((سُبُلُ مُقَاوَمَةِ الشَّائِعَاتِ شَرْعِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا))
إِنَّ الْإِشَاعَةَ سِلَاحٌ يَسْتَخْدِمُهُ الْعَدُوُّ فِي الدَّاخِلِ وَفِي الْخَارِجِ عَلَى السَّوَاءِ، فَمَا هِيَ مُضَادَّاتُهُ؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تُدْفَعَ شُرُورُهُ؟
إِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ تَمِيلُ دَوْمًا إِلَى تَنْظِيمِ الْمَعْلُومَاتِ بِطَرِيقَةٍ تُحَقِّقُ أَكْبَرَ قَدْرٍ مِنَ الْوُضُوحِ وَالِانْتِظَامِ وَالْكَمَالِ، وَعِنْدَمَا يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ خَبَرًا غَامِضًا يَمِيلُ فَوْرًا إِلَى تَبْسِيطِهِ لِيَكُونَ وَاضِحًا، وَفِي حَالِ عَدَمِ تَوَفُّرِ مَعْلُومَاتٍ كَافِيَةٍ لِذَلِكَ، يَمِيلُ إِلَى سَدِّ هَذِهِ الثُّغْرَةِ وَتَعْوِيضِ هَذَا النَّقْصِ فِي الْمَعْلُومَاتِ.
وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَحْصِيلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَوْثُوقَةِ؛ يَسْتَعِينُ بِمَصَادِرَ أُخْرَى مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْمُجْتَمَعِ، أَوْ مِنْ وَكَالَاتِ الْأَنْبَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَغَيْرِهَا؛ مِنْ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَهَذِهِ الْأَوْسَاطُ كُلُّهَا قَدْ تَكُونُ بُؤَرًا لِبَثِّ الْأَخْبَارِ الْمُلَفَّقَةِ الْكَاذِبَةِ وَتَرْوِيجِ الْإِشَاعَاتِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى نَتِيجَتَيْنِ سَيِّئَتَيْنِ هُمَا:
*الْأُولَى: تَصْدِيقُ الْإِشَاعَةِ أَوِ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ أَوَّلًا.
*وَالثَّانِيَةُ: الْمُشَارَكَةُ فِي نَشْرِ ذَلِكَ، وَتَوْسِيعُ دَائِرَةِ انْتِشَارِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ.
*الْوَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ لِمُعَالَجَةِ الْإِشَاعَةِ:
انْطِلَاقًا مِنَ الْمَفْهُومِ الْعِلْمِيِّ النِّفْسِيِّ الَّذِي مَرَّ، فَإِنَّ مُقَاوَمَةَ الْإِشَاعَةِ تَعْتَمِدُ بِشَكْلٍ رَئِيسٍ عَلَى:
أَوَّلًا: نَشْرُ الْحَقِيقَةِ أَوْ تَصْحِيحُ الْمَعْلُومَاتِ الْمَغْلُوطَةِ بِأُسْلُوبٍ يَتَّسِمُ بِالسُّهُولَةِ وَالْوُضُوحِ مَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَالِانْتِظَامُ فِي تَزْوِيدِ النَّاسِ بِالْمَعْلُومَاتِ أَوَّلًا بِأَوَّلٍ، مَعَ تَقْدِيمِ الْمَعْلُومَاتِ الْكَامِلَةِ حَوْلَ الْمَوْضُوعِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ الْخَصْمُ مَادَّةً لِإِشَاعَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْجَمَاهِيرِ، وَذَلِكَ بِمَا لَا يَتَعَارَضُ مَعَ مَبْدَأِ السِّرِّيَّةِ وَالْكِتْمَانِ وَالْحِفَاظِ عَلَى الْأَمْنِ الْقَوْمِيِّ.
ثَانِيًا: تَحْلِيلُ الْإِشَاعَةِ وَدِرَاسَتُهَا، ثُمَّ السَّعْيُ لِكَسْرِ حَلْقَةِ نَشْرِهَا، مَعَ كَشْفِ مُحَاوَلَاتِ التَّخْذِيلِ فِيهَا، وَتَتَبُّعِ سَيْرِهَا؛ لِلْوُصُولِ إِلَى مُرَوِّجِيهَا، وَكَشْفِ حَقِيقَتِهِمْ وَحَقِيقَةِ مُطْلِقِيهَا الْأَصْلِيِّينَ.
ثَالِثًا: التَّمَاسُكُ عَلَى الصَّعِيدِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَمَا يَنْتُجُ عَنْهُ مِنْ وَعْيٍ وَإِدْرَاكٍ، وَتَرَابُطٍ وَثِقَةٍ مُتَبَادَلَةٍ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ، مِمَّا يُؤَدِّي لِرَدِّ كُلِّ إِشَاعَةٍ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ؛ لِوَضْعِ الْحَلِّ الْمُنَاسِبِ لَهَا.
*السُّبُلُ الْقُرْآنِيَّةُ لِعِلَاجِ الْإِشَاعَاتِ:
الَّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ عِنْدَ سَمَاعِهِ مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَاعَاتِ وَالْأَخْبَارِ:
*أَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيِه الْمُسْلِمِ، وَهُوَ طَلَبُ الدَّلِيلِ الْبَاطِنيِّ الْوُجْدَانِيِّ، وَأَنْ يُنْزِلَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ وِحْدَةُ الصَّفِّ الدَّاخِلِيِّ: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12].
*وَأنْ يَطْلُبَ الدَّلِيلَ الْخَارِجِيَّ الْبُرْهَانيَّ: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13].
*وَأَلَّا يَتَحَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ وَلَا يَنْشُرَهُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ لَمَاتَتْ فِي مَهْدِهَا، وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُحْيِيهَا إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ: {ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16].
*وَأَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَلَا يُشِيعُ النَّاسُ بَيْنَ النَّاسِ الشَّائِعَاتِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ الْمُهِمَّةِ، وَالَّتِي لَهَا أَثَرُهَا الْوَاقِعِيُّ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83].
فَأَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ خَوْضَهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَإِذَاعَتَهُمْ لِأَخْبَارِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنُوا حَقِيقَتَهَا، وَيَتَأَمَّلُوا فِي آثَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهُمْ بِحَسَبِ فِقْهِهِمْ بِالشَّرْعِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْوَاقِعِ أَقْدَرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا، وَمَا يَنْبَغِي نَشْرُهُ وَإِعْلَانُهُ، وَمَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَنْهُ وَكِتْمَانُهُ.
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَعَامَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَعَ الْإِشَاعَاتِ:
*تَعَامَلَ الْقُرْآنُ مَعَ الْإِشَاعَاتِ بِالرَّدِّ الْحَاسِمِ السَّرِيعِ الَّذِي يُبَيِّنُ الْحَقِيقَةَ بِكُلِّ وُضُوحٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [هود: 13].
*تَعَامَلَ الْقُرْآنُ مَعَ الْإِشَاعَةِ بِتَنْمِيَةِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْوِيَةِ رَوَابِطِهِمْ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِوَضْعِ حَدٍّ فَاصِلٍ وَاضِحٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
*وَبِالتَّحْذِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْأَعْدَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].
*وَبِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، الَّذِينَ يَسْعَوْنَ دَوْمًا لِبَثِّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُفَتِّتُ الصُّفُوفَ، وَتُفَرِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُبْعِدُهُمْ عَنْ هَدَفِهِمْ، وَتَفُتُّ فِي أَعْضَادِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لأنفال: 49].
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
*وَبِالتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْدِيدِ الْإِشَاعَاتِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَوْ وَعْيٍ وَإِحَاطَةٍ بِأَبْعَادِهَا وَأَهْدَافِهَا: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 15-17].
*سُبُلٌ نَبَوِيَّةٌ لِمُقَاوَمَةِ الْإِشَاعَةِ:
كَيْفَ تَعَامَلَ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ الْإِشَاعَةِ؟
تَعَامَلَ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ الْإِشَاعَةِ بِبَثِّ الثِّقَةِ وَالْأَمَلِ وَالتَّفَاؤُلِ بِنَصْرِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَسْدِيدِهِ مَهْمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ، كَمَا فَعَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَدًّا عَلَى الشَّائِعَاتِ الْمُرْجِفَةِ الَّتِي كَانَ يُطْلِقُهَا الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
فَقَدْ كَانَ رَدُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى الْمُرْجِفِينَ بِمُخَاطَبَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: «أبشِرُوا بفَتْحِ اللهِ ونَصْرِهِ».
وَعَامَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْإِشَاعَةَ بِاسْتِنْفَارِ الطَّاقَاتِ، وَتَجْمِيعِ الْقُوَى وَالْإِمْكَانَاتِ حَوْلَ هَدَفٍ وَاحِدٍ مُحَدَّدٍ، مَعَ السُّرْعَةِ فِي اتِّخَاذِ الْإِجْرَاءَاتِ بَعْدَ أَيِّ إِشَاعَةٍ، وَقَبْلَ أَنْ تَفْعَلَ فِعْلَهَا الْمُدَمِّرَ فِي الصَّفِّ الْمُسْلِمِ.
فَكَانَ ﷺ يُوَجِّهُ حَالَاتِ الِاسْتِفْزَازِ وَالِاحْتِقَانِ نَحْوَ الْإِيجَابِيَّةِ وَالِاسْتِثْمَارِ الْأَمْثَلِ، قَبْلَ أَنْ تَتَوَجَّهَ بِشَكْلٍ ارْتِجَالِيٍّ عَشْوَائِيٍّ نَحْوَ أَهْدَافٍ أُخْرَى غَيْرِ مَحْسُوبَةِ النَّتَائِجِ؛ كَمَا حَصَلَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَّةِ بَعْدَ أَنْ سَرَتْ إِشَاعَةٌ تُفِيدُ بِأَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ بِمَكَّةَ -قَتَلَتْهُ قُرَيْشٌ-.
فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ الَّتِي كَانَتْ بَيْعَةً عَلَى الْمَوْتِ، فَوَجَّهَ بِذَلِكَ الطَّاقَاتِ، وَرَفَعَ مِنَ الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَثْمَرَهَا بِشَكْلٍ مُنَظَّمٍ وَهَادِفٍ.
وَعَامَلَ الشَّائِعَاتِ بِإشْغْالِ النَّاسِ بِأَمْرٍ مُفِيدٍ رَيْثَمَا تَتَهَيَّأُ الْأَحْوَالُ لِوَضْعِ الْحُلُولِ الْمُنَاسَبَةِ لِبَعْضِ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي قَدْ تَشْغَلُ الْمُجْتَمَعَ، وَتُحَاوِلُ تَفْتِيتَهُ، كَمَا حَصَلَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عِنْدَمَا أَطْلَقَ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبِيِّ بْنِ سَلُولٍ إِشَاعَتَهُ وَفِرْيَتَهُ الَّتِي بَدَأَتْ تَسْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ قَالَ: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8].
فَمَشَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ﷺ؛ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ -مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبِيِّ-.
تُعَامَلُ الشَّائِعَاتُ بِمَنْعِ إِطْلَاقِهَا أَوِ الْمُشَارَكَةِ فِي نَشْرِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً؛ دَرْءًا لِخَلْخَلَةِ الْمُجْتَمَعِ وَالصَّفِّ الْمُسْلِمِ أَوِ التَّأْثِيرِ عَلَى الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَمَا حَصَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ﷺ.
فَقَالَ -وَائِدًا لِتِلْكَ الشَّائِعَةِ فِي مَهْدِهَا-: «لَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَاضِ النَّاسِ»؛ يَعْنِي: لَا تَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا.
*وَتُعَامَلُ الشَّائِعَاتُ بِالصَّمْتِ، وَعَدَمِ الْخَوْضِ فِيهَا: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».
فَالْإِنْسَانُ لَا يَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ شَيْئًا، كَمَا يَخْسَرُ حِينَ يَخُوضُ فِيمَا لَا يُحْسِنُهُ أَوْ يَتَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ.
وَفِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»: عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَا تَكُونُوا عُجُلًا مَذَايِيعَ بُذْرًا، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ بَلَاءً مُبَرِّحًا مُبْلِحًا وَأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً رُدُحًا». وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
((لَا تَكُونُوا عُجُلًا)): جَمْعُ عَجُولٍ، لَا تَكُنْ عَجُولًا، كُنْ حَلِيمًا ذَا أَنَاةٍ، كُنْ وَرِعًا مُتَثَبِّتًا، وَالْعَجَلَةُ دَاءٌ عَظِيمٌ، وَالْمُؤْمِنُ ذُو تَثَبُّتٍ وَأَنَاةٍ.
((لَا تَكُونُوا عُجُلًا مَذَايِيعَ)): مَذَايِيعَ: جَمْعُ مِذْيَاعٍ، وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي نَشْرِ الْأَخْبَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُشِيعُونَ الْفَاحِشَةَ، وَمَذَايِيعُ: بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ، كُلَّمَا سَمِعَ كَلَامًا رَدَّدَهُ وَبَثَّهُ وَأَذَاعَهُ.
((بُذْرًا)): جَمْعُ بَذُورٍ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُمَ سِرَّهُ، يَعْنِي الْمُفْشِينَ لِلْأَسْرَارِ، يُقَالُ: بَذَرْتُ الْكَلَامَ بَيْنَ النَّاسِ، أَيْ: أَفْشَيْتَهُ وَفَرَّقْتَهُ0
((مُبرِّحًا)): مِنَ الْبَرَحِ، وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالشَّرُّ، وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ، وَالْمَشَقَّةُ.
((بَلَاءً مُبَرِّحًا)): أَيْ شَدِيدًا بَاقِيًا
((مُبلِحًا)): مِنْ بَلَحَ الرَّجُلُ بُلُوحًا إِذَا أَعْيَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: ((مُكْلِحًا)): أَيْ يَكْلَحُ النَّاسَ؛ لِشِدَّتِهِ، وَالْكُلُوحُ: الْعُبُوسُ.
((وَأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً)): أَيْ فِتَنًا طَوِيلَةَ الْمَدَى، وَالْمُتَمَاحِلُ مِنَ الرِّجَالِ: الطَّوِيلُ
((رُدُحًا)): جَمْعُ رَدَاحٍ، وَهُوَ الْجَمَلُ الْمُثْقَلُ حِمْلًا، يُرِيدُ الْفِتَنَ الثَّقِيلَةَ الْعَظِيمَةَ.
أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلُوا فِي إِذَاعَةِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَخْبَارِ وَالْفَوَاحِشِ، وَلَا تُفْشُوا الْأَسْرَارَ، فَهُنَاكَ بَلَاءٌ شَدِيدٌ شَاقٌّ يَنْتَظِرُكُمْ، وَفِتَنٌ ثَقِيلَةٌ تَتَرَقَّبُكُمْ، فَلَا تُسْهِمُوا فِي صُنْعِ الْفِتَنِ وَالرَّزَايَا.
فَحَذَارِ أَنْ تَكُونُوا عَيَّابِينَ بِإشَاعَةِ وَإِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ الرُّجُوعُ عَنْهَا، وَلَا تَزْدَادُ الْفِتَنُ بِهَا إِلَّا تَوَقُّدًا وَشِدَّةً.
وَفِي الْأَثَرِ: النَّهْيُ عَنْ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَإِفْشَاءِ أَسْرَارِ النَّاسِ، فَإِذَا ذَكَرْتَ عُيُوبَ النَّاسِ وَأَشَعْتَ الْفَاحِشَةَ، وَكُنْتَ عَجُولًا لَا تَتَثَبَّتْ، فَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ وَرَائِكَ بَلَاءً مُبَرِّحًا مُبْلِحًا، وَأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً رُدُحًا، وَسَتَأْتِي فِتَنٌ عَظِيمَةٌ ثَقِيلَةٌ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَا يُقَالُ فِي زَمَانِ الْفِتَنِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمُخْتَلَقَاتِ مِنَ التُّرَّهَاتِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا، فَلَا يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يَسْمَعُ، فَمَا أَكْثَرَ الْكَذِبِ فِي النَّاسِ.
وَمَا أَحْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ بِالْتِزَامِ هَذَا النَّهْجِ الشَّرِيفِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ مُقْتَبِسٌ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَثَبَّتَ، وَلَا يَقُولَ وَلَا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ»، وَأَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ».
«وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُشِيعُونَ كُلَّ مَا يَسْمَعُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَدُورُونَ بِهِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ وَالنَّوَادِي، بَلْ إِنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ قَدْ غُنُوا عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَصْرِ؛ لِمَا سَبَقَتِ الشِّقْوَةُ عَلَيْهُمْ.
فَإِنَّ الْوَاحِدَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْوَتِهِ مُخَاطِبًا الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَيَنْشُرُ الْأَكَاذِيبَ، وَيُشِيعُ الْفَاحِشَةَ فِي الدُّنْيَا بِأَرْجَائِهَا عَنْ طَرِيقِ الْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالِاتِّصَالَاتِ» .
*سُبُلُ مُعَالَجَةِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالصَّالِحِينَ لِلْإِشَاعَةِ:
الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْأَخْيَارِ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا مَعَ الْإِشَاعَةِ بِالْإِيمَانِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ زَعْزَعَتُهُ، وَبِأَنَّ الْعَلَاقَةَ مَعَ اللهِ تَفُوقُ كُلَّ عَلَاقَةٍ، وَأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَسَاسُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وَعَامَلَ الصَّحَابَةُ وَالْأَخْيَارُ مِنْ بَعْدِهِمُ الشَّائِعَاتِ بِالتَّمَاسُكِ وَالتَّلَاحُمِ، وَالثِّقَةِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبِإِخْوَانِهِمْ، وَبِقَادَتِهِمْ، وَرُؤَسَائِهِمْ، وَبِالْوَعْيِ التَّامِّ لِلْمُخَطَّطَاتِ -مُخَطَّطَاتِ الْعَدُوِّ وَالْمُرْجِفِينَ-، وَبِمُحَاكَمَةِ الْإِشَاعَاتِ بِمَوْضُوعِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ وَمَنْطَقٍ سَلِيمٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ((السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ)) بَعْدَ خَبَرِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَا أَبَا أَيُّوبَ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟))
قَالَ: ((بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتِ أَنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَةً؟))
قَالَتْ: ((لَا، وَاللهِ، مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ)).
قَالَ: ((فَعَائِشَةُ، وَاللهِ خَيْرٌ مِنْكِ)) .
انْظُرْ كَيْفَ فَنَّدَ هَذِهِ الْفِرْيَةَ بِهَذَا الْمَنْطِقِ السَّدِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ مِنَ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ، وَأَلَّا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ, وَأَنْ يَرُدَّهَا إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَلِهَذَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((كَيْفَ بِكُمْ بِزَمَانٍ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، -أَيْ: اختَلَطَتْ وَفَسَدَتْ- وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، فَاخْتَلَفُوا وَكَانُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)).
قَالُوا: كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ)) . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَالْأَخْبَارُ الَّتِي تُنْقَلُ عَبْرَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّحُفِ وَالْمَجَلَّاتِ, وَوَسَائلِ الْإِعْلَامِ, وَوَسَائلِ الِاتِّصَالِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَصَادِرَ لَيْسَتْ مَحَلَّ ثِقَةٍ، وَأَيْضًا غَالِبُ الْكُتَّابِ عِنْدَهُمْ أَفْكَارٌ دَخِيلَةٌ وَاتِّجَاهَاتٌ مُنْحَرِفَةٌ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَالْأَخْطَاءُ الَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ فُلَانٍ الْمَعْرُوفِ؛ تُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا لَمْ تُعَارَضْ بِأَقْوَى مِنْهَا، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتْ ثِقَتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمحِيصِ خَبَرِهِ، وَالتَّحَرِّي فِيهِ بِمَا يُؤدِّي إِلَى قَبُولِ خَبَرِهِ أَوْ رَدِّهِ.
وَهَذِهِ الضَّوَابِطُ تَقصِمُ ظُهُورَ الْمُرَوِّجِينَ لِلْفِتَنِ، الْمُذِيعِينَ لِلشَّائِعَاتِ، السَّاعِينَ فِي الْفُرْقَةِ، فَتَسُدُّ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ, وَتُغْلِقُ دُونَهُمُ الْأَبْوَابَ, وَتُفَوِّتُ عَلَيْهِمُ الْفُرَصَ الَّتِي يَنْتَظِرونَهَا, وَالِالْتِزَامُ بِتِلْكَ الضَّوَابِطِ شَاقٌّ جِدًّا إِلَّا عَلَى مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى وَثَبَّتَهُ.
والشَّائِعَاتُ إِذَا حُوصِرَتْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَإنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُتَفَادَى آثَارُهَا السَّيِّئَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا, وَلِكِنْ لَيْسَ الْإِشْكَالُ فِي هَذَا, بَلِ الْإِشْكَالُ أَنَّ هُنَاكَ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْبَلُونَ أَنْ يَسْتَمِعُوا لِمِثْلِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ.
هَذَا فَضْلًا عَنْ فَرِيقٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ الْمَرِيضَةِ الَّتِي تُحِبُّ الْبَحْثَ وَنَشْرَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ, وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَولِهِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]؛ أَيْ: لِلْمُنَافِقِينَ الْمُغْرِضِينَ, هَذَا هُوَ الدَّاءُ الْكَبِيرُ, وَهُوَ أَنْ يَرْضَى فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ الِاسْتِمَاعَ إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الشَّائِعَاتِ, وَإِلَى كَلَامِ الْمُنافِقِينَ وَالْمُغْرِضِينَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَوْ خَرَجُوا فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مَا زَادُوهُمْ إِلَّا خَبَالًا، وَلَكَانُوا يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمْ مُسْرِعِينَ، يَطْلُبُونَ لَهُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، إِمَّا لِظَنٍّ مُخْطِئٍ، أَوْ لِنَوْعٍ مِنَ الْهَوَى أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا)).
لِذَلكَ فَعَدَمُ سَمَاعِ مَا يَقولُهُ الْكَذَّابُونَ وَالْمُنَافِقُونَ, وَالْمُغتَابُونَ وَالْمُفتَرُونَ, وَأَصْحَابُ الْقُلُوبِ الْمَريضَةِ، وَعَدَمُ الرِّضَا بِذَلِكَ؛ هُوَ مَنْهَجُ السَّلَفِ -رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ-.
وَالْفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ الْعُقَلَاءُ فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ، فَصَارَ الْأَكَابِرُ عَاجِزِينَ عَنْ إِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ، وَكَفِّ أَهْلِهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وَإِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- )) .
المصدر: خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ