الْبَذْلُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ عِنْدَ سَادَةِ الْبَشَرِ


 

((الْبَذْلُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ عِنْدَ سَادَةِ الْبَشَرِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبِهَذِهِ الْخِصَالِ بَلَغَ الذُّرَى مَنْ بَلَغَ.

سَلَامَةُ الصَّدْرِ، سَخَاوَةُ النَّفْسِ، النَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينِ.

يَبْذُلُ ﷺ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ .

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا حَكَتْ عَائِشَةُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِهِ السُّنُونَ مَبَالِغَهَا، فَإِنَّهُ ﷺ قَبَضَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ وَشَيْبُهُ مَعْدُودٌ، شَيَّبَتْهُ هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا؛ خَوْفًا مِنَ اللهِ وَقِيَامًا بِأَمْرِ اللهِ.

وَصَفَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعَ ذَلِكَ وَمَا عَلَتْ بِهِ السُّنُونَ، قَالَتْ: لَمَّا كَانَ قَدْ أَصَابَهُ وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ -حَطَمَهُ النَّاسُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَطُغْيَانِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَصِرَاعِهِمْ مَعَ الْحَقِّ، وَمُحَاوَلَاتِهِمْ لِطَمْسِ نُورِهِ، وَتَحَمَّلَ مَا تَحَمَّلَ رَاضِيًا فِي ذَاتِ اللهِ ﷺ، حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ دَارِهِ، مِنْ بَلَدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ-.

وَحُرِمَ مِنْ جِوَارِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَمِنَ السُّجُودِ عِنْدَهُ؛ تَبَتُّلًا لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَصُدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ فِي نُسُكٍ مُحْرِمًا مُعْتَمِرًا، قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَحُبِسَ الْهَدْيُ فِي مَحِلِّهِ حَتَّى أَكَلَ وَبَرَهُ!

فَصُدَّ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ البَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ بَنَاهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، بَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ، حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ بِكَيْدِهِمُ الرَّخِيصِ، بِتَصَوُّرَاتِهِمُ الْهَزِيلَةِ، بِنَزَوَاتِهِمُ الْوَضِيعَةِ، وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ، وَسُوءِ قَصْدِهِمْ، وَعَدَمِ إِلْمَامِهِمْ بِجَنَبَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي اتِّسَاعِ أُفُقِهَا الْوَضِيءِ، بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ رَغَبَاتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، مَعَ اتِّبَاعِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُصَارِعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِيهِ وَالْمَكْرُوهَ، رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ وَنَصَرَهُمْ، وَأَعْلَى شَأْنَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ وَقُلُوبَ الْعِبَادِ، وَمَكَّنَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْ رِقَابِ الْخَلْقِ.

فَسَارُوا فِي ذَلِكَ سِيرَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يَحِيفُوا، وَكَانَ مَا كَانَ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ، وَكَانَ فِي حَاجَةِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَعلَى جَنْبٍ ﷺ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا.

كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، فِي قِيَامِهِ وَفِي ظَعْنِهِ، كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، فِي مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

كَانَ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ.. حَاشَاهُ! ﷺ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].

فَانْطَلَقَا -مُوسَى وَالْخَضِرُ- يَمْشِيَانِ حَتَّى أَتِيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ؛ طَلَبَا مِنْهُمْ طَعَامًا عَلَى سَبِيلِ الضِّيَافَةِ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ الْبُخَلَاءُ عَنْ ضِيَافَتِهِمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا مَائِلًا يُريدُ -كَعَجُوزٍ مِنَ النَّاسِ هَرِمٍ- أَنْ يَنْهَدِمَ وَيَسْقُطَ إِلَى الْأَرْضِ كَانْقِضَاضِ الطَّائِرِ، فَسَوَّاهُ الْخَضِرُ بِيَدِهِ.

فَلَمَّا أَقَامَ الْجِدَارَ لَمْ يَتَمَالَكْ مُوسَى -لِمَا رَأَى مِنَ الْحِرْمَانِ وَمَسَاسِ الْحَاجَةِ- أَنْ قَالَ لِلْخَضِرِ: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَى إِصْلَاحِ الْجِدَارِ أَجْرًا؛ لِنَسُدَّ بِالْأَجْرِ جُوعَنَا، فَقَدْ بَلَغَ الْجُوعُ مِنَّا مَبْلَغًا مُضْنِيًا.

قَالَ صَاحِبُ مُوسَى بَعْدُ: سُأُخْبِرُكَ بِمَا أَنْكَرْتَ عَلَيَّ، وَأُنْبِئُكَ بِمَا لِي فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَآرِبِ، وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ... وَمِنْ ذَلِكَ: الْجِدَارُ الَّذِي أَقَمْتُهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ؛ حَالُهُمَا تَقْتَضِي الرَّأْفَةَ بِهِمَا وَرَحْمَتَهُمَا؛ لِكَوْنِهِمَا صَغِيرَيْنِ عُدِمَا أَبَاهُمَا، وَحَفِظَهُمَا اللهُ -أَيْضًا- بِصَلَاحِ وَالِدِهِمَا، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].

يَقُولُ -تَعَالَى- ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ صَاحِبِ مُوسَى: وَأَمَّا الْجِدَارُ الَّذِي عَدَّلْتُ مَيْلَهُ حَتَّى صَارَ مُسْتَوِيًا؛ فَهُوَ مِلْكُ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَ الْجِدَارِ مَالٌ مَدْفُونٌ مُخَبَّأٌ لَهُمَا.

وَكَانَ أَبُوهُمَا رَجُلًا صَالِحًا مِنَ الْأَتْقِيَاءِ، فَأَرَادَ رَبُّكَ بِسَبَبِ صَلَاحِ وَالِدِهِمَا أَنْ يَبْلُغَا قُوَّتَهُمَا وَكَمَالَ عَقْلِهِمَا، وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا إِذَا بَلَغَا وَعَقَلَا وَقَوِيَا؛ رَحْمَةً وَعَطَاءً مِنْ رَبِّكَ لَهُمَا.

* وَنَبِيُّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُسْوَةٌ فِي الْمُرُوءَةِ وَالْبَذْلِ؛ فقد قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 22-24].

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}؛ أَيْ: قَصَدَ نَحْوَهَا مَاضِيًا إِلَيْهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أَيْ: قَصْدَ الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}؛ وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً}؛ أَيْ: جَمَاعَةً {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} مَوَاشِيَهُمْ، {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ}؛ يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ {امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ}؛ يَعْنِي: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمُ الْبِئْرُ.

{قَالَ}-يَعْنِي: مُوسَى- لِلْمَرْأَتَيْنِ: {مَا خَطْبُكُمَا}؟ مَا شَأْنُكُمَا لَا تَسْقِيَانِ مَوَاشِيَكُمَا مَعَ النَّاسِ؟

{قَالَتَا لَا نَسْقِي} أَغْنَامَنَا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}؛ أَيْ: حَتَّى يَصْرِفُوا هُمْ مَوَاشِيَهُمْ عَنِ الْمَاءِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا نَسْقِي مَوَاشِيَنَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ؛ لِأَنَّا امْرَأَتَانِ لَا نُطِيقُ أَنْ نَسْقِيَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا صَدَرُوا سَقَيْنَا مَوَاشِيَنَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهِمْ فِي الْحَوْضِ، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَوَاشِيَهُ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ الْغَنَمِ.

فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهُمَا رَحِمَهُمَا، فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ بِقُرْبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طَعَامٍ، {فَقِيرٌ}، يَقُولُ: {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ}؛ أَيْ: طَعَامٍ.. فَقِيرٌ مٌحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ لِجُوعِهِ.

* الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَكْثَرُ النَّاسِ بَذْلًا بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا -يَعْنِي: عِنْدِي؛ عِنْدَ عُمَرَ-، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا.

يَتَسَابَقُونَ فِي الْخَيْرِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْبِرِّ، وَكُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا لِأَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَا حَسَدٍ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْآخِرَةِ يَسَعُ الْخَلْقَ جَمِيعًا، وَأَمَّا طَرِيقُ الدُّنْيَا فَلَا يَسَعُ مِنَ الْمُتَنَافِسِينَ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ نَعِيمٌ مُقِيمٌ، وَعَطَاءٌ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ كَرِيمٍ، وَهَذَا مُتَّسِعٌ لِلْعَامَّةِ.

وَأَمَّا طَرِيقُ الدُّنْيَا؛ فَالتَّنَافُسُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، عَلَى تَحْصِيلِ مَالٍ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا تَنَافَسَ النَّاسُ فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِوَاحِدٍ؛ عَلَى مَنْصِبٍ بِذَاتِهِ، لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِوَاحِدٍ، فَيَتَنَافَسُ فِيهِ الْكَثِيرُ، فَلَا يُحَصِّلُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَادَوْنَ، وَيَتَبَاغَضُونَ، وَيَتَحَارَبُونَ، وَيَتَقَاتَلُونَ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْآخِرَةِ فَوَاسِعٌ يَتَّسِعُ لِلْجَمِيعِ.

أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضْلًا عَظِيمًا، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ عِنْدَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِالصَّدَقَةِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللهِ مَالًا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: «الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا! قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي»، وَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُ صَنَعَ صَنِيعًا عَظِيمًا، وَأَتَى بِنِصْفِ الْمَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».

قُلْتُ: مِثْلَهُ، أَوْ مِثْلُهُ؛ يَعْنِي: أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ، أَوْ: مِثْلُهُ أَبْقَيْتُهُ لِأَهْلِي.

فَقُلْتُ: مِثْلُهُ؛ يَعْنِي: مِثْلُ الَّذِي جِئْتُكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْقَيْتُهُ لِأَهْلِي، أَنَا قَسَمْتُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ، فَهَذَا نِصْفُهُ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ يَدَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوْلَادِ وَلِلْأَهْلِ.

وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، لَمْ يَسْتَبْقِ شَيْئًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».

قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ.

قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.

هَذَا الرَّجُلُ لَا يُسَابَقُ، أَبُو بَكْرٍ أَقَرَّ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِسَبْقِهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .

 

المصدر:خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، ثُمَّ التَّصْدِيقُ وَالتَّسْلِيمُ
  عُذْرًا فِلَسْطِينَ!!
  مِنْ أَبْوَابِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ: زِرَاعَةُ الْأَشْجَارِ، وَسَقْيُ الْمَاءِ
  بِنَاءُ الْوَعْيِ لِمُوَاجَهَةِ الْإِشَاعَاتِ
  فَارِقٌ بَيْنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لِلدِّينِ وَتَجْدِيدِ الدِّينِ!!
  وُجُوبُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
  حُبُّ الْوَطَنِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ مِنْ عَوَامِلِ بِنَائِهِ
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْعِبَادَاتِ
  لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْفُسَكُمْ!
  جُمْلَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ
  اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَكَ كَمَا تَكُونُ أَنْتَ لَهُ وَلِعِبَادِهِ
  أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الثَّقَليْنِ نِعْمَةُ الرَسُولِ ﷺ
  مِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ الْإِدْمَانِ: تَطْبِيقُ وَلِيِّ الْأَمْرِ حَدَّ الْحِرَابَةِ عَلَى مُرَوِّجِي الْمُخَدِّرَاتِ
  خَطَرُ الْخِيَانَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان