحِمِ دُونَ عَقْدِ الْأُخُوَّةِ.

وَلَوْ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ لَكَانَ رَفِيقُهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأَنِيسُهُ فِي الْغَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَقَّ النَّاسِ بِأُخُوَّتِهِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أبا بكر خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ)).

وَفِي لَفْظٍ: ((وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي)) » .

عِبَادَ اللَّهِ؛ إِنَّ هِجْرَةَ النَّبِيِّ ﷺ حَدَثٌ فَذٌّ مَتَفِرِّدٌ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ؛ إِذْ فَرَقَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا بَيْنَ عَهْدَيْنِ؛ بَيْنَ عَهْدٍ كَانَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ وَالْمُسْتَضْعَفُونَ مَعَهُ فِي حَالِ اسْتِضْعَافٍ وَخَوْفٍ وَفِي حَالِ مُطَارَدَةٍ وَإِيذَاءٍ إِلَى حَالِ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ.

وَأَخَذَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَصَافَّ لَا تَرْقَى إِلَيْهَا النُّجُومُ، وَرَفَعَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذِكْرَ نَبِيِّهِ ﷺ وَأَعَزَّهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَرَفَعَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَلِمَةَ الدِّينِ حَتَّى أَصْبَحَتْ كَلِمَةُ الْكُفْرِ صَاغِرَةً كَمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَعَلَى الدَّوَامِ.

 

المصدر:الْمَفَاهِيمُ الصَّحِيحَةُ لِلْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ
  سُبُلُ مُوَاجَهَةِ الإِدْمَانِ
  تزكية النفس سبيل الفلاح والنجاح
  مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ النَّبِيِّ ﷺ وَأُمَّتِهِ الرَّحْمَةُ
  سُبُلُ مُوَاجَهَةِ الإِدْمَانِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
  حِمَايَةُ الْوَطَنِ مِنَ الْإِرْهَابِ
  آدَابُ الْحِوَارِ فِي الْإِسْلَامِ
  حِكَمُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ
  ضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَى نَظَافَةِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ
  ثَمَرَاتُ كَثْرَةِ الْأُمَّةِ وَحُكْمُ تَنْظِيمِ النَّسْلِ وَتَحْدِيدِهِ
  أَسْبَابُ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ
  ثَمَرَاتُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامِهِمْ
  رِسَالَةٌ أَخِيرَةٌ مُهِمَّةٌ وَجَامِعَةٌ إِلَى الأُمَّةِ المِصْرِيَّةِ خَاصَّةً
  الذِّكْرُ هُوَ بَابُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان