وَظِيفَةُ دِينِ اللهِ فِي الْحَيَاةِ


((وَظِيفَةُ دِينِ اللهِ فِي الْحَيَاةِ))

عِبَادَ اللهِ! لَمْ يَصِحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَّا عُمُومُ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ خَلَا مَا كَانَ مُشْرِكًا أَوْ كَانَ مُشَاحِنًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُحِبُّ إِلَّا مَنْ كَانَ صَدُوقَ اللِّسَانِ، مَخْمُومَ الْقَلْبِ، لَا إثمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ؛ لِأَنَّ الدِّينَ مَا أَتَى إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغَيِّرَ النَّاسَ.

فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَاجِزًا بِالدِّينِ عَنِ التَّغْيِيرِ؛ فَأَيَّ شَيْءٍ أَفَادَهُ الدِّينُ إِذَنْ؟!!

إِنَّمَا وَظِيفَةُ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ أَنْ يُغَيِّرَ الْمَرْءَ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالٍ وَانْحِرَافٍ، وَسُوءِ سِيرَةٍ، وَسُوءِ طَوِيَّةٍ، وَسُوءِ قَصْدٍ, يُغَيِّرَهُ الدِّينُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَاهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

فَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ التَّغْيِيرِ؛ فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ: فَأْيَّ شَيْءٍ أَفَادَهُ دِيْنُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَبِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ دِيْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اسْتَفَادَ وَانْتَفَعَ؟!!

*أَثَرُ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ عَلَى الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-:

أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ فَقَدْ كَانَتْ أَهْوَاؤُهُمْ الْغَرَزِيَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَرْكُوزَةٌ فِي طَبَائِعِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَاحِدُ مَعَهَا حِيْلَةً, وَلَا يَسْتَطِيعُ لَهَا دَفْعًا, وَإِنَّمَا يَسِيرُ عَلَى مُقْتَضَاهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَثْرِيبٍ عَلَيْهِ وَلَا لَوْمٍ لِفِعْلِهِ, وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُوُاخَذًا عَلَى شَيْءٍ يَأْتِي بِهِ مِمَّا جَرَتْ بِهِ جِبِلَّتُهُ فِي أَمْرِ مَطْعُومٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَا أَشْبَهَ مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَلَالًا فِي دُنْيَا اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

بَلْ يَضْرِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَثَلَ فِيهِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ إِذْ قُدِّمَ لَهُ ضِبَابٌ -جَمْعُ (ضَبٌ) وَهُوَ حَيَوَانٌ جَبَلِيٌّ مُعَقَّدُ الذَّنَبِ- فَقُدِّمَ إِلَيْهِ ذَلِكَ عَلَى مَائِدَتِهِ ﷺ.

فَلَمَّا هَمَّ بِأَنْ يَهْوِيَ إِلَى ذَلِكَ آخِذًا بِهِ، قَالَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دَاخِلٍ -وَكَانَ مَعَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا- قَدْ تَحَلَّقُوا حَوْلَ طَعَامِ نَبِيِّهِم ﷺ فَأَتَى الصَّوْتُ: أَلَا تُخْبِرُونَ النَّبِيَّ ﷺ بِمَا هُوَ آكِلٌ؟

فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟

قَالُوا: هَذِهِ ضِبَابٌ يَا رَسُولَ الله؛  فَرَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ وَتَنَحَّى جَانِبًا, كَانَ خَالِدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ خَالَتِهِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: حَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

فَقَالَ: ((لَا، وَلَكِنَّهُ طَعَامٌ لَمْ أَجِدْهُ بِدِيارِ قَوْمِي؛ فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ)) .

فَأَجِدُ نَفْسِي تَكْرَهُهُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَعْتَدْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَتَعَوَّدْ عَلَى النَّظَرِ إِلَى مِثْلِهِ فَضْلًا عَنِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ طَاعِمًا وَآكِلًا-.

وَحِينَئِذٍ لَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ مَنْ لَا يَعَافُهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا امْتَنَعَ عَنْهُ لَا مِنْ أَجْلِ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا مِنْ أَجْلِ الطَّبْعِ وَالْجِبِلَّةِ، وَأَنَّهُ يَعَافُهُ -لَا أَكْثَرَ-، أَهْوَى إِلَيْهِ خالدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَأَكَلَهُ -رَضِيَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.

إِذَنْ؛ أَمْرُ الْجِبِلَّةِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ مُحْتَرَمٌ فِي الشَّرْعِ, وَمَعَ ذَلِكَ تَجِدُ أَصْحَابَ نَبِيِّنَا ﷺ تَسْتَقِيمُ غَرَائِزُهُمْ.. تَسْتَقِيمُ جِبِلَّاتُهُمْ عَلَى جِبِلَّةِ مُحَمَّدٍ, وَهِيَ أَعْدَلُ فِطْرَةٍ قَضَاهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلْقًا قطُّ ﷺ.

وَهَذَا أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ))، وَإِنَّمَا كَانَ يُعَافُهَا وَيَكْرَهُهَا, وَإِذَا مَا طُبِخَتْ فِي بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ - وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ - رُبَّمَا لَمْ يَقْرُبِ الْبَيْتَ حَتَّى تَذْهَبَ رَائِحَتُهَا طُرًّا, وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ: ((وَلَكِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُحِبُّهَا وَيَتَتَبَّعُهَا فِي جَوَانِبِ الصَّحْفَةِ فِي جَوَانِبِ الْقَصْعَةِ -كَانَ النَّبِيُّ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ وَيَتَتَّبَّعُهَا ﷺ فِي جَوَانِبِ الْقَصْعَةِ- قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ  وَعَلِمْتُهُ صِرْتُ أُحِبُّهَا, فَهِيَ مِنْ أَحَبِّ الْأَكْلِ إِلَيَّ, مِنْ أَحَبِّ الطَّعَامِ إِلَيَّ)) .

فَانْظُرْ كَيْفَ اسْتَقَامَتِ الْفِطْرَةُ هَاهُنَا عَلَى الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ أَعْدَلِ فِطْرَةٍ قَطُّ وَهِيَ فِطْرَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ إِلْزَامٍ, وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَقَرَّبًا بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَإِنَّمَا هِيَ الْمَحَبَّةُ.

وَإِنَّمَا هِيَ الْمَحَبَّةُ تَتَغَلْغَلُ فِي ثَنَايَا ذَرَّاتِ خَلَايَا الْبَدَنِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْأَمْرُ عَلَى أَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْأَكْبَرِ وَعَلَى أَمْرِ الْمُحَبِّ الْأَعْظَمِ ﷺ, وَحِينَئِذٍ تَقْتَرِبُ فِطْرَةٌ مِنْ فِطْرَةٍ, وَتَسْتَقِيمُ قَدَمٌ عَلَى قَدَمٍ, وَحِينَئِذٍ تَسْتَقِيمُ الْجَادَّةُ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا وَلَا يَضِلُّ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ, كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَأَثَّرُونَ مُحَمَّدًا ﷺ, وَيَتَتَبَّعُونَ أَحْوَالَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﷺ -وَرَضِيَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمْ-.

فَلَا تُصَدِّقْ أَبَدًا أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِفَ النَّبِيَّ عَامِدًا, وَلَا تُصَدِّقْ أَبَدًا -فَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ التَّصْدِيقِ وَأَوْغَلُ فِي الْخَيَالِ وَفِي أَوْدِيَةِ الْوَهَمِ- لَا تُصَدِّقْ أَبَدًا أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَلْصَقَ بِالدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَوِ اقْتَصَّ مُنْقِصًا مِنَ الدِّينِ مَا هُوَ فِيهِ فَذَلِكَ كَذَلِكَ -أَيْ: الزِّيَادَةُ فِي الدِّينِ وَالْحَذْفُ مِنْهُ- حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ.

وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ أَكْرَمُ وَأَعْلَى كَعْبًا، وَأَنْقَى صَدْرًا، وَأَصْفَحُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ لَا يَقْرَبُونَهَا أَبَدًا.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اخْتَارَهُمْ لِمُحَمَّدٍ ﷺ, تَرَكُوا مَا تَرَكَ, وَأَخَذُوا بِمَا أَخَذَ, وَتَكَلَّمُوا بِمَا قَالَ, وَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ, وَنَصَحُوا الْأُمَّةَ, فَرِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

أَسْأَلُ اللهَ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ - أَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

المصدر:مَا صَحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ
  مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَّةِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ
  حِكَمُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ
  عِلَاجُ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ وَالِانْحِرَافِ الْأَخْلَاقِيِّ فِي كَلِمَتَيْنِ: عِيشُوا الْوَحْيَ الْمَعْصُومَ
  آثَارُ التَّفْرِيطِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  الْمَقَاصِدُ الْعُظْمَى لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  وَسَائِلُ سَلَامَةِ الْقَلْبِ
  مَعَانِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَحُكْمُهُمَا
  وَقْفَةٌ مَعَ النَّفْسِ فِي غَمْرَةِ الْفِتَنِ الْحَالَّةِ
  إِقَامَةُ الدُّنْيَا وَتَعْمِيرُهَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ والطَّهَارَةِ
  حُرْمَةُ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ
  لِمَنْ تَكُونُ الْبَيْعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟
  الْجِهَادُ الشَّرْعِيُّ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  المَوْعِظَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ : ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْأَحْدَاثِ وَالِانْتِصَارَاتِ الْعَظِيمَةِ))
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان