المَوْعِظَةُ الْعِشْرُونَ : ((فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))


المَوْعِظَةُ الْعِشْرُونَ

((فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ مَنَّ عَلَيْنَا فَمَدَّ فِي أَعْمَارِنَا، وَقَدْ أَظَلَّتْنَا أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ وَسَاعَاتٌ جَلِيلَةٌ، إِنَّهَا أَيَّامُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَهِيَ بِدَايَةُ نِهَايَةِ الشَّهْرِ الْعَظِيمِ.

وَصِيَامُ رَمَضَانَ مَا يَزَالُ يَرْتَقِي بِالنَّفْسِ فِي مَدَارِجِ الكَمَالِ؛ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّائِمُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ؛ لِعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ، وَلِجَمْعِيَّةِ القَلْبِ عَلَى سَيِّدِهِ وَمَولَاهُ، وَلِلفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ، وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ تَعَالَى فِي عُلَاهُ.

وَفِي الْعَشْرِ: الْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهِيَ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

عِبَادَةُ النَّبِيِّ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ

فِي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ؛ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيلَهُ، وَأَيقَظَ أَهْلَهُ». وَهَذَا لَفْظُ البُخَارِيِّ.

قَدْ يَفْهَمُ فَاهِمٌ أَنَّ قَولَهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَحْيَا لَيلَهُ»: أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي اللَّيلَ كُلَّهُ بِالصَّلَاةِ! وَلَكِنَّهَا َقَدْ رَدَّتْ هِيَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- هَذَا الْفَهْمَ، فَقَالَت: «مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى لَيلَةً كَامِلَةً حَتَّى أَصْبَحَ».

وَلَكِنْ كيف «أَحْيَا لَيْلَهُ»؟

بِالصَّلَاةِ، بِتِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ، بِالذِّكْرِ، بِالْفِكْرِ فِي أَحْوَالِ الآخِرَةِ، والْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقِيَامَةِ؛ يُقَرِّبُ عَبْدَهُ، يُدْنِيهِ، يُلْقِي عَلَيْهِ كَنَفَهُ؛ يُقرِّرُهُ: «أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَ تَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟».

فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ -أَي: أَذْكُرُ-، أَيْ رَبِّ أَذْكُرُ، حَتَّى إِذَا أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ؛ قَالَ لَهُ رَبُّهُ -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ-: «قَدْ سَتَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهُ لَكَ الْيَوْمَ، وَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ».

«أَحْيَا لَيْلَهُ»: يُحْيِي لَيْلَهُ ﷺ بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا بِالصَّلَاةِ فِي طُولِ اللَّيْلِ؛ فَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ ﷺ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ﷺ».

«وَجَدَّ»: فِي الْعِبَادَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ!

«وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»: لِلتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ؛ بِالتَّشْمِيرِ، بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيرِهِ»؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.

خَصَائِصُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ

عَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرَةُ فِيهَا الْخَيْرَاتُ الْوَفِيرَةُ، وَفِيهَا الْأُجُورُ الْكَثِيرَةُ، وَفِيهَا الْفَضَائِلُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْخَصَائِصُ الْعَظِيمَةُ.

فَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَهَذِه أَكْبَرُ خِصِّيصَةٍ كمَا سيأتي الحَدِيثُ عَنْهَا -إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى-.

وَمِنْ هَذِهِ الْخَصَائِصِ:

- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِلْاجِتْهَادِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَتِلَاوَةٍ، وَذِكْرٍ، وَصَدَقَةٍ، وَغَيْرِهَا.

* وَمِنْ خَصَائِصِ الْعَشْرِ أَيْضًا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ.

«أَيقَظَ أَهْلَهُ...أَحْيَا لَيْلَهُ»: كَأَنَّ اللَّيْلَ كَانَ مَوَاتًا؛ بَلْ كَانَ؛ إِذْ لَا يُذْكَرُ فِيهِ اللهُ، فَإِذَا عُبِدَ فِيهِ اللهُ؛ حَيِيَ.

«أَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»: لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ؛ حِرْصًا عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ؛ لِأَنَّهَا فُرْصَةُ الْعُمُرِ، وَغَنِيمَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ.

وَمِنَ الْخُسْرَانِ الْعَظِيمِ وَالْحِرْمَانِ الْكَبِيرِ: أَنْ يُمْضِيَ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّمِينَةِ فِي اللَّهْوِ البَاطِلِ، وَالْعَبَثِ الْفَاجِرِ، وَاللَّغْوِ الزَّائِلِ، وَهَذَا مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِمْ، وَمِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، وَصَدِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ إِغْوَائِهِ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- لِلشَّيْطَانِ اللَّعِينِ: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عليهمْ سُلطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42].

فَمَنْ تَبِعَ الْغَاوِيَ فَهُوَ غَاوٍ مِثْلُهُ، مَنِ اتَّبَعَ الْغَوِيَّ؛ فَهُوَ غَوِيٌّ أَيْضًا، وَمَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فَهُوَ مِنَ الْغَاوِينَ، كَمَا قَالَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

فَمِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، مِنَ الْخَسَارَةِ الْفَادِحَةِ: أَنْ تُمَضَّى الْأَوْقَاتُ فِي لَيَالِ الْعَشْرِ فِي اللَّهْوِ البَاطِلِ.

وَقَدْ تَكَالبَ الْمُنْحَرِفُونَ وَالْمُنْحَرِفَاتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَخَادِعِهِمْ؛ لِيَشْغَلُوهُمْ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالْتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، وَلِيُغْرُوهُم بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِمَّا هُوَ فُسُوقٌ مَحْضٌ، وَزَيفٌ صِرْفٌ، وَمَعْصِيَةٌ بَحْتٌ.

- سُنَّةُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتِمَاسُ لَيلَةِ القَدْرِ فِيهَا:

* مِنْ خَصَائِصِ الْعَشْرِ: الِاعْتِكَافُ فِيهَا، وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ﷺ مُسَافِرًا فِي جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ لِغَزْوٍ؛ وَذَلِكَ لِالْتِمَاسِ مَرْضَاةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَالْمَقْصِدُ الْأَجَلُّ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ: تَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِلْعُكُوفِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ؛ لِالْتِمَاسِ الْأَجْرِ بِتَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ مَآسِيهَا وَمَبَاهِرِهَا، بِكُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَطَلَبِ الْآخِرَةِ.

وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلِّهَا.

فَاحْرِصْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ عَلَى التَّصْفِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَخَلِّفْ دُنْيَاكَ وَرَاءَكَ، وَأَقْبِلْ صَحِيحًا؛ حَتَّى تَصِيرَ مُعَافَى.

فاللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.

 

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مَعْنَى الزَّكَاةُ
  هَلِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ أَمِ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ؟
  مِنَ الثَّمَرَاتِ الْعَظِيمَةِ لِلزَّكَاةِ: تَحْقِيقُ التَّكَافُلِ وَالتَّوَازُنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ والطَّهَارَةِ
  الرَّسُولُ ﷺ هُوَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ
  الِاسْتِغْفَارُ عَقِيبَ الطَّاعَاتِ وَحِكْمَتُهُ
  الْمَوْعِظَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعُشْرُونَ : ((الْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ))
  رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ مِنْ هَدْيِ الْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهُمُ السَّلَامُ-
  ذِكْرُ اللهِ حَيَاةٌ..
  فَسَادُ الْمُجْتَمَعَاتِ يَكُونُ بِسَبَبِ فَسَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأُسَرِ
  سِمَاتُ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ
  الدَّرْسُ الْأَوَّلُ: رَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ وَالصِّيَامِ
  تَحْرِيمُ النَّبِيِّ ﷺ امْتِهَانَ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ
  مِنْ مَعَانِي الْخِيَانَةِ
  أَسْبَابُ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَاصَّةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان