التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ لِرَفْعِ شَأْنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ


التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ لِرَفْعِ شَأْنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ

بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ, وَطَالِبُ مَالٍ)).

إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي عَقَدَتْ رَجَاءَهَا عَلَى رَبِّهَا بِأَخْذِ شَبَابِهَا بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ تَحْصِيلًا وَإِعْمَالًا لَهَا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِتَعُودَ لِلْأُمَّةِ رِيَادَتُهَا, وَلِيَعُودَ لِلْأُمَّةِ سَبْقُهَا بِفَضْلِ رَبِّهَا, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يُؤَثَّرُ فِيهِ وَلَا يُؤَثِّرُ, وَيَتَأَثَّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يَكُونُ الطَّمَعُ فِيهِ قَائِمًا, وَلِأَنَّ الشَّرَّ مَتَى مَا وَجَدَ الْحَقَّ مُتَهَاوِنًا؛ عَدَا عَلَيْهِ بجُنْدِهِ وَرَجِلِهِ وَخَيْلِهِ, وَحَاوَلَ أَنْ يَئِدَهُ فِي مَهْدِهِ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَنَا بِإِعْدَادِ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ -أَمَرَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ-, وَالْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَتَى مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنِ الْوُجُوبِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لِلْوُجُوبِ؛ فَهُوَ إِذًا أَمْرٌ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِذَا مَا فَرَّطَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ عَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الدُّنْيَا بِذُلٍّ وَخَسْفٍ وَمَهَانَةٍ وَإِحْبَاطٍ, وَعَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا فَرَّطَتْ فِيهِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ وَالْأَخْذِ بِتَنْفِيذِ الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ حَالَ الْعَالَمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَهُ, وَيَعْلَمُ حَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ حَالٍ وَحِينٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يُنَادُونَ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ:

أَيْنَ أَنْتَ يَا صَلَاحَ الدِّينِ؟!

وَهَذَا وَهْمٌ كَبِيرٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ عَصْرٍ دَوْلَةً وَرِجَالا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بَعَثَ الرَّجُلَ الْمُجَاهِدَ الصَّالِحَ رَحِمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, فَقَامَ فِي الْأُمَّةِ الْيَوْمَ, فَإِنَّهُ لَنْ يُجَيِّشَ الْجُيُوشَ عَلَى سَهْمٍ وَسَيْفٍ، وَلَا عَلَى رُمْحٍ وَخَيْلٍ, وَإِنَّمَا سَيَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ مُتَبَصِّرًا, وَيَنْظُرُ فِي  أَحْوَالِ الْعَالَمِ مُعْتَبِرًا.

ثُمَّ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَسْبَابَ الْقُوَّةِ الَّتِي عَقَدَتِ الْأُمَّةُ رَجَاءَهَا فِي رَبِّهَا عَلَى شَبَابِهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا لَهَا مُحَصِّلِينَ وَلَهَا مُهْتَدِينَ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَذَا الَّذِي يَبْدَؤُونَهُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ الَّذِي يَأْخُذُونَ فِيهِ بِأَسْبَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الدَّرْسِ, وَبَذْلِ الْجُهْدِ وَالْمَجْهُودِ فِي التَّحْصِيلِ مِنْ غَيْرِ مَا شَقٍّ لِلْحَنَاجِرِ فِي هُتَافٍ وِبُهَتَافٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَبْدِيدٌ لِلطَّاقَاتِ, وَتَضْيِيعٌ لِلْأَوْقَاتِ, ثُمَّ يَبْقَى الْعِلْمُ يَتِيمًا لَيْسَ لَهُ مِنْ أَبٍ يَرْعَاهُ, وَلَا أُمٍّ يُمْكِنُ أَنْ تَحُوطَهُ بِعِنَايَةٍ وَلَا رِعَايَةٍ وَلَا كَلَاءَةٍ, وَيَبْقَى الْعِلْمُ مَهْجُورًا لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.

*التَّوَازُنُ الدَّقِيقُ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْعِلْمِ الْمَادِّيِّ:

وَأَعْلَمُ أَنَّ إِشْكَالًا عَظِيمًا يَقَعُ فِي أَذْهَانِ وَقُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ شَبَابِنَا الصَّالِحِينَ, أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَبْدَؤُوا حَيَاتَهُمْ بِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ, وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُمْ بِمَقَادِيرَ كَانُوا يَرْجُونَهَا أَنْ يُقْبِلُوا مُتَوَفِّرِينَ عَلَى دَرْسِ دِينِهِمْ, وَمَعْرِفَةِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، فَسَاقَتْهُمْ مَقَادِيرُهُمْ إِلَى حَيْثُ يَدْرُسُونَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الَّذِي هُمْ لَهُ هَاجِرُونَ, وَعَلَيْهِ غَيْرُ مُقْبِلِينَ.

هَذَا الَّذِي يَقَعُ مِنْ هَذَا الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الِاتِّزَانِ بِالذَّبْذَبَةِ مَا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ وَتَهْفُو إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ، وَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ دَفْعًا, وَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ تَغْيِيرًا؛ فَيَنْصَرِفُونَ عَمَّا هُمْ بِهِ مُكَلَّفُونَ، وَعَمَّا أَرْسَلَهُ أَهْلُوهُمْ إِلَيْهِ رَاغِبِينَ طَائِعِينَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ سَابِقِينَ, يَدَعُونَ ذَلِكَ جَانِبًا, يَجْعَلُونَهُ دَبْرَ الْآذَانِ, وَتَحْتَ الْأَقْدَامِ, وَوَرَاءَ الْأَظْهُرِ -يَتَّخِذُونَهُ ظِهْرِيًّا-, ثُمَّ يُقْبِلُونَ عَلَى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَنَّهُ إِنَّمَا يُطْلَبُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ، وَعِنْدَئِذٍ يَتَوَرَّطُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَتَاهَاتٍ لَا مَخْلَصَ مِنْهَا وَلَا مَنْجَى.

وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَا دَامَ قَدْ حَصَّلَ الْعِلْمَ الْفَرْضَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَعِبَادَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسُلُوكِهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَى مَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ, وَعَمَّا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَنْ تَكُونَ بِجَمْعِهَا وَفِي مَجْمُوعِهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَحْذِقُونَ الْعِلْمَ الْكِفَائِيَّ, وَيُؤَدُّونَهُ إِلَى الْأُمَّةِ، بَلْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأُمَّةَ أَمْرًا وَاضِحًا: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122], فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْعِلْمِ الْكِفَائِيِّ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمَ أَنْ يُفَرِّطَ فِيهِ لَحْظَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَيَنْبَغِي إِذَا مَا حَصَّلَهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مَا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ, وَلَا يَتَوَرَّطُ فِي الْوُقُوعِ بِالذَّبْذَبَةِ بَيْنَ غَايَتَيْنِ يَظَلُّ كَبندُولِ السَّاعَةِ رَائِحًا وَغَادِيًا بَيْنَهُمَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلَ إِلَى نِهَايَةٍ مَحْمُودَةٍ, وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْقَى عَلَى قَرَارٍ مَكِينٍ, وَإِنَّمَا هُوَ الْخَبْطُ فِي أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ، فَلَا يَصِلُ بَعْدَ أَمَدٍ مُتَطَاوِلٍ لَا إِلَى عِلْمٍ شَرْعِيٍّ حَصَّلَهُ, وَلَا إِلَى عِلْمٍ مَادِّيٍّ نَفَعَ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ بَعْدِ مَا حَصَّلَ الْيَقِينَ بِفَضْلِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَتَعْلَمُونَ حَفِظَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ خَالدًا رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْفَارِسُ الَّذِي لَمْ يُهْزَمُ قَطُّ, وَالْقَائِدُ الَّذِي لَمْ يُغْلَبْ أَبَدًا، لَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ - لَمْ يَكُنْ أَقْرَأَ الْأَصْحَابِ, وَلَمْ يَكُنْ أَعْلَمَهُمْ بِالْفَرَائِضِ, وَلَمْ يَكُنْ أَثْبَتَهُمْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَإِحَاطَةً بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مَجَالِهِ سَابِقًا, وَكَانَ حَيْثُ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَائِدًا مُسْتَفْرِغًا لِلْجَهْدِ فِيمَا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ.

*رِسَالَةٌ إِلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ: تُبْنَى الْأَوْطَانُ الْقَوِيَّةُ عَلَى الْعِلْمِ:

يَا طُلَّابَ الْعِلْمِ؛ لَقَدِ ائْتَمَنُكُمْ آبَاؤُكُمْ وَأُمَّهَاتُكُمْ عَلَى مُسْتَقْبَلِكُمْ، وَبَذَلُوا لَكُمُ الْمَالَ وَالْمَجْهُودَ فَلَا تَخُونُوهُمْ، وَائْتَمَنَتْكُمْ جَامِعَاتُكُمْ وَكُلِّيَّاتُكُمْ عَلَى مَبَانِيهَا وَمُنْشَأَتِهَا وَمَعَامِلِهَا وَمُدَرَّجَاتِهَا وَأَثَاثِهَا؛ فَلَا تُخَرِّبُوهَا.

وَائْتَمَنَكُمْ وَطَنُكُمْ وَبَذَلَ لَكُمْ وَتَكَفَّلَ بِكُمْ؛ فَلَا تُضَيِّعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا كُلَّ نَاعِقٍ، وَاتَّقُوا الله تَعَالَى فِي وَطَنِكُمْ وَلَا تَخُونُوهُ.

فَالْخِيَانَةُ: هِيَ الِاسْتِبْدَادُ بِمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْحُرَمِ، وَتَمَلُّكُ مَا يُسْتَوْدَعُ، وَمُجَاحَدَةُ مُودِعِهِ.

وَهِيَ أَيْضًا: طَيُّ الْأَخْبَارِ إِذَا نُدِبَ لِتَأْدِيَتِهَا، وَتَحْرِيفُ الرَّسَائِلِ إِذَا تَحَمَّلَهَا فَصَرَفَهَا عَنْ وُجُوهِهَا.

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: هِيَ التَّفْرِيطُ فِي الْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَخِيَانَةُ الْأَعْيُنِ: مَا تَسَارَقُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ)).

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْخِيَانَةُ: التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَنَقِيضُهَا الْأَمَانَةُ)).

فَيَا طُلَّابَ الْجَامِعَاتِ: اِتَّقُوا اللهَ وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: الْغَدْرُ وَإِخْفَاءُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19])).

وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَانَةِ:

فَقَدْ عَدَّهَا الْأَئِمَّةُ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»، وَلِقَوْلِهِ ﷺ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».

وَقَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-فِي عَدِّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ-: ((الْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبَعْضُهَا شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ مَنْ خَانَكَ فِي فَلْسٍ كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَارْتَكَبَ الْعَظَائِمَ)).

وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ؛ فَقَدْ ذَكَرَ: أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي الْأَمَانَاتِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَالَ: ((عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ)).

فالْخِيَانَةُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالذُّنُوبَِ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَكُونَ مِنْهَا بِمَنْأَى وَعَنْهَا بِمَبْعَدَةٍ.

فَأَمَّا إِذَا مَا ائْتَمَنَ الْإِنْسَانَ وَطَنُهُ عَلَى مُمْتَلَكَاتِهِ فَخَرَّبَهَا وَدَمَّرَهَا وَحَرَّقَهَا وَأَتْلَفَهَا؛ فَهَذِهِ الْمُمْتَلَكَاتُ تَتَعَلَّقُ بِهَا ذِمَمُ الْجَمِيعِ، وَإِتْلَافُ الْمَالِ الْعَامِّ لَا مَخْلَصَ مِنْهُ وَلَا مَخْرَجَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَرُّطٌ فِي إِثْمٍ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ ذِمَّةٍ مِنَ الذِّمَمِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فِي هَذَا الْوَطَنِ إِلَّا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ الْعَامِّ، فَمَنْ أَتْلَفَهُ، مَنْ خَرَّبَهُ، مَنْ حَرَّقَهُ، مَنْ دَمَّرَهُ؛ فَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِهِ هَذَا ذِمَمُ الْجَمِيعِ؛ فَأَنَّى يُوَفِّيهَا؟!

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبَشِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا أَبْنَاءَنَا، اُتْرُكُوا الْمُنَاقَشَاتِ الْحِزْبِيَّةَ وَالْخِلَافَاتِ السِّيَاسِيَّةَ لِأَهْلِهَا، الْمُضْطَلِعِينَ بِهَا، الْمُنْقَطِعِينَ لَهَا، وَدَعُوا كُلَّ قَافِلَةٍ تَسِيرُ فِي طَرِيقِهَا، وَكُلَّ حَامِلٍ لِأَمَانَةٍ مِنْ أَمَانَاتِ الْوَطَنِ مُضْطَلِعًا بِحَمْلِهَا، قَائِمًا بِعَهْدِهِ فِيهَا، حَتَّى تَنْتَهِيَ تِلْكَ الْأَمَانَاتُ بِطَبِيعَتِهَا إِلَى جِيلِكُمْ، فَتَأْخُذُوهَا بِقُوَّةٍ وَاسْتِحْقَاقٍ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ لِيُضِلَّكُمْ عَنْ سَبِيلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مُضِلٌّ، وَكُلُّ مُضِلٍّ مُضِرٌّ؛ أَوْ لِيَسْتَكْثِرَ بِكُمْ فَهُوَ غَاشٌّ، وَكُلُّ غَاشٍّ مَمْقُوتٌ، أَوْ لِيُلْهِيَكُمْ بِمَا لَا تُحْسِنُونَ عَمَّا تُحْسِنُونَ، فَهُوَ مَاكِرٌ، وَكُلُّ مَاكِرٍ مَمْكُورٌ بِهِ.

إِنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ بِكُمْ لَا يَتَكَثَّرُ إِلَّا لِيُقَلِّلَكُمْ، وَلَا يَتَقَوَّى بِكُمْ حِسًّا إِلَّا عَلَى حِسَابِ إِضْعَافِكُمْ مَعْنًى، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ؛ فَإِنَّ الْوَطَنَ يَرْجُو أَنْ يَبْنِيَ بِكُمْ جِيلًا قَوِيَّ الْأَسْرِ، شَدِيدَ الْعَزَائِمِ، سَدِيدَ الْآرَاءِ، مَتِينَ الْعِلْمِ، مُتَمَاسِكَ الْأَجْزَاءِ، يَدْفَعُ عَنْهُ هَذِهِ الْفَوْضَى السَّائِدَةَ فِي الْآرَاءِ، وَهَذَا الْفُتُورَ الْبَادِيَ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهَذَا الْخُمُولَ الْمُخَيِّمَ عَلَى الْأَفْكَارِ، وَهَذَا الِاضْطِرَابَ الْمُسْتَحْكِمَ فِي الْحَيَاةِ، وَهَذَا الْخِلَافَ الْمُسْتَمِرَّ عَلَى السَّفَاسِفِ، فَإِذَا جَارَيْتُمْ هَذِهِ الْأَهْوَاءَ الْمُتَبَايِنَةَ، وَاسْتَجَبْتُمْ لِهَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمُتَنَافِرَةِ، ضَيَّعْتُمْ عَلَى الْوَطَنِ جِيلًا، وَزِدْتُمْ فِي بَلَائِهِ وَمِحْنَتِهِ، وَأَطَلْتُمْ مُدَّةَ الْمَرَضِ بِتَأْخِيرِ الْعِلَاجِ.

لَا يَعْذُلُكُمْ فِي حُبِّ وَطَنِكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ، وَلَا يَصْرِفُكُمْ عَنْ إِتْقَانِ وَسَائِلِ النَّفْعِ لَهُ إِلَّا أَظْلَمُ مِنْهُ.

أَنْتُمُ الْيَوْمَ جُنُودُ الْعِلْمِ، فَاسْتَعِدُّوا لِتَكُونُوا غَدًا جُنُودَ الْعَمَلِ.

إِنَّ وَطَنَكُمْ مُفْتَقِرٌ إِلَى جِيلٍ قَوِيِّ الْبَدَنِ، قَوِيِّ الرُّوحِ، مُسْتَكْمِلِ الْأَدَوَاتِ مِنْ فَضَائِلَ وَعَزَائِمَ، وَإِنَّ هَذَا الْجِيلَ لَمُنْتَظَرٌ تَكْوِينُهُ مِنْكُمْ، وَمُحَالٌ أَنْ تُخْرِجَ الْحَالَةُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا جِيلًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ)).

فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَ الطُّلَّابَ لِطَاعَتِهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ يُرِيدُ أَنْ يَحْرِفَهُمْ عَنِ الْجَادَّةِ وَعَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر: التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ الْأَيْتَامِ وَالْفُقَرَاءِ
  تَحْقِيقُ الْإِيجَابِيَّةِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
  الشَّائِعَاتُ سِلَاحُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُغْرِضِينَ
  الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ
  أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ وَرِسَالَةٌ إِلَى الدُّعَاةِ إِلَى اللهِ
  تَزْكِيَةُ النَّفْسِ سَبِيلُ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ
  عَدَمُ مُبَالَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ!!
  حُسْنُ الْخَاتِمَةِ بَيْنَ اجْتِهَادِ الْعَبْدِ وَتَوْفِيقِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-
  حُكْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ
  مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ
  مَعْنَى الصِّدْقِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا
  تَجْرِيمُ الْأَعْمَالِ الْإِرْهَابِيَّةِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ أَخِيهِ
  قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ سَبَبٌ فِي تَقْيِيدِ النِّعَمِ عِنْدَ الْعَبْدِ
  أَهَمِّيَّةُ التَّخْطِيطِ وَدَلَائِلُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان